(364)
(535)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، باب جَامِعِ الدَّيْنِ وَالْحَوْل.
فجر الأربعاء 17 شوال 1443هـ.
باب جَامِعِ الدَّيْنِ وَالْحَوْلِ
1975 - حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ ،عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ".
1976 - وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسَرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً يَسْأَلُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ: إنِّي رَجُلٌ أَبِيعُ بِالدَّيْنِ. فَقَالَ سَعِيدٌ: لاَ تَبِعْ، إِلاَّ مَا آوَيْتَ إِلَى رَحْلِكَ.
1977 - قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَشْتَرِي السِّلْعَةَ مِنَ الرَّجُلِ، عَلَى أَنْ يُوَفِّيَهُ تِلْكَ السِّلْعَةَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، إِمَّا لِسُوقٍ يَرْجُو نَفَاقَهَا فِيهِ، وَإِمَّا لِحَاجَةٍ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي اشْتَرَطَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُخْلِفُهُ الْبَائِعُ عَنْ ذَلِكَ الأَجَلِ، فَيُرِيدُ الْمُشْتَرِي رَدَّ تِلْكَ السِّلْعَةِ عَلَى الْبَائِعِ: إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنَّ الْبَيْعَ لاَزِمٌ لَهُ، وَإِنَّ الْبَائِعَ لَوْ جَاءَ بِتِلْكَ السِّلْعَةِ قَبْلَ مَحِلِّ الأَجَلِ لَمْ يُكْرَهِ الْمُشْتَرِي عَلَى أَخْذِهَا.
1978 - قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَشْتَرِي الطَّعَامَ فَيَكْتَالُهُ، ثُمَّ يَأْتِيهِ مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنْهُ, فَيُخْبِرُ الَّذِي يَأْتِيهِ أَنَّهُ قَدِ اكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ وَاسْتَوْفَاهُ، فَيُرِيدُ الْمُبْتَاعُ أَنْ يُصَدِّقَهُ وَيَأْخُذَهُ بِكَيْلِهِ: إِنَّ مَا بِيعَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ بِنَقْدٍ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَمَا بِيعَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ إِلَى أَجَلٍ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، حَتَّى يَكْتَالَهُ الْمُشْتَرِي الآخَرُ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كُرِهَ الَّذِي إِلَى أَجَلٍ لأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الرِّبَا، وَتَخَوُّفٌ أَنْ يُدَارَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِغَيْرِ كَيْلٍ وَلاَ وَزْنٍ، فَإِنْ كَانَ إِلَى أَجَلٍ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَلاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا.
1979 - قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَى دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ غَائِبٍ وَلاَ حَاضِرٍ، إِلاَّ بِإِقْرَارٍ مِنَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَلاَ عَلَى مَيِّتٍ، وَإِنْ عَلِمَ الَّذِي تَرَكَ الْمَيِّتُ، وَذَلِكَ أَنَّ اشْتِرَاءَ ذَلِكَ غَرَرٌ لاَ يُدْرَى أَيَتِمُّ أَمْ لاَ يَتِمُّ.
قَالَ: وَتَفْسِيرُ مَا كُرِهَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى دَيْناً عَلَى غَائِبٍ أَوْ مَيِّتٍ: أَنَّهُ لاَ يُدْرَي مَا يَلْحَقُ الْمَيِّتَ مِنَ الدَّيْنِ الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ بِهِ، فَإِنْ لَحِقَ الْمَيِّتَ دَيْنٌ ذَهَبَ الثَّمَنُ الَّذِي أَعْطَى الْمُبْتَاعُ بَاطِلاً. قَالَ مَالِكٌ: وَفِي ذَلِكَ أَيْضاً عَيْبٌ آخَرُ: أَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئاً لَيْسَ بِمَضْمُونٍ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ ذَهَبَ ثَمَنُهُ بَاطِلاً، فَهَذَا غَرَرٌ لاَ يَصْلُحُ.
1980 - قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا فُرِقَ بَيْنَ أَنْ لاَ يَبِيعَ الرَّجُلُ إِلاَّ مَا عِنْدَهُ، وَأَنْ يُسَلِّفَ الرَّجُلُ فِي شَيْءٍ لَيْسَ عِنْدَهُ أَصْلُهُ، أَنَّ صَاحِبَ الْعِينَةِ إِنَّمَا يَحْمِلُ ذَهَبَهُ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَبْتَاعَ بِهَا، فَيَقُولُ: هَذِهِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، فَمَا تُرِيدُ أَنْ أَشْتَريَ لَكَ بِهَا، فَكَأَنَّهُ يَبِيعُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ نَقْداً بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِينَاراً إِلَى أَجَلٍ، فَلِهَذَا كُرِهَ هَذَا، وَإِنَّمَا تِلْكَ الدُّخْلَةُ وَالدُّلْسَةُ.
الحمد لله مكرمنا بالشريعة والدين، وبيانها على لسان الحبيب الأمين ﷺ وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأهل بيته الطاهرين وصحابته الغرّ الميامين، وعلى من والاهم في الله واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين وآلهم وصحبهم والتابعين، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعدُ،
يتكلم الإمام مالك -عليه رضوان الله- في هذا الباب على ما يتعلق بالحوالة في الديْن، وقال: "باب جَامِعِ الدَّيْنِ وَالْحَوْلِ"؛ أي: التحويل؛ وهو أنّ يكون مَن عليه الديْن له ديْن على آخر، فإذا طالبَه الذي له الدين عليه، حوّله إلى الذي عليه الدين، لذلك المستدين فيتحول من مطالبة هذا إلى مطالبة الآخر، فهذه هي الحوالة.
وابتدأ لنا بذكر الحديث الذي يذكر فيه ﷺ أن "مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ"؛ ينهى عن المماطلة.
وهو تأخيرٌ عن أداء هذا الواجب ودفعهِ.
كل من له حق وجب له الحق وتمكن من أدائه فمماطلته وتأخيره عن الأداء ظلم؛ فأرشدنا صاحب الشريعة ﷺ للمسارعة لأداء الحقوق الواجبة علينا، مهما تمكنا منها واستطعنا أدائها، وإلا تحول ذلك إلى "ظُلْمٌ".
يقول ﷺ: "مَطْلُ الْغَنِيِّ"؛ أي: القادر على الوفاء؛ القادر على أداء الحق، "مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ"
ففي مثل هذا يصير معذورا ولا يُعدّ من الظالمين، بل لا تجوز حينئذ ملازمته ولا مضايقته حتى ييسّر الله له القضاء، لقوله سبحانه وتعالى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ)[البقرة:280]؛ يُنظَر إلى أن ييسر الله الأمر عليه.
قال الحنفية: يجوز له ملازمته تذكيرًا له بالديْن الذي عليه، حتى يقضي الدين، مع أحقية الإنظار؛ لأن الإنظار صار الآن واجب.
إذًا؛ فلهذا المطل صور، تختلف باختلاف أحكامها، والحديث الذي أورده الإمام مالك هو أيضًا عند الإمام البخاري والإمام مسلم.
"مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ"؛ إذًا؛ فالغني الذي يستطيع الأداء لأي حق كان وجب عليه، إذا حضر وقت أدائه ثم تراخى عن ذلك وامتنع عن الأداء فهو بذلك ظالم! أما المعسر الذي لا يجد وفاء لديْنه؛ فقد سمعنا قول الله تعالى في إيجاب انظاره: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ)؛ حتى ييسر الله له، يُترك يكتسب لقوت نفسه وأولاده وللوفاء بديْنه، حتى يتيسر له ذلك ويُعطى، وحينئذٍ لا تحِلّ مطالبته ولا ملازمته؛ لأنها إنما تحل عند القدرة على الأداء، فإذا ثبت الإعسار؛ فلا.
قال الشافعي: ولو جازت مؤاخذته لكان ظالمًا وهو لعجزه ليس بظالم.
ولذا قال ابن العربي من المالكية: إن المديان أو الذي عليه الدين إذا كان معسِرًا ولم يكن غنيًّا فمطله عَدل، يقول: أنظرني حتى ييسر الله عليّ وأقضيك دينك، قال: وينقلب الحال على الغريم إذا ألحّ عليه في المطالبة وهو يعلم عسره، قال: صار هو ذا الظالم الذي يدري أن صاحبه مسكين فاقد للشيء؛ غير واجد له، ولا محتال ولا ملبّس ولا مدلّس، فحينئذٍ ينبغي أن يُترك ويُعطى الفرصة للكسب حتى يقضي الدين الذي عليه.
والدَّيْن كما جاء في خبر: "شين الدِّين"؛ يعني: لا ينبغي أن يقتحمه الإنسان إلا إما للضرورة أو لمصلحة عامة للمسلمين فيستدين لأجل ذلك، وحيث يرجو الوفاء بهذا الديْن من وجهٍ بيّن وهكذا.
وسمعنا أن الحنفية أجازوا ملازمة الدائن لمدينه المعسِر، مع استحقاقه الإنظار. والكل يقول: يستحق الإنظار، لكن قال عامة الأئمة: أنه حينئذٍ إذا علم عسره فلا يُلازمه ولا يُضايقه حتى ييسر الله لأجل الأمر بالإنظار، (فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ)، وأن يبرئه من بعض الديْن أو كلّه هذا أفضل.
وهذه السنة تفوق على الواجب في مثل الحالات المعينة النادرة التي يكون المندوب والمسنون أفضل من الفرض، كما قالوا: في الابتداء بالسلام أنه سُنّة، ولكن الردّ للسّلام واجب، ولكن الابتداء أفضل من الرد؛ أن تبدأ بالسلام أفضل من أن ترد السلام، إلى غير ذلك من المسائل المعينة التي يفوق فضل السُّنة فيها على فضل الفرض، وإلا فالأصل أن ثواب الفرض يفوق ثواب النفل بسبعين درجة.
يقول: "مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ"، فإذًا؛ إذا لم يكن غنيّ وهو معسِر ففي إنظاره أيضًا ثواب، في الحديث فيما روى الإمام الترمذي في سننه عنه ﷺ يقول: "مَنْ أَنْظَر مُعْسِرًا أوْ وَضَعَ لَهُ، أظلَّهُ اللَّه يوم القيامة تحت ظِلِّ عَرْشِهِ يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ".
"أظلَّهُ اللَّه يوم القيامة تحت ظِلِّ عَرْشِهِ يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ". فيغتنمها بعض الأخيار فرصة أن ينظِر أو يضع عن المعسِر فينال مكان الظل، وهذا أحد الخصال الموجبة لظل العرش، وهي نحو السبعين خصلة، من جاء بخصلة منها أُظِلّ في ظل العرش، وجمع عامّتها أو أكثرها الإمام السيوطي في كتابه: (تمهيد الفرش في الخصال الموجبة لظل العرش)، منها هذا الإنظار للمعسر أو الوضع عنه، "أظلَّهُ اللَّه يوم القيامة تحت ظِلِّ عَرْشِهِ يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ".
وحينئذٍ إذا لم يكن الديْن الذي عليه حاضر عنده، ولكن قادر على تحصيله بالتكسّب؛ هذا يجب عليه أن يتكسّب، وإن أطلق الكثير من الفقهاء عدم الوجوب لكن واجب عليه؛ لأنه مرهون بذمته، حتى أن الميت إذا مات وعليه دين حُبست روحه في البرزخ لا يزور ولا يُزار حتى يُقضى دينه عنه، ""نفسُ المؤمنِ معلَّقةٌ بدَيْنِه حتى يُقْضَى عنه". لهذا يحذرون أن يموتوا وعليهم ديْن، إلا ما كان برهنٍ؛ يرهنون فيه الرهن، حتى لا يكون سببًا لحبس أرواحهم في البرزخ.
وهكذا يبادر أهل البر وأرباب الوفاء لآبائهم وقراباتهم إذا ماتوا أن يقضوا ديونهم قبل أن يدخلوهم قبورهم، قبل أن يدفنوهم؛ يقضوا الديون التي عليهم، فإن تعسر ذلك فلا أقل من أن يتحمّلها أحدهم وينقلها إلى ذمّته، عملًا بما جاء أنه ﷺ كان إذا مات الميت وعليه ديْن وطُلب منه الصلاة عليه، يمتنع من الصلاة عليه، يقول: صلوا على صاحبكم، صلوا على ميتكم، إلا إن وجد من يتكفل ويتحمّل عنه الدين، فيصلي عليه. ثم لما جاءت الجزية والخراج وصل إليه كان يسأل إذا كان على الميت دين يقضيه ثم يصلي عليه، يقضيه عنه ثم يصلي عليه، ويقول: من مات وله مال فماله لورثته، ومن مات وعليه ديْن فإليّ وعليّ، ﷺ.
يقول: "مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ"، فالغنيّ إذا كان أيضًا امتنع بعذرٍ، كيف؟ كغيبة ماله؛ عدم وجوده بين يديه وقت الوفاء، فحينئذٍ هذا يدخل في مثل المعسِر ما عليه الإثم ولا يُعدّ ظالمًا. وأما الموسر بلا عذر ويقدر على قضاء دين ولا يقضيه بعد مطالبة صاحب الحق له، هذا حرام شرعًا بل من كبائر الذنوب، من الكبائر، ثم إن الظلم الذي يوجب العقوبة "مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ" لا إله إلا الله! يعني: من الظلم أطلق فيه القول للمبالغة فيه.
وهكذا في الحديث الآخر عند الإمام أحمد في مسنده: "ليّ الواجد يُحِلّ عِرضه وعقوبته"؛ لي الواجد: مماطلته ومقاحصته للذي له الحق وتأجيله وتأخيره، هو واجد يقدر.
ويثبت هذا المطل بالتأجيل والمدافعة ثلاثة مرات؛ إذا طلبه أول مرة ثاني مرة ثالث مرة وما أعطاه فهذا مماطل، يدخل في الظالمين والعياذ بالله تبارك وتعالى. واشترط بعضهم: مطالبة صاحب الحق.
قال: "وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ"؛ يعني: حوّل من الحوالة، "عَلَى مَلِيءٍ"؛ على واحد آخر؛ يعني: حوّله صاحب الديْن الذي عليه إلى آخر، لهذا المحوِّل ديْن على الآخر فيحوّله يقول: تأخذ الدين الذي لك، من فلان بن فلان فإن عليه لي ديْن مثل هذا؛ فيحوّله عليه. قال: إذا حوّل على مليء واحد غير مؤذي ولا مماطل، "فَلْيَتْبَعْ"؛ يكون ذلك على سبيل الاستحباب عند الجمهور.
فهكذا الحوالة نقل الدين من ذمة إلى ذمة، فإذا تم فيها الإيجاب والقبول تحوّل حق هذا إلى الآخر يطالبه.
قال: من أُحيل "على مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ"، "ومن أحيل على مليءٍ فليحتل" في الرواية الأخرى، "وإذا أحلت على مليء فاتبعه" هكذا جاءت الروايات في الحديث إذًا؛ فالحوالة مشروعة باتفاق الأئمة عليهم - رضوان الله تبارك وتعالى–
وقلنا أن قوله: "فَلْيَتْبَعْ" الأمر أخذ به الإمام أحمد بن حنبل فقال: يجب على من حُوّل على مليء أن يتبعه.
قال الآخرون: يُستحب ويتأكد لمَن حُوّل على ملِيء أن يقبل، فلا يقول: لا أنا أريد حقي منك، لا تحوّلني على ذا ولا على ذا هات حقي…
قال ﷺ: "رحم الله عبدًا سمحـًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى"، يكون بهذه السماحة جالب للبركة لرزقه ولحاله ولماله، بسبب سماحته. فالسماحة مع ضبط الأمور سبب للبركة واتساع الخيور.
إذًا؛ هذه الحوالة:
فتنعقد الحوالة بصيغة الإيجاب والقبول، يقول: أحلتك على فلان، وفلان يقول: قبلت أو رضيت.
فالمحيل هذا يكون أهل للعقد؛ عاقل بالغ تصح حوالته، بخلاف المجنون والصبي وهكذا..
ورضا المحيل أيضًا؛ مختارًا هو حوّله باختياره، لا أن يقول: الآن أنا معسر وإن شاء الله ادعُ الله لنا وسأجتهد وأقضي دينكم، فيقول له: اسمع! لك دين على فلان حوّلنا عليه، يقول: لن أحوّلك لذاك أنا سأقضي ديني، فيهدّده يقول: تحوّل وإلا…. فهذا إكراه فيه، ما عاد صحّ العقد مع الإكراه، إلا أن يكون برضا المحيل.
ولهذا الأمر إما للندب وإما للوجوب -كما سمعنا-
واختلفوا في اشتراط رضا المُحال عليه؛
ويكون هذا المحال به ديّنا لازمًا. إذًا؛ فهذا الذي يصحّ فيه الحوالة
يقول: "وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ".
ثم ذكر كلام سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ: "أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً يَسْأَلُ فَقَالَ: إنِّي رَجُلٌ أَبِيعُ بِالدَّيْنِ. فَقَالَ سَعِيدٌ: لاَ تَبِعْ، إِلاَّ مَا آوَيْتَ إِلَى رَحْلِكَ"؛ يعني: أداين الناس فأبيع منهم قبل القبض، قال له سعيد بن المسيب: لا، "لاَ تَبِعْ، إِلاَّ مَا آوَيْتَ إِلَى رَحْلِكَ"؛ يعني: لا يصح بيع المبيع قبل قبضه؛ أولاً يقبضه، ثم يبيع، أما قبل أن يقبض فما له حق أن يبيع، فالشيء الذي مَلَكه قبل أن يقبضه لا حق له في التصرّف فيه؛ فلا يجوز التصرّف في المبيع المنقول قبل القبض؛ لما جاء في الحديث: أنه نهى عن بيع ما لم يُقبض. لما في ذلك أيضًا من غَرَر.
"قَالَ مَالِكٌ: فِي الَّذِي يَشْتَرِي السِّلْعَةَ مِنَ الرَّجُلِ عَلَى أَنْ يُوَفِّيَهُ تِلْكَ السِّلْعَةَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى"؛ بعد شهرين مثلاً، شهر أو أقل أو أكثر "إِمَّا لِسُوقٍ يَرْجُو نَفَاقَهَ فيه"؛ يعني: رواجه حتى يربح في هذه السلعة ويؤدّي الذي عليه، "وَإِمَّا لِحَاجَةٍ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي اشْتَرَطَ عَلَيْهِ"، وهو الشهران في هذا المثال، أو أقل أو أكثر حسب الشرط، "ثُمَّ يُخْلِفُهُ"؛ يعني: يخلف "الْبَائِعُ عَنْ ذَلِكَ الْأَجَلِ فَيُرِيدُ الْمُشْتَرِي رَدَّ تِلْكَ السِّلْعَةِ عَلَى الْبَائِعِ: إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي وَإِنَّ الْبَيْعَ لَازِمٌ لَهُ"؛ لأن ذلك المبيع بمنزلة الديْن عليه، "وَإِنَّ الْبَائِعَ لَوْ جَاءَ بِتِلْكَ السِّلْعَةِ قَبْلَ مَحِلِّ الأَجَلِ"؛ يعني: قبل الشهرين أيضًا "لَمْ يُكْرَهِ"؛ أي: يُجبر"الْمُشْتَرِي عَلَى أَخْذِهَا"؛ لأنه يمكن له غرض تكون في الوقت هذاك الثاني الذي حدّده هو وإياه، يمكن ما عنده استعداد الآن لمكانها أو لا يحتاجها الآن أو تفسد عليه ويحتاجها في وقت مقبل؛ فعلى حسب الأجل الذي تأجله إياها، يقول: لا يلزمه، فإن قبِلها برئت ذمة الذي أتى بها.
"قَالَ مَالِكٌ: فِي الَّذِي يَشْتَرِي الطَّعَامَ فَيَكْتَالُهُ"؛ يكيل لنفسه إذا اشترى "ثُمَّ يَأْتِيهِ مَنْ يَشْتَرِي" الطعام "مِنْهُ فَيُخْبِرُ الَّذِي يَأْتِيهِ أَنَّهُ قَدِ اكْتَالَهُ"، قال: أنا قد اكتلت هذا الطعام وهو مقدار كذا كذا لمّا اشتريته، "وَاسْتَوْفَاهُ فَيُرِيدُ الْمُبْتَاعُ"، الثاني هذا "أَنْ يُصَدِّقَهُ وَيَأْخُذَهُ بِكَيْلِهِ"، يقول: خلاص قده انت كِلته، فيقول: نعم أنا اشتريته كيله كذا كذا كذا قال: "إِنَّه مَا بِيعَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ"؛ أي: على كيل زيد "بِنَقْدٍ فَلاَ بَأْسَ بِهِ"؛ باعه لا بطعام ثاني؛ باعه بنقد معجّل حاضر، فلا بأس به؛ الكيل والوزن حكمها واحد.
قال: "وَأمَا ما بِيعَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ إِلَى أَجَلٍ"؛ يعني: نسيئة، "فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ"، يقول مالك: يعني: لا يجوز "حَتَّى يَكْتَالَهُ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ لنفسه"؛ كِله…، لماذا كره هذا؟ قال: "وَإِنَّمَا كُرِهَ الَّذِي إِلَى أَجَلٍ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الرِّبَا"؛ يعني: يريد أنه لم يصدّقه إلا من أجل الأجَل، فكأنه أخذ للأجل ثمن، فيكون المبتاع تجوّز في بعض الكيل لما عليه من الديْن، رجاء التأخير بعد الأجل، فيكون هذا ذريعة إلى الربا.
قال: "وَيتَخَوُّفٌ أَنْ يُدَارَ ذَلِكَ البيع"؛ يعني: "عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِغَيْرِ كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ فَإِنْ كَانَ إِلَى أَجَلٍ فَهُوَ مَكْرُوهٌ وَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا"؛ يعني: بالمدينة المنورة.
يقول الحنابلة: إذا أخبره البائع بكيله، ثم باعه بذلك الكيل؛
"قَالَ مَالِكٌ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَى دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ غَائِبٍ وَلَا حَاضِرٍ إِلَّا بِإِقْرَارٍ مِنِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ"؛ يعني: إن لم يكن به بيّنة؛ لأنه غرر "وَلَا حَاضِرٍ إِلَّا بِإِقْرَارٍ مِنِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، وَلاَ" يُشترى دين "عَلَى مَيِّتٍ، وَإِنْ عَلِمَ المشتري الَّذِي تَرَكَ الْمَيِّتُ وَذَلِكَ أَنَّ اشْتِرَاءَ ذَلِكَ غَرَرٌ لَا يُدْرَى أَيَتِمُّ أَمْ لَا يَتِمُّ"؛ قد يكون على الميت ديون أخرى فما عاد يصله هذا.
"قَالَ: وَتَفْسِيرُ مَا كُرِهَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى دَيْنًا عَلَى غَائِبٍ أَوْ مَيِّتٍ فإنهُ لَا يُدْرَى مَا يَلْحَقُ الْمَيِّتَ مِنَ الدَّيْنِ الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ بِهِ فَإِنْ لَحِقَ الْمَيِّتَ دَيْنٌ ذَهَبَ الثَّمَنُ الَّذِي أَعْطَى الْمُبْتَاعُ بَاطِلاً"، وهكذا فرّع على ذلك الإمام مالك، قال: "وَفِي ذَلِكَ أَيْضاً عَيْبٌ آخَرُ: أَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئاً لَيْسَ بِمَضْمُونٍ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ ذَهَبَ ثَمَنُهُ بَاطِلًا فَهَذَا غَرَرٌ لَا يَصْلُحُ".
"قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا فُرِقَ بَيْنَ أَنْ لَا يَبِيعَ الرَّجُلُ إِلَّا مَا عِنْدَهُ وَأَنْ يُسَلِّفَ الرَّجُلُ فِي شَيْءٍ لَيْسَ عِنْدَهُ أَصْلُهُ أَنَّ صَاحِبَ الْعِينَةِ إِنَّمَا يَحْمِلُ ذَهَبَهُ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَبْتَاعَ بِهَا"؛ يُسْلِف؛ يعني: يُسْلِم الرجل في شيء ليس عنده من أصله، "أَنَّ صَاحِبَ الْعِينَةِ"؛ هذا إطلاق العِينة عليه مجاز؛ لأن العِينة بيع السلعة بثمن مؤجل. "إِنَّمَا يَحْمِلُ ذَهَبَهُ التي يُرِيدُ أَنْ يَبْتَاعَ بِهَا يعني بالذهب فَيَقُولُ: هَذِهِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَمَا تُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِيَ لَكَ بِهَا فَكَأَنَّهُ يَبِيعُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ نَقْدًا بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا"؛ يعني: يشتري بها عمرو بعد ذلك إِلَى أَجَل؛ لأن زيد يشتري حالّ، وعمرو يشتري منه بعد ذلك؛ فكأن زيد باع العشرة بخمسة عشر؛ فَلهذا كُرِهَ هَذَا، يقول الإمام مالك: "وَإِنَّمَا تِلْكَ الدُّخْلَةُ وَالدُّلْسَةُ"؛ قال: تدليس؛ يعني: غرر؛ ففيه وجوه من فساد بيع ما ليس عنده، واستُثنيَ ذلك في السَّلّم لأجل الحاجة بالشروط، والله أعلم.
رزقنا الله الاقتداء والاهتداء والتقيّد بعمل الشرع المصون، وجعلنا ممن ترعاهم عين عنايته في الظهور والبطون، ودفع عنّا الآفات وبلّغنا الأمنيّات بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
25 شوّال 1443