(364)
(535)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، باب الْحُكَرَةِ وَالتَّرَبُّص.
فجر السبت 16 شعبان 1443هـ.
باب الْحُكَرَةِ وَالتَّرَبُّصِ
1904- حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: "لَا حُكْرَةَ فِي سُوقِنَا، لَا يَعْمِدُ رِجَالٌ بِأَيْدِيهِمْ فُضُولٌ مِنْ أَذْهَابٍ إِلَى رِزْقٍ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ نَزَلَ بِسَاحَتِنَا، فَيَحْتَكِرُونَهُ عَلَيْنَا، وَلَكِنْ أَيُّمَا جَالِبٍ جَلَبَ عَلَى عَمُودِ كَبِدِهِ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَذَلِكَ ضَيْفُ عُمَرَ فَلْيَبِعْ كَيْفَ شَاءَ اللَّهُ، وَلْيُمْسِكْ كَيْفَ شَاءَ اللَّهُ".
1905- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مَرَّ بِحَاطِبِ بْنِ أبِي بَلْتَعَةَ، وَهُوَ يَبِيعُ زَبِيباً لَهُ بِالسُّوقِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِمَّا أَنْ تَزِيدَ فِي السِّعْرِ، وَإِمَّا أَنْ تُرْفَعَ مِنْ سُوقِنَا.
1906- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ يَنْهَى عَنِ الْحُكْرَةِ.
الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته الغرَّاء وبيانها على لسان عبده خير الورى، سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله الذين حُظُوا به طُهرًا، وأصحابه الذين رُفِعوا به قدرًا، وعلى مَن والاهم في الحق وبمجراهم جرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين المُرتقين في الفضل أعلى الذُّرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
يتحدث الإمام مالك في هذا الباب عمّا حرّمته الشَّريعة من الاحتكار، وقال: "باب الْحُكَرَةِ"، اسم من احتكر الطعام إذا حبسه إرادة الغلاء.
"باب الْحُكَرَةِ وَالتَّرَبُّصِ"، وهو بنفس المعنى؛ الانتظار التَّربُّص ليجد الوقت الذي تغلى فيه الأثمان فيبيعه بسعر أغلى، هذا الاحتكار. وهو فرق بينه وبين الادخار، أن الادخار حبس الشيء لوقت الحاجة إليه، عام شامل في أي شيء كان، وهذا خاص بمَن يشتري البضاعة وقت حاجة النَّاس إليها ثم يدّخرها لتغلى أكثر فيبيعُها بسعر أكبر وأكثر. فهذا الاحتكار ممنوع في الشَّرع.
عبّر بعض الفقهاء بالكراهة، وانصرف إلى الكراهة التحريمية، كما هو المستعمل عند الحنفية إذا أطلقوا الكراهة؛ أرادوا كراهة التحريم.
كذلك الشَّافعية في قولٍ عندهم: بالكراهة والأصح المعتمد: الحُرمة؛ أن ذلك حرام، لا يجوز الاحتكار لما جاء من النهي عنه، بل أورده ابن حجر في الكبائر لما ورد من الوعيد الشديد فيه.
فحبس الطعام لإرادة الغلاء؛ هذا هو الحُكرة أو الاحتكار المنهي عنه.
يقول الحنفية: اشتراء الطعام ونحوه وحبسه إلى الغلاء.
ويقول المالكية: رصد الأسواق انتظارًا لارتفاع الأثمان.
يقول الشَّافعية: اشتراء القوت وقت الغلاء وإمساكه لبيعه بأكثر من ثمنه؛ فيه تضييق على الناس.
يقول الحنابلة: اشتراء القوت وحبسه انتظارًا للغلاء.
إذًا؛ فهذا شأن الاحتكار أو تعريف الاحتكار عند الأئمة، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى. إذًا، فهو مُحرَّمٌ، وعبَّر أكثر فقهاء الحنفية بالكراهة كما سمعت، إلا أنك عرفت أن التعبير بالكراهة مُطلقًا عندهم يقتضي كراهة التحريم أو يريدون به كراهة التحريم.
وكذلك ما جاء عن بعض الشَّافعية حتى قال بعضهم عندما ذكر قول البعض من الأصحاب: أنه بالكراهة. قالوا: ليس بشيء، فالأصح المعتمد عندهم أيضًا: أنه حرام لئلا يُضيّق على الناس، فإن الشَّريعة جاءت برفع الضرر وقام ميزانها على "لا ضررَ ولا ضِرارَ".
ومن هنا جاءنا في الخبر أن الجالب مرزوق، والمُحتكر ملعون، لما جاء عند ابن ماجة وعند الدارمي. "الجالِبُ مَرْزُوقٌ، والمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ". وجاء أيضًا في الحديث: "مَن احتكر طعامًا أربعين ليلةً فقد برِئ من اللهِ وبرِئ اللهُ منه" -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، فهذا وعيد شديد يدل على أنه من الكبائر، كما قال ابن حجر. وكذلك جاء في الحديث الصحيح، المُحتكر خاطِئ، والخاطئ هو الآثم.
إذًا؛ فكان من مقاصد التجارة في الشَّريعة؛ تيسير الأسباب على الناس لتوفير ما يحتاجونه من أنواع البضاعات، وجلبه لهم من الأماكن البعيدة عنهم أو التي يصعب وصول أفرادهم إليها، وتقريبها لهم إلى مساكنهم وأماكنهم ومدنهم وقُراهم وتُقرَّب إليهم، فيُؤخذ مع التكلفة وما بذله المشتري شيئًا من الربح معقولًا..
وإن كان ظاهر الشَّرع أنه يجوز بأي ثمن كان.
وقيّده بعض علماء الشَّريعة: أن لا يزيد على ثلث في مجموع القيمة أو على رُبع على خلاف بينهم.
وأطلقه الآخرون.
إلا أن الجميع مُجمِع على أن ما كان من باب الجشع والطمع فغير مبارك فيه، ولا يستقر حال أصحابه في الدنيا قبل الآخرة، والآخرة عليهم سؤال. وما كان من الاعتدال في ذلك فالخير مرجُوٌ فيه والبركة، "تسعة أعشار الرزق في التجارة"، والعُشر في المواشي.
فإذًا؛ فالشريعة في كمالها أقامت الضوابط لأربابها والمنتمين إليها، ودعت مَن يقدر على جلب البضائع وإن ربح فيها ما لم يصل إلى حد الجشع والطمع أن يفعل ذلك وأن يُثاب على ذلك إذا خلصت نيته لله، وأن يدخل في ضمن من ينفع المسلمين ويسعى في مصالحهم. وهذا الاحتكار:
مال الحنفية والشَّافعية والحنابلة إلى تقييده بالقوت؛ ما يقتاته النَّاس لأنه من الضرورة لا ما عدا ذلك من الكماليات.
ولكن عند المالكية وكذلك أبو يوسف من الحنفية، وقول أيضًا لمُحمَّد بن الحسن وهو قول غيرهم من العُلماء: أن ذلك عام في كل ما يحتاج إليه النَّاس؛ فما يدخل تحت حاجة النَّاس، فالاحتكار فيه ممنوع ما دام النَّاس محتاجون إليه.
وقول لمُحمَّد بن الحسن من الحنفية: أنه في القوت والثّياب خاصة؛ اللباس والتغذية هذا الذي تحتاج إليه النَّاس، وما عدا ذلك؛ فلا.
وكما فهمت الوارد في الأحاديث الإطلاق لم يقيده بشيء، فينبغي للمؤمن أن يبتعد عن مثل هذه المعاملة بالاحتكار؛ فإن ذلك مؤدٍ إلى أن تُمسَخ بركته في بيعه وشرائه.
وجاء أن سيِّدنا عُمَر بن الخطاب وجد في مدخل مكَّة طعامًا كثيرًا، فقال: بارك الله فيه، وفيمَن جلبه. قالوا: لكنه احتُكر؛ يعني: أخذه النَّاس. قالوا: مَن احتكره؟ قالوا: فلان مولى لعُثمان، وفلان مولى لك، دعاهما؛ استدعاهما، وقال لهما: ما حملكما؟ قال: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "مَن احتكر على المسلمين طعامهم، ضربه الله بالجذام أو الإفلاس". قال الراوي: أما مولى سيِّدنا عُثمان باع طعامه، وأما مولى عُمَر فلم يبع. قال: فرأيته مجذومًا؛ أي: رأيته بعد ذلك وقد أصابه الجذام -والعياذ بالله تبارك وتعالى- لأنه ما اعتبر ولا ادّكر، ولا سمع خبر عُمَر عن خير البشر، صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم.
هذا إذا أخذه واشتراه وقت الغلاء، وهل يدخل في ذلك من أخرجه من مزرعته أو جاءه بإرث ونحوه لم يشتره؟
إن كان يؤخره لأجل قوته أو قوت أولاده ونحوه؛ فهذا لا إشكال فيه؛ فلا يدخل في هذا لأنه ما ضر أحد ولا يضر.
وأما إن كان إنما يريد الغلاء وقت احتياج النَّاس؛ فلا يبعد أن يدخل في هذا الإثم أو يقرب منه.
ولكن المُجمع عليه لو كان وقت الحاجة يشتري لتشتدّ الحاجة أكثر، فيبيعه بسعر أغلى؛ فهذا مُتفق على أنه حرام، وأن صاحبه واقع في هذا الوعيد -والعياذ بالله تبارك وتعالى- فهذا كله فيما يحتاج إليه النَّاس ويُضيّق عليهم.
أما وقت توفّر البضائع بالأثمان المتوسطة؛ فلا يضر أن يؤخر ولا يقدمهم، وهو متوفر للناس في أسواقهم.
بل إذا كان يدّخر شيئًا لوقت الحاجة، قد يدخل في الأمر المستحسن أو الأمر المُثاب عليه إذا تقصّد أن يوفّر للناس وقت حاجتهم ما يكون غائبًا عنهم في ذلك الوقت أو يكون صعب وصوله، كما ينبغي للحاكم أن يدّخر من الطعام ما تحتاجه رعيّته في شيءٍ من أوقات السَّنة ليكون موفِّرًا لهم حاجاتهم؛ هذا أمرٌ مشروع لا إشكال فيه، فإن للحُكرة محل وزمان.
ويقول الثوري: الاحتكار في كل شيء إذا أضرّ بالناس فهو حرام؛ أي شيء يضر بالناس ويدخل ضمن حاجاتهم.
عَلمْنا هذه الأقوال في أن الاحتكار هل يختص بالقوت؟ أو يكون مع القوت في الثياب؟ أو يشمل كل شيء؟ كما هو مذهب المالكية وأبو يوسف من الحنفية، وهذا مذهب أيضًا وجيه يتناسب مع إطلاق الأحاديث إلا أنه في بعض روايات الحديث التقييد بالطعام، ذِكر الطعام؛ فهذا الذي بسببه مال من قَصَر معنى الاحتكار على القوت.
يقول -عليه الرضوان-، "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لاَ حُكْرَةَ فِي سُوقِنَا"؛ يعني: إعلام منه؛ لا أحد يحتكر في أسواقنا؛ يعني: يريد المنع من الاحتكار في سوق المدينة، على ساكنها أفضل الصَّلاة والسَّلام. وقال: "لاَ يَعْمِدُ"؛ أي: لا يقصد "رِجَالٌ بِأَيْدِيهِمْ فُضُولٌ"؛ أي: شيء زايد وفاضل عن حاجاتهم "مِنْ أَذْهَابٍ"؛ جمع ذهب، "إِلَى رِزْقٍ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ نَزَلَ بِسَاحَتِنَا"؛ يعني: مكاننا الواسع؛ يعني: يشترونه فيحتكرونه؛ يحضرون ذهبهم ويشترونه، ويخرجونه من السوق إلى مخازنهم، "فَيَحْتَكِرُونَهُ عَلَيْنَا"؛ يعني: لا يجوز احتكارهم إذا شروه من ساحتنا، "وَلَكِنْ أَيُّمَا جَالِبٍ جَلَبَ"؛ أي: من أمصار أخرى "عَلَى عَمُودِ كَبِدِهِ" أراد به يعني: على ظهره يحمله أو ظهر حيوانه الذي يمشي به، "فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ"؛ يعني: جلب في قلب الشتاء وشدة البرد، وقلب الصيف وشدة الحر، "فَذَلِكَ"؛ يعني: الجالب "ضَيْفُ عُمَرَ، فَلْيَبِعْ كَيْفَ شَاءَ اللَّهُ"؛ يعني: ما أُسعّر لكم، "وَلْيُمْسِكْ كَيْفَ شَاءَ اللَّهُ". (وَمَا تَشَاۤءُونَ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُۚ) [الإنسان:30] -جلَّ جلاله-.
وجاء في روايةٍ عند البيهقي، أن سيِّدنا عُمَر خرج إلى السوق، رأى ناس يحتكرون بفضل أذهابهم؛ يعني: ما معهم من الذهب، فقال: "لا، ولا نعمة عين أن يأتينا الله عزّ وجل- بالرزق حتى إذا نزل في سوقنا قام أقوام فاحتكروا بفضل أذهابهم عن الأرملة والمسكين. إذا خرج الجلّاب باعوا على نحو ما يريدون من التحكُّم، ولكن أيّما جالبٍ جلب يَحْمِلُهُ عَلَى عَمُود كَبِدِه في الشتاء والصيف حتى ينزل سوقنا فذلك ضَيْفٌ لِعُمَرَ فَلْيَبِعْ كيف شاءَ الله، وَلْيُمسِك كيف شاء اللهُ". أما تشتريه لأن عندك فضل مال ثم تحبسه والنَّاس محتاجون إليه؛ فلا.
و "عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- مَرَّ بِحَاطِبِ بْنِ أبِي بَلْتَعَةَ، وَهُوَ يَبِيعُ زَبِيباً لَهُ بِالسُّوقِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِمَّا أَنْ تَزِيدَ فِي السِّعْرِ، وَإِمَّا أَنْ تُرْفَعَ مِنْ سُوقِنَا". مرَّ سيِّدنا عُمَر بن الخطاب على حاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيب له في السوق بأرخص من ثمن المثل في ذاك الوقت وذاك الزمان، فيتسبّب بأن الذين عندهم هذه البضاعة تكسد بضاعتهم وما يُشترى منهم، وهذا ضرر. قال له سيدنا عمر: لا، إما أن تزيد في السعر حتى يكون مثل ثمن المثل في الموجود في الحال الآن والزمان، وإما أن ترفع من سوقنا اذهب إلى بيتك وإلى مكان ثاني بِع بعيد من السوق حتى لا تضر أهل السوق. وفي ذلك إقامة الضوابط في الجمع بين أطراف الأمور، ووضع كل شيء في موضعه في إدراك حكمة الشَّريعة الواسعة.
يقول: "وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ يَنْهَى عَنِ الْحُكْرَةِ"؛ وهي احتكار الطعام.
ويقول بعض أئمة المذاهب من علماء الشَّريعة: لا يُسعّر حاكم إلا إذا تعدّى الأرباب عن القيمة تعدّيًا فاحشًا؛ فحينئذٍ يسعّر بمشورة أهل الرأي.
ويقول الإمام مالك: على الوالي عام الغلاء التسعير؛ عام الغلاء يُسعّر؛ إذا تفاحش الثمن وطلع عليه يضرب بذلك سعرًا، وأيضًا هذا وجيه.
وكذلك يقول الحنفية: إذا كان تعدٍّ فاحش في الأثمان، فللوالي يُسعّر ويضرب عليهم سعرًا معتدلًا، لا ضرر فيه ولا ضرار، لا يُظلَم فيه المشتري ولا البائع.
وهنا أيضًا قول سيِّدنا عُمَر وهذا نوع من التسعير قوله: "إِمَّا أَنْ تَزِيدَ فِي السِّعْرِ، وَإِمَّا أَنْ تُرْفَعَ مِنْ سُوقِنَا". فمَن حطّ من سعر النَّاس، أُمر أن يلحق بسعرهم أو يقوم من السوق أو أن يًحدّ لأهل السوق سعرًا ليبيعوا عليه فلا يتجاوزونه، فلا يصل الأمر إلى إجبار النَّاس على أن يبيعوا شيئًا من أموالهم بغير ما تطيب بها أنفسهم. ولكن عند تفاحش الغلاء وظهور جشع أرباب البضائع؛ فلا بأس كما قال جماعة من أئمة الشَّريعة: أن يتدخل الحاكم، فيقرر سعرًا متوسطًا، لا يضر بأصحاب البضاعة ويرفع الضرر عن المشترين والمحتاجين إلى ذلك.
وعند عدم وجود هذا الطمع ووجود الحاجة، فهناك الخلاف قوي فإنه لا يجوز للحاكم أن يُسعّر حينئذٍ، بل يتركها على ما يتيسر بين النَّاس ما دام الأمر في حدود الاعتدال والمقدورات ولم يُتجاوز فيه الحد، لما جاء في رواية أبي داود والتِّرمذي: روي عن النَّبي ﷺ، قالوا: يا رسول الله، سَعِّر لنا! فَقال: إِنَ الله هو الْمُسَعِّرُ، القَابِض البَاسِط الرَّزَّاق، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي ولَيس أحَدٌ مِنكم يَطلبني بِمَظْلِمَةٍ في دَمٍ ولا مَالٍ". صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم.
فامتناعه يدل على أنه، عندما لا يكون هناك ضرر على النَّاس بتفاحش الغلاء، فلا يتصرّف الحاكم في الأمر ويدعهم كما يُيَسر الله ذلك الأمر. وأشار إلى أنه لو وقع في ذلك فأجحَف على أحد، أنه يُعد من المظالم؛ يعد من المظالم، لذا قال ﷺ: "ولَيس أحَدٌ مِنكم يَطلبني بِمَظْلِمَةٍ" وهو أنزه النَّاس وأطهرهم، وأكثر الخلق مِنّةً على الخلق صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
إذًا؛ لا ينبغي أن يسعّر على المسلمين إلا إذا تعدى الأرباب عن القيمة تعدّيًا فاحشًا. وهكذا يقول سيِّدنا مالك في عام الغلاء، أما في وقت عدم الغلاء والأمر متوسط بين النَّاس؛ فلا ينبغي أن يتدخل الحاكم ولا غيره ويدعون الأمر كما يُسيّره الله -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه-، وهذا معنى قوله إن المُسعّر هو الله، والله أعلم.
الله يرزقنا الاتباع والاقتداء بسيِّدنا مُحمَّد نورنا والشُّعاع، ويتولانا به ويقينا الآفات والأسواء والضّياع، ويرفعنا بالاقتداء به أعلى الارتفاع، ويقينا به كل سوء أحاط به علمه في الدارين، وينشر الهدى للأُمة في مختلف البقاع، ويجعلنا ممَن استقام على منهاج الشَّريعة، ودخل حصونها المنيعة، وارتقى بمراقيها الرفيعة في عافية، بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.
23 شَعبان 1443