شرح الموطأ - 353 - كتاب البيوع: باب المُلامَسَة والمُنَابَذَة

شرح الموطأ - 353 - كتاب البيوع:  باب الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، باب الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ.

فجر الأربعاء 27 شعبان 1443هـ.

 باب الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ

1954 - حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ. وَعَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنِ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ.

1955 - قَالَ مَالِكٌ: وَالْمُلاَمَسَةُ أَنْ يَلْمِسَ الرَّجُلُ الثَّوْبَ، وَلاَ يَنْشُرَهُ، وَلاَ يَتَبَيَّنَ مَا فِيهِ، أَوْ يَبْتَاعَهُ لَيْلاً وَلاَ يَعْلَمُ مَا فِيهِ، وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ ثَوْبَهُ، وَيَنْبِذَ الآخَرُ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ عَلَى غَيْرِ تَأَمُّلٍ مِنْهُمَا، وَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: هَذَا بِهَذَا، فَهَذَا الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ.

1956 - قَالَ مَالِكٌ فِي السَّاجِ الْمُدْرَجِ فِي جِرَابِهِ، أَوِ الثَّوْبِ الْقُبْطِيِّ الْمُدْرَجِ فِي طَيِّهِ: إِنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُمَا حَتَّى يُنْشَرَا وَيُنْظَرَ إِلَى مَا فِي أَجْوَافِهِمَا، وَذَلِكَ أَنَّ بَيْعَهُمَا مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَهُوَ مِنَ الْمُلاَمَسَةِ.

1957 - قَالَ مَالِكٌ: وَبَيْعُ الأَعْدَالِ عَلَى الْبَرْنَامِجِ، مُخَالِفٌ لِبَيْعِ السَّاجِ فِي جِرَابِهِ، وَالثَّوْبِ فِي طَيِّهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَرَقَ بَيْنَ ذَلِكَ الأَمْرُ الْمَعْمُولُ بِهِ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ فِي صُدُورِ النَّاسِ وَمَا مَضَى مِنْ عَمَلِ الْمَاضِينَ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مِنْ بُيُوعِ النَّاسِ الْجَائِزَةِ، وَالتِّجَارَةِ بَيْنَهُمْ الَّتِي لاَ يَرَوْنَ بِهَا بَأْساً، لأَنَّ بَيْعَ الأَعْدَالِ عَلَى الْبَرْنَامِجِ عَلَى غَيْرِ نَشْرٍ لاَ يُرَادُ بِهِ الْغَرَرُ، وَلَيْسَ يُشْبِهُ الْمُلاَمَسَةَ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمدُ للهِ مكرمنا بشريعتهِ وبيانها على لسانِ خير بريتهِ سيدنا محمد عبد الله ورسولهِ وصفوتهِ، صلَّى الله وسلم وبارك وكرّم عليهِ وعلى آلهِ وصحابته، وأهل متابعتهِ ومحبتهِ، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم أجمعين، والتابعين لهم وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنّه اكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

ويذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله- في هذا الباب ما نُهِيَ عنه من بعض التبايُعات التي كانت في الجاهلية:

  •  الملابسة.

  • والملامسة.

  •  والمنابذة.

  •  وبيع الحصى.

 فهذهِ من البيوع التي كانت مشتهرة بينهم في الجاهلية، ونهى عنها ﷺ ويدخل عامّتها في الغرر وفي الجهالة؛ أو في اشتراط شرط فاسد؛ أو في أبطال حق الخيار، وما إلى ذلك.

 فبذلك صارت هذه البيوع فاسدة، وباطلة ومحرمة.

 وذكر لنا الحديث: "عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنِ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ". والحديث أيضًا في الصّحيحين وغيرهما؛ ثم إنَّ الإمام مالك ذكر من تفسير الملامسة والمنابذة. 

قَالَ سيدنا مَالِكٌ: "وَالْمُلاَمَسَةُ أَنْ يَلْمِسَ الرَّجُلُ الثَّوْبَ، وَلاَ يَنْشُرَهُ، وَلاَ يَتَبَيَّنَ مَا فِيهِ، أَوْ يَبْتَاعَهُ لَيْلاً وَلاَ يَعْلَمُ مَا فِيهِ."؛ هذا أحد أوجه الملامسة وبيع الملامسة: 

  • أن يلمس الثوب ولا يفتشه، ولا ينظر ما فيه، ولا يعرف طوله ولا عرضه؛ في هذا غرر.

  • كذلك يأتي في الملامسة أن يجعل بدل البيع وصيغته اللمس نفسه، ويقول بمجرد اللمس بعته،  ما لمست من هذه الثياب، ما لمست من هذه الكتب بعتكه بكذا، أو يقول ما لمسته أبتاعه أو أشتريه منك بكذا وكذا، فيجعل نفس اللمس بيع؛ هذا باطل.

  • وكذلك الصورة الثالثة من صور الملامسة: أن يبيعه الثوب أو الكتاب أو البضاعة؛ ثم يقول متى ما لمست لا خيار لك، وخيار المجلس ثابت ما دامه في المجلس؛ فهذا أيضًا باطل.

 فهذه الثلاثة أوجه كلها باطلة وداخلة في بيع الملامسة.

وفسّر المنابذة بقولهِ: "وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ"؛ يرمي، "أَنْ يَنْبِذَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ ثَوْبَهُ، وَيَنْبِذَ الآخَرُ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ عَلَى غَيْرِ تَأَمُّلٍ مِنْهُمَا، وَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: هَذَا بِهَذَا، فَهَذَا الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الْمُلاَمَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ."؛ فلا يصح، ولا يجوز البيع بهذه الصورة. فهذا أحد صور المنابذة .

  • والصورة الثانية: أن يقول متى نبذت إليك الثوب فقد بعته عليك بكذا؛ متى رميت إليك هذه البضاعة فقد بِعتكها بكذا، فيجعل نفس النبذ بيع؛ فلا يصح.

  • والصورة الثالثة كذلك أن يبيعه البضاعة ويقول: متى نبذتها وجَبَت ما لك خيار؛ يبطل الخيار!

 فكل هذا من أجل إبطال الصيغة، أو إبطال الخيار، أو اشتراط أشراط فاسدة، أو الجهالة بالأمر يكون البيع بهذه الصور منهيٌّ عنه غير صحيح باطل في الشريعة المطهرة.

 إذًا؛ فهذهِ صور الملامسة والمنابذة، وكلها منهيٌّ عنها، وباطل التعامل بها.

 فأوجه الملامسة:

أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة يلمسه المبايع، فيقول له صاحب الثوب بعتكه بكذا! لا رآه ولا عَرف كم طوله، ولا كم عرضه، ولا غيره من الأوصاف التي بسببها يُرغب في الشراء؛ فهذا باطل. يكتفي باللمس بدل النظر والرؤية ممنوع؛ بل لا بد الرؤية والنظر. أو يقول له صاحب الثوب بعتكه بكذا بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك، ولا خيار لك إذا نظرته إذا لمسته وجب عليك ولزمك، وكذلك جعل نفس اللمس بيع بغير صيغة.

وكذلك أن يجعل اللمس شرطًا في قطع الخيار؛ يقول : إذا لمست خلاص ما عاد لك خيار! تبطل الخيار باللمس لماذا؟! "البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا، فإن صدقا وبيّنا بُورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا مُحقت بركةُ بيعهما". فهذا شرط باطل أبطل البيع.

 كذلك ما قلنا في المنابذة فهذه الصور كان سبب البطلان فيها:

  • عدم رؤية المبيع.

  • وكذلك اشتراط نفي الخيار.

  • وكذلك نفي الصيغة وجعل اللمس والنبذ هو محل وبدل الصيغة. 

ولكن في المحقّرات من الأمور يأتي بيع المعاطاة، المعاطاة أيضًا تكون من غير صيغة؛ بأن يتفقوا على الثمن، وهذا يستلم وهذا يستلم ولكن كلٌّ علم منهم البضاعة.

 وكذلك هي في المنابذة -كما ذكرنا- ما يجعل نفس الرمي والنبذ هو البيع من دون صيغة

  • فلا يكون بيعًا من دون صيغة.

  • ولا يكون مجهولًا.

  • وأيضًا لا يقطعون بالنبذ الخيار.

 فكل هذه الصور يترتب عليها بطلان البيع وحرمة التعامل بذلك.

وكذلك فيما يتعلّق بإلقاء الحصى، أو وضع الحصى، أو رمي الحصى. ويقول الذي يقع عليه من البضاعة أو من الثياب هو لي بكذا، كل ذلك داخل أيضًا فيما تقدّم من الغرر فلا يجوز.

قَالَ مَالِكٌ: " فِي السَّاجِ "، ثوب من صوف، أو طيلسان أخضر أو أسود يُقال له: ساج،  "الْمُدْرَجِ فِي جِرَابِهِ "، في الكيس حقه في المزود، أو في الوعاء؛ ما شافه، " أَوِ الثَّوْبِ الْقُبْطِيِّ"؛ نسبة إلى قبط من نصارى مصر يصنعون هذه الثياب، "الْمُدْرَجِ فِي طَيِّهِ"؛ تعطيفه وثنيهِ، "إِنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُمَا"؛ بيع الساج والقبطي "حَتَّى يُنْشَرَا"؛ تُفتح، أما مطوي ومكلوَس -مغلّف ومغطّى- ويقول بعتك هذا! لا، افتح أنظر ما فيه، ما يصح، ولا وسط المزوَد؛ وسط الوعاء ثوب، يقول هذا ثوب وسط الوعاء بعتكه بكذا! افتح، انشره أولًا حتى يصح البيع. قال مالك: " حَتَّى يُنْشَرَا وَيُنْظَرَ إِلَى مَا فِي أَجْوَافِهِمَا "؛ يعني: ما تحت الطيّ أو داخل المزوَد، "وَذَلِكَ"؛ يعني: عدم الجواز " أَنَّ بَيْعَهُمَا مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ"؛ لأنه يشتبه حال باطنه ما يدري ما هو "وَهُوَ مِنَ" فروع، "الْمُلاَمَسَةِ."

"قَالَ مَالِكٌ: وَبَيْعُ الأَعْدَالِ عَلَى الْبَرْنَامِجِ"؛ الأعدال: جمع عِدْل، وأصله نصف الحِمل، أو أحد شقّي الدابة يُقال له: عِدل، ثم وُسّع إطلاقه على أي حُقب كبير. قال: "عَلَى الْبَرْنَامِجِ" الورقة التي يجمع فيها الحساب والأسماء، "مُخَالِفٌ لِبَيْعِ السَّاجِ فِي جِرَابِهِ، وَالثَّوْبِ فِي طَيِّهِ"، المذكورين، فالبرنامج الورقة الجامعة للحساب مُعرّب من كلمة يقول العجم فيها: برنامه، ونسخة مكتوب فيها عدد الثياب، وعدد الأمتعة ونوعها… يقال لها برنامج، والدفتر المكتوب فيه صفات ما في الوعاء من الثياب. فأجازَ المالكية البيع على رؤية البرنامج من دون أن يُنشر؛ لكن يقرأ أوصافه كذا وكذا وكذا، فيتبيّن الأوصاف من خلال هذا البرنامج.

فعند المالكية يجوز، لذلك قال: يختلف عن بيع الساج المدرج في المزوَد، وعن بيع القبطي المطوي من دون أن ينشره. فصحّحه الإمام مالك عليه رضوان الله تعالى .

قال: "مُخَالِفٌ لِبَيْعِ السَّاجِ فِي جِرَابِهِ، وَالثَّوْبِ فِي طَيِّهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَرَقَ بَيْنَ ذَلِكَ الأَمْرُ الْمَعْمُولُ بِهِ"،  والمتعارف عليه، والمنتشر بينهم في ذلك القرن، "وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ فِي صُدُورِ النَّاسِ"؛ كبارهم ومن علمائهم، وفقهائهم، "صُدُورِ النَّاسِ" الذين يقتدى بهم. "وَمَا مَضَى مِنْ عَمَلِ الْمَاضِينَ" السلف الصالحين "فِيهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مِنْ بُيُوعِ النَّاسِ الْجَائِزَةِ "، من دون نكير بينهم. 

"وَالتِّجَارَةِ بَيْنَهُمْ الَّتِي لاَ يَرَوْنَ بِهَا بَأْساً، لأَنَّ بَيْعَ الأَعْدَالِ عَلَى الْبَرْنَامِجِ عَلَى غَيْرِ نَشْرٍ لاَ يُرَادُ بِهِ الْغَرَرُ، وَلَيْسَ يُشْبِهُ الْمُلاَمَسَةَ". فإن الثوب المدرج في الجراب، أو الثوب القبطي على الطيّ؛ المطوي من دون أن ينشره ويراه، لا يجوز بيعهما بالصفة، بخلاف بيع الأعدال على البرنامج على حسب الصفة المذكورة، فإن طابقت فقد ثبت البيع؛ فتكون كمية من الثياب، والعدل فيها، في البرنامج الثوب الفلاني، والثوب الفلاني، ووصف كل ثوب فيكتفي بهذا؛ لأن كثرت ثياب الأعدال، كثرة التعب في فتحها ونشرها واحد بعد الثاني، وكلها معلومة بوصفها. فهذا رأى الإمام مالك أنه لا شيء فيه، وعليه العمل من دون نكير فهو جائز.

وهكذا بَيّنت لنا الشريعة ما نأخذ وما نترك حتى نكون على بَيّنة من أمرنا ونطبّق شرع ربنا في معاملاتنا.

والحمد لله على نعمة الإسلام، والله يُحقّقنا بحقائقها، والحمد لله على نعمة الإيمان، والله يُحققنا بحقائقها، والحمد لله على نعمة الإحسان، والله يجعلنا من أهلهِ في عافية وسلامة واستقامة، ويصلح شؤوننا والمسلمين أجمعين، ويبارك لنا في خاتمة شعبان وحسن خاتمة شعبان أكمل البركة، ويوفقنا لحُسن استقبال ليلة النظرة، وليالي وأيام رمضان، والقيام فيها بما هو أحب إلى الرب، وأطيب وأرضى له ولرسوله، وأنفع للعباد والبلاد في خير ولطف وعافية، وردّ عنّا مكرَ الماكرين وأذى المؤذين وشرَّ كل ذي شرّ من الإنس والجن من الخلائق أجمعين، والاجتماع بسيد المرسلين، وإلى حضرة النبي ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

29 شَعبان 1443

تاريخ النشر الميلادي

01 أبريل 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام