(535)
(364)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الْمُسَاقَاةِ، متابعة باب مَا جَاءَ فِي الْمُسَاقَاةِ.
فجر الأحد 13 ذي القعدة 1443هـ.
متابعة باب مَا جَاءَ فِي الْمُسَاقَاةِ
2063 - قَالَ مَالِكٌ: وَكُلُّ مُقَارِضٍ أَوْ مُسَاقٍ، فَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنَ الْمَالِ، وَلاَ مِنَ النَّخْلِ شَيْئاً دُونَ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَصِيرُ لَهُ أَجِيراً بِذَلِكَ، يَقُولُ: أُسَاقِيكَ عَلَى أَنْ تَعْمَلَ لِي فِي كَذَا وَكَذَا نَخْلَةً، تَسْقِيهَا وَتَأْبُرُهَا، وَأُقَارِضُكَ فِي كَذَا وَكَذَا مِنَ الْمَالِ، عَلَى أَنْ تَعْمَلَ لِي بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، لَيْسَتْ مِمَّا أُقَارِضُكَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَنْبَغِي وَلاَ يَصْلُحُ، وَذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا.
2064 - قَالَ مَالِكٌ: وَالسُّنَّةُ فِي الْمُسَاقَاةِ الَّتِى يَجُوزُ لِرَبِّ الْحَائِطِ أَنْ يَشْتَرِطَهَا عَلَى الْمُسَاقَى مِنْهَا: شَدُّ الْحِظَارِ، وَخَمُّ الْعَيْنِ، وَسَرْوُ الشَّرَبِ، وَإِبَّارُ النَّخْلِ، وَقَطْعُ الْجَرِيدِ، وَجَذُّ الثَّمَرِ، هَذَا وَأَشْبَاهُهُ، عَلَى أَنَّ لِلْمُسَاقَي شَطْرَ الثَّمَرِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ إِذَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَ الأَصْلِ لاَ يَشْتَرِطُ ابْتِدَاءَ عَمَلٍ جَدِيدٍ يُحْدِثُهُ الْعَامِلُ فِيهَا، مِنْ بِئْرٍ يَحْتَفِرُهَا، أَوْ عَيْنٍ يَرْفَعُ رَأْسَهَا، أَوْ غِرَاسٍ يَغْرِسُهُ فِيهَا، يَأْتِي بِأَصْلِ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِهِ، أَوْ ضَفِيرَةٍ يَبْنِيهَا تَعْظُمُ فِيهَا نَفَقَتُهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ رَبُّ الْحَائِطِ لِرَجُلٍ مِنَ النَّاسِ: ابْنِ لِي هَا هُنَا بَيْتاً، أَوِ احْفُرْ لِي بِئْراً، أَوْ أَجْرِ لِي عَيْناً، أَوِ اعْمَلْ لِي عَمَلاً بِنِصْفِ ثَمَرِ حَائِطِي هَذَا قَبْلَ أَنْ يَطِيبَ ثَمَرُ الْحَائِطِ وَيَحِلَّ بَيْعُهُ، فَهَذَا بَيْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهُ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَ.
2065 - قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا إِذَا طَابَ الثَّمَرُ وَبَدَا صَلاَحُهُ وَحَلَّ بَيْعُهُ، ثُمَّ قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ: اعْمَلْ لِي بَعْضَ هَذِهِ الأَعْمَالِ - لِعَمَلٍ يُسَمِّيهِ لَهُ - بِنِصْفِ ثَمَرِ حَائِطِى هَذَا فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ، إِنَّمَا اسْتَأْجَرَهُ بِشَيْءٍ مَعْرُوفٍ مَعْلُومٍ، قَدْ رَآهُ وَرَضِيَهُ، فَأَمَّا الْمُسَاقَاةُ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَائِطِ ثَمَرٌ، أَوْ قَلَّ ثَمَرُهُ، أَوْ فَسَدَ، فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ ذَلِكَ، وَأَنَّ الأَجِيرَ لاَ يُسْتَأْجَرُ إِلاَّ بِشَيْءٍ مُسَمًّى، لاَ تَجُوزُ الإِجَارَةُ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا الإِجَارَةُ بَيْعٌ مِنَ الْبُيُوعِ، إِنَّمَا يَشْتَرِي مِنْهُ عَمَلَهُ، وَلاَ يَصْلُحُ ذَلِكَ إِذَا دَخَلَهُ الْغَرَرُ، لأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ.
2066 - قَالَ مَالِكٌ: السُّنَّةُ فِي الْمُسَاقَاةِ عِنْدَنَا : أَنَّهَا تَكُونُ فِي أَصْلِ كُلِّ نَخْلٍ, أَوْ كَرْمٍ، أَوْ زَيْتُونٍ، أَوْ رُمَّانٍ، أَوْ فِرْسِكٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأُصُولِ، جَائِزٌ لاَ بَأْسَ بِهِ، عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْمَالِ نِصْفَ الثَّمَرِ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ ثُلُثَهُ، أَوْ رُبُعَهُ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ.
2067- قَالَ مَالِكٌ: وَالْمُسَاقَاةُ أَيْضاً تَجُوزُ فِي الزَّرْعِ إِذَا خَرَجَ وَاسْتَقَلَّ، فَعَجَزَ صَاحِبُهُ عَنْ سَقْيِهِ وَعَمَلِهِ وَعِلاَجِهِ، فَالْمُسَاقَاةُ فِي ذَلِكَ أَيْضاً جَائِزَةٌ.
2068 - قَالَ مَالِكٌ: لاَ تَصْلُحُ الْمُسَاقَاةُ فِي شَىْءٍ مِنَ الأُصُولِ مِمَّا تَحِلُّ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ، إِذَا كَانَ فِيهِ ثَمَرٌ قَدْ طَابَ وَبَدَا صَلاَحُهُ وَحَلَّ بَيْعُهُ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَاقَي مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَإِنَّمَا مُسَاقَاةُ مَا حَلَّ بَيْعُهُ مِنَ الثِّمَارِ إِجَارَةٌ، لأَنَّهُ إِنَّمَا سَاقَى صَاحِبَ الأَصْلِ ثَمَراً قَدْ بَدَا صَلاَحُهُ، عَلَى أَنْ يَكْفِيَهُ إِيَّاهُ وَيَجُذَّهُ لَهُ، بِمَنْزِلَةِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، يُعْطِيهِ إِيَّاهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْمُسَاقَاةِ، إِنَّمَا الْمُسَاقَاةُ مَا بَيْنَ أَنْ يَجُذَّ النَّخْلَ، إِلَى أَنْ يَطِيبَ الثَّمَرُ وَيَحِلَّ بَيْعُهُ.
2069 - قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ سَاقَى ثَمَراً فِي أَصْلٍ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهُ وَيَحِلَّ بَيْعُهُ، فَتِلْكَ الْمُسَاقَاةُ بِعَيْنِهَا جَائِزَةٌ.
2070 - قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ تُسَاقَي الأَرْضُ الْبَيْضَاءُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَحِلُّ لِصَاحِبِهَا كِرَاؤُهَا بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأَثْمَانِ الْمَعْلُومَةِ.
2071 - قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي يُعْطِي أَرْضَهُ الْبَيْضَاءَ بِالثُّلُثِ أَوِ الرُّبُعِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُهُ الْغَرَرُ، لأَنَّ الزَّرْعَ يَقِلُّ مَرَّةً، وَيَكْثُرُ مَرَّةً، وَرُبَّمَا هَلَكَ رَأْساً، فَيَكُونُ صَاحِبُ الأَرْضِ قَدْ تَرَكَ كِرَاءً مَعْلُوماً، يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يُكْرِيَ أَرْضَهُ بِهِ، وَأَخَذَ أَمْراً غَرَراً لاَ يَدْرِي أَيَتِمُّ أَمْ لاَ، فَهَذَا مَكْرُوهٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيراً لِسَفَرٍ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ قَالَ الَّذِي اسْتَأْجَرَ الأَجِيرَ : هَلْ لَكَ أَنْ أَعْطِيَكَ عُشْرَ مَا أَرْبَحُ فِي سَفَرِي هَذَا إِجَارَةً لَكَ ؟ فَهَذَا لاَ يَحِلُّ وَلاَ يَنْبَغِي.
2072 - قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَنْبَغِي لِرَجُلٍ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ، وَلاَ أَرْضَهُ، وَلاَ سَفِينَتَهُ، إِلاَّ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، لاَ يَزُولُ إِلَى غَيْرِهِ.
2073 - قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمُسَاقَاةِ فِي النَّخْلِ وَالأَرْضِ الْبَيْضَاءِ، أَنَّ صَاحِبَ النَّخْلِ لاَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهُ، وَصَاحِبُ الأَرْضِ يُكْرِيهَا وَهِيَ أَرْضٌ بَيْضَاءُ لاَ شَيْءَ فِيهَا.
2074 - قَالَ مَالِكٌ: وَالأَمْرُ عِنْدَنَا فِي النَّخْلِ أَيْضاً: إِنَّهَا تُسَاقِي السِّنِينَ الثَّلاَثَ وَالأَرْبَعَ، وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ. قَالَ: وَذَلِكَ الَّذِي سَمِعْتُ.
2075 - وَكُلُّ شَىْءٍ مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الأُصُولِ بِمَنْزِلَةِ النَّخْلِ، يَجُوزُ فِيهِ لِمَنْ سَاقَى مِنَ السِّنِينَ، مِثْلُ مَا يَجُوزُ فِي النَّخْلِ.
الحمد لله مُكرمنا بشريعته ومبيّنها، على لسان خير بريته سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه وعترته، وعلى أهل ولائه ومحبته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، خيرة الرحمن -تبارك وتعالى- في خليقته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقرّبين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- مسائل تتعلق بالمساقاة في هذا الفصل وهذا الباب الذي عقده للمساقاة.
قال: "وَكُلُّ مُقَارِضٍ"؛ أي: الذي يعطي المال لرجل قراضًا، "أَوْ مُسَاقٍ" يعطي الحائط للآخر ليتعهّد سقيه وما يحتاج إليه ويكون له نصيب من الثمر، "فَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنَ الْمَال"؛ من مال القراض، "وَلاَ مِنَ النَّخْلِ" في المساقاة "شَيْئًا" لنفسه، "دُونَ صَاحِبِهِ"؛ فلا يصح أن يساقيه على هذا الحائط، يقول: إلا النخلة الفلانية والنخلة الفلانية هذه ثمرها كله لي، فهذا لا يصح لماذا؟ قال: "وَذَلِكَ أَنَّهُ يَصِيرُ لَهُ أَجِيراً بِذَلِكَ"، يكون حينئذ كأنه يقول للعامل: "أُسَاقِيكَ"؛ يعني: أعطيك هذا الحائط مساقاة، "عَلَى أَنْ تَعْمَلَ لِي" خاصةً، "فِي كَذَا وَكَذَا نَخْلَةً"، مستثناة من شركتك، "تَسْقِيهَا" لي، "وَتَأْبُرُهَا" لي، مقابل إيش هذا؟.. وهكذا في القراض، كأنه يقول للمقارض إذا أعطاه المال ليتجر فيه، "وَأُقَارِضُكَ فِي كَذَا وَكَذَا مِنَ الْمَال"، بشرط إيش؟ قال: "عَلَى أَنْ تَعْمَلَ لِي بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ لَيْسَت" داخلة في القراض وهي" مِمَّا أُقَارِضُكَ عَلَيْهِ"، ولكن ربحها خالص لي!.. "فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَنْبَغِي وَلاَ يَصْلُحُ" يقول: ولا يجوز، "وَذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا" بالمدينة، لا يصح ولا يجوز، لماذا؟ لأنه ظاهر الفساد؛ فلا يجوز أن يشترط المقارض ولا المساقي منفعة زائدة، يشترط أحدهما على صاحبه زيادة دراهم أو دنانير أو أي شيء من الأشياء الخارجة عن المساقاة.
واستثنى الإمام مالك الشيء اليسير، مثل شد الحظار أو صلاح الضفيرة وما إلى ذلك، وهذا يدخل في أعمال السقي. هكذا إذًا؛ فالمساقاة لا بد أن تكون للعامل، ولصاحب النخل من الثمر نصيب معلوم بالنسبةِ، أن يقول له: ثلث أو ربع أو نصف أو أقل أو أكثر. وكذلك في القراض تكون نسبة من الربح معلومة بالجزئية لكل من العامل والمالك. وهكذا في القراض، فإذ اشترط غير ذلك فقد خرجت عن وجهها وبطل أمر أهلها فلا تصح منهم تلك المعاملة.
"قَالَ مَالِكٌ:-عليه رحمة الله-: وَالسُّنَّةُ"؛ يعني: الطريقة المعروفة "فِي الْمُسَاقَاةِ الَّتِى يَجُوزُ لِرَبِّ الْحَائِطِ أَنْ يَشْتَرِطَهَا عَلَى الْمُسَاقَى مِنْهَا: شَدُّ الْحِظَارِ"؛ هذا الذي استثناه؛ يعني: تحصين الزروب، وكذلك ما يتعلق بسدّ الثلمة، والحظيرة عيدان تكون بأعلى الحائط تمنع من التسوّر عليه، والحظار ما يحظر به على الحظيرة وهو الحائط الذي يكون سببا لمنع الداخل أن يدخل إلى الزرع.
"وَخَمُّ الْعَيْن"؛ يعني: تكنيسها وتنظيفها، لأن خممتُ بمعنى صُفّيت ونُقّيت، وفي الحديث: "خير الناس كل "مؤمن مخموم القلب"؛ يعني: مُنقّى مُصفّى لا غل فيه ولا غش ولا حسد؛ هذا مخموم القلب. وهكذا؛ "خَمُّ الْعَيْن"؛ بمعنى: تصفيتها وتنقيتها وتكنيسها. "وَسَرْوُ"؛ أيضًا بمعنى تكنيس وتنظيف "الشَّرَبِ"؛ وهو المحل الحوض الذي يجتمع فيه الماء حول الشجر هو الشرب، "وَسَرْوُ الشَّرَبِ"؛ تنظيفه عما يضر وجوده، إما بقلة الماء أو يضر الشجرة وما إلى ذلك.
"وَإِبَّارُ النَّخْلِ"؛ إبّارها، يقولون عندنا: تفخيطها؛ يعني: يأخذ من طلع النخل الذكر، فيجعله على طالع النخل ليثمر، فهذا هو التأبير، هذا من جملة العمل عليه. "وَقَطْعُ الْجَرِيدِ" إذا كُسرت من النخيل، "وَجَذُّ الثَّمَرِ"؛ يعني: قطعه، "هَذَا وَأَشْبَاهُهُ عَلَى" شرط " أَنَّ لِلْمُسَاقَي شَطْرَ الثَّمَرِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ إِذَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ".
إذًا؛ فالمساقاة لا بد أن يكون فيها من جزء معلوم من الثمرة مشاع، نصف أو ثلث قليل أو كثير كما مرّ معنا عامل على أهل خيبر على شطر ما يخرج منها؛ يعني: نصف ما يخرج منها. "غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَ الأَصْلِ"؛ أي: رب الحائط "لاَ يَشْتَرِطُ" على العامل "ابْتِدَاءَ عَمَلٍ جَدِيدٍ يُحْدِثُهُ الْعَامِلُ فِيهَا" في الحائط، "مِنْ بِئْرٍ يَحْتَفِرُهَا، أَوْ عَيْنٍ يَرْفَعُ رَأْسَهَا" أو ما إلى ذلك، "أَوْ غِرَاسٍ يَغْرِسُهُ"، جديد من عنده، "يَأْتِي" العامل "بِأَصْلِ ذَلِكَ" الغراس "مِنْ عِنْدِهِ"، فيشترط صاحب المساقاة على العامل غرسًا يأتي به من عنده ويغرسه في أرضه وحائطه فهذا لا يجوز.
قال: "أَوْ ضَفِيرَةٍ"؛ موضع يجتمع فيه الماء مثل الصهريج، قال: "يَبْنِيهَا، تَعْظُمُ"؛ يعني: تكثر فيها؛ أي: في الضفيرة، "نَفَقَتُهُ"؛ يعني: نفقة العامل. "وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ رَبُّ الْحَائِطِ" مالك هذا البستان، "لِرَجُلٍ مِنَ النَّاسِ: ابْنِ لِي هَا هُنَا بَيْتاً، أَوِ احْفُرْ لِي بِئْراً، أَوْ أَجْرِ لِي عَيْناً، أَوِ اعْمَلْ لِي عَمَلاً بِنِصْفِ ثَمَرِ حَائِطِي هَذَا" فهل يجوز هذا؟ "قَبْلَ أَنْ يَطِيبَ ثَمَرُ الْحَائِطِ وَيَحِلَّ بَيْعُهُ، فَهَذَا بَيْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهُ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَ".
كذلك "قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا إِذَا طَابَ الثَّمَرُ وَبَدَا صَلاَحُهُ وَحَلَّ بَيْعُهُ، ثُمَّ قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ: اعْمَلْ لِي بَعْضَ هَذِهِ الأَعْمَالِ - لِعَمَلٍ يُسَمِّيهِ لَهُ - بِنِصْفِ ثَمَرِ حَائِطِى هَذَا فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ" وهي مسألة خلافية، "إِنَّمَا اسْتَأْجَرَهُ بِشَيْءٍ مَعْرُوفٍ مَعْلُومٍ، قَدْ رَآهُ وَرَضِيَهُ".
وإذا أبيح ذلك من الأصل من قبل أن يبدو الثمر، ولا يُدرى كم سيحصل وهل سيثمر أو لا فمن باب أولى إذا قد بدا صلاح الثمر.
قال: "فَأَمَّا الْمُسَاقَاةُ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَائِطِ ثَمَرٌ، أَوْ قَلَّ ثَمَرُهُ، أَوْ فَسَدَ، فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ ذَلِكَ"، الذي يحصل بالمساقاة قليل أو كثير، صحيح أو فاسد، هذا الحكم فيما يتعلق بالمساقاة بخلاف الأجرة؛ الأجرة لا بد أن تكون الأجرة معلومة ومحددة ومفهومة، أما هذا فتبقى نسبة أو قد يقل وقد يكثر وقد يصلح وقد يفسد.
قال: وجه ذلك "أَنَّ الأَجِيرَ لاَ يُسْتَأْجَرُ إِلاَّ بِشَيْءٍ مُسَمًّى"؛ يعني: معيّن، "لاَ تَجُوزُ الإِجَارَةُ إِلاَّ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا الإِجَارَةُ بَيْعٌ مِنَ الْبُيُوعِ، إِنَّمَا يَشْتَرِي" المستأجر "مِنْهُ"؛ من العامل، "عَمَلَهُ وَلاَ يَصْلُحُ ذَلِكَ إِذَا دَخَلَهُ الْغَرَرُ، لأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ".
يقول فهناك فرق بين المساقاة والإجارة؛
وهكذا إذا ساقاه وأطلق الأمر عند المساقاة، فيلزم العامل كل ما فيه صلاح الثمرة، وزيادتها من حرث الأرض، وتحت الشجر، وآلة الحرث وسقي الشجر واستقاء الماء، وإصلاح طرق الماء وتنقيتها، وقطع الحشيش المضر والشوك كذلك، وإصلاح الحفر التي يجتمع فيها الماء تحت النخيل، وأمثال ذلك من الأشياء التي تدخل تحت عمل المساقاة.
قال مالك: "السُّنَّةُ فِي الْمُسَاقَاةِ عِنْدَنَا : أَنَّهَا تَكُونُ فِي أَصْلِ كُلِّ نَخْلٍ، أَوْ كَرْمٍ" وقاس عليه بعد ذلك الزيتون، قال: "أَوْ زَيْتُونٍ، أَوْ رُمَّانٍ، أَوْ فِرْسِكٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأُصُولِ، جَائِزٌ لاَ بَأْسَ بِهِ". وقال الشافعية: لا يصح إلا في النخل والعنب فقط وما يكون غير ذلك، إلا ما كان تبع لها.
"أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ" المذكور، مثل خوخ ونحوه. قال: "مِنَ الأُصُولِ" الأخر مثل التين كذلك فكل هذا المساقاة فيها عند الإمام مالك "جَائِزٌ لاَ بَأْسَ بِهِ، عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْمَالِ نِصْفَ الثَّمَرِ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ ثُلُثَهُ، أَوْ رُبُعَهُ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ" على حسب ما يتراضيان عليه.
"قَالَ مَالِكٌ: وَالْمُسَاقَاةُ أَيْضاً تَجُوزُ فِي الزَّرْعِ إِذَا خَرَجَ" من الأرض، "وَاسْتَقَلَّ، فَعَجَزَ صَاحِبُهُ عَنْ سَقْيِهِ وَعَمَلِهِ وَعِلاَجِهِ، فَالْمُسَاقَاةُ فِي ذَلِكَ أَيْضاً جَائِزَةٌ"، كما تجوز في الأشجار عند الإمام مالك مساقاة الزرع.
قال: فإذا قد تم نباته أشبه ماله أصل؛ هذا في مذهب الإمام مالك -عليه رحمة الله-.
قال: "لاَ تَصْلُحُ"؛ يعني: لا تجوز، "الْمُسَاقَاةُ فِي شَيءٍ مِنَ الأُصُولِ مِمَّا تَحِلُّ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ، إِذَا كَانَ فِيهِ ثَمَرٌ قَدْ طَابَ وَبَدَا صَلاَحُهُ و" وصار قد "حَلَّ بَيْعُهُ" حينئذ، "وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَاقَي مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَإِنَّمَا مُسَاقَاةُ مَا حَلَّ بَيْعُهُ مِنَ الثِّمَارِ إِجَارَةٌ، لأَنَّهُ إِنَّمَا سَاقَى صَاحِبَ الأَصْلِ ثَمَراً قَدْ بَدَا صَلاَحُهُ، عَلَى أَنْ يَكْفِيَهُ إِيَّاهُ وَيَجُذَّهُ لَهُ"؛ يعني: يقطعه، "بِمَنْزِلَةِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، يُعْطِيهِ إِيَّاهَا"؛ أي: العامل "وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْمُسَاقَاةِ"؛ فإذًا لا يصح. "إِنَّمَا الْمُسَاقَاةُ مَا بَيْنَ أَنْ يَجُذَّ النَّخْلَ، إِلَى أَنْ يَطِيبَ الثَّمَرُ وَيَحِلَّ بَيْعُهُ"؛ بمعنى: أنه ما تكون إلا في العام مرة واحدة.
وهكذا في مسألة المدة، المدة لا بد أن تكون يستوعب فيها إدراك الثمر والجذاذ؛ سنة أو أكثر أو ما بقي من وقت الجذاذ، فحينئذ تكون هذه المدة صحيحة.
"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ تُسَاقَي الأَرْضُ الْبَيْضَاءُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَحِلُّ لِصَاحِبِهَا كِرَاؤُهَا بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأَثْمَانِ الْمَعْلُومَةِ". لا يجوز "أَنْ تُسَاقَي الأَرْضُ الْبَيْضَاءُ"؛ يعني: الخالية عن النبات والأشجار، الأرض فاضية خالية قال: خذها ازرع فيها، ولك منها الثلث.. كيف أزرع فيها! إذا قد موجود شجر قائم نعم، أما هذا ما يصح لأنه كأنه كراها بمبلغ غير معلوم.
قال: "فَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي يُعْطِي أَرْضَهُ الْبَيْضَاءَ بِالثُّلُثِ أَوِ الرُّبُعِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُهُ الْغَرَرُ، لأَنَّ الزَّرْعَ يَقِلُّ مَرَّةً، وَيَكْثُرُ مَرَّةً, وَرُبَّمَا هَلَكَ رَأْساً، فَيَكُونُ صَاحِبُ الأَرْضِ" البيضاء، "قَدْ تَرَكَ كِرَاءً مَعْلُوماً، يَصْلُحُ" ويجوز له "أَنْ يُكْرِيَ أَرْضَهُ بِهِ، وَأَخَذَ" بداله "أَمْراً غَرَراً لاَ يَدْرِي أَيَتِمُّ أَمْ لاَ، فَهَذَا مَكْرُوهٌ"؛ بمعنى: حرام عند الإمام مالك؛ كراهة تحريم.
وهكذا فيما يُذكر من النهي عن المخابرة أو عن المزارعة، على اختلافٍ في الروايات، وعلى اختلاف أيضًا بين أهل العلم في النظر في الحكم فيما يتعلق بالمزارعة والمخابرة؛ وأحدهما أن يكون البذر فيه على المالك، والثاني أن يكون على العامل.
قال مالك: "وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيراً لِسَفَرٍ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ قَالَ الَّذِي اسْتَأْجَرَ الأَجِيرَ: هَلْ لَكَ أَنْ أَعْطِيَكَ عُشْرَ مَا أَرْبَحُ فِي سَفَرِي هَذَا إِجَارَةً لَكَ؟ فَهَذَا لاَ يَحِلُّ وَلاَ يَنْبَغِي"؛ لأن الأجرة يجب أن تكون معلومة.
"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَنْبَغِي لِرَجُلٍ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ، وَلاَ أَرْضَهُ، وَلاَ سَفِينَتَهُ، إِلاَّ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، لاَ يَزُولُ إِلَى غَيْرِهِ"؛ مقطوعٌ به ثابت؛ كذا كذا دينار كذا كذا درهم، "قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمُسَاقَاةِ فِي النَّخْلِ وَالأَرْضِ الْبَيْضَاءِ، أَنَّ صَاحِبَ النَّخْلِ لاَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهُ، وَصَاحِبُ الأَرْضِ يُكْرِيهَا وَهِيَ أَرْضٌ بَيْضَاءُ لاَ شَيْءَ فِيهَا".
جاء في الحديث عندنا في صحيح البخاري حديث جابر، يقول سيدنا جابر: "كانوا يزرعونه بالثلث والربع والنصف، فقال النبي ﷺ: "من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها فإن لم يفعل فليُمسك أرضه"". وهكذا جاء أيضًا: "نهانا رسول الله ﷺ عن أمر كان بنا رافقا، قلت: ما قال رسول الله ﷺ فهو حق، قال: دعاني رسول الله ﷺ، قال: "ما تصنعون بمحاقلكم؟" قلت: نؤاجرها على الربع، وعلى الأوسق من التمر والشعير، قال: "لا تفعلوا، ازرعوها، أو أزرِعوها، أو أمسكوها"، قال: قلت: سمعًا وطاعة". فدَفْعُ الأرض إلى من يزرعها أو يعمل عليها والزرع بينهما أجازه جماعة من أهل العلم، حتى قال البخاري نقل عن أبي جعفر يقول: ما بالمدينة أهل بيت إلا ويزرعون على الثلث والربع، وزارع علي وسعد وابن مسعود وغيرهم من الصحابة، -رضي الله تعالى عنهم-. وما كان بين النخيل فهي جائزة عند الإمام الشافعي.
"قَالَ مَالِكٌ: وَالأَمْرُ عِنْدَنَا فِي النَّخْلِ أَيْضاً: إِنَّهَا تُسَاقِي السِّنِينَ"؛ يعني: العديدة "الثَّلاَثَ وَالأَرْبَعَ" السنين "وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ" من الأربع، أقل من ذلك في وقت يتأتى فيه الخريف والقطع والجذاذ، " وَذَلِكَ الَّذِي سَمِعْتُ".
"وَكُلُّ شَىْءٍ مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الأُصُولِ بِمَنْزِلَةِ النَّخْلِ، يَجُوزُ فِيهِ لِمَنْ سَاقَى مِنَ السِّنِينَ، مِثْلُ مَا يَجُوزُ فِي النَّخْلِ"؛ فقاس عليه كل ما له أصل يقوم عليه، كما سمعنا.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُسَاقِي: إِنَّهُ لاَ يَأْخُذُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي سَاقَاهُ شَيْئاً مِنْ ذَهَبٍ، وَلاَ وَرِقٍ يَزْدَادُهُ…"، ويتداخل كلام بعضه في بعض في هذه المسائل وبقيت هذه الثلاث المسائل آخر الباب.
نسأل الله أن يثبتنا على الصواب، ويسلك بنا مسالك الأطياب من عباده المقربين الأحباب، وأن يقينا شرور الحاضر والمآب، ويربطنا بسيد الأحباب، ويرفعنا مراتب الاقتراب مع خواص من أناب في عافية وتحمّلٍ من الابتلاءات عنّا الظاهرة والخافية، بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
16 ذو القِعدة 1443