شرح الموطأ - 360 - كتاب البيوع: باب ما جاء في إفْلاَس الغَرِيمِ

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، باب مَا جَاءَ فِي إِفْلاَسِ الْغَرِيمِ.
فجر الأحد 21 شوال 1443هـ.
باب مَا جَاءَ فِي إِفْلاَسِ الْغَرِيمِ
1986 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعاً فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ مِنْهُ، وَلَمْ يَقْبِضِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئاً، فَوَجَدَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ الَّذِي ابْتَاعَهُ، فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ فِيهِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ".
1987 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "أَيُّمَا رَجُلٍ أَفْلَسَ: فَأَدْرَكَ الرَّجُلُ مَالَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ".
1988 - قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ مَتَاعاً، فَأَفْلَسَ الْمُبْتَاعُ، فَإِنَّ الْبَائِعَ إِذَا وَجَدَ شَيْئاً مِنْ مَتَاعِهِ بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ بَاعَ بَعْضَهُ وَفَرَّقَهُ، فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْغُرَمَاءِ، وَلاَ يَمْنَعُهُ مَا فَرَّقَ الْمُبْتَاعُ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا وَجَدَ بِعَيْنِهِ، فَإِنِ اقْتَضَى مِنْ ثَمَنِ الْمُبْتَاعِ شَيْئاً، فَأَحَبَّ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَقْبِضَ مَا وَجَدَ مِنْ مَتَاعِهِ، وَيَكُونَ فِيمَا لَمْ يَجِدْ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ، فَذَلِكَ لَهُ.
1989 - قَالَ مَالِكٌ: وَمَنِ اشْتَرَى سِلْعَةً مِنَ السِّلَعِ، غَزْلاً أَوْ مَتَاعاً أَوْ بُقْعَةً مِنَ الأَرْضِ، ثُمَّ أَحْدَثَ فِي ذَلِكَ الْمُشْتَرَى عَمَلاً، بَنَى الْبُقْعَةَ دَاراً، أَوْ نَسَجَ الْغَزْلَ ثَوْباً، ثُمَّ أَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَبُّ الْبُقْعَةِ : أَنَا آخُذُ الْبُقْعَةَ وَمَا فِيهَا مِنَ الْبُنْيَانِ. إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ، وَلَكِنْ تُقَوَّمُ الْبُقْعَةُ وَمَا فِيهَا مِمَّا أَصْلَحَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ يُنْظَرُ كَمْ ثَمَنُ الْبُقْعَةِ، وَكَمْ ثَمَنُ الْبُنْيَانِ مِنْ تِلْكَ الْقِيمَةِ، ثُمَّ يَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِي ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْبُقْعَةِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، وَيَكُونُ لِلْغُرَمَاءِ بِقَدْرِ حِصَّةِ الْبُنْيَانِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَخَمْسَ مِئَةِ دِرْهَمٍ, فَتَكُونُ قِيمَةُ الْبُقْعَةِ خَمْسَ مِئَةِ دِرْهَمٍ، وَقِيمَةُ الْبُنْيَانِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْبُقْعَةِ الثُّلُثُ وَيَكُونُ لِلْغُرَمَاءِ الثُّلُثَانِ.
1990 - قَالَ مَالِكٌ: وَكَذَلِكَ الْغَزْلُ وَغَيْرُهُ مِمَّا أَشْبَهَهُ، إِذَا دَخَلَهُ هَذَا وَلَحِقَ الْمُشْتَرِيَ دَيْنٌ لاَ وَفَاءَ لَهُ، وَهَذَا الْعَمَلُ فِيهِ.
1991 - قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا مَا بِيعَ مِنَ السِّلَعِ الَّتِي لَمْ يُحْدِثْ فِيهَا الْمُبْتَاعُ شَيْئاً، إِلاَّ أَنَّ تِلْكَ السِّلْعَةَ نَفَقَتْ، وَارْتَفَعَ ثَمَنُهَا، فَصَاحِبُهَا يَرْغَبُ فِيهَا، وَالْغُرَمَاءُ يُرِيدُونَ إِمْسَاكَهَا، فَإِنَّ الْغُرَمَاءَ يُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يُعْطُوا رَبَّ السِّلْعَةِ الثَّمَنَ الَّذِي بَاعَهَا بِهِ وَلاَ يُنَقِّصُوهُ شَيْئاً، وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمُوا إِلَيْهِ سِلْعَتَهُ، وَإِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ قَدْ نَقَصَ ثَمَنُهَا، فَالَّذِي بَاعَهَا بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَأْخُذَ سِلْعَتَهُ، وَلاَ تِبَاعَةَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِ غَرِيمِهِ، فَذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَكُونَ غَرِيماً مِنَ الْغُرَمَاءِ، يُحَاصُّ بِحَقِّهِ وَلاَ يَأْخُذُ سِلْعَتَهُ، فَذَلِكَ لَهُ.
1992 - وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَنِ اشْتَرَى جَارِيَةً أَوْ دَابَّةً، فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ، ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْجَارِيَةَ أَوِ الدَّابَّةَ وَوَلَدَهَا لِلْبَائِعِ، إِلاَّ أَنْ يَرْغَبَ الْغُرَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَيُعْطُونَهُ حَقَّهُ كَامِلاً، وَيُمْسِكُونَ ذَلِكَ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله الذي أكرمنا بالشريعة الغرّاء، وبيانِها على لسان خيرِ الورى، عبدِه المُجتبى المصطفى، سيدِنا محمدٍ صلّى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتدى به سرًّا وجهرا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين المرتقين في الفضل أعلى الذُّرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكةِ المقربين، وجميعِ عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنّه أكرمُ الأكرمين وأرحم الراحمين يَرى ولا يُرى.
وبعدُ،
فيذكر الإمام مالك في هذا الباب الحكم إذا كان مَن عليه ديونٌ غلبت على أملاكه ومالِه، فلم يعدْ عنده من أملاكه وماله ما يساوي الدَّين الذي عليه، فكانت أملاكه دون الدَّين الذي عليه وأقل من الدَّين الذي عليه، فهذا إذا طلب الغرماءُ من الحاكم أن يَحجرَ عليه، يَحجرُ عليه الحاكمُ، فلا ينفُذ تصرُّفُه في أمواله، وهذا هو الحجر بالفَلَس، وهذا الإفلاسُ الذي ذكره سُمّي به صاحبه؛
إمّا مِن أنّه صار لا يجد فلسًا فيُقال له: مفلس، أي لا يجد فلسُا، وذلك مستعمل في اللغة، كما يقولون: ترك ذلك تأثُّمًا أي ابتعادُا عن الإثم. ويقولون أيضًا: تهجد أي: ترك الهجود. ليس معناه نام لا، لأن الهجود النوم، تهجّد يعني ترك الهجود، ترك النوم، فكذلك المفلس. وهذا عنده مال كيف تقول أنه مفلس؟ مفلس؛ لأنّ المال الذي عليه يستحقه الغرماء، فكأنّه معدوم، فليس في يده شيء.
وقيل: إنّ معناه أنّه رجوعٌ من الدراهم والدنانير إلى الفلوس، فلم يبقَ معه إلاّ الفلوس، ولأنه لا يُبقّى له ولا يُتصرّف إلا في مقدار نفقة ونحوها عائدة إلى فلوس، ليست دراهمَ ولا دنانير، فلذلك سمي مُفلسًا.
فالتفليس:
- على العموم: أن تكون ديونه أكثر من ماله.
- وعلى الخصوص إذا طالب الغُرماء الحاكم أن يَحجُرَ عليه فيَحجُر عليه الحاكم.
فيجب على الحاكم حينئذٍ أن يحجر عليه لأجل حق الغرماء، اعتناءً من الحق تعالى بأداء الحقوق للخلق؛ لأنّها مبنية على المشاحّة، وهي صعبة، فلا بد من أداء الحقوق إلى أهلها.
وبذلك قال الأئمة، إلّا أنّ الإمام أبا حنيفة -عليه رحمة الله- ما رأى الحجر بالفلَس، ولكن رأى صاحباه ذلك، فهو المُفتَى به عند الحنفية، المفتى به عندهم: أنّه يُحجر عليه إذا طالب الغرماء بالحجر على ذلك المفلس؛ الغرماء: أصحاب الدّين.
"باب مَا جَاءَ فِي إِفْلاَسِ الْغَرِيمِ"، فحينئذٍ يحجر عليه الحاكم؛ لأنّهم يخافون أن يستمر في الاستدانة وتضييعِ حقوقهم أكثر، ولا عاد يبقى شيءٌ لهم يصلهم بعد ذلك من حقِّهم، فيَحجر عليه في ماله، فإذا حجر عليه لم يُعتدَّ بعد ذلك بتصرّفه في المال لا بيعًا ولا شراءً ولا هبةً ولا قرضًا ولا شيئًا من التصرفات المالية.
ثمّ ماذا يعملون إذا كان الدّين أكثر؟ يُنظر كم نسبة المال الموجود عنده للديْن، فبهذه النسبة يتحاصّون بينهم، كل واحد يأخذ حصة فيها النقص بمقدار هذه النسبة، فإذا كان المال ينقص ربعًا فكل واحد يأخذ ديْنه إلا ربع، وإذا كان المال ناقص عن الدين بنصف، كلُّ واحد يأخذ من الذي يستحقه نصف، نصف، نصف، وهكذا، فيَحرُزون ذلك، ثم يبقى الباقي في ذمّته فيجتهد.
لكن إذا كان شيء من المال الّذي تحت يده لا يزال كما هو، فصاحبه الذي باعه عليه، أو سلّمه إليه بأي معاملة، أقرضه إياه، أو غير ذلك، فصاحبُه -صاحبُ هذا المال- أحقّ به ما دام موجود بعينه، فيأخذه من دون المحاصّة مع الآخرين، هذا حقك خُذه.. الباقي الّذي لك تأخذ نصيبك من المحاصّة، إن لم يبلغ هذا مقدار الحصة التي لك فتحاصصهم فيه، فهو أحقّ به.
- وهو كذلك عند الأئمة الثلاثة.
- وقال أبو حنيفة: هو أسوة الغرماء، أي: مثل بقية الغرماء، لأنّ المال قد خرج من ملك ذاك أصلاً، ليس ماله الآن، إنّما له ثمن في ذمة الرجل، والمال هذا قد خرج من ملكه، وليس بملكه، فمشوا على الأصول في المسألة، ولم يُعمِلوا حديث الآحاد فيها، وأخذ الأئمة بالحديث الذي ورد فيها، وأورده الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-.
قالوا: فصاحب نفس البضاعة ما دامت باقية هو أحقّ بها. ولكن إذا حصل فيها تلفٌ في بعضها؟
- قال الشافعية: كذلك هو أحق بالباقي.
- قال غيرهم: إذا قد تلف بعضها خلاص صار شأنُه كشأن بقية الغرماء.
أما لو تلفت كليًا فهذا بالاتفاق شأنه كشأن الغرماء، أما إذا قد تلف بعضها فعند الشافعية هو الأحق بذلك البعض الباقي، وفيما بقي يحاصص الغرماء.
فإذا زادت؟ كيف؟ سمُنت، أو صاحبها زاد طابق فوق الدار التي أخذها، هي الدار موجودة ولكن زاد صاحبها فوقها طابقًا.
- فيقول أيضًا الشافعية والحنابلة: إنّه لا يزال أحق بها وبما فيها من الزيادة، إلاّ أن يدخل ما زاد في المحاصة.
- والمالكية قالوا: هو مخيّر، والغرماء مخيرون بعد ذلك:
- إما أن يعطوه إياه بزيادتها برضاهم.
- وإما أن يسلموا له الثمن حين باعها عليه، كم كان ثمنها؟ فيسلمونه له، ويدخلونها في المحاصّة الباقية، لكن يعطونه مقدار الثمن الذي اشتراها به.
وكذلك إذا مات الميت وعنده ديون للنّاس أكثر من تركته؟ فيأخذون من التركة، فمن كان له شيء في التركة موجود بنفسه:
- فهو أحق به عند الشافعية. فلم يفرق الشافعية بين الإفلاس والموت.
- وقال غيرهم: لا، في الموت للغرماء سواء، لأنّ ما دام عاده حيّ فله ذمة موجودة يتعلّق بها الغرماء، أما الآن ما عاد له ذمة خلاص وما عليه شيء في الذمة.
فعلى كلٍّ لم يفرق الشافعية بين أن يكون هناك تلف أو غير تلف، وبين أن يكون مفلس حي أو ميت لا فرق.
يقول: "باب مَا جَاءَ فِي إِفْلاَسِ الْغَرِيمِ"، وأشار إلى هذه المسألة: أنّه إذا بقي شيء من المتاع عين الذي سلّمه إليه الغريم فحينئذ يكون أحق به. يقول "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعاً فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ مِنْهُ"؛ يعني: الذي اشتراه منه، "وَلَمْ يَقْبِضِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئاً"، وهذه مسألة أخرى كذلك، إذا كان قد قبض بعض الثمن هل هو أحق أو لا؟
- قال الشافعية والحنابلة: نعم أحق،
- فإمّا أن يردّ الذي أخذها ويأخذ سلعته؛ له الحق في ذلك.
- وإمّا أن يمسك ما عنده ويصير بعد ذلك في الباقي يحاصص الغرماء في الباقي، ولكن له الحق أن يرجع.
- وقال غيرهم: لا، إذا قد قبض من الثمن شيء خلاص سقط حقه، فصار في الباقي مثل بقية الغرماء.
يقول "وَلَمْ يَقْبِضِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئاً، فَوَجَدَهُ بِعَيْنِهِ"؛ لم يتغير، وعند الشافعية: وإن تغيّر. "فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ"، من غيره كائنًا من كان، وارث أو غريم، فهو أحق لأن متاعه نفسه موجود، "وَإِنْ مَاتَ الَّذِي ابْتَاعَهُ، فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ فِيهِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ" عند الإمام مالك. لكن قال الإمام الشافعي: ما دام البضاعة نفسها والسلعة نفسها موجودة فهو أحق بها من بقية الغرماء.
يقول: "عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَيُّمَا رَجُلٍ أَفْلَسَ: فَأَدْرَكَ الرَّجُلُ مَالَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ"، والحديث أيضًا عند الإمام البخاري والإمام مسلم -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.
إذًا؛ فهو أحق بها مطلقًا:
- عند الشافعية.
- وبشروط عند الحنابلة والمالكية:
- منها أن تكون السلعة باقية بعينها، ولم يتلف بعضها.
- وألاّ يكون فيها زيادة، مثل أن يكون أعطاه غنمة نحيفة هزيلة سمنت وصارت ثمنها زائد الآن، أو حملت، صارت حامل الآن عنده، أما ما ولدته فالزيادة المنفصلة ما تدخل في الأصل. أو أعطاه مملوك علّمه صناعة، ما كان عنده صناعة، فزاد ثمنه، قال: هذا حقي، أنا أعطيته إياه، فالآن ردّوه لي، قالوا: زاد ثمنه! عند الشافعية هو أحق.
- وألا يكون البائع قبض من ثمنها شيء. وكذلك هو عند الحنابلة ما عاد له حق. وعند المالكية: مخيّر إن شاء ردّ ما قبضه، ورجع في جميع العين الباقية، وإن شاء حاصّ الغرماء ولم يرجع. ولكن عند الحنابلة إذا قد قبض من ثمنها شيء صار مثله مثل غيره، ما له حق فيه.
- وألا يكون تعلّقَ بها حق الغير، قام هو الذي اشتراها رهنها أو وهبها… خلاص سقط الحق، هذا باتفاق ما له حق بها؛ لأنها قد خرجت من ملك ذاك.
- وكذلك أن يكون المفلس حيّ؛ ولم يشترط هذا الشافعية، لكن عند الحنابلة لا بد أن يكون حي، أما الميت حكمُه حكم غيره.
"قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ مَتَاعاً، فَأَفْلَسَ الْمُبْتَاعُ"؛ يعني: هذا المشتري "فَإِنَّ الْبَائِعَ إِذَا وَجَدَ شَيْئاً مِنْ مَتَاعِهِ بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ" فكان أحقَّ به من بقية الغرماء، "وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ بَاعَ بَعْضَهُ وَفَرَّقَهُ، فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْغُرَمَاءِ"؛ أي: الباقي "وَلاَ يَمْنَعُهُ مَا فَرَّقَ الْمُبْتَاعُ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا وَجَدَ بِعَيْنِهِ"؛ يكون قد باع بعضه، فالذي باعه خلاص، وما بقي فصاحب السلعة نفسها هو أحق به. "فَإِنِ اقْتَضَى مِنْ ثَمَنِ الْمُبْتَاعِ شَيْئاً، فَأَحَبَّ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَقْبِضَ مَا وَجَدَ مِنْ مَتَاعِهِ" مخيّر عند المالكية "وَيَكُونَ فِيمَا لَمْ يَجِدْ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ، فَذَلِكَ لَهُ". ويقول الشافعية: أنَّ له أن يرجع في قدر ما بقي من الثمن.
"قَالَ مَالِكٌ: وَمَنِ اشْتَرَى سِلْعَةً مِنَ السِّلَعِ، غَزْلاً أَوْ مَتَاعاً أَوْ بُقْعَةً مِنَ الأَرْضِ، ثُمَّ أَحْدَثَ فِي ذَلِكَ الْمُشْتَرَى عَمَلاً، بَنَى الْبُقْعَةَ دَاراً، أَوْ نَسَجَ الْغَزْلَ ثَوْباً، ثُمَّ أَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَبُّ الْبُقْعَةِ: أَنَا آخُذُ الْبُقْعَةَ وَمَا فِيهَا مِنَ الْبُنْيَانِ. إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ، وَلَكِنْ تُقَوَّمُ الْبُقْعَةُ وَمَا فِيهَا مِمَّا أَصْلَحَ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ يُنْظَرُ كَمْ ثَمَنُ الْبُقْعَةِ، وَكَمْ ثَمَنُ الْبُنْيَانِ مِنْ تِلْكَ الْقِيمَةِ، ثُمَّ يَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِي ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْبُقْعَةِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، وَيَكُونُ لِلْغُرَمَاءِ بِقَدْرِ حِصَّةِ الْبُنْيَانِ". فيُنظر كم ثمن البقعة من دون بناء؟ فإذا كان مثلاً مئتي دينار، كم ثمن البنيان؟ يكون مثلاً ثمانمئة دينار، ثمّ صاحب البقعة والمفلس "يكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِي ذَلِكَ" البناء مع البقعة، "لِصَاحِبِ الْبُقْعَةِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، وَيَكُونُ لِلْغُرَمَاءِ بِقَدْرِ حِصَّةِ الْبُنْيَانِ".
فسّره الإمام مالك: "قَالَ مَالِكٌ: وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ"؛ أي: البقعة مع البنيان "أَلْفَ دِرْهَمٍ وَخَمْسَ مِئَةِ دِرْهَمٍ، فَتَكُونُ" بعد تقويم البقعة برأسها وتقويم البنيان برأسه: "قِيمَةُ الْبُقْعَةِ خَمْسَ مِئَةِ دِرْهَمٍ، وَقِيمَةُ الْبُنْيَانِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْبُقْعَةِ الثُّلُثُ"؛ لأنّ قيمة البقعة صارت ثلث الكل، "وَيَكُونُ لِلْغُرَمَاءِ الثُّلُثَانِ" إذًا،
- فالثلث من هذا المبنى أحق به صاحب البقعة الذي باعها عليه.
- والثلثين بقية الغرماء.
"قَالَ مَالِكٌ: وَكَذَلِكَ الْغَزْلُ وَغَيْرُهُ مِمَّا أَشْبَهَهُ، إِذَا دَخَلَهُ هَذَا وَلَحِقَ الْمُشْتَرِيَ دَيْنٌ لاَ وَفَاءَ لَهُ، وَهَذَا الْعَمَلُ فِيهِ".
"قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا مَا بِيعَ مِنَ السِّلَعِ الَّتِي لَمْ يُحْدِثْ فِيهَا الْمُبْتَاعُ شَيْئاً"؛ يعني: المشتري شيئًا، "إِلاَّ أَنَّ تِلْكَ السِّلْعَةَ نَفَقَتْ، وَارْتَفَعَ ثَمَنُهَا، فَصَاحِبُهَا يَرْغَبُ فِيهَا، وَالْغُرَمَاءُ يُرِيدُونَ إِمْسَاكَهَا، فَإِنَّ الْغُرَمَاءَ يُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يُعْطُوا رَبَّ السِّلْعَةِ الثَّمَنَ الَّذِي بَاعَهَا بِهِ وَلاَ يُنَقِّصُوهُ شَيْئاً، وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمُوا إِلَيْهِ سِلْعَتَهُ". قال: هي نفسها ما حدث فيها تغيير، لكنها غَلَت، الأرض كما هي، ولكن الأراضي غليت، باعها كان بأقل، فهو أحقّ بها.
- قال مالك: لا، يُخيّرون؛
- إمّا يعطونه القيمة التي باعها بها.
- وإما يسمحون له بأخذها بقيمتها اليوم.
فيصير الذي باعها به هو، إذا سمحوا له بنفس ردّ البقعة فالبقعة هي نفسها ترجع إليه كما هي، وما له عليها فيها شيء، يكون الزيادة له.
"وَإِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ قَدْ نَقَصَ ثَمَنُهَا" بالعكس "فَالَّذِي بَاعَهَا بِالْخِيَارِ"، عند مالك: "إِنْ شَاءَ أَنْ يَأْخُذَ سِلْعَتَهُ، وَلاَ تِبَاعَةَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِ غَرِيمِهِ، فَذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَكُونَ غَرِيماً مِنَ الْغُرَمَاءِ، يُحَاصُّ بِحَقِّهِ وَلاَ يَأْخُذُ سِلْعَتَهُ، فَذَلِكَ لَهُ"؛ يخيّر أيضًا. قال الشافعية: هو أحق بها ويأخذها كما هي، وإن أراد أن يحاصص فقد ترك حقه.
"وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَنِ اشْتَرَى جَارِيَةً أَوْ دَابَّةً، فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ، ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْجَارِيَةَ أَوِ الدَّابَّةَ وَوَلَدَهَا لِلْبَائِعِ، إِلاَّ أَنْ يَرْغَبَ الْغُرَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَيُعْطُونَهُ حَقَّهُ كَامِلاً، وَيُمْسِكُونَ ذَلِكَ"، والله أعلم.
رزقنا الله الإيمان والتقوى والاستقامة، وإحياء معاملة الشرع كما أحبّ الله ورسوله، ودفع عنّا شر الفجار والأشرار والكفار وأعداء الدين، وجعلنا في الهداة المهتدين، بسر الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
26 شوّال 1443