(364)
(535)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، باب بَيْعِ الْغَرَرِ.
فجر الثلاثاء 26 شعبان 1443هـ.
باب بَيْعِ الْغَرَرِ
1947- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ.
1948- قَالَ مَالِكٌ: وَمِنَ الْغَرَرِ وَالْمُخَاطَرَةِ أَنْ يَعْمِدَ الرَّجُلُ قَدْ ضَلَّتْ دَابَّتُهُ، أَوْ أَبَقَ غُلاَمُهُ، وَثَمَنُ الشَّيْءِ مِنْ ذَلِكَ خَمْسُونَ دِينَاراً، فَيَقُولُ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُ مِنْكَ بِعِشْرِينَ دِينَاراً، فَإِنْ وَجَدَهُ الْمُبْتَاعُ ذَهَبَ مِنَ الْبَائِعِ ثَلاَثُونَ دِينَاراً، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ ذَهَبَ الْبَائِعُ مِنَ الْمُبْتَاعِ بِعِشْرِينَ دِينَاراً.
قَالَ مَالِكٌ: وَفِي ذَلِكَ عَيْبٌ آخَرُ: إِنَّ تِلْكَ الضَّالَّةَ إِنْ وُجِدَتْ لَمْ يُدْرَ، أَزَادَتْ أَمْ نَقَصَتْ أَمْ مَا حَدَثَ بِهَا مِنَ الْعُيُوبِ، فَهَذَا أَعْظَمُ الْمُخَاطَرَةِ.
1949- قَالَ مَالِكٌ: وَالأَمْرُ عِنْدَنَا: أَنَّ مِنَ الْمُخَاطَرَةِ وَالْغَرَرِ اشْتِرَاءَ مَا فِي بُطُونِ الإِنَاثِ مِنَ النِّسَاءِ وَالدَّوَابِّ، لأَنَّهُ لاَ يُدْرَى أَيَخْرُجُ أَمْ لاَ يَخْرُجُ، فَإِنْ خَرَجَ لَمْ يُدْرَ أَيَكُونُ حَسَناً أَمْ قَبِيحاً، أَتَامًّا أَمْ نَاقِصاً، أَذَكَراً أَمْ أُنْثَى، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَتَفَاضَلُ، إِنْ كَانَ عَلَى كَذَا فَقِيمَتُهُ كَذَا، وَإِنْ كَانَ عَلَى كَذَا فَقِيمَتُهُ كَذَا.
1950- قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَنْبَغِي بَيْعُ الإِنَاثِ وَاسْتِثْنَاءُ مَا فِي بُطُونِهَا، وَذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ ثَمَنُ شَاتِي الْغَزِيرَةِ ثَلاَثَةُ دَنَانِيرَ، فَهِيَ لَكَ بِدِينَارَيْنِ، وَلِي مَا فِي بَطْنِهَا، فَهَذَا مَكْرُوهٌ، لأَنَّهُ غَرَرٌ وَمُخَاطَرَةٌ.
1951- قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ، وَلاَ الْجُلْجُلاَنِ بِدُهْنِ الْجُلْجُلاَنِ، وَلاَ الزُّبْدِ بِالسَّمْنِ، لأَنَّ الْمُزَابَنَةَ تَدْخُلُهُ، وَلأَنَّ الَّذِي يَشْتَرِي الْحَبَّ وَمَا أَشْبَهَهُ بِشَيْءٍ مُسَمًّى مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهُ، لاَ يَدْرِي أَيَخْرُجُ مِنْهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرُ، فَهَذَا غَرَرٌ وَمُخَاطَرَةٌ.
قَالَ مَالِكٌ: وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضاً اشْتِرَاءُ حَبِّ الْبَانِ بِالسَّلِيخَةِ، فَذَلِكَ غَرَرٌ، لأَنَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ حَبِّ الْبَانِ هُوَ السَّلِيخَةُ، وَلاَ بَأْسَ بِحَبِّ الْبَانِ بِالْبَانِ الْمُطَيَّبِ، لأَنَّ الْبَانَ الْمُطَيَّبَ قَدْ طُيِّبَ وَنُشَّ وَتَحَوَّلَ عَنْ حَالِ السَّلِيخَةِ.
1952- قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ بَاعَ سِلْعَةً مِنْ رَجُلٍ، عَلَى أَنَّهُ لاَ نُقْصَانَ عَلَى الْمُبْتَاعِ: إِنَّ ذَلِكَ بَيْعٌ غَيْرُ جَائِزٍ، وَهُوَ مِنَ الْمُخَاطَرَةِ. وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ بِرِبْحٍ، إِنْ كَانَ فِي تِلْكَ السِّلْعَةِ، وَإِنْ بَاعَ بِرَأْسِ الْمَالِ، أَوْ بِنُقْصَانٍ فَلاَ شَيْءَ لَهُ، وَذَهَبَ عَنَاؤُهُ بَاطِلاً، فَهَذَا لاَ يَصْلُحُ، وَلِلْمُبْتَاعِ فِي هَذَا أُجْرَةٌ بِمِقْدَارِ مَا عَالَجَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ فِي تِلْكَ السِّلْعَةِ مِنْ نُقْصَانٍ أَوْ رِبْحٍ فَهُوَ لِلْبَائِعِ وَعَلَيْهِ، وَإِنَمَّا يَكُونُ ذَلِكَ إِذَا فَاتَتِ السِّلْعَةُ وَبِيعَتْ، فَإِنْ لَمْ تَفُتْ فُسِخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا.
1953- قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا أَنْ يَبِيعَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ سِلْعَةً يَبُتُّ بَيْعَهَا، ثُمَّ يَنْدَمُ الْمُشْتَرِي فَيَقُولُ لِلْبَائِعِ: ضَعْ عَنِّى، فَيَأْبَى الْبَائِعُ وَيَقُولُ: بِعْ فَلاَ نُقْصَانَ عَلَيْكَ، فَهَذَا لاَ بَأْسَ بِهِ لأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُخَاطَرَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ وَضَعَهُ لَهُ، وَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ عَقَدَا بَيْعَهُمَا، وَذَلِكَ الَّذِي عَلَيْهِ الأَمْرُ عِنْدَنَا.
الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته الغرَّاء وبيانها على لسان خير الورى، سيِّد الخلق طُرًا سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الكُبراء، وعلى مَن والاهم واتبعهم بإحسانٍ وبمجراهم جرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين مَن رقَوْا في الفضل والقُرب والمجد أعلى الذُّرى، وعلى آلهم وصحبهم وأتباعهم والملائكة المُقربين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
فيذكر سيِّدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله- في هذا الباب "بَيْع الْغَرَرِ"، وهو من البيوع المنهي عنها في الشريعة المُطهرة؛ وذلك لما يترتب عليها من الخداع والمكر والحيلة وتوقّع الضَّرر. فما كان من التغرير وهو المخاطرة والخدعة وتعريض الإنسان نفسه أو ماله للهَلَكة؛ فهذا هو الغرر الذي حرَّمته الشَّريعة المُطهّرة، وأوجبت أن تقوم المعاملة بين النَّاس على صفاء وظهور ووضوح وبيّنة. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء:29]، إنَّ الله حرَّم من المُسلمِ دمه وعرضه وماله، "وأن يُظَن به ظنّ السُّوء".
فهذه بيوع قد كان اشتهر بعضها في الجاهلية؛ فحُرِّمَت مع كل ما اتصل بعلَّتها وهو الغرر فيها، وتوقّع الضرر والجهالة بحقيقة الأمر. فمنها ما تقدَّم معنا من بيع حبل الحبلى ومن بيع النتائج وما إلى ذلك من أنواع الغرر بأبواب معيَّنة، وكلها تدخل تحت بيع الغرر. والغَرر:
إذا كثُر فيه الضرر فهو مُحرّم بالاتفاق.
وإن قلَّ ففيه نظر.
فلذلك جاء الخلاف في البيوع، مع اتفاقهم على أن بيع الغرر حرام ولا يصح. واختلفوا في بعض صوره ومسائله، باعتبار من رأى أن في ذلك غررًا كثيرًا وضررًا ومخادعة: حرّمه. ومَن رأى أن في هذه الصورة لا يوجد ذلك: أجازه.
وأورد لنا هذا الحديث الذي هو أيضًا في رواية البخاري بزيادة، أورد لنا حديث: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ". وجاء في صحيح مسلم: أنه ﷺ "نهى عن بيع الحصاة وبيع الغرر".
بيع الحصاة، أن يقول: بعتكم من هذه الثياب ما تمسّه الحصى، يرمي بالحصى والذي تدق فيه الحصى هو لك! كل هذا أيضًا داخل في الغرر ومضارّه.
ونهى عن بيع الغرر، مما يترتب عليها من الخطر والمُخادعة والجهالة، وما يحصل بذلك من غبن بعضهم لبعض، وما يحصل من التدليس، فلأجل كل هذا؛ حُرِم بيع الغرر. وقال سيِّدنا الإمام النووي: النَّهي عن بيع الغرر أصلٌ عظيم من أصول كتاب البيوع، يدخل فيه مسائل كثيرة. فما كان فيه من غررٍ بيّن واضح ظهر؛ فاتفقوا وأجمعوا على حرمته. وما كان الغرر فيه يسيرٌ يُغتفر؛ فاتفقوا على إباحته. واختلفوا في مسائل، منهم من رأى أن الغرر فيها كثير، ومنهم مَن لم يرَ ذلك.
فمثل ما ذكر لنا عن بيع الآبق؛ هرب عليه مملوكه ولم يدري أين هو ويبحث عنه، فيقول له أحدهم: أنا أشتريه منك، يشتري من واحد ما يقدر يُسلِّمه، ما يقدر يجيبه لك! ويقول: أنا بعد ذلك أبحث عنه، الآن سيبيعه رخيص، بعد ذلك يمكن نحصله ونستفيد.
فقال الإمام مالك -عليه رضوان الله تعالى-: "وَمِنَ الْغَرَرِ وَالْمُخَاطَرَةِ أَنْ يَعْمِدَ الرَّجُلُ قَدْ ضَلَّتْ دَابَّتُهُ"، فرّت عليه "أَوْ أَبَقَ غُلاَمُهُ"؛ ضاعت عليه الدابة وأبق وفرّ الغلام، "وَثَمَنُ الشَّيْءِ مِنْ ذَلِكَ خَمْسُونَ دِينَاراً" مثلًا، "فَيَقُولُ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُ مِنْكَ بِعِشْرِينَ"؛ نقّص له الثلاثين "دِينَاراً". قال سيِّدنا مالك: "فَإِنْ وَجَدَهُ الْمُبْتَاعُ ذَهَبَ مِنَ الْبَائِعِ ثَلاَثُونَ دِينَاراً"، خسرها؛ كان بتجيب له خمسين فما أخذ إلا عشرين، "وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ" ما حصله مسكين هذا "ذَهَبَ الْبَائِعُ مِنَ الْمُبْتَاعِ بِعِشْرِينَ دِينَاراً." أخذ عشرين دينار من دون مقابل له ما حصل شيء؛ فلأجل هذا حرَّمت الشَّريعة أمثال هذه الصور.
بخلاف الجُّبة المحشوة، وما يُدرى مقدار الحشوة؛ فهذا مغتفر ومتسامح فيه؛ فيصحّ بيع مثل ذلك ولكن كل ما كان فيه غرر يؤدي إلى مخاطرة وتعرّض للغبن؛ فهذا لا يصح البيع فيه؛ ولا يجوز.
"قَالَ مَالِكٌ: وَفِي ذَلِكَ" أيضًا "عَيْبٌ آخَرُ: إِنَّ تِلْكَ الضَّالَّةَ إِنْ وُجِدَتْ لَمْ يُدْرَ"؛ لم يُعلم، "أَزَادَتْ" على حالها التي كانت عليها وقت البيع "أَمْ نَقَصَتْ أَمْ مَا حَدَثَ بِهَا" بعد الغيبة "مِنَ الْعُيُوبِ، فَهَذَا أَعْظَمُ الْمُخَاطَرَةِ." فيه مع تعذُّر التسليم جهالة الثمن في الحال، وأيضًا لم يُدرَ أهو موجود وحيٌّ أم قد مات؟ وهل حدث عليه شيء من العيوب والنقص؟ أو زاد فيه شيء من الفوائد؟ كل هذا مجهول.. فهو داخل في الغرر.
وذكرنا أما ما كان من الغرر فيسيرًا ما يخاف منه كثير الضرر يتفقون على إباحته، مثل أن يؤجر الدار شهران، والشهر قد يكون ثلاثين، وقد يكون تسعة وعشرين؛ ما يضر، يمكن الشهر هذا يثبت ويُرى ويمكن ما يرى الشهر يكمل ثلاثين فما يقول عاد لي يوم! العبرة بالشهر سواءً كان تسعًا وعشرين أو كان ثلاثين، وليس في هذا من غررٍ يضر في الإجارة؛ فالإجارة صحيحة في مثل هذه الصورة.
"قَالَ مَالِكٌ: وَالأَمْرُ عِنْدَنَا: أَنَّ مِنَ الْمُخَاطَرَةِ وَالْغَرَرِ اشْتِرَاءَ مَا فِي بُطُونِ الإِنَاثِ"، وقد تقدَّم معنا نهيه ﷺ عن الملاقيح والمضامين؛ ما في بطون الأمهات وفي أصلاب الآباء؛ ممنوع بيعه لأنه مجهولٌ ولا يعرف وفيه غرر. "اشْتِرَاءَ مَا فِي بُطُونِ الإِنَاثِ مِنَ النِّسَاءِ وَالدَّوَابِّ"، يبيع الذي في بطنها، لا يدري هو واحد أو اثنين؟ ذكر أو أنثى؟ فقط بِع عَلَي وأنا أشتري. ليس بِع وأنا أشتري! البيع والشراء له أسس وقواعد في الشرع المصون، يجب الرجوع إليها. "لأَنَّهُ لاَ يُدْرَى أَيَخْرُجُ" من البطن شيء "أَمْ لاَ يَخْرُجُ"، قد يكون من البطن توقّع حمل ولا يوجد حمل. "فَإِنْ خَرَجَ لَمْ يُدْرَ أَيَكُونُ حَسَناً أَمْ قَبِيحاً، أَتَامًّا أَمْ نَاقِصاً، أَذَكَراً أَمْ أُنْثَى"، كل هذا مجهول "وَذَلِكَ كُلُّهُ يَتَفَاضَلُ"؛ يعني: تختلف فيه القيمة والرغبة و "إِنْ كَانَ عَلَى كَذَا"؛ أي: تام الخلقة "فَقِيمَتُهُ كَذَا، وَإِنْ كَانَ عَلَى كَذَا فَقِيمَتُهُ كَذَا" عشرون أو أقل، فإن الأحوال هذه تختلف فيه. فنهى ﷺ عن بيع المضامين والملاقيح؛ يعني: ما في بطون الإناث وما في ظهور الذكور.
"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَنْبَغِي"؛ يعني: لا يجوز "بَيْعُ الإِنَاثِ وَاسْتِثْنَاءُ مَا فِي بُطُونِهَا"يقول مثلاً: سأبيع عليك هذه الشاة لكن الحمل الذي في بطنها ليس لك، بل لي! أمرها أيضًا مجهول ولا يدري ما هو هذا الذي في البطن؟ "وَذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ ثَمَنُ شَاتِي الْغَزِيرَةِ"؛ يعني: كثيرة اللبن "ثَلاَثَةُ دَنَانِيرَ، فَهِيَ لَكَ بِدِينَارَيْنِ، وَلِي مَا فِي بَطْنِهَا"؛ الجنين الذي في بطنها لي. قال: "فَهَذَا" أيضًا "مَكْرُوهٌ"، أي: كراهة تحريمٍ "لأَنَّهُ غَرَرٌ وَمُخَاطَرَةٌ". فإن هذا المستثنى من المبيع، مبيعٌ معه، فكيف يخرجه عن البيع؟
"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ"، أيضًا هذا ما تتأتى فيه وهو كله من الطعام وفيه الغرر، يبيعه زيتون بزيت الزيتون. زيت الزيتون ما يدري هذا الزيتون الذي معه يُخَرّج مقدار هذا الزيت أم أقل أو أكثر؛ فلا يصح.
"وَلاَ الْجُلْجُلاَنِ"؛ السمسم نسميه: الجُّلجُل عندنا. ولا بيع "الْجُلْجُلاَنِ بِدُهْنِ الْجُلْجُلاَنِ"؛، يعني: بسليطه. سليطه هذا الذي يخرج منه، وما يدري كم يخرج من هذا السمسم، "وَلاَ الزُّبْدِ بِالسَّمْنِ، لأَنَّ الْمُزَابَنَةَ"؛ أي: مدافعة بعضهم لبعض "تَدْخُلُهُ"، تدخل على هذه الصور؛ فلا يصح فيها البيع. "وَلأَنَّ الَّذِي يَشْتَرِي الْحَبَّ وَمَا أَشْبَهَهُ بِشَيْءٍ مُسَمًّى مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهُ، لاَ يَدْرِي أَيَخْرُجُ مِنْهُ"؛ أي: من الحب. "أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرُ، فَهَذَا غَرَرٌ وَمُخَاطَرَةٌ". فلا يحلُّ بيع الزيتون بالزيت؛ لأن فيه المُزابنة وهي بيع الشيء مما يخرج منه، لأن المقدار الذي يخرج منه مجهول.
لا يجوز بيع شيءٍ من مال الربا بأصله؛ -مال الربا المطعومات- يبيعوه بأصله الذي فيه منه؛ لأن في حبوب السمسم زيت موجود، لكن ما يُدرى كم هو؟ وهذا زيت، أين المماثلة ونحن ما ندري كم؟ كم يجيء من ذا..؟ وما هذا الزائد بعد ذلك من قِشره إن كان يُستفاد منه؛ فلذلك مُنِعَ من مثل هذا البيع. فلا يُباع السمسم بزيت السمسم، ولا الزيتون بزيت الزيتون، وكذلك بقية الأدهان. ولا يبيع العصير بأصله، يبيعه عصير تُفاح بتفاح، يبيعه عصير برتقال ببرتقال، هذا من هذا، ولا تُدرى فيه المماثلة؛ فلا يصح مثل ذلك. ولكن بِع العصير بدراهم، وبِع التفاح بدراهم، واشترِ التفاح بدراهم، وبِع عصيرها بدراهم.
"قَالَ مَالِكٌ: وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضاً اشْتِرَاءُ حَبِّ الْبَانِ" شجر معروف يوجد في الحجاز وفي الحبش يُقال له: البان. "بِالسَّلِيخَةِ"، وهو دهن ثمر البان، "فَذَلِكَ غَرَرٌ، لأَنَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ حَبِّ الْبَانِ هُوَ السَّلِيخَةُ"، فصار بمنزلة الزيت من الزيتون. قال: "وَلاَ بَأْسَ بِحَبِّ الْبَانِ"؛ يعني: شراء حب البانِ "بِالْبَانِ الْمُطَيَّبِ، لأَنَّ الْبَانَ الْمُطَيَّبَ قَدْ طُيِّبَ وَنُشَّ"؛ يعني: خُلط "وَتَحَوَّلَ عَنْ حَالِ السَّلِيخَةِ"؛ أي: عن صفتها، فهذا الذي تدخله الصَّنعة مما أصله منع الربا فيه، مثل الخبز بالخبز.
يقول الإمام أبو حنيفة: خرج بالصنعة عن الجنس الذي فيه الربا.
ويقول الإمام الشَّافعي: لا يجوز متماثلًا فضلًا عن مُتفاضل لأنه قد غيّرته الصِنعة تغيرًا جُهِلت به المقادير. كم مقدار الزيت الذي فيه؟ كم مقدار النَّار الذي أخذها؟ كم؟ كله مجهول. فإذًا مطعوم بمطعوم مطبوخ ما يصح بيعه.
"قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ بَاعَ سِلْعَةً مِنْ رَجُلٍ، عَلَى أَنَّهُ لاَ نُقْصَانَ عَلَى الْمُبْتَاعِ:" على شرط أنه لا نقصان على المُبتاع؛ يعني المشتري، مثلًا باع زيد ثياب بيد عمرو بخمسين دينار، وقال لعمرو: بِعها بما شئت، فما يحصل من الربح فهو لك، وإن وقع في ذلك نقصان فهو عليّ، ليس عليك منها شيء. "إِنَّ ذَلِكَ بَيْعٌ غَيْرُ جَائِزٍ"؛ يعني: البيع بالشرط المذكور "هُوَ مِنَ الْمُخَاطَرَةِ" والغرر، ما يدري كم يحصِّل فيها؟ وهل يكون كثيرًا أو قليلًا؟ أو يكون فيه خُسران. وإذا في خسران، قال: أنا سأرد لك من الثمن.. فطريقة غير مرضية في الشَّريعة.
"وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ بِرِبْحٍ، إِنْ كَانَ فِي تِلْكَ السِّلْعَةِ" غير معلوم، "وَإِنْ بَاعَ بِرَأْسِ الْمَالِ، أَوْ بِنُقْصَانٍ فَلاَ شَيْءَ لَهُ، وَذَهَبَ عَنَاؤُهُ بَاطِلاً، فَهَذَا لاَ يَصْلُحُ، وَلِلْمُبْتَاعِ فِي هَذَا أُجْرَةٌ بِمِقْدَارِ مَا عَالَجَ مِنْ ذَلِكَ"، فله أجرة المثل والمُلك للأول، "وَمَا كَانَ"؛ أي: حصل "فِي تِلْكَ السِّلْعَةِ مِنْ نُقْصَانٍ أَوْ رِبْحٍ فَهُوَ لِلْبَائِعِ" الأول "وَعَلَيْهِ"، وليس للثاني هذا دخل؛ لأن بيعه لم يصح. "وَإِنَمَّا يَكُونُ ذَلِكَ"؛ يعني أجرة المثل لهذا الذي باع "إِذَا فَاتَتِ السِّلْعَةُ وَبِيعَتْ"؛ قد تم البيع بيد آخر، "فَإِنْ لَمْ تَفُتْ فُسِخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا"؛ فيرد السلعة نفسها، ولا يتصرّف فيها ببيع ولا غيره.
"قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا أَنْ يَبِيعَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ سِلْعَةً يَبُتُّ" يعني: يقطع "بَيْعَهَا، ثُمَّ يَنْدَمُ الْمُشْتَرِي فَيَقُولُ لِلْبَائِعِ: ضَعْ عَنِّى"، نقِّص، ضع عنّي؛ أسقِط شيء من القيمة، "فَيَأْبَى الْبَائِعُ وَيَقُولُ: بِعْ" سلعتك هذه بيد آخر "فَلاَ نُقْصَانَ عَلَيْكَ"؛ يعني: ما يكون به نقصان أضعه من القيمة؛ أي ما أعطيتني، "فَهَذَا لاَ بَأْسَ بِهِ لأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُخَاطَرَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ وَضَعَهُ لَهُ"؛ يعني: أسقطه لعَمرو تبرّع من زيد يعني، "وَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ" على شرط وضع النقصان "عَقَدَا بَيْعَهُمَا"؛ لم يعقدا بيعهما على ذلك، والبيع قد تم ولكن بعد ذلك نَدِم. قال له: أقلني؛ ندم، أراد أن يردّها إلى البائع. قال: لا ما أقبلها منك، ولكن اذهب وبِع، وإن نقص الثمن على ما اشتريت منك أنا أعطيك من عندي. فيقال له: البيع الأول قد صحّ، والبيع الثاني الآن أيضًا صحيح. لا يوجد في البيع شرط ولكن تبرَّع البائع الآن للمشتري منه أنه إن نقص عليه ثمن السلعة عن الثمن الذي اشترى به أنه يعطيه من عنده مالًا. "وَذَلِكَ الَّذِي عَلَيْهِ الأَمْرُ عِنْدَنَا". يقول: أن العقد الأول قد سلِم وتمّ البيع، والثاني مجرّد تبرع من البائع الأول إن طابت به نفسه فليُسلّمه، وليس في ذلك شيء مما يدخل في صلب العقد ويبطله، والله أعلم.
رزقنا الله متابعة حبيبه الأكرم، وتولانا به في كل ما خصّ وفي كل ما عم، وضاعف الهِبات وأجزل العطيَّات، وبلَّغ الأمنيات، وجمعنا بخير البريات، وختم لنا بأكمل حُسن الخاتمات. وفّر حظّنا من خاتمة شعبان، وبلَّغنا رمضان جميعه، وجعلنا من الفائزين فيه بمغفرته ورحمته ورضوانه، وعتقه من النَّار، وعتقه من العذاب، وعتقه من النِّفاق، وعتقه من العيوب، وعتقه من الذُّنوب، وعتقه من الالتفات إلى ما سواه والتعلّق بمَن عاداه، وأن يرزقنا العبودية المحضة الخالصة ويُقبل بوجهه الكريم علينا، ويصلح أحوال الأُمة أجمعين وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.
29 شَعبان 1443