شرح الموطأ - 368 - كتاب القِراض: باب ما يَجُوز مِن الشَّرطِ في القِرَاض، وباب ما لا يجوز مِن الشَّرط في القِرَاض

شرح الموطأ - 368 -  كتاب القِراض: باب مَا يَجُوزُ مِنَ الشَّرْطِ فِي الْقِرَاضِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب القِراض، باب مَا يَجُوزُ مِنَ الشَّرْطِ فِي الْقِرَاضِ، وباب مَا لاَ يَجُوزُ مِنَ الشَّرْطِ فِي الْقِرَاض.

فجر الأربعاء 2 ذو القعدة 1443هـ.

 باب مَا يَجُوزُ مِنَ الشَّرْطِ فِي الْقِرَاضِ

2024 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالاً قِرَاضاً، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ تَشْتَرِيَ بِمَالِي إِلاَّ سِلْعَةَ كَذَا وَكَذَا، أَوْ يَنْهَاهُ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلْعَةً بِاسْمِهَا، قَالَ مَالِكٌ: مَنِ اشْتَرَطَ عَلَى مَنْ قَارَضَ أَنْ لاَ يَشْتَرِيَ حَيَوَاناً، أَوْ سِلْعَةً بِاسْمِهَا فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ، وَمَنِ اشْتَرَطَ عَلَى مَنْ قَارَضَ أَنْ لاَ يَشْتَرِيَ إِلاَّ سِلْعَةَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ السِّلْعَةُ الَّتِي أَمَرَهُ أَنْ لاَ يَشْتَرِيَ غَيْرَهَا كَثِيرَةً مَوْجُودَةً لاَ تُخْلِفُ فِي شِتَاءٍ وَلاَ صَيْفٍ، فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ.

2025 - قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالاً قِرَاضاً، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْئاً مِنَ الرِّبْحِ خَالِصاً دُونَ صَاحِبِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ، وَإِنْ كَانَ دِرْهَماً وَاحِداً، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ نِصْفَ الرِّبْحِ لَهُ، وَنِصْفَهُ لِصَاحِبِهِ، أَوْ ثُلُثَهُ أَوْ رُبُعَهُ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِذَا سَمَّى شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ قَلِيلاً أَوْ كَثِيراً، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ سَمَّى مِنْ ذَلِكَ حَلاَلٌ، وَهُوَ قِرَاضُ الْمُسْلِمِينَ.

قَالَ: وَلَكِنْ إِنِ اشْتَرَطَ أَنَّ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ دِرْهَماً وَاحِداً فَمَا فَوْقَهُ، خَالِصًا لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ، وَمَا بَقِيَ مِنَ الرِّبْحِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ، وَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ قِرَاضُ الْمُسْلِمِينَ.

 باب مَا لاَ يَجُوزُ مِنَ الشَّرْطِ فِي الْقِرَاضِ

2026 - قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ شَيْئاً مِنَ الرِّبْحِ خَالِصاً دُونَ الْعَامِلِ، وَلاَ يَنْبَغِي لِلْعَامِلِ أَنْ يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ شَيْئاً مِنَ الرِّبْحِ خَالِصاً دُونَ صَاحِبِهِ، وَلاَ يَكُونُ مَعَ الْقِرَاضِ بَيْعٌ، وَلاَ كِرَاءٌ، وَلاَ عَمَلٌ، وَلاَ سَلَفٌ، وَلاَ مِرْفَقٌ يَشْتَرِطُهُ أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ صَاحِبِهِ، إِلاَّ أَنْ يُعِينَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى غَيْرِ شَرْطٍ، عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ إِذَا صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُمَا، وَلاَ يَنْبَغِي لِلْمُتَقَارِضَيْنِ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ زِيَادَةً، مِنْ ذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ وَلاَ طَعَامٍ، وَلاَ شَيْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ يَزْدَادُهُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ. قَالَ : فَإِنْ دَخَلَ الْقِرَاضَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ صَارَ إِجَارَةً، وَلاَ تَصْلُحُ الإِجَارَةُ إِلاَّ بِشَيْءٍ ثَابِتٍ مَعْلُومٍ، وَلاَ يَنْبَغِي لِلَّذِي أَخَذَ الْمَالَ أَنْ يَشْتَرِطَ مَعَ أَخْذِهِ الْمَالَ أَنْ يُكَافِئَ وَلاَ يُوَلِّيَ مِنْ سِلْعَتِهِ أَحَداً، وَلاَ يَتَوَلَّى مِنْهَا شِيْئاً لِنَفْسِهِ، فَإِذَا وَفَرَ الْمَالُ وَحَصَلَ، عَزْلُ رَأْسِ الْمَالِ، ثُمَّ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ عَلَى شَرْطِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِ رِبْحٌ، أَوْ دَخَلَتْهُ وَضِيعَةٌ، لَمْ يَلْحَقِ الْعَامِلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، لاَ مِمَّا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلاَ مِنَ الْوَضِيعَةِ، وَذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فِي مَالِهِ، وَالْقِرَاضُ جَائِزٌ عَلَى مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ وَالْعَامِلُ مِنْ نِصْفِ الرِّبْحِ، أَوْ ثُلُثِهِ، أَوْ رُبُعِهِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمدلله مُكرمنا بدينه وبيانِه على لسان عبده محمدٍ صلى الله وسلمَ وباركَ وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه وأهلِ الاقتداء به، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين، وعلى جميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

ويواصل سيدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ذكرَ ما يتعلق بالشرط في القِراض، وما يجوز وما لا يجوز. وذكر لنا في هذا الباب: "قَالَ مَالِكٌ: فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالاً قِرَاضاً، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ تَشْتَرِيَ بِمَالِي إِلاَّ سِلْعَةَ كَذَا وَكَذَا"، أو ينهاه عن أن يشتري سلعة باسمها معيّنة؛ فهذا اشتراطٌ من المالك على العامل، يؤثر عليه تصرفه بحريّته في مجال التجارة، بما يراه أنفعَ وأربح! فالأمرُ في الأصل موكولٌ إلى ذلك العامل؛ أن يتصرفَ هو بما يراه أربحَ وأرجح وأوفقَ لكسبه، فإذا قيّده بسلعةٍ معينة؛ قال: قارضُتك بهذا المال على ألا تشتري إلا البضاعة الفلانية.

  • يقول الشافعية والمالكية: إن كانت تلك البضاعةُ متوفرةً في ذلك القُطر طول العام، فيجوز ذلك، لأنه قد يكونُ له غرضّ صحيحٌ في أن هذه السلعةَ والبضاعة معلومٌ شأنها وربحُها مضمونٌ في الغالب، وهي متوفرة، فيقول: خلاص تاجر في البضاعة الفلانية.
    • إذا كانت متوفرةً في طول العام في ذلك المكان، جاز ذلك.
    • وأما إن كانت إنما تأتي في موسمٍ، وقد تُعدَمُ وقد تجيء، ثم قال: اتّجرْ في هذه البضاعة، فهذا تقييدٌ لحركته في طلب الربح، فيبطل ويفسد به القِراض.

"قَالَ مَالِكٌ: مَنِ اشْتَرَطَ عَلَى مَنْ قَارَضَ أَنْ لاَ يَشْتَرِيَ حَيَوَاناً، أَوْ سِلْعَةً بِاسْمِهَا فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ"؛ لما يكون من أن ذلك الحيوانَ الذي عيّنه، أو السلعةَ التي عينها، يتعرضُ الناس فيها للخسارة كثيرًا، أو أنه منتشرٌ فيها علةٌ أو مرض في ذلك الوقت، فيقول: هذا لا تشتري منه، والبضاعاتِ الأخرى التي يمكنُه الاتجارَ فيها كثيرةٌ، فلا تضييقَ بمثل هذا عليه، "قال:فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ"؛ أي: يجوز، بخلاف الأول.

"وَمَنِ اشْتَرَطَ عَلَى مَنْ قَارَضَ أَنْ لاَ يَشْتَرِيَ إِلاَّ سِلْعَةَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ"؛ يعني: غيرُ جائز، عند الإمام مالكٍ، وكذلك غيرِه، فإن ذلك فيه تحجيرٌ على المُضارِب والمقارض،  "إِلاَّ أَنْ تَكُونَ السِّلْعَةُ الَّتِي أَمَرَهُ أَنْ لاَ يَشْتَرِيَ غَيْرَهَا كَثِيرَةً"؛ موجودة بكثرة في الأسواق "مَوْجُودَةً لاَ تُخْلِفُ فِي شِتَاءٍ وَلاَ صَيْفٍ"؛ بمعنى أنها ما تنقطع، وتوفرُها حاصلٌ في الصيف والشتاء، " فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ.".

وهكذا إذا شرط على العامل أن لا يتّجر بسلعةٍ معينة أو بالحيوان، فذلك جائزٌ وله شرطه، لأنه قد أبقى له من السلعِ والبضائع ما لا يُعدَم، وما يتوفر دائمًا، وحينئذٍ يكون له غرضٌ صحيحٌ في منعه من تلك السلعة أو ذلك الحيوان.

وأما إذا قال: أقارضُك على ألا تشتري إلا سلعةَ كذا: 

  • إن كانت السلعةُ كثيرةً موجودةً ما تُعدم التجارةُ فيها،ولا تُعدم هي في وقتٍ من الأوقات، فهذا جائزٌ.
  • وإن كانت السلعةُ ذاتَ مواسم، وقد توجد وقد تُعدم، فذلك فاسد.

هكذا يقول الإمام مالك ويقول به الشافعية. 

أما الحنفية جعلوا الشرط مُتاحًا لرب المال، يشترط ما شاء، وللعامل أن يقبلَ ذلك أو يردَه. فإن قَبِل ذلك لزِمه الوفاءُ بشرط المالكِ، -صاحب المال-، ولم يروا الضررَ أو الغرر في مثل تعيين السلعة ونحوها بقاطعٍ يقطعُه من صحةِ المُضاربة. فإن من السلعِ ومن البضائع ما يتحققُ فيه الربح في موسمه، ويمكنهم أن يربحوا فيه، ويختارُ بعد ذلك العاملُ أو المالك قطعَ المقارضة، وقد حصلَ الربح؛ فعند الإمام أبي حنيفة لا إشكالَ في هذه الشروط.

وهكذا يقول الحنابلة: إن الشروط تنقسم قسمين: صحيحٌ وفاسدٌ. 

  • صحيح مثل:
    • أن يشترطَ على العامل أن لايسافرَ بالمال، لما يتعرضُ له من التلف، ولما يتعرض له أيضًا من وضع الضرائب والجمارك، أوما يتعرض له من السرقة أو النهب، وما إلى ذلك، ألا يسافر بالمال.
    • أو يشرط أن يسافر به؛ بالعكس؛ لأنه قد يكون في السفر به ربحٌ أكثرَ من أن يبقى في البلد.
    •  أو لا يتّجر إلا في بلدٍ بعينه، أو نوعٍ بعينه، أو لا يشتري إلا من رجلٍ بعينه.

 فهذا أيضًا عندهم صحيحٌ، ما دام هذا الرجل حاضر ومستعد أن يشتري منه أنواعَ البضائع، أو البضاعة المعينة؛ فعندهم أيضًا مثلُ الحنفية: أن هذا شرطٌ صحيح.

 إذًا؛ فأشبه الحنابلة الحنفية في هذه المسألة في مسألة الاشتراط. ولكن يقول الإمام مالك والإمام الشافعي: إذا شَرطَ أن لا يشتري إلا من رجلٍ بعينه أو سلعةٍ بعينها، أو أي شيءٍ لا يعمُّ وجوده غالب السنة، أو يكونُ في حد ذاته نادرَ الوجود، لم يصح.

وإذا لم يصحَ القراض، فحينئذٍ إنما يكون:

  • للعامل أجرةَ المثل. 
  • ويرجعُ المالُ والربح إلى المالك.

 يرجع المال بربحه إلى المالك، ويكونُ للعامل أجرةَ المثل.

"قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالاً قِرَاضاً، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْئاً مِنَ الرِّبْحِ"؛ يعني: معيّن خاص لنفسه، هذا ما يدخل في الشركة بينهم، يقول: هذا خاص لي! "فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ"، ولا يجوز، فإذا قال له: اتّجر فيه، وعشرة آلاف من الربح لي، وما زاد من الربح بيني وبينك، نصف أو ربع… كيف عشرة آلاف! من أين تجيء عشرة آلاف؟!... الربح كله ينقسم، قلَّ أو كثر، فإذا عيّن منه شيء لأحدهم، أو قال العامل: أنا سأتجرُ لك بهذا المال، وعشرة آلاف من الربح الأولية لي، مالك فيها، والباقي نتقاسمه، قال تمام! لا ما يكون تمام ،هذا خروج عن النظام؛ فلا يصح، وإن قال: أنا راضي، راضي أو غير راضي؛ العقد فاسد، لا يمكن العمل به، خلّوا الربح بينكم، وبعد ما تربحون اعطِه عشرةً أو عشرين أو ثلاثين أو مائة، إيش علينا منك.. أعطه بالمعروف، جزاك الله خير!... لكن أن تُدخله وسط العقد، وتخالفُ به وضعَ الشارع؟! لا، لا يصح ولا يجوز، بل تبقوا على ما وضع الشارع، أما إذا أردت أن تتبرع حتى بربحك كله بعد ذلك... فإذا قال: كم حقي؟ مائة ألف، قال: خلّه لك.. تمام هذه هبة، ما دخلت في باب القراض من شيءٍ، والقراض كما هو.

قال: "خَالِصاً دُونَ صَاحِبِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ" الشرط  "لاَ يَصْلُحُ، وَإِنْ كَانَ دِرْهَماً وَاحِداً"، قال: درهم واحد فقط والباقي نقسمه، ولا درهم ولا نصف درهم، كله سواء، ولا تخالف وضعَ الشريعة في هذا. "إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ نِصْفَ الرِّبْحِ لَهُ"؛ أي: للعامل، "وَنِصْفَهُ لِصَاحِبِهِ"؛ أي: صاحب المال، "أَوْ ثُلُثَهُ أَوْ رُبُعَهُ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ."

 وبهذا يُعلمُ أنه إنما يصحُ ذلك على نسبةٍ في الربح، لا على مبلغٍ معينٍ؛ يقول: اتجر وهات لي فيه ربح مائة ألف، وما زاد فهو لك، قليل أو كثير!.. لا يعيّن مقدار لا العامل ولا المالك؛ ممنوع يعيّنون مقدار، ولكن يعينوا نسبةً؛ ربُع، ثُمن، سدس، عُشر، قل أو كثر، نصف "أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِذَا سَمَّى شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ قَلِيلاً أَوْ كَثِيراً، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ سَمَّى مِنْ ذَلِكَ حَلاَلٌ، وَهُوَ قِرَاضُ الْمُسْلِمِينَ".

قَالَ مالك: "وَلَكِنْ إِنِ اشْتَرَطَ أَنَّ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ دِرْهَماً وَاحِداً فَمَا فَوْقَهُ،" أكثر من الواحد، "خَالِصًا لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ"؛ يختص بذلك، وما بقي من الربح "فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ،"؛ بمعنى: لا يجوز، "وَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ" الطريق والمسلكُ "قِرَاضُ الْمُسْلِمِينَ"؛ ليس القراض الذي عُرف في عهده ﷺ وعهد الصحابة والتابعين، قال: ليس هكذا القراض، إنما عُرف على هذه الطريقة المعهودة، والتي جاء فيها الترخيص منه ﷺ وأقرّه، وهو من جملة ما كان يُستعمل في أيام الجاهلية، وأقرّه عليه الصلاة والسلام وبقي في الإسلام.

وهو على موجب القواعد في الشرع؛ فيه عدم معلومية الأجرة، وفيه مخالفةٌ لكثير من القواعد، ولكن أُبيح للحاجة وللضرورة رفقاً بالناس، فبذلك وقع الإجماع على جوازه في الأصل، واختلفوا بعد ذلك في الشروط.

يقول أيضًا الحنفية: أن من اشترط من المتعاملين شيئًا من الربحِ على الآخر، فإن ذلك جائز، وذلك يقتضي أن لا يخلو واحدٌ منهما من حصته من الربح.

 قال: 

  • وإن اشترط أحدُهما عدداً لم يجز. 
  • وإن يشترط نسبةً من الربح، جائز. 

وإن كان اشترط عدد معين لم يجز، لأنه قد يمكن ذلك عدد يستغرق جميع الربح، ما يبقى شيء للآخر، ما يبقى له حظ، أو يكون له حظٌ يسير إلى غير ذلك، أو يكونُ أقلَ من الربح، أو أكثر من الربح فيذهب كله، فمن أين يُحضر الباقي؟!...

 إذًا؛ على نسبةٍ من الربح هو الذي يصح، وهكذا يقول الحنابلة أيضًا؛ الربح على ما اصطلحا عليه في جميع أقسام الشركة، لا خلاف فيه في المضاربة المحضة.

ولهذا يقول: أجمع أهل العلم على أن للعامل أن يشترط على رب المال ثلثَ الربح أو نصفه أو ثلثاه، أو ما يجتمعان عليه، قصده يكون جزء معلوم من الأجزاء لا معدود، فجاز ما يتفقّان عليه من قليلٍ أو كثير، فإذا قال: خُذ هذا اتّجر لي فيه أو ضاربتك فيه أو قارضتك، والربحُ كله لك! قال: هذا قرض، هذا ليس قراض، هذا ديْن تعطيه، أعطه ديْن يأخذه منك ويرد لك رأس المال، وهو بهذه الصورة يعده الحنفية وغيرهم: ديْن من أصله، قالوا: هذا ديْن من البداية، وإن كان باسم القراض هو يعتبر ديْن، يعتبر قرض إذا قال: الربحُ كله لك. 

يقول ابن المنذر: أجمع كلُ مَن نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض، إذا شرط أحدُهما أو كلاهما لنفسه دراهمَ معلومة؛ لأننا لا ندري كم يأتي من الربح، وإن كان الغالب على الظن أن يأتيَ أكثر من ذلك أو أضعافه، وإن كان.. فإن الأحوالَ محكومةٌ بيد المحوِّل جلّ جلاله.

وكم من أمرٍ يُتوقعُ فيه ويغلب الربحُ، ثم تكون الخسارة، وكم من أمرٍ تغلب فيه الخسارة والتقديرات كلها.. ويجيء منه الربح، سبحان الذي يرزق ويعطي ويمنع، ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، جلّ جلاله.

إذًا؛ يجب أن يكون الربحُ بينهما مشاعًا، لا يستحق أحدهما عدد معلوم من البضاعة، ولكن نسبةً من الربح، هكذا يكون. ولا يزال -عليه رحمة الله- يتداخلُ بعضُ كلامه في بعض، ومنه كلامه في الباب الثاني: "باب مَا لاَ يَجُوزُ مِنَ الشَّرْطِ فِي الْقِرَاضِ،" أيضًا يأتي فيه بعضُ ما تقدم.

 

باب مَا لاَ يَجُوزُ مِنَ الشَّرْطِ فِي الْقِرَاضِ

 

"قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ شَيْئاً مِنَ الرِّبْحِ خَالِصاً دُونَ الْعَامِلِ" كما تقدم، "وَلاَ يَنْبَغِي لِلْعَامِلِ أَنْ يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ شَيْئاً مِنَ الرِّبْحِ خَالِصاً دُونَ صَاحِبِهِ، وَلاَ يَكُونُ مَعَ الْقِرَاضِ بَيْعٌ"؛ لا يجوز أن يكون مع القراض بيعٌ، "وَلاَ كِرَاءٌ، وَلاَ عَمَلٌ" آخر يَشرطه أحدُهما، "وَلاَ سَلَفٌ"؛ أي: لا يجوز أن يشترطَ مع القراض أن يقرضَ أحدهُما الآخر، ولا شيء ًيرتفق به "وَلاَ مِرْفَقٌ" يعني: شيء يرتفق به، "يَشْتَرِطُهُ أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ صَاحِبِهِ"، لا يكون مع القراض بيعٌ ولا غيره، لا يجوز أن يشتمل عليهما عقدٌ واحد، لأنها عقودٌ لازمةٌ؛ بيع، وعقد القراض عقدٌ جائز، فما يتأتى أن يكون عقد واحد يجمع الاثنين، فهذا من الشروط الفاسدة، واشتراطِ ما ليس من مصلحة العقد ولا مقتضاه.

"إِلاَّ أَنْ يُعِينَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى غَيْرِ شَرْطٍ،" جزاك الله خير، هذا تبرع، "عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ إِذَا صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُمَا" لم يكن بتواطؤٍ ولا باتفاقٍ مضمّن، ولكن بخالصِ الرغبة والفرح والإرادة، من دون أي دافعٍ آخر يدفعه من أجل القراض ومن أجل العقد. 

"إِلاَّ أَنْ يُعِينَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى غَيْرِ شَرْطٍ،على وَجْهِ المَعْرُوفِ إِذَا صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُمَا، وَلاَ يَنْبَغِي لِلْمُتَقَارِضَيْنِ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ زِيَادَةً" مسمّاةً "مِنْ ذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ وَلاَ طَعَامٍ، وَلاَ شَيْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ يَزْدَادُهُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ."؛ يعني: غير الربح المُشاع. "قَالَ: فَإِنْ دَخَلَ الْقِرَاضَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ" من هذه الشروط الفاسدة "صَارَ إِجَارَةً"؛ صار العقد المذكور إجارةً فاسدة، وتكون فاسدة لأنه "لاَ تَصْلُحُ الإِجَارَةُ إِلاَّ بِشَيْءٍ ثَابِتٍ مَعْلُومٍ"، وهذه إجارة على أمر غير معلوم، فبطلت وفسدت، فصار العقد فاسدًا.

 فإذا اشترطه العامل صار إجارة؛ لأن من حكم القراض أن يكون عوضُ العامل -حقه- مقصور على ما يترقب خروجه من النماء، فإذا اشترطه العامل فقد خرج عن سُنةِ القراض. إنما العوض المعلوم يكون في الإجارة.

ولا ينبغي للذي أخذ المال أن يشترط مع أخذه المال، أن يكافئ أحدًا ممن أسدى إليه معروف، ويقول له: بشرط عندما نصلح  عقد القراض هذا، بعدين ممّا نحصّله من الربح، نعطي فلان منه كذا أو نعطي فلان… إيش دخل هذا في المقارضة؟! خذ ربحك المعيّن، واعطِ فلان وعلان كما تشتهي، لا تشترط على العامل معك، ولا العامل يشترط على المالك، فيقول أنا سأشتغل لك لكن ربع وفيه أو نصف فيه أو عشر سنعطيه فلان أو فلان..من غيرهم!.. نقول له: خذ نصيبك النصف أو الربع أو الثلث، واعطِه منه الذي تريد، وأما تشترطه واحد داخل وسط الربح من غير المالك والعامل لا! تشترط عامل ثاني معك نعم، ويكون بهذا قارضَ اثنين، المالكُ قارضَ اثنين، ولو قال بشرط يعمل معي فلان، قال: يعمل معك فلان، وإذًا أنتما الاثنان عاملان، ونصيب العامل ينقسم بينكم تأخذوه، ونصيب المالك له؛ ما في إشكال اثنين أو ثلاثة أو أربعة ما هناك إشكال. لكن واحد لا عامل ولا مالك، قال بغينا له لفلان! لا يأخذ كلٌّ نصيبه ثم يعطي فلان وفلتان ومن تريدون؛ كلٌّ منهم يتبرع بما شاء.

"وَلاَ يَتَوَلَّى مِنْهَا شِيْئاً لِنَفْسِهِ"؛ أي: من السلعة المذكورة، يأخذها لنفسه بالتولية، ما هي التولية؟ أن يقول له: الذي يعجبنا من البضاعة سآخذها برأس المال حقها! أنت تريده يتاجر؟ لا أنت ولا هو ما يكون إلا متاجرة، لكن بسعرها في السوق، اشترِ كما غيرك بسعرها من السوق، أما تقول: لا أنا سأشتري ما يعجبني من بضاعتك برأس المال حقه، هذه لعبة ثانية ما يمكن!! لأنك تخالف مقصود القراض، وهو كسب الربح.

قال: "فَإِذَا وَفَرَ الْمَالُ"؛ يعني: زاد "وَحَصَلَ، عَزْلُ رَأْسِ الْمَالِ"؛ يعني: حصل الربح في التجارة إذا "وَفَرَ الْمَالُ، وَحَصَلَ"؛ يعني: الربح "عَزْلُ رَأْسِ الْمَالِ"؛ يعني: يحسب كم رأس المال الذي بدؤوا به، وقد علمنا أنه لا يصح أن يكون رأس المال إلا نقدًا؛ ذهب أو فضة، لا يمكن أن يكون عَرَض من العروض ولا متاع، ولكن نقدًا. هذا المبلغ هو رأس المال، ما زاد على ذلك؟ "ثُمَّ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ عَلَى شَرْطِهِمَا"؛ يقتسمانه بينهما على ما اشترطوا، ثلثٌ، أو رُبُع، أو أقل أو أكثر، "فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِ رِبْحٌ"، ما حصّلوا ربح، قام يضارب وما عرف يربح، وما قدر يدخّل شيء وطلع هو  رأس المال نفسه، "أَوْ دَخَلَتْهُ وَضِيعَةٌ"، ايش يعني وضيعة؟ أي: نقص وخسران، بدأ يتجر بمائة ألف، بعدين يحسب حصّل ما باقي إلا ثمانين ألف، أين العشرين؟ راحت عليه لأنه أبله أو حظه ما هو زين، أو رخصت البضاعة التي اشتراها غالية، وخلاص ما بقي إلا هذا. 

"لَمْ يَلْحَقِ الْعَامِلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ"، يقول له: تريد ربح؟ خسَّرتَ خلق الله، وعادك تريد ربح!! رُح شل نفسك، سلّمِ المالَ كله، وأعطه، إذا ما بقي إلا هو قدر رأس المال أو أقل، وإيش عادك تبغى؟!… أنت قمت تعمل وخربطت عادك إلا نقّصت، أرادوا الربح رجعته هو هو أو عادك نقصت على صاحبك!.. "فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِ رِبْحٌ، أَوْ دَخَلَتْهُ وَضِيعَةٌ، لَمْ يَلْحَقِ الْعَامِلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، لاَ مِمَّا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلاَ مِنَ الْوَضِيعَةِ، وَذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فِي مَالِهِ". وقال هذا المالك: الآن أنت خسّرتنا، هذه العشرين التي خسرناها، نصفٌ عليّ ونصف عليك! لا يكون ذلك! نص عليّ ونصف عليك، أنت قد قارضته والحمدلله رب العالمين، وأنت لماذا تُقارض أبله أو ما يعرف، أو جاءت أمر جائحة أو شيء من ربك، خلاص… اقنع بما قضاه ربك عليك، ما لك إلا الحاصل الآن، الدراهم الناقصة، فلا يقول: أنا أعطيتك حتى تربح لي، قمت تردّه ناقص، فنصف عليّ ونصف عليك! لا، لا نصف ولا أقل خلاص…

وإذا كنت في حاجةٍ مُرسِلاً *** فأرسل لبيبًا ولا توصِه

والأمرُ قبل ذلك وبعده لله. قال: "وَالْقِرَاضُ جَائِزٌ عَلَى مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ وَالْعَامِلُ مِنْ نِصْفِ الرِّبْحِ، أَوْ ثُلُثِهِ, أَوْ رُبُعِهِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ."، لا حرج عليهم في ذلك، بأن يكونَ أحدُهما أكثر من الآخر، ولو ثلثين، ولو ثلاثة أرباع على أحدهما، إذا اتفقا على ذلك صحّ؛ أيُ جزءٍ من الربح للآخر، فالمقارضة صحيحة، والله أعلم.  

انظِمنا في سلك أهلِ الصدق من خيار الخَلق، والمقتدين بسيد الوجود والثابتين على ما يحبّه الرحمن في الغيب والشهود، وأحيا فينا شريعة حبيبه المصطفى، ونشرَها في العالمين، وجعلنا من خدّامها القائمين بحقّها على الوجه المرضي له في عافية، إلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

08 ذو القِعدة 1443

تاريخ النشر الميلادي

07 يونيو 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام