(535)
(364)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب القِراض، باب جَامِعِ مَا جَاءَ فِي الْقِرَاضِ.
فجر الأربعاء 9 ذو القعدة 1443هـ.
باب جَامِعِ مَا جَاءَ فِي الْقِرَاضِ
2052 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالاً قِرَاضاً، فَابْتَاعَ بِهِ سِلْعَةً، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الْمَالِ: بِعْهَا. وَقَالَ الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ: لاَ أَرَى وَجْهَ بَيْعٍ. فَاخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ، قَالَ: لاَ يُنْظَرُ إِلَى قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالْبَصَرِ بِتِلْكَ السِّلْعَةِ، فَإِنْ رَأَوْا وَجْهَ بَيْعٍ بِيعَتْ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ رَأَوْا وَجْهَ انْتِظَارٍ انْتُظِرَ بِهَا.
2053 - قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ مَالاً قِرَاضاً فَعَمِلَ فِيهِ، ثُمَّ سَأَلَهُ صَاحِبُ الْمَالِ عَنْ مَالِهِ، فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي وَافِرٌ. فَلَمَّا آخَذَهُ بِهِ قَالَ: قَدْ هَلَكَ عِنْدِي مِنْهُ كَذَا وَكَذَا -لِمَالٍ يُسَمِّيهِ- وَإِنَّمَا قُلْتُ لَكَ ذَلِكَ لِكَيْ تَتْرُكَهُ عِنْدِي. قَالَ: لاَ يَنْتَفِعُ بِإِنْكَارِهِ بَعْدَ إِقْرَارِهِ أَنَّهُ عِنْدَهُ، وَيُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِىَ عَلَى هَلاَكِ ذَلِكَ الْمَالِ بِأَمْرٍ يُعْرَفُ بِهِ قَوْلُهُ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَمْرٍ مَعْرُوفٍ، أُخِذَ بِإِقْرَارِهِ وَلَمْ يَنْفَعْهُ إِنْكَارُهُ.
قَالَ مَالِكٌ: وَكَذَلِكَ أَيْضاً لَوْ قَالَ: رَبِحْتُ فِي الْمَالِ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَهُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ وَرِبْحَهُ، فَقَالَ: مَا رَبِحْتُ فِيهِ شَيْئاً، وَمَا قُلْتُ ذَلِكَ إِلاَّ لأَنْ تُقِرَّهُ فِي يَدِي، فَذَلِكَ لاَ يَنْفَعُهُ، وَيُؤْخَذُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ بِأَمْرٍ يُعْرَفُ بِهِ قَوْلُهُ وَصِدْقُهُ فَلاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ.
2054 - قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالاً قِرَاضاً، فَرَبِحَ فِيهِ رِبْحاً، فَقَالَ الْعَامِلُ: قَارَضْتُكَ عَلَى أَنَّ لِي الثُّلُثَيْنِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَالِ: قَارَضْتُكَ عَلَى أَنَّ لَكَ الثُّلُثَ. قَالَ مَالِكٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ، وَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْيَمِينُ إِذَا كَانَ مَا قَالَ يُشْبِهُ قِرَاضَ مِثْلِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ نَحْواً مِمَّا يَتَقَارَضُ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَإِنْ جَاءَ بِأَمْرٍ يُسْتَنْكَرُ لَيْسَ عَلَى مِثْلِهِ، يَتَقَارَضُ النَّاسُ لَمْ يُصَدَّقْ، وَرُدَّ إِلَى قِرَاضِ مِثْلِهِ.
2055 - قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ أَعْطَى رَجُلاً مِئَةَ دِينَارٍ قِرَاضا، فَاشْتَرَى بِهَا سِلْعَةً، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَدْفَعَ إِلَى رَبِّ السِّلْعَةِ الْمِئَةَ دِينَارٍ، فَوَجَدَهَا قَدْ سُرِقَتْ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: بِعِ السِّلْعَةَ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ كَانَ لِي، وَإِنْ كَانَ فِيهَا نُقْصَانٌ كَانَ عَلَيْكَ، لأَنَّكَ أَنْتَ ضَيَّعْتَ. وَقَالَ الْمُقَارَضُ: بَلْ عَلَيْكَ وَفَاءُ حَقِّ هَذَا، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُهَا بِمَالِكَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي. قَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُ الْعَامِلَ الْمُشْتَرِيَ أَدَاءُ ثَمَنِهَا إِلَى الْبَائِعِ، وَيُقَالُ لِصَاحِبِ الْمَالِ: الْقِرَاضِ إِنْ شِئْتَ، فَأَدِّ الْمِئَةَ الدِّينَارِ إِلَى الْمُقَارَضِ، وَالسِّلْعَةُ بَيْنَكُمَا، وَتَكُونُ قِرَاضاً عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْمِئَةُ الأُولَى، وَإِنْ شِئْتَ فَابْرَأْ مِنَ السِّلْعَةِ، فَإِنْ دَفَعَ الْمِئَةَ دِينَارٍ إِلَى الْعَامِلِ، كَانَتْ قِرَاضاً عَلَى سُنَّةِ الْقِرَاضِ الأَوَّلِ، وَإِنْ أَبَى كَانَتِ السِّلْعَةُ لِلْعَامِلِ، وَكَانَ عَلَيْهِ ثَمَنُهَا.
2056 - قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُتَقَارِضَيْنِ إِذَا تَفَاصَلاَ، فَبَقِيَ بِيَدِ الْعَامِلِ مِنَ الْمَتَاعِ الَّذِي يَعْمَلُ فِيهِ خَلَقُ الْقِرْبَةِ، أَوْ خَلَقُ الثَّوْبِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. قَالَ مَالِكٌ: كُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَانَ تَافِهاً لاَ خَطْبَ لَهُ فَهُوَ لِلْعَامِلِ، وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَداً أَفْتَى بِرَدِّ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُرَدُّ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي لَهُ ثَمَنٌ، وَإِنْ كَانَ شَيْئاً لَهُ اسْمٌ، مِثْلُ الدَّابَّةِ، أَوِ الْجَمَلِ، أَوِ الشَّاذَكُونَةِ، أَوْ أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ ثَمَنٌ، فَإِنِّي أَرَى أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْ هَذَا، إِلاَّ أَنْ يَتَحَلَّلَ صَاحِبَهُ مِنْ ذَلِكَ.
الحمد لله مُكرِمنا بشريعته، وبيانها على لسان عبده وحبيبه وصفوته، خير وأفضل بريته، سيدنا مُحمد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه وعترته، وعلى أهل ولائه ومحبته ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيرة الله من خليقته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
فقد ختم الإمام مالك كتاب القِراض، بما جاء في هذا الباب من مسائل متفرقة في القِراض، وقال: "باب جَامِعِ مَا جَاءَ فِي الْقِرَاضِ".
فذكر المسألة الأولى يقول -عليه رحمة الله-: "فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالاً قِرَاضاً"؛ أي: ليتَّجر فيه ويكون الربح بينهما بنسبٍ معلومة، "فَابْتَاعَ بِهِ سِلْعَةً"؛ يعني: اشترى بهذا المال الذي أخذه للقِراض سلعة، "فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الْمَالِ: بِعْهَا. وَقَالَ الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ:" ليس الآن وقت بيعها "لاَ أَرَى وَجْهَ بَيْعٍ" الآن ما بتجيب لنا ثمن سواء دعنا نؤخرها أو نأخذها إلى محل ثاني ونَحصُل على ربح أكثر، "فَاخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ"؛ هذا يقول: نبيع الآن خلاص.. ويقول الثاني -العامل-: ليس الآن، ليس وقت البيع وننتظر،
ويقول: "لاَ يُنْظَرُ إِلَى قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَالَ: لاَ يُنْظَرُ إِلَى قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالْبَصَرِ بِتِلْكَ السِّلْعَةِ".
وعرفت قول الإمام مَالِكْ أنه يُرجع فيه إلى أهل الخبرة وأهل المعرفة، ولهذا قال: "وَيُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالْبَصَرِ"؛ يعني: الخبرة في هذا، "بِتِلْكَ السِّلْعَةِ فَإِنْ رَأَوْا وَجْهَ بَيْعٍ بِيعَتْ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ رَأَوْا وَجْهَ انْتِظَارٍ انْتُظِرَ بِهَا."
ذكر بعد ذلك "فِي رَجُلٍ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ مَالاً قِرَاضاً فَعَمِلَ فِيهِ، ثُمَّ سَأَلَهُ صَاحِبُ الْمَالِ عَنْ مَالِهِ"، كيف الخبر؟ "فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي وَافِرٌ" هو عندي كامل، المال موجود، فجاء بعد ذلك ليأخذ نصيبه ويُنهي القِراض قال: "قَدْ هَلَكَ عِنْدِي مِنْهُ كَذَا وَكَذَا" أنت قلت لي قبل أيام أنه وافر!! "وَإِنَّمَا قُلْتُ لَكَ ذَلِكَ لِكَيْ تَتْرُكَهُ عِنْدِي"، إذا قلت لك إنا خسرنا سوف تقول هات المال، وتأخذه مني، وأنا أردت أن أعمل ربما أحصّل ربح..
قال الإمام مَالِك وكذلك بقية الأئمة: هذا أقرّ بحقٍ لآدمي فيؤخذ بإقراره، لا ينفع بعد ذلك شيء، قد أقررت بحق آدمي وقلت إن لي عندك كذا وبعد ذلك تقول…، فما لم تكن هناك بيَّنة على صحة ما يقول فيؤاخذ بإقراره ويقال خلاص قد أقررت وهذا حق آدمي لا يصح الرجوع فيه، إذا أقررت لآدمي بحق لا يصح أن تتراجع تقول لا، ما يوجد كيف ما يوجد؟! أنت قد قلت، فإذا قد أقررت، فعليك أن توفي بما أقررت به. قال وإنما قلت ذلك لكي تتركه عندي، "قَالَ: لاَ يَنْتَفِعُ بِإِنْكَارِهِ بَعْدَ إِقْرَارِهِ أَنَّهُ عِنْدَهُ، وَيُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ"، قال: سلّم المال وافر كما قلت، هاته، الآن لماذا تقرّ؟.. لا إله إلا الله. "وَيُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ".
"إِلاَّ أَنْ يَأْتِىَ عَلَى هَلاَكِ ذَلِكَ الْمَالِ بِأَمْرٍ يُعْرَفُ بِهِ قَوْلُهُ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَمْرٍ مَعْرُوفٍ، أُخِذَ بِإِقْرَارِهِ وَلَمْ يَنْفَعْهُ إِنْكَارُهُ". بخلاف ما إذا قال نعم قد كان وافر عندي لكن الآن حصلت جائحة أو دخل عندي سارق، وادّعى هلاكه بعد ذلك، يُقبل قوله لأنه صاحب أمانة. لكن هذا لا قال من أول ما كان عندي وإنما قلت لك كذا لأن لي غرض كذا كذا، ما يتأتي كان غرضي كذا وكذا أنت مؤاخذ بإقرارك وهو كذلك عند الأئمة كلهم.
"قَالَ مَالِكٌ: وَكَذَلِكَ أَيْضاً لَوْ قَالَ: رَبِحْتُ فِي الْمَالِ كَذَا وَكَذَا"، وعيّن مبلغ معين، قال مثلًا بعنا في هذا مائة ألف، الحمد لله.. هيّا تعال لنتقاسم، فيقول: لا ما ربحت شيء!! كيف أنت تقول ربحنا مائة ألف! "فَقَالَ: مَا رَبِحْتُ فِيهِ شَيْئاً، وَمَا قُلْتُ ذَلِكَ إِلاَّ لأَنْ تُقِرَّهُ فِي يَدِي"، قال فهذا أيضًا لا ينفعه هذا الإنكار بعد الإقرار، ويؤخذ بإقراره الأول. قال: هات مائة ألف ربح ينقسم بينكم لماذا تُقرّ بها والآن تتنكر؟ "إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ بِأَمْرٍ يُعْرَفُ بِهِ قَوْلُهُ" يقول ما فهمت والنهب الذي حصل أو جاءت السرقة أو السيول التي أخذت الديار حقنا هذا حصل فيه كذا وجاء ببيّنة عليه، الآن مُصدَّق وأما كذا تُقرّ أولًا بعد ذلك تُنكر وتقول ليس هناك شيء! قال: يؤخذ بإقراره الأول "إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ بِأَمْرٍ يُعْرَفُ بِهِ قَوْلُهُ وَصِدْقُهُ فَلاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ"..
"قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالاً قِرَاضاً، فَرَبِحَ فِيهِ رِبْحاً" بعد ذلك ما أنكر شيء من الربح ولا أنكر شيء من رأس المال، رأس المال والربح ُمقرّين به كلهم، لكن قال: نسبة الربح أنت قلت لي لك ثُلث، قال: أبدًا، قلت لك لي النصف، أو قال: قلت لك لي الثلثين ولك الثلث، قال: أبدًا، ما قلت لي إلا لك أنت الثلث وأنا لي الثلثين… واختلفوا على المال؛ "قَارَضْتُكَ عَلَى أَنَّ لِي الثُّلُثَيْنِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَالِ: قَارَضْتُكَ عَلَى أَنَّ لَكَ الثُّلُثَ. قَالَ مَالِكٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِل" واختلفوا في هذه المسألة، "قَالَ مَالِكٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ، وَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْيَمِينُ إِذَا كَانَ مَا قَالَ يُشْبِهُ قِرَاضَ مِثْلِهِ" هذا تفصيل الإمام مَالِكْ أنه ما دام هذا يتناسب مع عادة النَّاس في هذه النِّسب فخلاص يُقبل قوله وعليه بالمقابل أن يُحلِّفه يمين على ذلك ويأخذه.
إذًا؛ العامل عنده إذا جاء بما يُستنكر مع عادة النَّاس، ما يُقارضون بمثل هذا غالبًا، إذا جاء بما يُستنكر فلم يُصدق والإمام مَالِكْ في هذه الحالة يحكم بالرجوع إلى الأمثال، إلى عادة النَّاس كم يُقرضون ويلزمه، يأخذ النسبة على العادة.
قال الإمام الشَّافعي إذا هذا قال: لك ثُلث، قال: لا لي ثلثين، قال: لك الربع، قال: لا لي النصف، قال: لي ثلاثة أرباع من الربح……. قال: وهذا كلهم لهم حق في أصل الأمر. قال: إذًا؛
هذا حُكمه عند الإمام الشَّافعي؛ يتساقطون الآن إذا كان كل واحد قال لا، لا كذا، قال كذا، قال لا أنا قلت لي كذا، اتفقت معك على كذا، قال اتفقت معك على كذا!.. ولأمثال هذا اعتنى الحق بأمر الكتابة في المُداينة، وأنزل أطول آية في القرآن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ) خذوا رهن (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ۗ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [البقرة:282-283]. حتى لمَّا قرأ الآية بعض العارفين قال هذا أرجى آية عندنا قالوا لماذا أرجى آية؟ ماذا فيها؟
قال: إذا كانت هذه عناية الله بنا في أمر حقير عنده ولا يساوي شيء وهو دنيا، احتاط لنا فيها ورتّب، قال فكيف عنايته بنا في الأمر الأكبر؟ وفي أمر الآخرة؟.. سيعتني بنا أكثر، هذه عنايته بنا في أمر حقير، تافه، فاني، نعم، ولكن المؤاخذة عليه كبيرة، والمخاطبة عليه في الآخرة جليلة. لا إله إلا الله..
فهكذا يقول الإمام مَالِكْ "فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالاً قِرَاضاً، فَرَبِحَ فِيهِ رِبْحاً، فَقَالَ الْعَامِلُ : قَارَضْتُكَ عَلَى أَنَّ لِي الثُّلُثَيْنِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَالِ: قَارَضْتُكَ عَلَى أَنَّ لَكَ الثُّلُثَ. قَالَ مَالِكٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ"؛ إذا كان أمر مُتناسب مع العادة، "وَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْيَمِينُ إِذَا كَانَ مَا قَالَ يُشْبِهُ قِرَاضَ مِثْلِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ نَحْواً مِمَّا يَتَقَارَضُ عَلَيْهِ النَّاسُ"؛ هذا معنى يشبه قراض مثله، "وَإِنْ جَاءَ بِأَمْرٍ يُسْتَنْكَرُ"، كيف أمر مستنكر؟ "لَيْسَ عَلَى مِثْلِهِ، يَتَقَارَضُ النَّاسُ لَمْ يُصَدَّقْ"؛ قال: هذا رأس المال وهذا الربح، وليّ في الربح 80% أو 90%! قال: أنا قلت لك كذا؟ قال: نعم، اتفقنا على هذا، أنت لك خُمس وأَنا لي أربع أخماس، الناس يتقارضون على ذلك؟ أين الناس يعطون أحد مال يقولون أربع أخماس لك وخُمس هاته لي من الربح!! هذا لا يعتاد بين النَّاس.. فيقول الإمام مَالِكْ "لَمْ يُصَدَّقْ" وهذا الحُكم عند مَالِكْ، وكم الناس يتقارضون في هذا البلد في هذا الوقت، بمثل كم من النسبة؟ قالوا: بنسبة نصف، خلاص خذ النصف وكل واحد يأخذ نصف، فهذا حكمه.
قال الإمام الشَّافعي: إذا اختلفا يتحالفان، ويفسخ الأمر بينهم ويرجع إلى أُجرة المثل للعامل، يعطيه أُجرته مثله ويُرجع المال كله مع الباقي من الربح للمالِك.
يقول عليه رحمة الله تعالى: "قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ أَعْطَى رَجُلاً مِئَةَ دِينَارٍ قِرَاضا، فَاشْتَرَى بِهَا سِلْعَةً، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَدْفَعَ إِلَى رَبِّ السِّلْعَةِ الْمِئَةَ دِينَارٍ، فَوَجَدَهَا قَدْ سُرِقَتْ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: بِعِ السِّلْعَةَ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ كَانَ لِي، وَإِنْ كَانَ فِيهَا نُقْصَانٌ كَانَ عَلَيْكَ، لأَنَّكَ أَنْتَ ضَيَّعْتَ"؛ يعني: ضيّعت المال، مائة دينار بقِلة حفظك لها. "وَقَالَ الْمُقَارَضُ: بَلْ عَلَيْكَ وَفَاءُ حَقِّ هَذَا"؛ أي: ثمن هذه السلعة، لأني إنما اشتريتها للقِراض ما اشتريتها لنفسي مِنْ مالك الذي أعطيتني، فكنت وكيل لك أمين والآن سُرِق علينا كيف نُصلِّح؟
"قَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُ الْعَامِلَ الْمُشْتَرِيَ أَدَاءُ ثَمَنِهَا إِلَى الْبَائِعِ، وَيُقَالُ لِصَاحِبِ الْمَالِ: الْقِرَاضِ إِنْ شِئْتَ، فَأَدِّ الْمِئَةَ الدِّينَارِ إِلَى الْمُقَارَضِ" هذا وتكون "السِّلْعَةُ" مشتركة "بَيْنَكُمَا، "وَتَكُونُ"؛ يكون العقد "قِرَاضاً عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْمِئَةُ الأُولَى، وَإِنْ شِئْتَ فَابْرَأْ مِنَ السِّلْعَةِ" هذه والمائة دينار الأولى التي سُرقت فقد ضاعت منك، لأنه لا ضمان على المضارب.
"فَإِنْ دَفَعَ الْمِئَةَ دِينَارٍ" رب المال مرةً أخرى "إِلَى الْعَامِلِ، كَانَتْ قِرَاضاً عَلَى سُنَّةِ الْقِرَاضِ الأَوَّلِ"؛ يعني: على نفس الشروط التي اشترطت أول، "وَإِنْ أَبَى كَانَتِ السِّلْعَةُ لِلْعَامِلِ، وَكَانَ عَلَيْهِ ثَمَنُهَا"؛ أي: على العامل ثمنها وله ربحها إذا جاء فيها ربح، فإذا هلك مال القِراض بعد أن اشترى العامل به سلعة قبل أن ينقده البائع.
فصار عند المَالِكْية: يكون رأس المال هذه المائة الثانية فقط. والحَنَفِية: قالوا يُسلِّم المَالِك ويكون الآن رأس المال مائتين ليس مائة ويتركه يشتغل إلى أن تَفضوا بينكم المقارضة المائتين رأس المال ترجع له، لأنه أول سلّمه أول مرة مائة وقال ضيعتها، وسلَّم ثاني مائة، فكلها دخلت، فهذا مذهب الحَنَفِية.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُتَقَارِضَيْنِ إِذَا تَفَاصَلاَ"؛ يعني: انفكّا عن هذا العقد وانفصل بعضهم عن بعض، "فَبَقِيَ بِيَدِ الْعَامِلِ مِنَ الْمَتَاعِ الَّذِي يَعْمَلُ فِيهِ" أيام القراض، "خَلَقُ"، أي: بالي "الْقِرْبَةِ، أَوْ خَلَقُ الثَّوْبِ" ذكرهما مثالًا وما أشبه ذلك من عروة، أو شيء لا يذكر ولا يحاسب الناس عليه، ولا يلتفتون إليه، وأما "كُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَانَ تَافِهاً لاَ خَطْبَ لَهُ"؛ يعني: لا شأن له ولا مكان، "فَهُوَ لِلْعَامِلِ"، قال وهذا بما يحصل فيه التسامح. وإنما بعض العاملين الورعين ما يخلّي شيء عنده، ولا خَلَق ثوب، ولا خَلَق قِربة، ولا شيء إلا ردّه إلى الأصل وَاقتسمه مع صاحبه خروجًا من تعلّق الذمة بشيء، وطلبًا للبراءة عند الله سبحانه تعالى.
وقالوا: "وَإِنَّمَا يُرَدُّ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي لَهُ ثَمَنٌ، وَإِنْ كَانَ شَيْئاً لَهُ اسْمٌ، مِثْلُ الدَّابَّةِ، أَوِ الْجَمَلِ، أَوِ الشَّاذَكُونَةِ" ثياب غلاظ تضرب كانت في اليمن يسمونها الشاذكونَة، "أَوْ أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ ثَمَنٌ، فَإِنِّي أَرَى أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْ هَذَا" الأشياء "إِلاَّ أَنْ يَتَحَلَّلَ صَاحِبَهُ" يقول له باقي هذا بتخلّيه لي خليه، بتأخذه خذه، إن قال له خذه لك، انتهت المسألة، وأما يخفّيه فقط وخلاص يقول هذا أمره سهل، فلا يجوز ذلك.
فعلى قول الجمهور يجب رده ولا يجوز أخذه.
وفي قول مَالِكْ: أنه إذا جرت العادة بالمُسامحة فيه لكونه لا شأن له، فذلك كما قالوا، ثُمَّ إذا وجد شيئًا يتسامح الناس به، إذا وجد ثلاث حَبُّوب طعام أو أربعة في مكانهل يحتاج يعرّفها أو يقول حق من هذه؟! ولمّا رأى بعضهم وجد حبة من عنب حملها، يقول لمن هذه؟ جاء له سيدنا عُمَر يضربه بالدرّة، قال له: ما ندري لو حصلّت ألف كيف تعمل؟ يوم حصلَّت حاجة حقيرة صلّحت نفسك ورع، وقلت لمن هذه؟! ما ندري لو حصلَّت صدق شيء كثير إيش بتصلِّح فيه؟ لأن هذا أمر يُعرض الناس عنه ولا يبالون به، فالأمر فيه هين؛ لكن ما له وقع فالُمساءلة عليه قوية. وفي الحديث يقول ﷺ: "يا عائِشةُ، إيّاكِ ومُحَقَّراتِ الذُّنوبِ؛ فإنَّ لها مِن اللهِ طالِبًا". لا إله إلا الله.
وقد جاء أنَّ بعض الرجال كان يتعامل بالوزن، وكان من شُح نفسه وغباوته وهبالته أنه يأتي إلى كَفة الميزان التي يَضع فيها الأواق ينفخها من الغبار، غبار يسير، وغبار الثاني لا يبالي يخلّيه يضع فيه البضاعة يخلي غبارها فيها، فلمَّا حضرته الوفاة كانوا يلقّنونه الشهادة يسكت، كلام ثاني يتكلم! يقول له واحد صاحبه: ما لكَ لِم لا تقول لا إله إلا الله؟ قال: إذا أردت قولها حصّلت شوكة الميزان وُضعت على لساني تمنعني أن أقولها! وكان الذي فيه غبار، كم يستفيد من الغبار هذا؟ ولكن الشُّح الذي في القلب وعدم المبالاة والخيانة، هي التي أوقعته في هذا، "إيّاكِ ومُحقرّات الذنوب"، تحسبه هيّن وهو ما هو هيّن، ثم يقع لك عليه جزاء. لا إله إلا الله..
هذا رجع من أين؟ مالك بن دينار رجع من بغداد إلى البصرة في تمرة، كان عند صاحب التمر وأخذ تمرة يشوفها وضعها فوق تمره الذي اشتراه ثم ذكر التمرة رجع سافر ثاني مرة يردّ التمرة خوفًا، لا إله إلا الله!..
الله يُكرمنا بالإيمان واليقين والصدق والإخلاص، ويقينا الأسواء والأدواء في السر وفي النجوى، ويغمرنا بفائضاتِ جودهِ، ويُسعدنا بأعلى إسعاده لِمحبوبيه من أهل الوفاء بعهده، والعاملين بشريعته، والمُقتفين لأثر حبيبه وصفوته ﷺ، ولا يُفرِّق بيننا وبين هذا الحبيب في كل قول، وفي كل فعل، وفي كل نيّة، وفي كل مقصد، وفي كل حركة، وفي كل سكون، حتى يكون مجلى تجلَّياتنا في جميع حالاتنا، في حياتنا وعند مماتنا، وبعد مماتنا، نسألك بحقّه عليك ألا تُفرِّق بيننا وبينه، نسألك بحقّه عليك ألا تفصل بيننا وبينه، نسألك بحقّه عليك ألا تُباعدنا عنه، نسألك بحقّه عليك أن تثبتنا في ديوانه، وأن تسقينا من حانه، وأن تجعلنا من المحشورين في زمرته، اللهم بما بينك وبينه مما لا يعلمه إلا أنت، سامحنا في جميع ما جنينا، واجعلنا منه على بال في جميع الأحوال، واجعل لنا من شريف المواصلة في جميع شؤوننا وتقلباتنا وأطوارنا ما خصّصت به أهل السابقة منك في لطفٍ وعافية، وتحمّل التبعات عنّا، وأصلح شؤون أمته، وأثبتنا في خيار أمته، وارزقنا نفعهم كما وفقَّت محبوبًا لنفع أمة حبيبك على خير الوجوه والعوالم كلها في لطفٍ وعافية، واصلح شؤون أمته وادفع البلاء عنهم، بِسر الفاتحة إلى حضرة النَّبي محمد ﷺ.
14 ذو القِعدة 1443