(364)
(535)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع: باب بَيْعِ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ، وباب مَا جَاءَ فِي ثَمَنِ الْكَلْب.
فجر الثلاثاء 19 شعبان 1443هـ.
باب بَيْعِ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ
1921 - قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي لَحْمِ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ, وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْوُحُوشِ، أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَى بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَزْناً بِوَزْنٍ، يَداً بِيَدٍ، وَلاَ بَأْسَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُوزَنْ، إِذَا تَحَرَّى أَنْ يَكُونَ مِثْلاً بِمِثْلٍ، يَداً بِيَدٍ.
1922 - قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ بَأْسَ بِلَحْمِ الْحِيتَانِ بِلَحْمِ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْوُحُوشِ كُلِّهَا، اثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَداً بِيَدٍ، فَإِنْ دَخَلَ ذَلِكَ الأَجَلُ فَلاَ خَيْرَ فِيهِ.
1923 - قَالَ مَالِكٌ: وَأَرَى لُحُومَ الطَّيْرِ كُلَّهَا مُخَالِفَةً لِلُحُومِ الأَنْعَامِ وَالْحِيتَانِ، فَلاَ أَرَى بَأْساً بِأَنْ يُشْتَرَى بَعْضُ ذَلِكَ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلاً يَداً بِيَدٍ، وَلاَ يُبَاعُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَى أَجَلٍ.
باب مَا جَاءَ فِي ثَمَنِ الْكَلْبِ
1924 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَاري: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِىِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ.
يَعْنِى بِمَهْرِ الْبَغِيِّ مَا تُعْطَاهُ الْمَرْأَةُ عَلَى الزِّنَا، وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ رَشْوَتُهُ، وَمَا يُعْطَى عَلَى أَنْ يَتَكَهَّنَ.
1925 - قَالَ مَالِكٌ: أَكْرَهُ ثَمَنَ الْكَلْبِ الضَّارِي وَغَيْرِ الضَّارِي، لِنَهْىِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ.
الحمد لله مُكرمنا بدينه، وبيانه على لسان عبده وأمينه، سيدنا محمد صَلَّى الله عليه وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه وأهل اتباعه في جميع شؤونه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين صفوة الرحمن -تبارك وتعالى- وحاملو تعليمِهِ وتبينهِ، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم أنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- ما يتعلق ببيع اللحم باللحم، وما يتعلق ببيع الكلب كذلك. فيقول: "باب بَيْعِ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ"، واختلف الأئمة؛ هل يُعَدُّ اللحم كُلَّهُ جنسٌ واحد؟ كما هو قولٌ عند الشافعية وعند غيرهم، أم إن اللحم أجناس مختلفة؟ وكم هذه الأجناس؟
وسبَقَ معنا قول الإمام مالك -عليه رضوان الله- أَنَّهُ يصل إلى ثلاث بل أربعة أجناس:
فذوات الأربع عنده من يمشي على أربع من الدواب كلها إنسيّها ووحشيّها جنسٌ واحد.
وذوات الماء ما كان من الحيتان والسمك فجنس واحد هذا الثاني.
والثالث الطير فالطير ولحمه جنسٌ مستقل بأصناف الطيور.
وأما الرابع فَهْوَ الجراد.
يقول: "الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي لَحْمِ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ, وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْوُحُوشِ، أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَى بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَزْناً بِوَزْنٍ، يَداً بِيَدٍ"
إذا خلا في المطعوم من الجنس الواحد يجب فيه التماثل والحلول والتقابض في المجلس، باعتبار أن لحم هذه الأشياء من الإبل والبقر والغنم جنس واحد.
قال الحنفية، وكذلك الأصح عند الحنابلة، وقولٌ وهو مقابل الأظهر عند الشافعية: أن كل واحد منها جنس مستقل، فالإبل جنسٌ، والبقر جنس، والغنم جنس آخر، وهكذا… إلا أنه لا تفريق بين الجنس الواحد، بمعنى أنواع الإبل سواءً كان هجين أو ذي سنام واحد أو ذي سنامين أو العراب أو البخاتي وما إلى ذلك كلها جنس واحد. وكذلك الجواميس مع البقر كلها جنس واحد، ولا فرق أيضًا بين المعز والضأن والغنم جنس واحد.
إذًا؛ فهذا هو قول عند الشافعية وهو الأصح عند الحنابلة وهو مذهب الحنفية؛ أنها أجناس مختلفة؛ البقر جنس، والإبل جنس، والغنم سواء ضأن أو معز جنس، وبقية الحيوانات كذلك، وَقِيل: أن الضأن جنس، والمعز جنس.
وعلمت ما قال الإمام مالك أن ذوات الأربع جنس واحد، فكل ما قِيلَ أنه جنس واحد:
فعلى قول من يقول أنه جنس واحد يجب فيه التماثل والحلول والتقابض.
وما قِيلَ بأنه جنسان فيجوز التفاضل، إلا أنه مطعوم لا بد في بيع بعضه ببعضه من الحلول والتقابض في المجلس.
يقول: "إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَزْناً بِوَزْنٍ، يَداً بِيَدٍ، وَلاَ بَأْسَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُوزَنْ، إِذَا تَحَرَّى أَنْ يَكُونَ مِثْلاً بِمِثْلٍ، يَداً بِيَدٍ" وذلك على سبيل التقريب، فهذا إذا أيضًا قول عند مالك ، وعنده قول آخر أنه لا بد فيه من الوزن، كما عليه الجمهور، ولا يكفي فيه التحري. وهكذا قال الجمهور: ما يأتي تحرّي في هذا؛ لأن المماثلة مأمور بها فيه في نص الشرع فلا بد من الوزن، ولا يصح فيه التحري والاجتهاد.
"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ بَأْسَ بِلَحْمِ الْحِيتَانِ بِلَحْمِ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْوُحُوشِ كُلِّهَا، اثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَداً بِيَدٍ، فَإِنْ دَخَلَ ذَلِكَ الأَجَلُ فَلاَ خَيْرَ فِيهِ."، كما أن القول الأظهر عند الشافعية: أن جميع اللحوم بأصنافها جنس واحد، فلا يُباع لحم بلحم إلا متماثلًا مع الحلول والتقابض في المجلس.
"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ بَأْسَ بِلَحْمِ الْحِيتَانِ، بِلَحْمِ الْبَقَرِ، وَالْإِبِلِ، وَالْغَنَمِ، وَمَا أَشْبَهَ ذلِكَ مِنَ الْوُحُوشِ كُلِّهَا اثْنَانِ بِوَاحِدٍ، اوَأَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ"؛ يعني: يجوز التفاضل لكن بشرط أن يكون "يَداً بِيَدٍ"؛ يعني: يتقابضون في المجلس يكون حال مع التقابض "فَإِنْ دَخَلَ، ذلِكَ، الْأَجَلُ، فَلاَ خَيْرَ فِيهِ."؛ يعني: لا يجوز ذلك، لأن النسيئة ممنوعة في بيع المطعومات بالمطعومات والنقد بالنقد.
"قَالَ مَالِكٌ: وَأَرَى لُحُومَ الطَّيْرِ كُلَّهَا مُخَالِفاً لِلُحُومِ الْأَنْعَامِ."؛ أراد بالأنعام جميع ذوات الأربع. قال: "وَالْحِيتَانِ."؛ أي: يرى لحوم الحيتان، "فَلاَ أَرَى بَأْساً بِأَنْ يُشْتَرَى بَعْضُ ذلِكَ بِبَعْضٍ. مُتَفَاضِلاً" باعتبار الحوت جنس، وذوات الأربع جنس، والطير جنس، والرابع الجراد. "يَداً بِيَدٍ، وَلاَ يُبَاعُ شَيْءٌ مِنْ ذلِكَ، إِلَى أَجَلٍ". لتحريم النسيئة كما قلنا.
ثُمَّ ذَكَرَ ما ورد في ثمن الكلب:
والكلب حيوانٌ نجس عند الجمهور.
وقال بعض الأئمة: هو طاهر، وإنما تُعِبِّدنا بالتغسيل من ولغه إذا ولغَ في الإناء سبع مرات إحداهن بالتراب.
وقال الشافعية وغيرهم: بل هو، وريقه، ولحمه، ودمه، وكل ما تعلق به نجس نجاسةً مغلّظة، والنجس لا يجوز بيعه.
مع أن الكلاب منها: ما يُتَّخَذُ لماشية، أو لزرع، أو لصيد، -يعني: للحراسة- أو للصيد به من الكلاب المعَلَّمَة، ومنها ما لا يكون كذلك. فأما الكلب العقور فهذا مأمورٌ بقتله ولو في الحرم، فمن غير شك لا يجوز بيعه، ولا يصح.
وبقي بعد ذلك ما يسمّى بكلب السوق أو كلب البيت الذي ليس لحراسة، ولا لصيد، ولا يعقر الناس؛ فهذا معتمد الشافعية ومن وافقهم: أنه لا يجوز قتله، كذلك لا يصح بيعه. فجميع الكلاب بأصنافها لا يصح بيعها، فكيف بمن يريد أن يأخذ كلب صيد أو كلب حراسة؟
قال الشافعية أنه كغيرها من النجاسات إذا كان يُستفاد منها شيء من الفوائد، ويصير بها غرض، فيمكن رفع اليد بمقابل لا بلفظ البيع؛ أي: لا يصح البيع، ولكن فيها اختصاص، فرَّقوا بين الْمُلْك والاختصاص.
والمُلك للشيء المباح، للشيء الطاهر الذي يُعدُّ ملكاً ويصح بيعه.
وأما النجاسات كالكلب وغيرها من النجاسات التي يمكن أن يستفاد منها بشيء من الأغراض، فيصير اختصاص من وضع يده عليها، فهي مختصة به، لا يجوز لواحد ثانٍ أن يأخذَها، فيجوز لَـهُ أن يرفع يده؛ أي: يتنازل عن اختصاصه بها لآخر بمقابل، ولم يرتضوا فيه لفظ البيع، وقالوا: رَفعُ اليد عن الاختصاصات بمقابل.
إذًا؛ ما بين قول أن اللحم بجميع أصنافه جنسٌ واحد، وهو قول الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد، وقول الخرقي من الحنابلة.
وَقِيلَ أنها أصناف متعددة كل أصلٍ منها جنس؛ الإبل جنس، والبقر جنس، والغنم جنس، وهكذا، وهذا مذهب الحنفية، وهو قول عند الشافعية، وهذا أيضًا هو الأصح عند الحنابلة.
فأما ما يتعلق بالكلب:
فإن الجمهور يعتبرونه نجسًا، وحينئذٍ لا يجوز فيه البيع؛ لأن بيع النجاسات لا يصح.
وقال الإمام مالك بكونه طاهر، ولكن مع ذلك لا يجوز بيعه للنهي عن ذلك، إلا ما كان من كلب صيد، أو كلب حراسة، وما عدا ذلك فلا يجوز أن يُباع.
وقال الشافعية والحنابلة: بيع الكلب في جميع أحواله باطل لا يصح كائن ما كان إنما يأتي فيه الاختصاص وليس الملك ويأتي مقابل الاختصاص رفع اليد عنه بمقابل.
قال الإمام أبو حنيفة، وصاحباه، وسحنون من المالكية: أن الكلاب التي يُنْتفَع بها يجوز بيعها وأثمانها، لأنه حيوان حراسة واصطيادًا.
ويروي أبو حنيفة عن ابن عباس: "رخّص ﷺ في ثمن كلب الصيد"، وهذا حجة الحنفية.
قال: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ"؛ فأوّلهُ الحنفية بأنه الكلب الذي نُهِيَ عن اتخاذه، وذلك أن كل من اتخذ كلبًا لغير صيدٍ ولا حراسة فَهْوَ مأثوم؛ فلا يجوز اتخاذ الكلاب وتربيتها إلا كلب صيدٍ أو حراسة، ومن اتخذ كلبًا لغير صيدٍ أو حراسة نقص من أجرِه كل يومٍ قيراط، فلا يجوز.
كذلك، "وَمَهْرِ الْبَغِيِّ."؛ البغي الزانية، الْبَغِيُّ: "مَا تُعْطَاهُ الْمَرْأَةُ عَلَى الزِّنَا" فَهْوَ باطل، وهو حرام، وهو سُحْت.
"وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ"؛ يعني: عطيّة الكاهن ، ما يُعطى "رَشْوَتُهُ، وَمَا يُعْطَى عَلَى أَنْ يَتَكَهَّنَ". ممن يدّعي علم الغيب، أو أن عنده جان يخبرونه بشيء من المستقبَلات، وكان أصل ذلك أن من الجن من يتخذ مقاعد للسمع، كما نقرأ في سورة الجن- (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ) [الجن:8-9]. فلهم مقاعد للسمع يتمكنون فيها من سماع كلام الملائكة الموكّلين ببعض شؤون الأرض، فإذا سمعوهم يقولون يحصل كَذَا، وينتقل فلان إلى محل كَذَا، أو ينزل كَذَا، يختطفونها، ويأتون بها إلى وليّهم من الإنس، ويقرقرونها في أذنه قرقرة الدجاج، ثُمَّ يخلطون بها مئة كذبة، ويكذبون على الناس، فيأتون إليهم ليتكهموا لهم ويعطون لهم مقابل ذلك، فهذا "حُلْوَانِ الْكَاهِنِ".
ثُمَّ إنهم من ليلة ولادته ﷺ مُنعت الشياطين من استراق السمع، فلم يتمكنوا، (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) [الصافات:10]، (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ) بعد ولادة النبي ﷺ (يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا) [الجن:9]. يرميه الجبار جل جلاله بشيءٍ من الشهب فيحرقه إذا تجرّأ وأراد أن يسمع، فلا يستطيعون السمع. فبطلت بذلك الكهانة، وبقي كل من يدّعي علم الغيب على أي وجهٍ من الوجوه، ثُمَّ يأخذ مقابل ذلك، فَهْوَ داخل في معنى "حُلْوَانِ الْكَاهِنِ".
"قَالَ مَالِكٌ: أَكْرَهُ ثَمَنَ الْكَلْبِ الضَّارِي، وَغَيْرِ الضَّارِي"، وهذه هي الرواية عن الإمام مالك المعتمدة، وعن سحنون من المالكية: أن المنتفع به غير الضاري يجوز بيعه. وإنما مالَ مالك إلى عدم جواز بيعه لما جاء في الحديث، ولما جاء في النهي.
رزقنا الله الاستقامة على ما يحب، وأَعاذَنا من كل سوء فيما أحاط به علمه في الدارين بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبِيُّ ﷺ.
26 شَعبان 1443