شرح الموطأ - 366 - كتاب القِراض: باب ما جاء في القِرَاض، و باب ما يجوز في القِرَاض

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب القِراض، باب مَا جَاءَ فِي الْقِرَاضِ، و باب ما يجوز في القِرَاض.
فجر الإثنين 29 شوال 1443هـ.
باب مَا جَاءَ فِي الْقِرَاضِ.
2015 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ ابْنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي جَيْشٍ إِلَى الْعِرَاقِ، فَلَمَّا قَفَلاَ مَرَّا عَلَى أبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ وَهُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ، فَرَحَّبَ بِهِمَا وَسَهَّلَ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَقْدِرُ لَكُمَا عَلَى أَمْرٍ أَنْفَعُكُمَا بِهِ لَفَعَلْتُ، ثُمَّ قَالَ: بَلَى هَا هُنَا مَالٌ مِنْ مَالِ اللَّهِ، أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بِهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأُسْلِفُكُمَاهُ فَتَبْتَاعَانِ بِهِ مَتَاعاً مِنْ مَتَاعِ الْعِرَاقِ، ثُمَّ تَبِيعَانِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَتُؤَدِّيَانِ رَأْسَ الْمَالِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ لَكُمَا. فَقَالاَ: وَدِدْنَا ذَلِكَ. فَفَعَلَ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمَا الْمَالَ، فَلَمَّا قَدِمَا بَاعَا فَأُرْبِحَا، فَلَمَّا دَفَعَا ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ قَالَ: أَكُلُّ الْجَيْشِ أَسْلَفَهُ مِثْلَ مَا أَسْلَفَكُمَا؟ قَالاَ: لاَ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ابْنَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَسْلَفَكُمَا، أَدِّيَا الْمَالَ وَرِبْحَهُ. فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ فَسَكَتَ، وَأَمَّا عُبَيْدُ اللَّهِ فَقَالَ: مَا يَنْبَغِى لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا، لَوْ نَقَصَ هَذَا الْمَالُ أَوْ هَلَكَ لَضَمِنَّاهُ. فَقَالَ عُمَرُ: أَدِّيَاهُ. فَسَكَتَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَاجَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ عُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ جَعَلْتَهُ قِرَاضاً. فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ جَعَلْتُهُ قِرَاضاً. فَأَخَذَ عُمَرُ رَأْسَ الْمَالِ وَنِصْفَ رِبْحِهِ، وَأَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ ابْنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نِصْفَ رِبْحِ الْمَالِ.
2016 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَعْطَاهُ مَالاً قِرَاضاً يَعْمَلُ فِيهِ، عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا.
باب مَا يَجُوزُ فِي الْقِرَاضِ
2017 - قَالَ مَالِكٌ: وَجْهُ الْقِرَاضِ الْمَعْرُوفِ الْجَائِزِ: أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ الْمَالَ مِنْ صَاحِبِهِ، عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَنَفَقَةُ الْعَامِلِ فِي الْمَالِ فِي سَفَرِهِ، مِنْ طَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ وَمَا يُصْلِحُهُ بِالْمَعْرُوفِ، بِقَدْرِ الْمَالِ إِذَا شَخَصَ فِي الْمَالِ، إِذَا كَانَ الْمَالُ يَحْمِلُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مُقِيماً فِي أَهْلِهِ، فَلاَ نَفَقَةَ لَهُ مِنَ الْمَالِ وَلاَ كِسْوَةَ.
2018 - قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يُعِينَ الْمُتَقَارِضَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ، إِذَا صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُمَا.
2019 - قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ رَبُّ الْمَالِ مِمَّنْ قَارَضَهُ بَعْضَ مَا يَشْتَرِي مِنَ السِّلَعِ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ صَحِيحاً عَلَى غَيْرِ شَرْطٍ.
2020 - قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ وَإِلَى غُلاَمٍ لَهُ مَالاً قِرَاضاً يَعْمَلاَنِ فِيهِ جَمِيعاً: إِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لاَ بَأْسَ بِهِ، لأَنَّ الرِّبْحَ مَالٌ لِغُلاَمِهِ، لاَ يَكُونُ الرِّبْحُ لِلسَّيِّدِ حَتَّى يَنْتَزِعَهُ مِنْهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ مِنْ كَسْبِهِ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرمِنا بشريعته الغراء، وبيانها على لسان عبده وحبيبه خير الورى، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه المرتقين إلى الذُرى، وعلى من تابعهم بإحسان مخلصًا للرحمن سرًّا وجهرا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين رفع الله لهم قدرًا، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وابتدأ الإمام مالك -عليه رضوان الله- يذكر: "كتاب القراض" الذي اشتهر بهذا الاسم عند المالكية وعند الشافعية، وهو المذكور في أرض الحجاز. واشتهر عند الحنفية وعند الحنابلة بالمضاربة، وهو المشهور في أرض العراق. ولم يكونوا يذكرون في أرض العراق إلاّ اسم المضاربة، وأهل الحجاز يقولون اسم القراض،
- فاشتهر في كتب المالكية والشافعية باسم القِراض.
- واشتهر في كتب الحنفية والحنابلة باسم المضاربة.
والمراد واحد.
- القِراض:
- مشتق في اللغة من القرض وهو القطع؛ لأن صاحب المال يقطع من ماله فيسلّمه للعامل، والعامل يقطع من الربح الذي جاء بسببه عمله فيسلّمه للمالك.
- فهو في تعريفه في الشرع: توكيل مالكٍ آخر شيئًا من ماله ليتّجّر فيه والربح مشترك بينهما.
هذا القراض جاءت به الشريعة مراعاةً ورفقًا للناس، وإلاّ على القياس لا يتفق مع إجارة ولا مع شيء غيره، فإن الأجرة غير معلومة ومجهولة فيه، وإلى غير ذلك مما لا يستقيم على القياس، ولكنّه أُجمع على جوازه لإقرار النبي ﷺ له، وعمل الصحابة عليه بعد ذلك.
فعمل الكثير من الصحابة به، وكان الأمر مشتهرًا بينهم، وبذلك ذكر الإمام مالك حديث سيدنا عمر؛ لينبئ أنّ القِراض كان معروفًا عند سيدنا عمر بن الخطاب، وكان معمولًا به في ذلك القرن وبين الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-.
وجاء عن عدد منهم تعامُلهم بهذا القراض، ثم فيمن بعدهم بلا نكير، وبذلك:
- أجمع الفقهاء على جوازه في الأصل.
- واختلفوا بعد ذلك في مسائله وفي شروطه وما تعلّق به.
فأصله جائز بالإجماع.
وجاء في حديث عند ابن ماجه -عليه رحمة الله- يقول: عن سيدنا صهيب: أن النبي ﷺ قال: "ثَلاثٌ فيهِنَّ البركة، البَيْع إلى أجَلٍ، وَالْمُقارَضة، وَأخلَاط البُرِّ بِالشَّعِير، لِلْبَيْت لا لِلْبَيْع".
يقول الإمام مالك: إنّه "خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ ابْنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ" اثنان من أولاد سيدنا عمر "فِي جَيْشٍ إِلَى الْعِرَاقِ"، وذهبا إلى نهاوند حيث كان الفتح لها، وكانوا يسمونه فتح الفتوح؛ لأنه فسح المجال على الاتصال بالأماكن والدخول إلى فارس ونحوها، فكان المقدمة لفتح فارس. فلمّا رجعوا من الغزوة مرّوا وسيدنا أبي موسى الأشعري -رضي الله تعالى عنه-، أميراً في البصرة "فَلَمَّا قَفَلاَ"؛ رجعا من الغزوة "مَرَّا عَلَى أبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ" زيارةً له ولعهد الوداد وللوفاء وللمحبة والأخوّة، فزارا سيدنا أبا موسى الأشعري، "وَهُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ" حينئذٍ "فَرَحَّبَ بِهِمَا" قال: مرحبٍا "وَسَهَّلَ"؛ أي قال: أهلاً وسهلاً، فرحب بهما وسهّل؛ وفيه: فرحه بمرورهما عليه وزيارتهما له، لما بينهما وبينه وبين أبيهما من المودة والمحبة في الله تبارك وتعالى.
"ثُمَّ قَالَ:" أبو موسى لهما: "لَوْ أَقْدِرُ لَكُمَا عَلَى أَمْرٍ أَنْفَعُكُمَا بِهِ لَفَعَلْتُ"؛ يعني: لو قدرت على شيء يصل به النفع إليكما لفعلت ذلك، وفي ذلك أنّ الأمراء كانوا لا يملكون في أنفسهم لذواتهم شيئًا، وما كان عندهم إلاّ أمر بيت المال يصرفونه في مصارفه، وهذا أمير على البصرة وما عنده شيء يهديه إلى هؤلاء الزوار الذي جاؤوا عنده، ولا عنده شيء يقدر أن ينفعهم به، ولكن ذكر أن عنده مالاً من بيت المال "مِنْ مَالِ اللَّهِ" تعالى، يعني من بيت المال "أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بِهِ".
يقول: "ثُمَّ قَالَ: بَلَى" هناك طريقة، "هَا هُنَا مَالٌ" عندي، أي تحت يده وتصرفه، في أمانته كالعهد عنده أو كالعُهدة عنده "أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بِهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ" أبيكم عمرَ بن الخطاب، فأرى "فَأُسْلِفُكُمَاهُ"؛ أعطيه لكما سلفًا؛ أي: قرضًا، "فَتَبْتَاعَانِ بِهِ مَتَاعاً"؛ أي: ها هنا في العراق "مَتَاعاً مِنْ مَتَاعِ الْعِرَاقِ، ثُمَّ تَبِيعَانِهِ" ذلك المتاع "بِالْمَدِينَةِ، فَتُؤَدِّيَانِ رَأْسَ الْمَالِ" المقدار الذي أعطيتكما "إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ" أبيكما عمر "وَيَكُونُ الرِّبْحُ لَكُمَا" الذي حصل بالتجارة "فَقَالاَ:"؛ أي: عبد الله بن عمر وعبيد الله "وَدِدْنَا ذَلِكَ"؛ يعني: أحببنا أن نفعل هكذا "فَفَعَلَ" أبو موسى، وأعطاهما مالاً، اشتريا به متاعًا من البصرة، وخرجا بالمتاع إلى المدينة المنورة وباعا ذلك، فربحا، فأمسكا الربح وقدّما رأس المال الذي أعطاهم سيدُنا أبو موسى إلى أبيهما أمير المؤمنين.
"وَكَتَبَ" سيدنا أبو موسى "إِلَى" أمير المؤمنين "عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمَا الْمَالَ" مقدار كذا كذا "فَلَمَّا قَدِمَا" إلى المدينة "بَاعَا فَأُرْبِحَا"؛ حصل لهما الربح من تلك البضاعة، "فَلَمَّا دَفَعَا ذَلِكَ" المال "إِلَى عُمَرَ" بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- قام على عادته بالاحتياط والورع فيما يتعلّق به وبأهل بيته، وهو يعلم أن هذا مال من أموال المسلمين، وكان للأمير حق التصرّف فيه فيما يرى فيه المنفعة والمصلحة للمسلمين، وقد تُصرّف في ذلك أبو موسى بما يحِلّ له أو بما يجوز له، ولكنه رأى أنه إنّما خصهما بإعطائهما ذلك لأنّهما أبناء أمير المؤمنين، فكان معنى من المحاباة أو استعمال الإمارة في شيء من الرفد والرفق من المنفعة، وسيدنا عمر يكره ذلك ويخاف من تبعته والمحاسبة عليه، وكان معروفٌ احتياطُه لنفسه، فلما دفعا إليه المال "قَالَ: أَكُلُّ الْجَيْشِ أَسْلَفَهُ مِثْلَ مَا أَسْلَفَكُمَا؟".
أكل الجيش الذي أرسلناه من هنا ومرّ بنهاوند أعطاهم سلفًا مثل هذا وجاءوا يبيعون ويربحون في ذلك؟! "قَالاَ: لاَ" ما أعطى الجيش كله من المال الذي عنده، سلمه لنا لنسلمه لك، أسلفنا نحن إياه، ما أسلف الباقين شيئًا، قال: "ابْنَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَسْلَفَكُمَا"، عيال أمير المؤمنين هكذا بإمارة المسلمين ندخل في أموال ونأخذها مقابل ذلك! "أَدِّيَا الْمَالَ وَرِبْحَهُ" قال: رجّعوا الربح فوق المال، وروحوا أنتم وعملكم وتعبكم خلاص ما عاد لكم شيء "أَدِّيَا الْمَالَ وَرِبْحَهُ".
أمّا سيدنا عبد الله بن عمر سكت أدبًا مع والده وبِرًّا به وتعظيمًا له، أما أخوه "عُبَيْدُ اللَّهِ فَقَالَ: مَا يَنْبَغِى لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا" لماذا؟ أي واحد بتمشّيهله وللناس كلهم إلا نحن، وإن كنا أبناؤك ولكن خلاص اجعلنا مثل باقي الرعية لماذا لأننا أبناءك تضيق علينا؟ عاملنا كما باقي الخلق! "فَقَالَ عُمَرُ: أَدِّيَاهُ"؛ المالَ وربحَه، ما التفتَ إلى حجّة عبيد الله ولدِه، وقال: أدّيا المال وربحه "فَسَكَتَ" سيدنا "عَبْدُ اللَّهِ" أيضًا.
"وَرَاجَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ" ثانيةً، كان رجل جالس عنده وهو سيدنا عبد الرحمن بن عوف، قال: "يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ" نعطيك حل، قال: ما هو؟ قال: "لَوْ جَعَلْتَهُ قِرَاضاً" خلاص، ما تريده يكون قرض لهم نهائي لأنهم أبناء أمير المؤمنين اجعله قراض؛ أشرك بيتَ المال في الربح الذي ربحوه، وخذ نصفه. فكانوا يعلمون من سيدنا عمر مشاورتَه لذوي العلم والرجوعَ إليهم، فلما علم ذلك من حاله عرض القضية سيدنا عبد الرحمن بن عوف، وكان من علماء الصحابة. "فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ جَعَلْتُهُ قِرَاضاً" خلاص رضينا بهذا، قال: "قَدْ جَعَلْتُهُ قِرَاضاً، فَأَخَذَ عُمَرُ رَأْسَ الْمَالِ" كاملاً، ونصف الربح الذي ربحوه. أنتم تقولون سلف؟ ما يكون سلف لكم لأنكم عيال أمير المؤمنين، هاتوا نصفه هذا قِراض ليس سلف.. وأخذ نصف الربح الذي ربحوه وردّه إلى بيت المال -عليه رضوان الله تعالى-.
فأراد الإمام مالكٌ أن يعلم أن المقارضة كانت معمولاً بها ومعروفةً في عهد أمير المؤمنين وعهد الصحابة، فكان من الأمر الذي أُجمع عليه في القرن الأول، فكان حجة على من بعدهم، وبذلك أجمع الفقهاء على جواز القِراض أو المضاربة.
ثمّ أورد حديث: "الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَعْطَاهُ"؛ أعطى جدّه هذا: يعقوب، أعطاه "مَالاً قِرَاضاً يَعْمَلُ فِيهِ، عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا"؛ فأيضًا كما عمل عمر عمل عثمان بالمضاربة، وكذلك جاء عن سيدنا علي وعن جماعة من الصحابة.
واستأنس من استأنس بقوله: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ) [المزمل:20]، فقالوا: وهذا المضارب أيضًا أو المقارض يسافر من أجل أن يبتغي الرزق، فهو داخل في ذلك، على ما جاء أيضًا في السنة الغراء. وقد استعمله ﷺ بنفسه من قبل البعثة والنبوة مع سيدتنا خديجة، وأخذ مالها وتاجر فيه، على أنّ له من الربح نصيبًا، وأعطته نصيبه من الربح، وكان معمولاً به من قبل الإسلام، وأقرّه الإسلام، وجاء ﷺوأقر ذلك، فبقي على ذلك رفقًا بالناس.
وهكذا جاء أن عمر بن الخطاب أيضًا أعطى بعض الصحابة مال يتيمٍ مضاربةً، يعمل به في العراق من أجل مصلحة الأيتام في ذلك.
وجاء أيضًا في الخبر عن سيدنا عمر نفسه وعن ابنه وعن السيدة عائشة وعن ابن مسعود: "اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة" لا تدعوها هكذا تأخذون منها، تلزم الزكاة في كل سنة، ارقبوا مصلحة الأيتام، تاجروا بها حتى يعُد إليهم الربح ولا تنقص. وهو ملمح من قوله تعالى في حق الأيتام: (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا) قال: ولم يقل: ارزقوهم منها، بل (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا)؛ يعني: تاجروا لهم فيها وضاربوها وارزقوهم فيها؛ وسطها؛ لا أن تأخذون وتأخذون منها حتى تنقص عليهم، وتخرجون الزكاة في كل سنة (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) [النساء:5].
باب مَا يَجُوزُ فِي الْقِرَاضِ
وذكر الإمام مالك، قال: "وَجْهُ الْقِرَاضِ الْمَعْرُوفِ الْجَائِزِ: أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ الْمَالَ مِنْ صَاحِبِهِ، عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ"؛ يعني: أنه إذا اشترط الضمان فسد العقد. "وَنَفَقَةُ الْعَامِلِ فِي الْمَالِ فِي سَفَرِهِ، مِنْ طَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ وَمَا يُصْلِحُهُ بِالْمَعْرُوفِ، بِقَدْرِ الْمَالِ"؛ يعني: يتحمله المال. "إِذَا شَخَصَ"؛ أي: سافَرَ "فِي الْمَالِ، إِذَا كَانَ الْمَالُ يَحْمِلُ ذَلِكَ"؛ يتحمل السفرَ وأخْذَ أجرةِ السفر منه. "فَإِنْ كَانَ مُقِيماً فِي أَهْلِهِ، فَلاَ نَفَقَةَ لَهُ مِنَ الْمَالِ وَلاَ كِسْوَةَ"؛ لا يجوز أن يأخذ من مال القراض شيئًا.
"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يُعِينَ الْمُتَقَارِضَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ"؛ يعني: التبرع، من دون شرط، "إِذَا صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُمَا"؛ أي: ما يكون بالشرط ولكن بالرغبة، أنّ هذا ما أخذ شيء وهو يستحقه العامل، أو أنّ المالك أعطى العامل شيئًا غير نصيبه من الربح من عنده، قال: البر والمعروف مفتوح بين المسلمين، لكن أن يغيروا عقود ويشترطوا شروط في العقود فهذا ممنوع، بل يمشون على ما شرع الشرع، وأما أن يبروا بعضهم البعض ويحسنوا إلى بعضهم البعض برضاهم وبالتبرع فما عليهم شيء، إلا ما يدخل في العقد، ولا يغيروا شيء من أصل أحكام الشريعة.
"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ رَبُّ الْمَالِ مِمَّنْ قَارَضَهُ بَعْضَ مَا يَشْتَرِي مِنَ السِّلَعِ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ صَحِيحاً عَلَى غَيْرِ شَرْطٍ."؛ من رب المال، يعني: لا يشترط في المضاربة أنه يشتريه، بل يكون واحدًا من جملة الزبائن الذين تقتضي مصلحة العمل أن يشتري، فيعطي مثل غيره، أو يعطي ثمنًا أحسن من غيره، فيبيعه عليه؛ فلا إشكال في ذلك.
"قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ وَإِلَى غُلاَمٍ لَهُ"؛ يعني: إلى رب المال، "مَالاً قِرَاضاً يَعْمَلاَنِ فِيهِ جَمِيعاً: إِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لاَ بَأْسَ بِهِ، لأَنَّ الرِّبْحَ" الذي يحصل من العمل "مَالٌ لِغُلاَمِهِ"؛ يعني: الغلام يملكه، "لاَ يَكُونُ الرِّبْحُ لِلسَّيِّدِ حَتَّى يَنْتَزِعَهُ مِنْهُ" أن يأخذ السيد هذا الربح من الغلام "وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ" غيرِ ذلك من الأموال التي تحصل للعبد، "مِنْ كَسْبِهِ" إذا أذِن له سيّده في التجارة وفي الربح.
ويواصل الكلام فيما يتعلق بأحكام القِراض، وما لا يصح فيه من الشروط.
رزقنا الله الاستقامة على المنهاج، والسلامة من كل زيغٍ واعوجاج، وحُسن اتباع للمخصوص بالإسراء والمعراج، وأن الله يحيي سنّته وشريعته فينا وفي أمته وفي العالمين، ويجعلنا من خدّامها والقائمين بحقها على الوجه الأرضى له ولرسوله الأمين، وأن يصلح أحوال أمته أجمعين، بسر الفاتحة، إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
07 ذو القِعدة 1443