شرح الموطأ - 365 - كتاب البيوع: تتمة باب جَامِعِ الْبُيُوعِ

شرح الموطأ - 365 - باب جَامِعِ الْبُيُوعِ، من حديث يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ يَقُولُ : (أَحَبَّ اللَّهُ عَبْداً، سَمْحاً إِنْ بَاعَ..)
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، تتمة باب جَامِعِ الْبُيُوعِ.

فجر الأحد 28 شوال 1443هـ.

باب جَامِعِ الْبُيُوعِ

2009 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ يَقُولُ: أَحَبَّ اللَّهُ عَبْداً، سَمْحاً إِنْ بَاعَ، سَمْحاً إِنِ ابْتَاعَ، سَمْحاً إِنْ قَضَى، سَمْحاً إِنِ اقْتَضَى.

2010 - قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي الإِبِلَ أَوِ الْغَنَمَ أَوِ الْبَزَّ أَوِ الرَّقِيقَ أَوْ شَيْئاً مِنَ الْعُرُوضِ جِزَافاً: إِنَّهُ لاَ يَكُونُ الْجِزَافُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُعَدُّ عَدًّا.

2011 - قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُعْطِي الرَّجُلَ السِّلْعَةَ يَبِيعُهَا لَهُ، وَقَدْ قَوَّمَهَا صَاحِبُهَا قِيمَةً فَقَالَ: إِنْ بِعْتَهَا بِهَذَا الثَّمَنِ الَّذِي أَمَرْتُكَ بِهِ فَلَكَ دِينَارٌ، أَوْ شَيْءٌ يُسَمِّيهِ لَهُ يَتَرَاضَيَانِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَبِعْهَا فَلَيْسَ لَكَ شَيْءٌ، إِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ إِذَا سَمَّى ثَمَناً يَبِيعُهَا بِهِ، وَسَمَّى أَجْراً مَعْلُوماً إِذَا بَاعَ أَخَذَهُ، وَإِنْ لَمْ يَبِعْ فَلاَ شَيْءَ لَهُ.

2012 - قَالَ مَالِكٌ: وَمِثْلُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: إِنْ قَدَرْتَ عَلَى غُلاَمِي الآبِقِ، أَوْ جِئْتَ بِجَمَلِي الشَّارِدِ فَلَكَ كَذَا. فَهَذَا مِنْ بَابِ الْجُعْلِ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الإِجَارَةِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ بَابِ الإِجَارَةِ لَمْ يَصْلُحْ.

2013 - قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا الرَّجُلُ يُعْطَي السِّلْعَةَ فَيُقَالُ لَهُ: بِعْهَا وَلَكَ كَذَا وَكَذَا فِي كُلِّ دِينَارٍ، لِشَيْءٍ يُسَمِّيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ، لأَنَّهُ كُلَّمَا نَقَصَ دِينَارٌ مِنْ ثَمَنِ السِّلْعَةِ، نَقَصَ مِنْ حَقِّهِ الَّذِي سَمَّى لَهُ، فَهَذَا غَرَرٌ لاَ يَدْرِى كَمْ جَعَلَ لَهُ.

2014 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الرَّجُلِ يَتَكَارَى الدَّابَّةَ، ثُمَّ يُكْرِيهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا تَكَارَاهَا بِهِ. فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مكرمِنا بشريعته، وبيانِها على لسان صفوته خيرِ بريَّتِه، سيدِنا محمدٍ صلّى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحابته، وأهلِ ولائه ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيرةِ الله- تبارك وتعالى- في خليقته، ونورِ هدايته إلى بريّته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. 

ويذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- في باب جامعٍ لأحكام البيع حديثَ ابنِ المنكدر -عليه رحمة الله تعالى- "يَقُولُ: أَحَبَّ اللَّهُ عَبْداً، سَمْحاً إِنْ بَاعَ، سَمْحاً إِنِ ابْتَاعَ، سَمْحاً إِنْ قَضَى، سَمْحاً إِنِ اقْتَضَى". وأصلُ الحديث جاء أيضًا مرفوعًا عند الإمام البخاري -عليه رحمة الله-، عن سيدنا جابرِ بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، بلفظ: "رحم الله امرئً"، وجاء عند البيهقي عن أبي هريرة قال: "أحب الله" كما هو في لفظ الإمام مالك.

وفي الحديث: 

  • الحثُّ على السماحة 
  • والحث على حُسن المعاملة

 وأنّ ذلك يكون موصلاً إلى محبة الله ونيل رحمته، أن يكون الإنسان "سَمْحاً"، سمحًا من السماحة، يقول: "إِنْ بَاعَ" عند البيع لا يوجد فيه الغلظةُ ولا الفظاظة، ولا تقطيبُ الوجه، ولا الإجحاف، ولا إبطان السوء، بل يكون سمحًا، "سَمْحاً إِنِ ابْتَاعَ"؛ أي: اشترى، إن باع وإن ابتاع، يعني إن باع وإن اشترى يكون سمحًا في شرائه. لا تتناقض هذه السماحة مع المماكسة واتخاذ الكياسة، إمّا في نقص السعر وإمّا في جودة البضاعة إلى غير ذلك، ولكن يتناقض مع الفظاظة والغِلظة ورفع الصوت والسبّ وما إلى ذلك، هذا غير سمح، فإن السمح وإن تراجعا في الثمن إلى غير ذلك يكون ذلك بألفاظٍ حسنة، وبوجهٍ طلق، وبنيةٍ صالحة طيبة، فسمحًا إن ابتاع سمحًا إن اشترى.

"سَمْحاً إِنْ قَضَى"؛ يعني: أدّى، فلا يُعبِّس ولا يتحرك حركة غير لطيفة رقيقة، ويؤدي القضاء، فهو سمح إن قضى دينه؛ يعني: يبادر أول ما يحلّ الدين. من السماحة أن يبادر بقضائه وأن يسلمه طيب النفس ومع شكر الذي ديّنه والذي أقرضه، وبشاشة الوجه فيه، والدعاء له، هذا سمح إذا قضى. أمّا الذي يماطل ويؤخر فغير سمحٍ، والذي يحضره ولو في وقته لكن عابسَ الوجه، ويقول: خذ حقك!! وما إلى ذلك من عدم الملاطفة هذا غير سمح، ليس سمحًا  إذا قضى "سَمْحاً إِنْ قَضَى"، أو يحضر له أقل من حقه أو دونه.

و "سَمْحاً إِنِ اقْتَضَى"؛ أي: إذا طلب ماله من الدين الذي حلّ عند الآخَر يطلبه بسماحة، فيُنظِره ما تيسّر، ويخاطبه بلطف ومن دون شطط، وهكذا دعانا ﷺ إلى هذه السماحة بحُسن الطلب. وهكذا قال لسيدنا عمر لمّا ردّ على اليهودي، وقد دخل بعنف وجرّ رداء النبي حتى احمرّ عنقه الشريف، يقول: أدِّني دَيْني يا محمد، ما عُرفتم يا بني هاشم إلاّ مُطُلاً، تماطلون الناس حقوقهم، مع أنه باقي ثلاثة أيام من موعد الدين، فسيدنا عمر رأى هذا المنظر قال: يا رسول الله ائذن لي أضرب عنقه! هذا يدخل في مسجدك ويحمّر رقبتك ويتكلم بهذا الكلام.. قال له: كنت أنا وهو أحوج لغير هذا منك يا عمر، مُرْه بحسن الطلب ومرْني بحسن الأداء، واعلم أنه بقي من موعد الدّيْن ثلاثة أيام. ولكن الآن خذه وأعطه دينه وزِده مكان ما روّعته عشرين صاع، زده عشرين صاع مكان الذي روّعته فوق دَينه بسبب أنك روّعته فزّعته، حتى أنك بتقتله! قال: خذ، هذا حقُّك، وهذا أمر رسول الله ﷺ نزيدك، ولا بد من طاعة رسول الله، اذهبْ، قال: يا عمر أتعرفني؟ قال: لا، من؟ قال: أنا زيد بن سعنة، قال: الحَبْر! عالم من علماء اليهود، قال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا عمر إني خَبَرت صفات رسول الله في التوراة فوجدتها كلها فيه إلاّ وصفين لم أخبرهما قبل اليوم، وصفه عندنا الحِلم، وأنّه لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حِلمًا، وقد خبرتهما اليوم، وإنّما جئت أختبره، وقد أيقنت أنه رسول الله، فأشهِدك أن هذا كله صدقة للمسلمين، وأنا ذاهب إلى رسول الله الآن لأسلم، دخل إلى المسجد قال: امدد يدك، أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنّك رسول الله ﷺ.

قال: مُرْه بحسن الطلب ومرني بحسن القضاء! لا إله إلا الله… وهكذا بلا رفع صوت ولا حلف ولا شدة، فهذه السماحة هي المطلوبة والتي أرشدنا إليها صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

وهكذا جاءنا أيضًا في الحديث: أن رجلاً من بني إسرائيل انّه حضرته الوفاة، وكان سمحًا صاحب تجارة، ويقول لوكلائه: أنظِروا المؤسِر وتجاوزوا عن المعسر لعل الله يتجاوز عنّا. قال الذي ترونه مسكين فقير وضاقت به السُبُل لم يستطع أن يقضي سامحوه، والذي هو موسر أنظِروه واطلبوا بالرفق منه، لا تستعجلوا عليه، أنظروا الموسر وتجاوزوا عن المعسر لعلّ الله يسمح عنا. قال: فلمّا وقف بين يديّ الله سأله الله: ما كنت تعمل؟ يقول: يا ربي إنّي كنت أنظِر الموسر وأقول لوكلائي كذا، قال الحق: أنا أولى بالصفح منك، قد تجاوزنا عنك. وقد جاء في رواية: أنّ الملائكة قالوا له لما تلقوا روحه: عملت من الخير شيء؟ قال: كنت أنظر الموسر وأتجاوز عن المعسر، قال فتجاوز الله عنه. لأنّ الجزاء من جنس العمل، فأُعطيَ هذه المنحة من الله والتجاوز والمسامحة بسبب أنّه كان يرفق بالعباد فيما آتاه الله تبارك وتعالى. 

قال مالك: والمسامحة من المبتاع أن يقضي أفضل ما يجد "أحسنكم قضاءً"، ويعجل القضاء، ولا يبلغ المطل، وهكذا أمّا دخول الأَيْمان والحلف فينزع البركة من البيع والشراء. 

"قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي الإِبِلَ" مثلًا "أَوِ الْغَنَمَ أَوِ الْبَزَّ أَوِ الرَّقِيقَ" أو أنواع الدوابّ الأخرى "أَوْ شَيْئاً مِنَ الْعُرُوضِ" التي تباع عادة أن يشتريها "جِزَافاً" يعني تخمينًا من دون عدد، أن يشتري من دون أن يعد ومن دون أن يكيل ومن دون أن يوزن، بالجزاف "إِنَّهُ لاَ يَكُونُ الْجِزَافُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُعَدُّ عَدًّا"؛ يعني: لا يُباع شيء جِزاف مما ذكره، فمن الأشياء أيضًا المعدودة ما يصح فيها البيع بجزاف، فالذي يُعد:

  • قسم منه تختلف صفاته مثل الحيوانات، هذه الخيل أو الإبل والثياب والعروض. 
  • وقسم ثانٍ لا تختلف صفاته مثل بيض وجوز وهكذا يكون متقارباً في الغالب.

 فعند الإمام مالك: منه ما يجوز فيه الجزاف، ومنه ما لا يجوز فيه الجزاف،

  • فما ليس بمكيل ولا موزون، لا يُكال ولا يُوزن مما الغرض في أعيانه مثل الدواب والرقيق والثياب فلا يجوز فيه الجزاف، لأن آحادها تحتاج إلى أن تنفرد بالنظر وبالتأمل.

 فإذًا؛ أشياء يجوز عند الإمام مالك الجزاف فيها بشروط ذكرها، ولا يجوز في أشياء، فالكيل المعلوم أو الوزن عند البائع والمشتري من جميع الأشياء التي تُكال وتوزن والممسوحة بالذرع والعلم بمقادير هذه الأشياء، فأصل مذهب الإمام مالك أنه يجوز فيما المقصود منه الكثرة لا آحاده.

  • منها ما أصله الكيل فيجوز عنده جزافًا.
  • ومنها ما أصله الجزاف فيكون مكيلاً.

 وذكر عند المالكية شروط للجزاف:

  • أن يرى البائع والمشتري هذا الأمر حال العقد، أما حالة العقد أو قبله وهو مستمر على حالته.
  • وكذلك لم يكن المبيع بكثرة كاثرة جدًا يتعذر حزره. 
  • أو كان قليلاً جداً يتأتى عدّه في لحظات فما يصح الجزاف فيه.
  •  فأمّا إن كان متوسطاً كما أشاروا وجهلاه وحزراه كلٌّ منهما يحزره ويُخمّنه ويقدّره وسوت أرضه ولم يُعدّ بلا مشقة 
  • ولم تُقصد أفراده أو آحاده.

 فهذه الشروط عندهم لصحة الجزاف. 

والأمر أيضًا فيه واسع عند الحنفية، ما يضر الجزاف إلاّ في بيع الجنس بالجنس من الربويات؛ هذا ممنوع، ما عدا ذلك فالأمر عنده واسع. 

فبيع ما يكال أو يُوزن أو يُعد جملةً بلا كيل ولا وزن ولا عد هذا هو الجزاف. فإن كان شيئًا مرئيًا يمكنه حزره برأي العين غير مبالغٍ في كثرته ولا في قلّته، وهكذا يقول الشافعية: أنّه مما يجوز فيه البيع مع الكراهة، والرجوع إلى العَدْل أو الكيل أو الوزن أفضل.

"قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُعْطِي الرَّجُلَ السِّلْعَةَ" البضاعة، كي "يَبِيعُهَا لَهُ، وَقَدْ قَوَّمَهَا صَاحِبُهَا" يعني مالكها "قِيمَةً" عيّن لها قيمة وثمنًا معيّنًا "فَقَالَ" المالك "إِنْ بِعْتَهَا بِهَذَا الثَّمَنِ الَّذِي أَمَرْتُكَ بِهِ فَلَكَ دِينَارٌ" مثلًا "أَوْ شَيْءٌ" أقل أو أكثر من الدينار "يُسَمِّيهِ" يعيّنه. قال: "يَتَرَاضَيَانِ عَلَيْهِ" فصار هذا من جُملة الإجارة، دخل في جملة الإجارة؛ أن يستأجره في أن يبيع له بهذا الأمر المعلوم والثمن الذي يسميه، "يَتَرَاضَيَانِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَبِعْهَا فَلَيْسَ لَكَ شَيْءٌ" قال مالك: "إِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ"؛ يعني: تجوز هذه المعاملة، واشترط "إِذَا سَمَّى ثَمَناً" معيّنًا "يَبِيعُهَا بِهِ" بكذا كذا.. "وَسَمَّى أَجْراً مَعْلُوماً إِذَا بَاعَ أَخَذَهُ" هذا الأجر وهو دينار، نصف دينار، دينار ونصف، دينارين "وَإِنْ لَمْ يَبِعْ فَلاَ شَيْءَ لَهُ"؛ لأنه لم يترتب عليه الأجل، قال مالك: إن هذا جائز وهو داخل في باب الإجارة. 

وذكر بعد ذلك ما هو من باب الجُعالة، في كلامه الثاني قال: "وَمِثْلُ ذَلِكَ"؛ أي: في الجواز "أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: إِنْ قَدَرْتَ عَلَى غُلاَمِي الآبِقِ" هذه الجعالة، "أَوْ جِئْتَ بِجَمَلِي الشَّارِدِ فَلَكَ كَذَا" قال: "فَهَذَا مِنْ بَابِ الْجُعْلِ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الإِجَارَةِ" إذًا؛ فعندنا الجعالة والإجارة:

  • فأمّا الجعالة: فهي عندهم أصلها اسم لما يُجعل للإنسان على شيء، وهي في تعريفهم يقولون: التزام عِوَض معلوم على عمل معين. قال المنادي للقافلة لأبناء سيدنا يعقوب: (نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) [يوسف:72]، هذه جعالة، حِمل بعير لمن جاءنا بهذا الصواع الضائع أو المسروق، وردّه لنا، فنعطيه حِملَ بعير، هذه جعالة، (وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ)؛ أي: ضامن.

 فإذا كان من باب الجعالة فيجوز. وهي عند الأئمة الثلاثة جائزة، هذه الجعالة. يقول الحنفية: لا تجوز إلا في رد الآبق فقط. 

فإذاً؛ 

  • الأئمة الثلاثة -المالكية والشافعية والحنابلة- يقولون بإباحة هذه الجعالة. 
  • وإن كان المالكية يقولون إنّها جائزة بطريق الرخصة اتفاقًا. 
  • وأما الحنفية فيقولون: بعدم جوازها في غير جُعل العبد الآبق، إذا أبق عبد يجوز أن يقزل: من ردّ عبدي الآبق الشارد عليّ فأعطيه كذا وكذا، ولم يرَوا الجعالة في غير هذا، وقالوا: إن فيها تعليقَ التملكِ على خطر وتردّد ففيه غرر، فلم يرتضوا ذلك.

قال الأئمة الثلاثة: إنّه رُخّص فيها. 

وجاء أيضًا في الصحيحين عن سيدنا أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: أن أُناسًا من أصحاب رسول الله ﷺ أتوا حيًّا من أحياء العرب، فلم يُقْروهم، فبينما هم كذلك لُدغ سيد أولئك القوم، قالوا: هل فيكم من راقٍ؟ قالوا: لم تُقْرونا فلا نفعل، إلاّ أن تجعلوا لنا جُعلاً! فقال لهم سيدنا أبو سعيد الخدري: بتجعلون لنا جُعل؟ لما نزلنا عليكم لو ضيّفتونا كنا أرقيناكم ببلاش، لكن الآن ما نرقيكم إلا بمقابل، بتعطونا على ذلك جعالة؟ قالوا: نعم، فتراضوا معهم على ثلاثين قطيعًا من الغنم، والقطيع: ثلاثون رأس.

 لو كانوا ضيّفوهم كان ذبحوا لهم قليل، لكنهم أَبوْا أن يضيفوهم، فأرسل الله حية إلى سيد هؤلاء القوم ولدغته وجاؤوا، قالوا: إن صاحبكم جاء بخير، -يعنون النبي محمد- قالوا: عندكم راقٍ؟ قال لهم سيدنا أبو سعيد: عندنا راقٍ لكن أنتم ما ضيفتمونا وأبيتم أن تُقرونا فالآن لا نقرأ لكم إلاّ بجُعل، قالوا: جُعل.. ما الذي تريدونه؟ فاتفقوا على ثلاثين رأسًا من الغنم. فقام سيدنا أبو سعيد وضع يده على محل لدغة الحية، وقرأ الفاتحة، وجمع بزاقه ووضعه عليه، أول مرة ثاني مرة ثالث مرة قام كأنّما نشط من عقال، وقام وما عاد به شيء، لا الألم ولا أثر السم، وهو أول مرة يرقي ما يعرف رُقْية من قبل ولا شيء، لكنه عنده عقيدة ويقين في الفاتحة. فأخذ منهم الغنم، وأخذوا يذبحون منها، وبعض الصحابة قالوا: الآن نأكل هذه على إيش؟ على إيش نأخذ هذا الغنم كله! تجوز لنا أو ما تجوز؟ فتأخر بعضهم وأكل بعضهم، ووصلوا إلى المدينة المنورة، وأخبروا النبي بالواقعة، قال لسيدنا أبي سعيد: وما يدريك أنّها رُقْية؟ إنها لرُقْية! كلوا، من أخذ برقية باطل فقد أخذتم برقية حق، "اضربوا لي معكم بسهم" هل بقي عندكم شيء من الغنم؟ قالوا: نعم، قال: هاتوا منه، يطمئنهم أنّه حلال خالص، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. 

قال: ولما سألوه ﷺ ضحك من فعلهم وفعل سيدنا أبي سعيد، ثم قال له: وما يدريك أنّها رقية؟ إنها لرقية، فاتحة الكتاب، وهو بيقينه ونيّته الصالحة ظهر الأثر مباشرة. 

ويُذكر عن الإمام مالك في هذه الجعالة وجوازها أنّه يجوز في اليسير بشرط: 

  • أن لا يَضِرب لذلك أجل.
  •  وأن يكون الثمن معلومًا.

(وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ)، فجمهور العلماء على جوازه، أمّا في الإباق بالاتفاق، وأمّا ما عدا ذلك فمنعه الحنفية كما سمعنا.

"قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا الرَّجُلُ يُعْطَي السِّلْعَةَ" البضاعة "فَيُقَالُ لَهُ: بِعْهَا وَلَكَ كَذَا وَكَذَا فِي كُلِّ دِينَارٍ، لِشَيْءٍ يُسَمِّيهِ"؛ يعني: لك في كل دينار درهم مثلاً "فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ، لأَنَّهُ كُلَّمَا نَقَصَ دِينَارٌ مِنْ ثَمَنِ السِّلْعَةِ، نَقَصَ مِنْ حَقِّهِ الَّذِي سَمَّى لَهُ"، فهو إذًا غير معلوم، قال: "فَهَذَا غَرَرٌ لاَ يَدْرِى كَمْ جَعَلَ لَهُ"؛ كم الجُعل الذي سيُحصله! فإذا قال لرجل: بِع هذا المتاع ولك درهم ففعل، أو قال: اشتر لي هذا المتاع ولك درهم ففعل، فله عند الحنفية أجر مثله لا يجاوز به الدرهم. وأمّا ما قالوه: أنّ مِن كل عشرة دنانير مثلاً دينار ومثل ذلك فهذا لا يجوز عند الحنفية وعامة الأئمة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-، فلهذا يقولوا: الإجارة بيع منافع ما يجوز أن يكون البدل فيها إلا معلومًا، وهكذا عند جمهور العلماء. 

قال: "وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الرَّجُلِ يَتَكَارَى"؛ يعني: يستأجر "الدَّابَّةَ، ثُمَّ يُكْرِيهَا" هذا لرجل آخر "بِأَكْثَرَ مِمَّا تَكَارَاهَا بِهِ" قال الزهري: "لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ"؛ يعني: له أن يُكريَها بأكثر مما اكتراها به قبل القبض وبعده، نعم.

  • وهكذا مذهب مالك، ومذهب الشافعي كذلك وجماعة من العلماء، المستأجِر يُؤجِّر ما استأجره على الغير بأقل أو أكثر أو بمثل الذي استأجره به. 
  • وقال الإمام أبو حنيفة: من استأجر دارًا أو دابّة فليس له أن يؤجرها حتى يقبضها، وليس له بعد قبضها أن يؤجرها بأكثر مما استأجرها به، هذا مذهب أبي حنيفة؛ أنّه بعد القبض يجوز أن يؤجر ولكن ما يُؤجرها إلا بمثل ما استأجرها به.
  • وعند الحنابلة يقولون: يجوز للمستأجر أن يُؤجّر العين المستأجرة إذا قبضها، ولا يُشترط أن يكون بمثل ما أجّرها به، بل يجوز أقل وأكثر -كما هو عند الشافعية- وقبل القبض ما يجوز، كذلك البيع.

وينتقل إلى كتاب القِراض

جعلنا الله ممن يُقرض الله قرضًا حسنًا، ويتبع حبيبه سِرًّا وعلنًا، ورقّانا مراقي أهل قربه من خواصّ عباده ممن تولّاهم بما هو أهله حِسًّا ومعنى، وختم لنا أجمعين بأكمل الحسنى في لطفٍ وعافية، وأصلح شؤون أمة حبيبه محمد ظاهرًا وباطنًا وإلى حضرة النبي ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

06 ذو القِعدة 1443

تاريخ النشر الميلادي

05 يونيو 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام