شرح الموطأ - 374 - كتاب المُسَاقَاة: باب ما جاء في المُسَاقَاة

شرح الموطأ - 374 - كتاب الْمُسَاقَاةِ: باب مَا جَاءَ فِي الْمُسَاقَاةِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الْمُسَاقَاةِ، باب مَا جَاءَ فِي الْمُسَاقَاةِ.

فجر السبت 12 ذو القعدة 1443هـ.

باب مَا جَاءَ فِي الْمُسَاقَاةِ

2057- حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِيَهُودِ خَيْبَرَ، يَوْمَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ: "أُقِرُّكُمْ فِيهَا مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى أَنَّ الثَّمَرَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ". قَالَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، فَيَخْرُصُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِيَ. فَكَانُوا يَأْخُذُونَهُ.

2058- وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى خَيْبَرَ، فَيَخْرُصُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَهُودِ خَيْبَرَ، قَالَ: فَجَمَعُوا لَهُ حَلْياً مِنْ حَلْي نِسَائِهِمْ فَقَالُوا: هَذَا لَكَ وَخَفِّفْ عَنَّا وَتَجَاوَزْ فِي الْقَسْمِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَمِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيَّ، وَمَا ذَاكَ بِحَامِلِي عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ، فَأَمَّا مَا عَرَضْتُمْ مِنَ الرُّشْوَةِ فَإِنَّهَا سُحْتٌ، وَإِنَّا لاَ نَأْكُلُهَا. فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ.

2059- قَالَ مَالِكٌ: إِذَا سَاقَى الرَّجُلُ النَّخْلَ وَفِيهَا الْبَيَاضُ، فَمَا ازْدَرَعَ الرَّجُلُ الدَّاخِلُ فِي الْبَيَاضِ فَهُوَ لَهُ.

قَالَ: وَإِنِ اشْتَرَطَ صَاحِبُ الأَرْضِ أَنَّهُ يَزْرَعُ فِي الْبَيَاضِ لِنَفْسِهِ، فَذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ، لأَنَّ الرَّجُلَ الدَّاخِلَ فِي الْمَالِ يَسْقِي لِرَبِّ الأَرْضِ، فَذَلِكَ زِيَادَةٌ ازْدَادَهَا عَلَيْهِ.

2060- قَالَ: وَإِنِ اشْتَرَطَ الزَّرْعَ بَيْنَهُمَا فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ، إِذَا كَانَتِ الْمَئُونَةُ كُلُّهَا عَلَى الدَّاخِلِ فِي الْمَالِ، الْبَذْرُ وَالسَّقْيُ وَالْعِلاَجُ كُلُّهُ، فَإِنِ اشْتَرَطَ الدَّاخِلُ فِي الْمَالِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنَّ الْبَذْرَ عَلَيْكَ، فَإنَّ ذَلِكَ غَيْرَ جَائِزٍ، لأَنَّهُ قَدِ اشْتَرَطَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ زِيَادَةً ازْدَادَهَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمُسَاقَاةُ عَلَى أَنَّ عَلَى الدَّاخِلِ فِي الْمَالِ الْمَئُونَةَ كُلَّهَا وَالْنَّفَقَةَ، وَلاَ يَكُونُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْهَا شَيْءٌ، فَهَذَا وَجْهُ الْمُسَاقَاةِ الْمَعْرُوفُ.

2061- قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَيْنِ تَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، فَيَنْقَطِعُ مَاؤُهَا، فَيُرِيدُ أَحَدُهُمَا أَنْ يَعْمَلَ فِي الْعَيْنِ، وَيَقُولُ الآخَرُ: لاَ أَجِدُ مَا أَعْمَلُ بِهِ، إِنَّهُ يُقَالُ لِلَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْعَيْنِ: اعْمَلْ وَأَنْفِقْ، وَيَكُونُ لَكَ الْمَاءُ كُلُّهُ تَسْقِي بِهِ، حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُكَ بِنِصْفِ مَا أَنْفَقْتَ، فَإِذَا جَاءَ بِنِصْفِ مَا أَنْفَقْتَ أَخَذَ حِصَّتَهُ مِنَ الْمَاءِ. وَإِنَّمَا أُعْطِيَ الأَوَّلُ الْمَاءَ كُلَّهُ، لأَنَّهُ أَنْفَقَ، وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْ شَيْئاً بِعَمَلِهِ لَمْ يَعْلَقِ الآخَرَ مِنَ النَّفَقَةِ شَيْءٌ.

2062- قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا كَانَتِ النَّفَقَةُ كُلُّهَا، وَالْمَئُونَةُ عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الدَّاخِلِ فِي الْمَالِ شَيْءٌ، إِلاَّ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِيَدِهِ، إِنَّمَا هُوَ أَجِيرٌ بِبَعْضِ الثَّمَرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ، لأَنَّهُ لاَ يَدْرِى كَمْ إِجَارَتُهُ إِذَا لَمْ يُسَمِّ لَهُ شَيْئاً يَعْرِفُهُ وَيَعْمَلُ عَلَيْهِ، لاَ يَدْرِي أَيَقِلُّ ذَلِكَ أَمْ يَكْثُرُ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته وبيانها على لسان عبده المُصطفى مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن سار بنور بيانه في ما أوحى الله إليه في ظواهر الأمور وباطنها، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين معدِن أنوار الدّلالة على الحق -تبارك وتعالى- وإقامة حُجج الشَّريعة وبرهانها، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المُقرّبين وعلى جميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين. 

وبعدُ،

فيذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله- في هذا كتاب المُساقاة، وقال: "باب مَا جَاءَ فِي الْمُسَاقَاةِ"؛ وهي مأخوذة من السَّقي، وهي في الشَّرع أن يُسلِّم مالك الأشجار شجرًا إلى مَن يتعهد سقيه وغيره على أن له من ثمرته جُزءً ونصيبًا معلومًا. 

  • يقول المالكية في تعريفها: عقد على خدمة شجر وما أُلحق به بجزء من غلّته بصيغة. 
  • وهكذا يقول الحنفية: معاقدة دفع الشجر إلى مَن يصلحه بجزء معلوم من ثمره. 

الْمُسَاقَاةِ في ما يتعلق بالأشجار؛ 

  • اتفق الأئمة الثلاثة على جوازها، وكذلك صاحبا أبي حنيفة. 
  • ورُوي عن الإمام أبي حنيفة عدم جواز المُسَاقَاةِ. 
  • وقال صاحباه: بجوازها. كما قال الأئمة الثلاثة، مالك والشَّافعي وأحمد بن حنبل. 
  • إلا أن الإمام الشَّافعي خصّص ذلك بالنخيل وقاس عليها الأعناب وغير النخيل والعنب وإن كان شجر له ثمر؛ لا مساقاة فيه إلا ما كان تبعًا لنخيل وأعناب فما بينها أو معها من الأشجار أو الثمار يكون تبعًا، والأصل إنما هو الْمُسَاقَاةِ في النخيل والعنب. 

وذلك أن النَّبي ﷺ ساقى أهل خيبر بعد ما ملك خيبر على جزء من ثمرها وإنما كان هناك النَّخل، وقاس عليه الإمام الشَّافعي العنب خاصة لأنه شاركه، لأنه شجر له ثمر وفيه الزّكاة عنده كما هي في النخيل. فإذًا؛ العنب مثل النخيل في جواز الْمُسَاقَاةِ عليه. 

وقال الإمام مالك، والإمام أحمد بن حنبل: بل يُقاس عليه كل شجر له ثمر؛ فيصح الْمُسَاقَاةِ فيه قياسًا على النخل الذي ورد الحديث فيه، أنه ﷺ ساقى أهل خيبر عليه. وحُكي فيه الإجماع ونُزِع فيه حكاية الإجماع. وجاء في السُّنَّة كما نقرأ عن ابن عُمَر، فيما ساقى عليه رسول الله ﷺ اليهود في خيبر، وذلك من كريم خُلُقه وحُسن معاملته صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم. فالقوم الذين اجتهدوا؛ اجتهد كبارهم ورؤساؤهم وذو النفوذ فيهم في آذاه والنيل منه، والتربص به وتأليب القبائل عليه، انتهى إلى آخر معاقلهم في خيبر، فطلبوا منه أن يُبقيهم، وأن يأذن لهم أن يبقوا في الأرض فطلبوا أن ييسر لهم أمر معيشتهم، فساقاهم على النخيل ليشتغلوا بها ويتفرَّغ المؤمنون لشؤون جهادهم وأعمالهم الأخرى، فتركها لهم، فأمّن لهم مع إقامتهم في الأرض أيضًا غذائهم ومسكنهم. وهكذا عامل الذين عادوه وآذوه ﷺ أشد الأذية، وخانوا العهود وتربصوا به، وألّبوا عليه من جواليه من القبائل وحرّكوهم ليقاتلوه صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم. 

يقول سيِّدنا مالك يروي: "عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِيَهُودِ خَيْبَرَ، يَوْمَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ" وقد طلبوا منه أن يقرّهم في الأرض، قال: "أُقِرُّكُمْ فِيهَا مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى أَنَّ الثَّمَرَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ". وجاء في الصَّحيحين، "أقرّكم فِيهَا عَلَى ذَلِكَ ما شئنا"، على أن الثَّمر بيننا وبينكم. فهكذا كان عليهم العمل في ذلك النَّخيل وكان الثمر يأخذون منه جزءً مقابل العمل، والجزء الثاني يسلّمونه لملّاك النّخل والأرض فيُعطونهم إياه. 

فعيّن ﷺ خارصًا يخرص ويُبيّن كم يكون نصف الثمرة؟ وكم تكون مقدار الثمرة المرتقبة من ذلك النّخيل؟ اختار سيِّدنا عبد الله بن رواحة -عليه رضوان الله- لمعرفته بالخرص، ومكان أمانته وعقله، وحُسن ديانته. "قَالَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، فَيَخْرُصُ" -ابن رواحة- "بَيْنَهُ -وَبَيْنَهُمْ" وبين اليهود، "ثُمَّ يَقُولُ: إِنْ شِئْتُمْ"؛ يعني: ابن رواحة يقول لليهود، "إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ"؛ يعني تضمنون نصيب المسلمين، "وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِيَ" وأضمن نصيبكم. "فَكَانُوا" بعد تخييره "يَأْخُذُونَهُ" بالرضا.

وجاء في رواية أبي داود: بعث إليهم ﷺ ابن رواحة فحزر عليهم النّخل -الحزر هو الخرص- وقال: في هذه كذا، في هذه كذا وكذا. قال بعضهم: كثّرت علينا يا ابن رواحة! قال: فأنا إلى حزر النّخل وأعطيكم نصف الذي قلته، فالذي حددته وحزرته، إما أن تسلّموا نصفه كما قلت لكم، ولكم النصف مقابل عمله وإلا فأنا ألتزم. سلّموا الجميع لنا، ونصف الذي ذكرت لكم نحن نسلّمه لكم، عرفوا أن حزره صحيح وفيه احتياط، فخافوا، فعلموا أنهم إذا سلموا له الكل ربما استفادوا، هو أكثر وأحسن، فقالوا: لا. فهكذا، رأوا قويم المعاملة مع الذي ربّتهم يد النُّبوة، ورأوا كمال العدل والإنصاف. 

قال: "ثُمَّ يَقُولُ: إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِيَ. فَكَانُوا يَأْخُذُونَهُ". وهكذا، مع ذلك حاولوا أن ينقّص عليهم في التقدير والحذر عن الواقع مقابل أن يعطونه شيء، واستعملوا التهديد بالشكوى إلى رسول الله ﷺ؛ فما أثّر فيه إغرائهم ولا تهديدهم، وقال لهم قولته المشهورة: تريدون أن ترشونني! والله جئتكم من عند أحب النَّاس إليّ، أحب الخلق إليّ، ولأنتم أبغض إليّ من عدتكم من القردة، ووالله ما يحملني حبّي إياه وبغضي إياكم على أن أزيد في التقدير تمرة واحدة ولا أنقص تمرة واحدة. ولمّا سمعه بعض علمائهم الذين تحاوروا معه، فقال لهم هذا الكلام، قالوا: بهذا العدل قامت السَّماوات والأرض، بهذا العدل قامت السَّماوات والأرض، وهكذا تُبرز يد مُحمَّد ﷺ في تربية النَّاس. 

وقد ذَكر: "عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى خَيْبَرَ، فَيَخْرُصُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَهُودِ خَيْبَرَ"، لتمييز حق الزكاة وما يخص المسلمين، وما يرجع مقابل عملهم. "قَالَ: فَجَمَعُوا لَهُ حَلْياً مِنْ حَلْي نِسَائِهِمْ" رشوة، "فَقَالُوا: هَذَا لَكَ"؛ والمعنى: "وَخَفِّفْ عَنَّا وَتَجَاوَزْ فِي الْقَسْمِ". صلّح كذا وكذا وقدّر… وهذا لك. "فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَمِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيَّ"، ورسول الله أحبّ الخلق إليّ، "وَمَا ذَاكَ بِحَامِلِي عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ"؛ يعني: أظلمكم بشيء "فَأَمَّا مَا عَرَضْتُمْ مِنَ الرُّشْوَةِ فَإِنَّهَا سُحْتٌ، وَإِنَّا لاَ نَأْكُلُهَا. فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ"؛ بهذا العدل قامت السَّماوات على الرؤوس واستقرّت، ولم يأذن الحق بتشقيقها وسقوطها على النَّاس. "بِهَذَا قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ"، واستقرت الأرض على الماء. وهم قد تساهلوا بأخذ الرشوات، ووصفهم الحق في القرآن، وقال سبحانه وتعالى: (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) [المائدة:42] يلهفون… وظنوا الصَّحابة أنهم سيكونون مثلهم! فقال لهم سيِّدنا عبد الله: إنها سُحت هذه الرشوة، وَإِنَّا لاَ نَأْكُلُهَا.

يقول الإمام مَالِكٌ: "إِذَا سَاقَى الرَّجُلُ النَّخْلَ وَفِيهَا الْبَيَاضُ"؛ يعني: أرض بيضاء لا نبات فيها، "فَمَا ازْدَرَعَ الرَّجُلُ الدَّاخِلُ" في الأرض؛ العامل هذا حق الْمُسَاقَاةِ "فِي الْبَيَاضِ فَهُوَ لَهُ" للعامل. وإن اشترطه، لأنه يقول أنه كان يخرص عليهم عبد الله بن رواحة التّمر فقط، والذي بينه هذا أين؟ ما خرص شيء فيه! ما أخذ مقابل؛ معناه ما دام أرض بيضاء وزرعوا فيها شيء؛ فهو لهم. "وَإِنِ اشْتَرَطَ صَاحِبُ الأَرْضِ أَنَّهُ يَزْرَعُ فِي الْبَيَاضِ لِنَفْسِهِ، فَذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ، لأَنَّ الرَّجُلَ الدَّاخِلَ فِي الْمَالِ يَسْقِي لِرَبِّ الأَرْضِ"، زرعه أيضًا، فأخذ زيادة إذًا؛ "فَذَلِكَ زِيَادَةٌ ازْدَادَهَا عَلَيْهِ"؛ أي: على العامل. 

"قَالَ: وَإِنِ اشْتَرَطَ"؛ يعني: صَاحِبُ الأَرْضِ "الزَّرْعَ" والمشترك "بَيْنَهُمَا فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ"، وصحّ في هذا الزرع تبعًا للشجر، تبعًا للنخل. "إِذَا كَانَتِ الْمَئُونَةُ كُلُّهَا عَلَى الدَّاخِلِ فِي الْمَالِ"؛ أي: على العامل "الْبَذْرُ وَالسَّقْيُ وَالْعِلاَجُ كُلُّهُ، فَإِنِ اشْتَرَطَ الدَّاخِلُ فِي الْمَالِ" وهو العامل على رب السلعة "عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنَّ الْبَذْرَ عَلَيْكَ، فَإنَّ ذَلِكَ غَيْرَ جَائِزٍ"، وهو المُخابرة التي نُهي عنها "لأَنَّهُ قَدِ اشْتَرَطَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ"؛ يعني: رب صاحب الأرض "زِيَادَةً ازْدَادَهَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمُسَاقَاةُ" جائزة "عَلَى أَنَّ عَلَى الدَّاخِلِ فِي الْمَالِ الْمَئُونَةَ كُلَّهَا وَالْنَّفَقَةَ، وَلاَ يَكُونُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْهَا شَيْءٌ"؛ من النّفقة شيء "فَهَذَا وَجْهُ الْمُسَاقَاةِ الْمَعْرُوفُ". بين أهل العلم الجائز عند العلماء. 

بقي الكلام في الأرض البياض التي بين النّخيل، إما أن يسكتوا عن ذلك، وإما أن يشترط أحد المتعاقدين. 

فإذا سكتوا عنه؛ فيكون لصاحبه كما هو مذهب الإمام مالك وقرّره، وهو العامل الذي يأتي بالبذر من عنده ويبذر له زروع ما بين النّخيل. واختلفوا إذا كان مع النّخل أرض بيضاء، اختلفوا فيها، فقالوا: يجوز أن تساقى الأرض مع النّخل بجزء من النّخل أو بجزء مما يخرج من الأرض، منهم مَن أجاز ذلك، ومنهم مَن منع ذلك، ويقول: لا تجوز الْمُسَاقَاةِ إلا في الثّمر فقط.

  • وفهمت من قول الإمام مالك، إذا كانت الأرض تبع للثمر، وكان الثمر أكثر؛ فلا بأس بدخولها في الْمُسَاقَاةِ . 
  • وجاء في رواية في حديث ابن عُمَر، أن رسول الله ﷺ ساقاهم على نصف ما تخرجه الأرض والثّمرة.
  • وهكذا أيضًا يقول الحنابلة: إذا كان في الأرض شجر وبينه بياض أرض، فساقى على الشجر وزارعه الأرض التي بين الشجر، يقولون: جائز. قلّ بياض الأرض أو كثر، هذا مذهب الإمام أحمد -عليه رضوان الله- وأخذ أن النَّبي ﷺ دفع خيبر على هذا.

"قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَيْنِ تَكُونُ" مشتركة "بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، فَيَنْقَطِعُ مَاؤُهَا، فَيُرِيدُ أَحَدُهُمَا" أحد الشّريكين "أَنْ يَعْمَلَ فِي الْعَيْنِ، وَيَقُولُ الآخَرُ: لاَ أَجِدُ مَا أَعْمَلُ بِهِ، إِنَّهُ يُقَالُ لِلَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْعَيْنِ: اعْمَلْ وَأَنْفِقْ، وَيَكُونُ لَكَ الْمَاءُ كُلُّهُ تَسْقِي بِهِ" أرضك، "حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُكَ بِنِصْفِ مَا أَنْفَقْتَ، فَإِذَا جَاءَ بِنِصْفِ مَا أَنْفَقْتَ أَخَذَ حِصَّتَهُ مِنَ الْمَاءِ". 

قال الإمام مالك: "وَإِنَّمَا أُعْطِيَ الأَوَّلُ" الذي أنفق في إصلاح العين "الْمَاءَ كُلَّهُ، لأَنَّهُ أَنْفَقَ"، في الإصلاح وأخرج الماء بسعيه "وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْ شَيْئاً بِعَمَلِهِ لَمْ يَعْلَقِ الآخَرَ مِنَ النَّفَقَةِ شَيْءٌ"؛ يعني: لا يلزمه شيء، فيكون فيه إجحاف، وتبقى بعد ذلك العين مهجورة؛ لا أحد سيعمل على استخراج الماء منها لا هذا ولا ذا؛ فيؤدي ذلك إلى فساد الأرض وإلى انقطاع الثّمرة.

"قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا كَانَتِ النَّفَقَةُ كُلُّهَا، وَالْمَئُونَةُ" كلّها "عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الدَّاخِلِ فِي الْمَالِ شَيْءٌ، إِلاَّ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِيَدِهِ، إِنَّمَا هُوَ أَجِيرٌ بِبَعْضِ الثَّمَرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ". نعم "إِنَّمَا هُوَ"؛ يعني: العامل "أَجِيرٌ بِبَعْضِ الثَّمَرِ" الحاصل. "فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ"؛ لأنه لم يبقى مساقاة، بل صار إجارة فاسدة لجهالة الأجرة. ما ندري كم يخرج من الثمر؟ فلا تصح الأجرة بشيء غير معلوم. "لأَنَّهُ لاَ يَدْرِى كَمْ إِجَارَتُهُ إِذَا لَمْ يُسَمِّ لَهُ شَيْئاً يَعْرِفُهُ وَيَعْمَلُ عَلَيْهِ، لاَ يَدْرِي أَيَقِلُّ ذَلِكَ أَمْ يَكْثُرُ". صار الحال مجهول، وهكذا والى الإمام مالك الكلام على تفريع مسائل الْمُسَاقَاةِ، يأتي معنا إن شاء الله.

رزقنا الله الاقتداء بحبيبه ومُصطفاه، وأحيا موات قلوبنا بأنوار معرفته ومحبته وقُربه ورضاه، وأصلح لنا ولكم الشأن كله في ظاهره وخفاه، وأعاذنا من الشُّرور وكل محذور، وتولّانا في جميع الأمور بما هو أهله في البطون والظُّهور بوجاهة بدر البدور، بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

14 ذو القِعدة 1443

تاريخ النشر الميلادي

13 يونيو 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام