(364)
(535)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، باب السَّلَفِ وَبَيْعِ الْعُرُوضِ بَعْضِهِا بِبَعْضٍ.
فجر الأربعاء 20 شعبان 1443هـ.
باب السَّلَفِ وَبَيْعِ الْعُرُوضِ بَعْضِهِا بِبَعْضٍ
1926- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ.
1927- قَالَ مَالِكٌ: وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: آخُذُ سِلْعَتَكَ بِكَذَا وَكَذَا، عَلَى أَنْ تُسْلِفَنِي كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ عَقَدَا بَيْعَهُمَا عَلَى هَذَا فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَإِنْ تَرَكَ الَّذِي اشْتَرَطَ السَّلَفَ مَا اشْتَرَطَ مِنْهُ، كَانَ ذَلِكَ الْبَيْعُ جَائِزاً.
1928- قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ بَأْسَ أَنْ يُشْتَرَى الثَّوْبُ مِنَ الْكَتَّانِ، أَوِ الشَّطَوِيِّ، أَوِ الْقَصَبِيِّ، بِالأَثْوَابِ مِنَ الإِتْرِيبِيِّ، أَوِ الْقَسِّيِّ، أَوِ الزِّيقَةِ، أَوِ الثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ، أَوِ الْمَرْوِيِّ، بِالْمَلاَحِفِ الْيَمَانِيَّةِ، وَالشَّقَائِقِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، الْوَاحِدُ بِالاِثْنَيْنِ، أَوِ الثَّلاَثَةِ يَداً بِيَدٍ، أَوْ إِلَى أَجَلٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ دَخَلَ ذَلِكَ نَسِيئَةٌ فَلاَ خَيْرَ فِيهِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَصْلُحُ حَتَّى يَخْتَلِفَ فَيَبِينَ اخْتِلاَفُهُ، فَإِذَا أَشْبَهَ بَعْضُ ذَلِكَ بَعْضاً، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهُ فَلاَ يَأْخُذْ مِنْهُ اثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ إِلَى أَجَلٍ، وَذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَيْنِ مِنَ الْهَرَوِيِّ، بِالثَّوْبِ مِنَ الْمَرْوِيِّ، أَوِ الْقُوهِىِّ إِلَى أَجَلٍ، أَوْ يَأْخُذَ الثَّوْبَيْنِ مِنَ الْفُرْقُبِيِّ، بِالثَّوْبِ مِنَ الشَّطَوِيِّ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الأَصْنَافِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَلاَ يُشْتَرَى مِنْهَا اثْنَانِ بِوَاحِدٍ إِلَى أَجَلٍ.
1929- قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ بَأْسَ أَنْ تَبِيعَ مَا اشْتَرَيْتَ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ تَسْتَوْفِيَهُ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِهِ الَّذِي اشْتَرَيْتَهُ مِنْهُ، إِذَا انْتَقَدْتَ ثَمَنَهُ.
الحمد لله مُكْرِمِنا بالشَّريعة وأحكامها العظيمة الرفيعة، وصلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم على عبده المُجتبى المُصطفى سيِّدنا مُحمَّد الذي جمع فيه الحُسن جميعه، وعلى آله وأصحابه الداخلين حصونَه المنيعة، وعلى مَن اتبعهم بإحسان في السِّر والإعلان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين أهل الوجاهات الوسيعة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقرّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
يواصل سيِّدنا الإمام مالك -عليه عليه رحمة الله تبارك وتعالى- الأبواب المُتعلِّقة بالبيع، ويذكر في هذا الباب بيعٌ بشرط سَلَفٍ، فيكون في العقد بيعٌ مع شرط أن يُسْلفه أو يُدّينه شيئًا سواءً:
البائع يُدّين المشتري
أو المشتري يُدّين البائع شيئًا
فإن ذلك كلَّه داخل في بيعٍ وسَلَف.
وفسَّر الإمام أحمد بالبيع والسَّلف؛ بأن يبيعَه السّلعة نسيئةً ثم يشتريها منه مباشرةً بسعر أقل أو أكثر إلى غير ذلك، فهذا معنى البيع والسَّلف.
وأدخله بعضهم في عموم البيع بشرط، فلا يصح بيعٌ وشرطٌ يُشرط ليس في كتاب الله -تبارك وتعالى-.
يقول: "باب السَّلَفِ وَبَيْعِ الْعُرُوضِ بَعْضِهِا بِبَعْضٍ"، ذكر: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ". فسَّره مالك -عليه رحمة الله- بقوله: "قَالَ مَالِكٌ: وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ" -المشتري للبائع-: "آخُذُ"؛ يعني اشتري منك "سِلْعَتَكَ بِكَذَا وَكَذَا" درهمًا، "عَلَى أَنْ" تُسلِّفني أو "تُسْلِفَنِي كَذَا وَكَذَا" درهمًا، "فَإِنْ عَقَدَا بَيْعَهُمَا عَلَى هَذَا فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ"، باتفاق الأئمة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-؛ فهو حرام لأنه يُتهّم أن فيه قصد الدَّين بزيادة.
إذا كان البائع هو دافع السَّلف، فكأنه أخذ الثمن بمقابلة السّلعة والانتفاع بالسّلف.
وإن كان المشتري لأنه أخذ السّلعة بما دفعه من الثمن والانتفاع بالسّلف.
فالقرض ليس من عقود المعاوضة وأنه من عقود البيع والمُكارمة؛ فلا يصح أن يكون له عوض. فهذه المسألة ما يصح فيها. إلا أن الإمام مالك قال: "فَإِنْ تَرَكَ الَّذِي اشْتَرَطَ السَّلَفَ" مع البيع "مَا اشْتَرَطَ مِنْهُ" تخلّى عن ذلك، "كَانَ ذَلِكَ الْبَيْعُ جَائِزاً".
وقال الأئمة الثلاثة: البيع باطلٌ من أصله. فإن أراد ترك ذلك، فليعقد بيعًا جديدًا من دون شرطٍ؛ فيصح.
وقال الإمام مالك: إذا اتفقوا على ترك ذلك الشرط وترك ذلك السَّلف وأعرضوا عنه؛ فصحّ البيع على النقد الذي عقد عليه مباشرة، وهذا يأخذ البضاعة وهذا يأخذ النقد؛ والبيع صحيح.
وقال الأئمة الآخرون: بل لا بُد من عقدٍ جديد؛ فالعقد الأول من أصله باطل ولا يصح بإعراضهم عن الشرط الذي اشترطوه وأفسد البيع؛ فإن البيع فاسد من أصله.
فهكذا يقول: "فَإِنْ تَرَكَ الَّذِي اشْتَرَطَ السَّلَفَ مَا اشْتَرَطَ مِنْهُ، كَانَ ذَلِكَ الْبَيْعُ جَائِزاً."، فانظر كم نوّع الكلام عن البيوع وكيفياتها وما يتعلَّق بعقدها، وما يتعلق بالثمن وبالمُثمِّن؛ لتعلم أن حكمة الله -تبارك وتعالى- في هذه الشَّريعة أن لا يأكل الإنسان ولا يدخل إلى يده إلا ما كان حلالًا خالصًا بنظام الرحمن -جلَّ جلاله-، ومَن بدَّل ذلك أو غيره فسيجني ثمرةً:
في الدُّنيا بذهاب ماله وذهاب بركته وتعبٍ عليه.
وسيجني ثمرة أشد وأكبر في الدَّار الآخرة -والعياذ بالله تبارك وتعالى- من غضب الله وسخطه وعذابه.
أجارنا الله من ذلك ومن كل سوء في الدَّارين، ورزقنا الاستسلام لأوامره والعمل بها، والكفّ عن نواهيه والاجتناب عنها إنه أكرم الأكرمين، وذالكم تقوى الله إذا تمّ الامتثال والكفّ هيبةً ومحبةً وتعظيمًا وإيمانًا.
"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ بَأْسَ أَنْ يُشْتَرَى الثَّوْبُ مِنَ الْكَتَّانِ، أَوِ الشَّطَوِيِّ"، نسبة إلى شطا، قرية بمصر يُقال له: شطا؛ أي: ما عُمِل بشطا من الكتان "أَوِ الْقَصَبِيِّ"؛ ثياب ناعمة من كتان يُقال للواحدة منه: قُصبي، "بِالأَثْوَابِ مِنَ الإِتْرِيبِيِّ"؛ ثياب أيضًا تُعمل بمصر يُقال لها إتريب، "أَوِ الْقَسِّيِّ"، بفتح القاف وكسر السين، قَسِي، هذه الثياب فيها خطوط من حرير يُقال لها: قَسِي منسوب إلى قس أيضًا قرية بمصر كذلك. "أَوِ الزِّيقَةِ"، نسبة أيضًا إلى زيق محل في نيسابور، "أَوِ الثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ"، نسبة إلى هراة؛ المدينة التي في خراسان "أَوِ الْمَرْوِيِّ"، نسبة إلى مرو أيضًا البلدة التي في فاس. "بِالْمَلاَحِفِ الْيَمَانِيَّةِ، وَالشَّقَائِقِ"، الأُزُر الضيقة الرديئة، "وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، الْوَاحِدُ بِالاِثْنَيْنِ، أَوِ الثَّلاَثَةِ يَداً بِيَدٍ، أَوْ إِلَى أَجَلٍ"؛ أي: إلى نّسيئة كلُّه جائز؛ لأن ذلك ليس فيه علة الرِّبا، فلم تتحد الجنسية ولا ادّخار للقوت -ليس بالطعام ولا بالنقدين-، "وَإِنْ كَانَ" المبيع "مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ"، فيجوز التفاضُل "فَإِنْ دَخَلَ ذَلِكَ نَسِيئَةٌ فَلاَ خَيْرَ فِيهِ".
فعنده أيضًا إذا كان من جنس واحد والغرض فيه واحد؛ فإنه يدخله الرِّبا عند الإمام مالك، وإن لم يكن طعامًا بطعام ولا نقدًا بنقد. فإذا كان من جنس واحد والغرض من استعماله واحد؛ فكلُّه للباس وكلُّه للركوب وكلُّه لأكل؛ فحينئذ لا يجوز عنده ويدخله الرِّبا. وإذا اجتمعت ثلاثة أشياء؛ حَرُم عنده البيع: التفاضل مع النَّسيئة واتحاد الجنس والغرض.
وقال الشَّافعية والحنابلة: أن غير المطعوم بالمطعوم والنَّقد بالنقد، لا يدخله شيء من ربا النَّسيئة ولا الفضل ولا اليد؛
فيجوز أن يُباع نسيئة.
ويجوز أن يتفرّقا قبل القبض.
ويجوز أن يتفاضل بعضه على بعض ما دام أنه ليس طعام بطعام ولا نقد بنقد.
"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَصْلُحُ حَتَّى يَخْتَلِفَ"؛ أي: لا يصلح النَّسيئة ولا تجوز عنده "حَتَّى يَخْتَلِفَ"؛ يعني المبيع من الجانبين. "فَيَبِينَ اخْتِلاَفُهُ"؛ أي: يظهر ظهورًا واضحًا "فَإِذَا أَشْبَهَ بَعْضُ ذَلِكَ بَعْضاً، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهُ فَلاَ يَأْخُذْ مِنْهُ اثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ إِلَى أَجَلٍ، وَذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَيْنِ مِنَ الْهَرَوِيِّ"، مثلًا "بِالثَّوْبِ" الواحد "مِنَ الْمَرْوِيِّ، أَوِ" يأخذُهما بالثوب الواحد من "الْقُوهِىِ" ثياب بيض، "إِلَى أَجَلٍ، أَوْ يَأْخُذَ الثَّوْبَيْنِ مِنَ الْفُرْقُبِيِّ"، نسبة أيضًا إلى فُرقُب موضع أيضًا تأتي منه ثياب بيض كتان، "بِالثَّوْبِ مِنَ الشَّطَوِيِّ"، المنسوبة إلى شطا "فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الأَصْنَافِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَلاَ يُشْتَرَى مِنْهَا اثْنَانِ بِوَاحِدٍ إِلَى أَجَلٍ". فعنده تُمنع فيه النَّسيئة وإن اختلفت الأسماء ولكنها متشابهة؛ الأصل فيها واحد كلُّها ثياب.
"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ بَأْسَ أَنْ تَبِيعَ مَا اشْتَرَيْتَ مِنْهَا"؛ يعني: من الثياب "قَبْلَ أَنْ تَسْتَوْفِيَهُ"؛ يعني: قبل قبضه، فإن اشتراط القبض عند الإمام مالك خاصّ بالطعام، أخذ برواية: لا يبع أحدكم طعامًا حتى يقبضه، "إذا اشترى أَحَدُكُم طَعَامًا فلا يَبِعْه حَتَّى يَقْبِضَه"، فقيّده بالطعام. فمذهب الإمام مالك: تقييد اشتراط القبض قبل البيع في الطعام خاصة كما صرّح بذلك.
يقول: "وَلاَ بَأْسَ أَنْ تَبِيعَ مَا اشْتَرَيْتَ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ تَسْتَوْفِيَهُ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِهِ الَّذِي اشْتَرَيْتَهُ مِنْهُ"، لا أن تردّه عليه هو نفسه، "إِذَا انْتَقَدْتَ"؛ أي: أعطيت "ثَمَنَهُ" البائع الأول. قد سلَّمت ثمنه ما باقي إلا القبض.
فعنده إذا كان غير طعام: يجوز.
وعند غيره من الأئمة: لا يجوز؛ لا يحل بيع المبيع حتى يُقبض سواءً كان طعام أو غير طعام.
إلا أنهم اختلفوا في المنقول وغير المنقول:
فقال الشَّافعي والإمام أحمد: منقولًا أو غير منقول كعقار ونحوه، فلا بُد من القبض المعتبر قبل البيع.
وقال الإمام أبو حنيفة:
إن كان منقولًا؛ فلا بُد من القبض.
وإن كان غير منقول كالعقار ونحوه؛ فيجوز أن يبيعه قبل القبض.
"باب السّلفة في العروض"، وأطال في ذلك الكلام، يأتي معنا إن شاء الله تعالى.
نسأل الله أن يُكرمنا بالاستقامة على اتباع الشَّريعة، والتَّحصُّن بحصونها المنيعة، والارتقاء بسلالمها الرَّفيعة إلى مراتب القُرب منه، والفهم عنه، والمعرفة به، والصِّدق معه والإخلاص لوجهه، وكمال محبته ونيل الرضا منه، والرضا عنه، والحظ الأوفى الأتم، في خير ولطف وعافية، بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.
26 شَعبان 1443