شرح الموطأ - 363 - كتاب البيوع: باب ما يُنهى عنه مِن المُسَاومة والمُبَايَعة

شرح الموطأ - 363 - كتاب البيوع: باب مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ الْمُسَاوَمَةِ وَالْمُبَايَعَةِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، باب مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ الْمُسَاوَمَةِ وَالْمُبَايَعَةِ.

فجر الأربعاء 24 شوال 1443هـ.

باب مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ الْمُسَاوَمَةِ وَالْمُبَايَعَةِ

2001 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ".

2002 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ لِلْبَيْعِ، وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا، إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعاً مِنْ تَمْرٍ".

2003 - قَالَ مَالِكٌ: وَتَفْسِيرُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ "لاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ". أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى أَنْ يَسُومَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ إِذَا رَكَنَ الْبَائِعُ إِلَى السَّائِمِ، وَجَعَلَ يَشْتَرِطُ وَزْنَ الذَّهَبِ، وَيَتَبَرَّأُ مِنَ الْعُيُوبِ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ أَنَّ الْبَائِعَ قَدْ أَرَادَ مُبَايَعَةَ السَّائِمِ، فَهَذَا الَّذِي نَهَى عَنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

2004 - قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ بَأْسَ بِالسَّوْمِ بِالسِّلْعَةِ تُوقَفُ لِلْبَيْعِ، فَيَسُومُ بِهَا غَيْرُ وَاحِدٍ.

قَالَ وَلَوْ تَرَكَ النَّاسُ السَّوْمَ عِنْدَ أَوَّلِ مَنْ يَسُومُ بِهَا، أُخِذَتْ بِشِبْهِ الْبَاطِلِ مِنَ الثَّمَنِ، وَدَخَلَ عَلَى الْبَاعَةِ فِي سِلَعِهِمُ الْمَكْرُوهُ، وَلَمْ يَزَلِ الأَمْرُ عِنْدَنَا عَلَى هَذَا.

2005 - قَالَ مَالِكٌ: عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنِ النَّجْشِ.

2006 - قَالَ مَالِكٌ: وَالنَّجْشُ أَنْ تُعْطِيَهُ بِسِلْعَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا، وَلَيْسَ فِي نَفْسِكَ اشْتِرَاؤُهَا فَيَقْتَدِىَ بِكَ غَيْرُكَ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مكرمنا بشريعته وبيانها على لسان عبده محمد موضّح أحكامها ومشيّد بنيانها، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه، وأهل حسن متابعته في خفايا الأمور وإعلانها، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين مَن جعلهم الله سبحانه وتعالى للمعرفة به مشيّدي أركانها، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

ويروي لنا الإمام مالك ما جاء من النهي في المساومة والمبايعة فيما يتعلق بدخول المشتري على شراء أخيه، أو البائع على بيع أخيه، أو ما تعلق  بذلك من تلقّي الرُّكبان؛ كل ذلك: 

  • للسير في الإجمال في طلب الربح. 
  • ولمراعاة المصلحة العامة لخلق الله -تبارك وتعالى- فيما يُيسره لهم من مال وما يحتاجونه من طعام وتغذية.

 فأورد لنا الحديث: وهو من أصح ما يذكر من الأسانيد عند المحدثين: مالك عن نافع عن ابن عمر، فهذا تحدث: "عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ"؛ والحديث أيضًا في الصحيحين وغيرهما.

وذلك إذا تبايع اثنان من المسلمين واستقرّ بينهما الثمن والرضا به، أو لزم البيع وفيه خيار من باب أولى: 

  • فيأتي واحد إمّا إلى المشتري ويقول له: أبيعك مثل هذه البضاعة بثمن أقل، أو أبيعك أحسن منها بنفس الثمن فافسخ البيع وخذ بضاعتي، فصار باع على بيع أخيه. 
  • أو يأتي إلى البائع فيقول له: أنا أشتري منك هذه البضاعة بثمن أغلى، أعطيك سعر أكبر فافسخ من هذا وأنا سأشتريها منك، فيشتري على شراء أخيه. 

كلاهما محرّم، ممنوع في الشريعة، وإن صحّ البيع عند الجمهور مع الإثم والحرام والتعرض للعقاب. 

  • وقال الحنابلة: البيع كله باطل ولا يصحّ البيع من أصله؛ لأنه منهي عنه.
  • وقال غيرهم من الأئمة: إنما النهي جاء لأمر خارج عن أصل العقد فلا يفسد البيع ولكن يأثم أصحابه -والعياذ بالله تبارك وتعالى- ويتعرّضون لعذاب الله. 

فلا يجوز أن يبيع على بيع أخيه؛ وذلك إذا قد اتفقوا على السعر، أما ما لم يستقر بينهم ثمن ولم يركن أحدهم إلى الآخر؛ فما هناك ضرر في أن يدخل هذا ليبيع أو يشتري وهذا ليبيع أو يشتري. ولكن إذا قد استقرّ بينهم ثمن وتراضوا عليه؛ فيدخل واحد بعد ذلك من أجل أن يعطي أكثر بنفس الثمن، أو يعطي أحسن بنفس الثمن، أو يعطي نفس الشيء بأقل من الثمن، أو أن يشتري بأكثر من هذا الثمن؛ فهذا مأثوم ولا يجوز له أن يدخل على بيع أخيه ولا على شراء أخيه. 

وهكذا؛ ما يتعلق بالسّوْم على سَوْم أخيه، إذا تساوما فاستقر وتراضيا فيدخل بعد ذلك لهذا السَّوْم، بخلاف ما يُعرض لمن يزيد من الثمن، فيُعرض لمن يزيد: فيدخل هذا، ويدخل هذا، ويدخل هذا ويقول: أنا أشتري بكذا، وأنا أشتري بكذا، هذا جائز، جائز كما فعل صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وليس من هذا الباب من شيء، ولكن النهي عن أن يبيع على بيع أخيه: 

  • وهو أن يأمر المشتري أن يفسخ ليبيعه مثل البضاعة بثمن أقل.
  • أو أن يبيعه أحسن منها بنفس الثمن، فيُرغِّبه في أن يفسخ البيع، وذلك إذا اتفقا ولم يتم البيع بعد. 
  • أو تم البيع وعندهم خِيَار؛ والإثم فيه أشدّ، قد لَزِمَ البيع ولكن باقي خيار يومين أو ثلاثة، فيجيء في خلال يومين أو الثلاثة أيام التي فيها الخِيَار فيقول له: رُدّه وأنا أعطيك أكثر، أو يجيء للبائع ويقول له: استردّ بضاعتك أنا سأشتريها منك وسأعطيك ثمن أكثر من هذا وضعف من هذا. 

وكل هذا فيه إفساد للناس على بعضهم البعض، حرّمته شريعة الحق -جل جلاله- على لسان رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

"لاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ"؛ فمن هنا عُلِم فيه العموم، أنه سواءً كان مسلم أو ذمّي أو مؤمَّن؛ كله حرام. وما جاء في الرواية: "على بيع أخيه"؛ فإنما جاء للغالب، وجاء أيضًا لاستثارته معنى الاستقباح: أن يؤذي أخاه، فعبّر بالأخ، والحكم واحد: 

  • بين المسلمين 
  • أو بين مسلم وذمّي 
  • أو بين مسلم ومُؤمَّن 

يشتري.. فلا تَسُم على سَوْمه، لا تَبِعْ على بيعه ولا تشتري على شرائه؛ لأن حكم أهل الذمة والمؤمَّن إذا دخلوا بلادنا، أنّ حكم الإسلام يحكم على الكل، فكلهم تحت هذا الحكم فلا يجوز تجاوزه.

ثم كذلك استثنى بعض أهل العلم من الشافعية وغيرهم: إذا كان هذا المشتري مغبون غَبْن فاحش، أبله مسكين ما يعرف زادوا عليه، أو كان ذلك البائع كذلك مغبون غَبْن فاحش؛ فأجاز بعضهم أن يدخل من أجل الأمانة ومن أجل النصيحة. لكن الجمهور قالوا: لا يكون ذلك، لماذا لا يرجع إلى أهل الخبرة ويسأل من قبل! خلاص، قد اشترى الآن، ولكن يمكن أن ينصحه من دون ما يبيع على بيع غيره، يقول له: انظر هذه البضاعة سعرها كذا كذا في السوق؛ هذا يجوز، هذا ما فيه شيء، ينصحه ويقول له: انظر البضاعة هذه التي ستشتريها تُباع في السوق بكذا وكذا، أو يذهب إلى البائع ويقول له: هذه البضاعة التي يشتريها منك فلان تُباع بأكثر من هذا الثمن ووضعها في السوق كذا، لتكون في العلم فقط. 

إذا كان الغبن فاحش؛ يجوز أن يخبره بالثمن من دون ما يبيع هو ولا يشتري، يدعهم بينهم البين، فإن قد رجع ورفض أحدهما فله بعد ذلك أن يبيع ما عنده، وأما أن يدخل ببيع أو شراء؛ فلا، باسم النصيحة، نقول النصيحة: تخبره الواقع من دون ما تبيع أنت عليه بضاعتك، ومن دون أن تشتري أنت منه البضاعة، وهكذا.. 

إذًا؛ فإذا تم ذلك؛ 

  • فالبيع صحيح عند الأئمة الثلاثة والإثم عليهم.
  • ولكن عند الحنابلة: البيع باطل من أصله، لا يصح هذا البيع لأنه منهي عنه، وأخذوا بعموم النهي لإبطال البيع.

ثم ذكر لنا حديث أبي هريرة: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لاَ تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ لِلْبَيْعِ"؛ ومعناه: الذين يجلبون البضائع إلى البلد وغالبًا كانوا من البادية، يأتون ببضاعة البادية ويبيعونها في المدن، ويأتون راكبين على الجمال غالبًا هذا، ولكن ليس المقصود عين الرُّكبان من كان راكب ومن كان ماشي.. الذي يجلب البضاعة إلى البلد ما يجوز شخص واحد يذهب ويتلقّاه من أجل: 

  • إما أن يضر أهل السوق أو أهل البلد.
  • وإما أن يغشَّ صاحب البضاعة ويشتري منه بسعر أقل وهو لا يدري كم سعرها في السوق فيساومه على سعر أقل، يخرج من أجل قبل ما يدخل إلى البلد ويعرف كم سعر البضاعة، يشتريها هو منه بسعر أقل ثم بعد ذلك يبيعها بسعر غالٍ.

 وفي هذه الحالة كما جاء في الحديث وهو مذهب الشافعية ومن وافقهم: أن الخِيار يثبت لهذا الجالب للبضاعة إذا دخل وعرف سعر السوق، يجوز له أن يقول ردّ لي بضاعتي لا أبيعها عليك.

قَالَ: "لاَ تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ لِلْبَيْعِ"؛ أي: بأن تشتروا منهم أو أن تريدوا أن تبيعوا لهم، ولهذا خصّص الحنفية تحريم تلقي الرُّكبان، إما أن يُلبّس عليهم في السعر، أو أن يقول لهم: إنّا نبيعها بسعر أغلى، مثل أن يطلب منهم فيقول: الآن هذه البضاعة مع حاجة الناس إليها سيرتفع ثمنها فأخّروها عندي وسوف أبيعها لكم بثمن أغلى فيضر الناس، فلا يجوز؛ لا يضُر الجالبين ولا يضر أهل البلد! فكل ذلك محرّم في الشريعة. 

  • فإذا كانت من الحاجات التي يحتاجها الناس، تَعُمُّ الحاجة إليها وهو يأمرهم أن يأخروها أو يدّخروها عنده ليأتي سعر أغلى ويبيعوها بسعر أغلى، كل ذلك أيضًا محرّم.
  • وبخلاف إذا هو قصد، الجالب للبضاعة ما قصد بيعها في السوق إنما جابها ليخزنها، فاستلمه منها وخزنها له عنده، ما كان قصده يبيعها في الأصل؛ هذا ما يتعلق به إثم؛ لأنه ما قصده أصلًا أن يبيع، دخل بها ليخزنها ويؤخرها وما إلى ذلك، 

ولكن من دخل بها ليبيع؛ اترك الأسعار على ما هي فإن المُسعِّر هو الله، على ما يسّر الله للناس دعهم يتبايعون ولا تتدخل أنتَ في الأمر، ويستفيد بعضهم من بعض بحسب ما ييسر الله لذا ولذاك.

قال: "وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ"؛ كما تقدم في الحديث السابق. "وَلاَ تَنَاجَشُوا"؛ والنَّجْشُ: أن يزيد في الثمن لا لرغبة في الشراء ولكن ليُغري غيره فيشتري، ويقول: أنا اشتريها بكذا وكذا، وهو كذاب ولن يشتريها بهذا الثمن أبدًا ولكن من أجل غيره يسمعه ويرغب فيها، يرغِّب غيره فيها ويغرّ غيره، هذا هو النجش. 

  • أن يكون بينهم اتفاق 
  • أو من عنده مُتعرّض فضولي يريد أن يغش الناس ولو من دون اتفاق؛ كله حرام عليه. 

أن يزيد في الثمن لا لرغبة في السلعة ولكن ليغرّ غيره هذا هو النَّجْشُ.

  • وأصل النجش: الإثارة. 
  • والقصد: الزَّج بالمشتري في رغبة البيع بما هو فوق الثمن.

 ولو كان يريد صدقًا شراؤها لنفسه لم يرضى بهذا الثمن، ولكن يدّعي أنه يريد شراءها بهذا الثمن من أجله، وقد يكون إما بسوءٍ من عنده أو باتفاق مع البائع ويتظاهر أنه مشتري وأنه حريص على السلعة وأنه يريد أكثر منها، و "من غشنا فليس مِنّا"، وفوقهم عالم السر والإعلان يحاسبهم على ما صَغُر وما كَبُر.

قال: "وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ"؛ يأتي البادي ببضاعته قانع فيها بالسعر الحاصل الموجود، قال له: يافلان اسمع تعال، بنجيب لك سعر فيها قوي، خلّك من هذا… تعال لنا، سنعطي فيها ألف ونذهب بها المحل الفلاني أو نؤخرها في الشهر الآتي ستكون غالية.. لا حول ولا قوة إلا بالله! مالك يا قليل الحياء! دَعْه يبيعها بالسعر الموجود الآن قد رخّصها الله للناس، وأنتَ لماذا تريد أن تغلّيها على عباد الله جل جلاله وتعالى في علاه؟! لا تسعى للتلبيس على الجالب ولا تضر وتتسبب في إضرار أهل البلد، وإن "الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون". قال: "وَلاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ"، نعم. 

يقول: "وَلاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ"؛ تُصَرُّوها يعني: تأخروا حلبها ليجتمع اللبن في ضرعها فيحفل باللبن فيظنوا أن هذا حق كل يوم، وهو حق يومين أو ثلاثة أيام لم يحلبها عمدًا من أجل أن الناظر إليها يقول: ما شاء الله هذه تعطي لبن كثير فيرغب فيها، لماذا بالغش؟ "من غَشّنا فليس منا"، دعها بحليبها حق كل يوم فاحلبها ويراها على ما هي عليه.

يقول: "وَلاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ"؛ يُصرُّها يعني: يترك ويجمّع اللبن في ضرعها ولا يحلبه يومين أو ثلاثة حتى تأتي حافلة فيعجب الناظر إليها يقول: ما شاء الله بتجيب لنا كم كل يوم لنسقي الأولاد! ويذهب يحصّل هذا إنما مجمّع ليومين ما هو لكل يوم، فهذا منهي عنه لأن فيه الغش.

وقال: "وَلاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ"؛ المُصرَّاة: التي صُرِّيَ لبنها وحُقِنَ فيه وجُمع ولم يُحلب أيامًا. 

وليس شرط الربط، وإن كان ذكر بعض الشافعية ذلك: يربط أخلاف الناقة أو الشاة ويترك حلبها؛ القصد: أنه يُجمّع هذا بأي وسيلة حتى يوهم أنها تدرّ كل يوم ألبانًا كثيرة. 

يقول: "فَمَنِ ابْتَاعَهَا"؛ يعني: المُصرَّاة، "بَعْدَ ذَلِكَ"؛ أي: بعد التحفيل فوجدها تأتي بأقل، قال: "فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ"؛ يعني: يجوز له أن يقول: يا غشّاش رجَّعنا ناقتك ورجّعنا شاتك لم نعد نريدها، خلاص ردّ لنا ثمننا وخذ شاتك لأنك كذبت علينا وأوهمتنا أنها ذات لبن كثير. 

"فَمَنِ ابْتَاعَهَا"؛ يعني: اشتراها، "بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ"؛ أي: الرأيين؛ 

  • أن يقبلها على ما هي. 
  • أو أن يردها على صاحبها ويأخذ ثمنها. 

"بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا، إِنْ رَضِيَهَا"؛ المشتري، "أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا"؛ كرهها، "رَدَّهَا"؛ وردّ معها، "وَصَاعاً مِنْ تَمْرٍ"؛ يقول له: ها بعدما شربت لبنها الآن تردّها لي؟ قال: خذ لك صاع تمر مقابل اللبن الذي شربناه، يلا اذهب وخذ هذا التمر وردّ لنا ثمننا كامل، وأنت مقابل هذا الحليب الذي غششتنا به سنعطيك التمر، شربنا لبنك وكُلْ تمرنا وانتهينا من المسألة، خذ شاتك ورُدَّ لنا ثمننا.

قال: "وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعاً مِنْ تَمْرٍ"؛ 

  • والحنفية قالوا: إن هذا عيب التصرية لا يصحّ الرد به، ولا يجب رد أيضًا صاعًا من تمر. 
  • وكذلك يقول الجمهور: أن يتخيّر بين صاع تمر أو نصف صاع من بُرْ مقابل الحليب الذي شربه، نعم. وبعضهم قيّد بقوت البلد.

إذًا؛ التصرية عيب يُرد به المشترى. 

  • وقال الأحناف: أنه ليس بعيب وإنما تجميع لبن، وأنت احتاط للمسألة، هل سألتم؟ نعم، سألتهم وقالوا لك أنها تجلب كذا كل يوم هذا نعم سواء كلام ثاني غش، وإذا ما سألتهم وإنما مجرد هذا… فكن أنت نبيه. 
  • لكن الحديث مع الجمهور أنه يُعَدُّ عيبًا وأن صاحبه بخير النظرين كما قرأنا في الحديث.

إذًا؛ إذا ردّ المُصرّاة يلزمه رد بدل اللبن، وهكذا قول الذين قالوا بذلك مَن مثل: الحنابلة والشافعية والمالكية، ويقول بعض الشافعية والإمام مالك: أن المقصود صاع من قوت البلد، إنما كان التمر هو أكثر قوتهم في عهده ﷺ وقوت تلك البلد فلذلك ذكر التمر، فقالوا: إنما نصَّ على التمر؛ لأنه غالب قوت البلد في المدينة هذا ما قالوه -لا إله إلا الله-.

فأما إذا احتلبها ولم يستعمل اللبن وتبيّن أنها مُصرّاة: فيجيب اللبن نفسه يرده له، يقول: انظر هذا الذي حلبناه أول يوم طلع كثير، انظر ثاني يوم طلع كيف؟ انظر لبن اليوم الأول و لبن اليوم الثاني يا كذاب، خذها لبنها لك وهي لك ورد ثمنها، لا شربنا لبنك ولا نريد شاتك ولا نريد ناقتك..

والحاصل أن الشريعة هذّبت العباد وأوجبت عليهم أن يتّقوا عالم الخافي والباد، وأن يقيموا الأمور بينهم على النصح وعلى ما فيه الفائدة للجميع.

وهل البقرة ليست مثل الناقة؟ نعم مثلها، كلها التي تُحلب هذه، لا فرق بين البقرة ولا الناقة ولا الشاة كله سواء، إنما ذكر النبي هذا لأنه هو الغالب عندهم واستعمالهم للبقر قليل في تلك الأيام في الحجاز، فإن كان منهن عدد اثنين مُصرّاة أو ثلاثة وأراد ردهن؛ يرد مع كل واحدة صاع من تمر، صاع من تمر، صاع من تمر، مقابل اللبن الذي شربه.

"قَالَ مَالِكٌ: وَتَفْسِيرُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِيمَا نُرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ "لاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ". أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى أَنْ يَسُومَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ"؛ السَّوْم: يشمل البيع والشراء، لا يبيع ولا يشتري على شراء أخيه مثل الخطبة على خطبة أخيه.

قال: "إِذَا رَكَنَ الْبَائِعُ إِلَى السَّائِمِ، وَجَعَلَ يَشْتَرِطُ وَزْنَ الذَّهَبِ، وَيَتَبَرَّأُ مِنَ الْعُيُوبِ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ أَنَّ الْبَائِعَ قَدْ أَرَادَ مُبَايَعَةَ السَّائِمِ، فَهَذَا الَّذِي نَهَيَ عَنْهُ"؛ يعني: أنه إن كان مجرد عرض ولم يتفقوا ولم تظهر الرغبة في البائع أن يبيع ولا المشتري أن يشتري، فدخل شخص في هذا الحال، قال: ما هناك شيء، بعد ما تم شيء، ولكن إذا قد بدا التراضي بينهم وقام هذا ودخل فهذا هو المحرم عليه. يعني: إذا قد تراضوا على الثمن وركن بعضهم إلى بعض.

 مثل الخطبة على خطبة أخيه إذا قد رضوا وقبلوا به، وأما إذا عادهم قالوا: سنتشاور، وجاء الثاني يخطب لا يحرم عليه وهم يختارون ما يشاؤوا، وأما إذا قالوا: قبول، وجاء الثاني يخطب وقال لهم: أحسن لكم آل فلان ولا آل فلان -لا حول ولا قوة إلا بالله!-. أو تراضوا على الثمن وجاء شخص ثاني إما سيعطي أكثر أو هو صاحب وجاهة قالوا: أحسن لنا هذا سنبيع عليه وتركوا ذاك، وقدّموا هذا لوجاهته!َ مأثوم هذا صاحب الوجاهة، عنده وجاهة بلا نباهة. 

"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ بَأْسَ بِالسَّوْمِ بِالسِّلْعَةِ تُوقَفُ لِلْبَيْعِ، فَيَسُومُ بِهَا غَيْرُ وَاحِدٍ"؛ نعم،  "وَلاَ بَأْسَ بِالسَّوْمِ" على سوم الغير "بِالسِّلْعَةِ" التي "تُوقَفُ لِلْبَيْعِ"، يقول: مَن يشتري هذا؟ بكم تشتريها؟ فيسوم بها شخص آخر، هذا يقول: نريدها بكذا، وهذا يقول: أنا أريدها بكذا ويزيد عليه، ما يَضُرُّ بشيء. 

"قَالَ وَلَوْ تَرَكَ النَّاسُ السَّوْمَ عِنْدَ أَوَّلِ مَنْ يَسُومُ بِهَا"؛ بالسلعة، "أُخِذَتْ بِشِبْهِ الْبَاطِلِ مِنَ الثَّمَنِ، وَدَخَلَ عَلَى الْبَاعَةِ فِي سِلَعِهِمُ الْمَكْرُوهُ، وَلَمْ يَزَلِ الأَمْرُ عِنْدَنَا عَلَى هَذَا"؛ يعني: يستعملون بيع المزايدة، يقول: من يزيد؟ من يزيد؟ وعليه الجمهور.

وقد جاء فيها حديث سيدنا أنس عند الأئمة الأربعة في السنن الأربع، عرضه ﷺ للسلعة ويقول: من يشتري مني هذا؟ قال: أنا أشتريها بدرهم، قال: من يزيد؟ من يزيد؟ قال: أنا أشتريها يا رسول الله بدرهمين، قال: هي لك. صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. 

ولا يتحدّد ذلك عند جماهير العلماء وعند الأئمة الأربعة بأن المزايدة إنما تكون في الغنائم والمواريث، لا أبدًا، أي شيء كان سواء، وإن كان هو غالب في ذاك الوقت ولكنّ القصد: كل بضاعة عُرضت للمزايدة فهي جائزة أن يزايد عليها الناس والذي يدفع أكثر يبيع عليها صاحبها برضاه.

وجاءنا الحديث: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنِ النَّجْشِ"؛ الأصل: تنفير الصيد واستثارته من مكانه، يقولون: نجشت الصيد نجشًا، ويُقال حتى للصائد، يقال له: ناجش؛ لأنه يثير الصيد، لكنّ المراد هنا به: أن يزيد في الثمن لا لرغبة في السلعة ولكن ليَغُرَّ غيره.  

"قَالَ مَالِكٌ: وَالنَّجْشُ أَنْ تُعْطِيَهُ بِسِلْعَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا، وَلَيْسَ فِي نَفْسِكَ اشْتِرَاؤُهَا"؛ إنما قَصْدُه الخداع، تخدع غيرك -لا حول ولا قوة إلا بالله!-، "فَيَقْتَدِىَ بِكَ غَيْرُكَ"؛ يقول: أنا أريدها -لاإله إلا الله-، فإذا اشترى مع النجش فالشراء صحيح عند عامة الأئمة، نعم. وفي رواية عن أحمد: أن البيع باطل أيضًا، ولكن رواية أخرى مثل الجمهور. والناجش: عاصٍ بفعله هذا، والله أعلم.

رزقنا الله الإيمان واليقين واتّباع سيد المرسلين، ورزقنا الصدق والنصح لجميع المسلمين وجميع خلق الله، ونقّانا عن موجبات الحسرة والندامة في الدنيا ويوم القيامة، بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

28 شوّال 1443

تاريخ النشر الميلادي

29 مايو 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام