شرح الموطأ - 343 - كتاب البيوع: باب جامع بَيْع الطّعام

شرح الموطأ - 343 - كتاب البيوع: باب جامع بيع الطعام
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، باب جامع بيع الطعام.

فجر الأربعاء 13 شعبان 1443هـ.

باب جَامِعِ بَيْعِ الطَّعَامِ

1896- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي مَرْيَمَ، أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ: إنِّي رَجُلٌ أَبْتَاعُ الطَّعَامَ يَكُونُ مِنَ الصُّكُوكِ بِالْجَارِ، فَرُبَّمَا ابْتَعْتُ مِنْهُ بِدِينَارٍ وَنِصْفِ دِرْهَمٍ، فَأُعْطَي بِالنِّصْفِ طَعَاماً؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: لاَ، وَلَكِنْ أَعْطِ أَنْتَ دِرْهَماً، وَخُذْ بَقِيَّتَهُ طَعَاماً.

1897- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ كَانَ يَقُولُ: لاَ تَبِيعُوا الْحَبَّ فِي سُنْبُلِهِ حَتَّى يَبْيَضَّ.

1898- قَالَ مَالِكٌ: مَنِ اشْتَرَى طَعَاماً بِسِعْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَلَمَّا حَلَّ الأَجَلُ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ لِصَاحِبِهِ: لَيْسَ عِنْدِي طَعَامٌ، فَبِعْنِي الطَّعَامَ الَّذِي لَكَ عَلَيَّ إِلَى أَجَلٍ، فَيَقُولُ صَاحِبُ الطَّعَامِ: هَذَا لاَ يَصْلُحُ، لأَنَّهُ قَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُسْتَوْفَى، فَيَقُولُ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ لِغَرِيمِهِ: فَبِعْنِي طَعَاماً إِلَى أَجَلٍ حَتَّى أَقْضِيَكَهُ. فَهَذَا لاَ يَصْلُحُ، لأَنَّهُ إِنَّمَا يُعْطِيهِ طَعَاماً، ثُمَّ يَرُدُّهُ إِلَيْهِ، فَيَصِيرُ الذَّهَبُ الَّذِي أَعْطَاهُ ثَمَنَ الطَّعَامِ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَيْهِ، وَيَصِيرُ الطَّعَامُ الَّذِي أَعْطَاهُ مُحَلَّلاً فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ إِذَا فَعَلاَهُ بَيْعَ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى.

1899- قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ طَعَامٌ ابْتَاعَهُ مِنْهُ، وَلِغَرِيمِهِ عَلَى رَجُلٍ طَعَامٌ مِثْلُ ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَقَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ لِغَرِيمِهِ: أُحِيلُكَ عَلَى غَرِيمٍ لِي، عَلَيْهِ مِثْلُ الطَّعَامِ الَّذِي لَكَ عَلَيَّ، بِطَعَامِكَ الَّذِي لَكَ عَلَيَّ. قَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ، إِنَّمَا هُوَ طَعَامٌ ابْتَاعَهُ، فَأَرَادَ أَنْ يُحِيلَ غَرِيمَهُ بِطَعَامٍ ابْتَاعَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ، وَذَلِكَ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى، فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ سَلَفاً حَالاًّ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُحِيلَ بِهِ غَرِيمَهُ، لأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِبَيْعٍ، وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى، لِنَهْي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالشِّرْكِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالإِقَالَةِ، فِي الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ.

قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ أَنْزَلُوهُ عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ، وَلَمْ يُنْزِلُوهُ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ، وَذَلِكَ مِثْلُ الرَّجُلِ يُسَلِّفُ الدَّرَاهِمَ النُّقَّصَ، فَيُقْضَى دَرَاهِمَ وَازِنَةً فِيهَا فَضْلٌ، فَيَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَيَجُوزُ، وَلَوِ اشْتَرَى مِنْهُ دَرَاهِمَ نُقَّصاً بِوَازِنَةٍ لَمْ يَحِلَّ ذَلِكَ، وَلَوِ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ حِينَ أَسْلَفَهُ وَازِنَةً، وَإِنَّمَا أَعْطَاهُ نُقَّصاً لَمْ يَحِلَّ لَهُ ذَلِكَ.

1900- قَالَ مَالِكٌ: وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ، وَأَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ، وَإِنَّمَا فُرِقَ بَيْنَ ذَلِكَ أَنَّ بَيْعَ الْمُزَابَنَةِ بَيْعٌ عَلَى وَجْهِ الْمُكَايَسَةِ وَالتِّجَارَةِ، وَأَنَّ بَيْعَ الْعَرَايَا عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ، لاَ مُكَايَسَةَ فِيهِ.

1901- قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِيَ رَجُلٌ طَعَاماً بِرُبُعٍ أَوْ بِثُلُثٍ أَوْ بِكسْرٍ مِنْ دِرْهَمٍ، عَلَى أَنْ يُعْطَى بِذَلِكَ طَعَاماً إِلَى أَجَلٍ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَبْتَاعَ الرَّجُلُ طَعَاماً بِكِسْرٍ مِنْ دِرْهَمٍ إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ يُعْطي دِرْهَماً، وَيَأْخُذُ بِمَا بَقِىَ لَهُ مِنْ دِرْهَمِهِ سِلْعَةً مِنَ السِّلَعِ، لأَنَّهُ أَعْطَى الْكِسْرَ الَّذِي عَلَيْهِ فِضَّةً، وَأَخَذَ بِبَقِيَّةِ دِرْهَمِهِ سِلْعَةً، فَهَذَا لاَ بَأْسَ بِهِ.

1902- قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ عِنْدَ الرَّجُلِ دِرْهَماً، ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْهُ بِرُبُعٍ أَوْ بِثُلُثٍ أَوْ بِكِسْرٍ مَعْلُومٍ سِلْعَةً مَعْلُومَةً، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ سِعْرٌ مَعْلُومٌ، وَقَالَ الرَّجُلُ: آخُذُ مِنْكَ بِسِعْرِ كُلِّ يَوْمٍ، فَهَذَا لاَ يَحِلُّ، لأَنَّهُ غَرَرٌ، يَقِلُّ مَرَّةً وَيَكْثُرُ مَرَّةً، وَلَمْ يَفْتَرِقَا عَلَى بَيْعٍ مَعْلُومٍ.

1903- قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ بَاعَ طَعَاماً جِزَافاً، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ شَيْئاً، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ شَيْئاً، فَإِنَّهُ لاَ يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ شَيْئاً، إِلاَّ مَا كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنَهُ، وَذَلِكَ الثُّلُثُ فَمَا دُونَهُ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ صَارَ ذَلِكَ إِلَى الْمُزَابَنَةِ، وَإِلَى مَا يُكْرَهُ، فَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ شَيْئاً، إِلاَّ مَا كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهُ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهُ إِلاَّ الثُّلُثَ، فَمَا دُونَهُ، وَهَذَا الأَمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرِمِنا بالشريعة وبيانها على لسان صاحب المراتب الرَّفيعة، سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار الداخلين حصونه المنيعة، وعلى مَن تبعهم بإحسان إلى يوم وضع الميزان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين من أعلى الرَّحمن لهم القدر والشأن، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المُقرَّبين، وجميع عباد الله الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين. 

وبعدُ، 

يقول الإمام مالك: "باب جَامِعِ بَيْعِ الطَّعَامِ"، يشير إلى مسائل قد تقدَّمت الإشارة إليها في بيع الطعام، ويذكر في عموم هذا الباب بعض المسائل، وروى لنا: "عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي مَرْيَمَ، أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ: إنِّي رَجُلٌ أَبْتَاعُ الطَّعَامَ"؛ يعني: اشتري الطعام "يَكُونُ مِنَ الصُّكُوكِ بِالْجَارِ"، وقد تقدَّم معنا أن الجار موضع على ساحل البحر، وأن الصّكوك يُصدرها الأمير بصرف قسط معيّن من الطعام، فيحمل الصك ويذهب يأخذ النصيب الذي فيه من الطعام، فعرض للناس بعد ذلك أن بعضهم يحتاج فيبيع الصّك لغيره فيذهب الغير ويأخذ ذلك الصّك، وتقدَّم معنا ما في هذا من الكلام وانتقاد بعض الصَّحابة على الأمير، ورفع الأمير من ذلك لما جرّ من معاملات أدّت إلى ربا وغيره. 

قال: "أَبْتَاعُ الطَّعَامَ يَكُونُ مِنَ الصُّكُوكِ بِالْجَارِ"، -الموضع هذا الذي ذكرنا- "فَرُبَّمَا ابْتَعْتُ مِنْهُ بِدِينَارٍ وَنِصْفِ دِرْهَمٍ، فَأُعْطَي بِالنِّصْفِ طَعَاماً؟" النصف الثاني من الدرهم لأنه ما عندهم أنصاف، عندهم درهم كامل. فيعطي درهم، ويأخذ له ويعطيه مقابل النصف الآخر طعام. "فَقَالَ سَعِيدٌ: لاَ، وَلَكِنْ أَعْطِ أَنْتَ دِرْهَماً" كاملًا، "وَخُذْ بَقِيَّتَهُ"؛ أي: النصف الثاني "طَعَاماً".

إني رجل "أَبْتَاعُ الطَّعَامَ"؛ أي: اشتريه "يَكُونُ مِنَ الصُّكُوكِ" جمع صك "بِالْجَارِ"؛ الموضع هذا الذي في ساحل البحر الذي يجمعون فيه الطعام ويوزّعونه فيه. "فَرُبَّمَا ابْتَعْتُ" واشتريت "مِنْهُ"؛ من البائع وهو صاحب الصّك "بِدِينَارٍ وَنِصْفِ دِرْهَمٍ"، آخذه، لماذا نصف درهم؟ إما أنه لم يرضَ إلا بذلك، أو كان الحساب لمقدار الطعام الذي في الصك هذا دينار ونصف درهم، فهذا الذي يخرج من الصّكوك من الصك، "فَأُعْطَي بِالنِّصْفِ"؛ أي: بعِوض نصف درهم "طَعَاماً؟" يقول: أعطيه دينار وأعطيه طعام، طعام مقابل النصف حتى يصير دينار فقط وأنا آخذ صكه. "فَقَالَ سَعِيدٌ: لاَ"، لا تفعل ذلك "وَلَكِنْ أَعْطِ أَنْتَ دِرْهَماً" كاملًا، "وَخُذْ بَقِيَّتَهُ"؛ أي: ببقية الدرهم وهو النصف الثاني "طَعَاماً". 

هكذا قال سيِّدنا سعيد بن مُسيب: أنه يعطي دينار ودرهم كامل، والبائع يرد عليه نصف درهم طعام. هذا الوجه هو أحب إلى الإمام مالك وكذلك عند الحنفية. وإن كان يجوز عندهم الوجه الآخر أيضًا إذا لم يعطِ من الطعام الذي اشتراه أقل مما يصيب نصف الدرهم. فإن أعطاه منه أقل مما يصيب نصف الدرهم؛ لم يجز؛ هذا قول الإمام أيضًا أبي حنيفة. 

إذًا؛ إذا ابتاع طعامًا، يكون هذا الطعام في الصكوك، لا يريد الصكوك التي تخرج بالأعطية لأهلها على وجه الهبة والعطية من الحاكم. فهذا يبتاعها، فربما ابتاع الجملة منها بدينار ونصف درهم؛ لأنه هو السعر الذي اتفقوا عليه وطلع كذا، أو لأن العقد وقع بهذا -دينار ونصف درهم-؛ فاستحق على الآخر نصف درهم، يجوز أن يأخذ به عَرَض؛ لأنه ما عندهم أنصاف، دراهم كاملة. 

أراد هذا ابن أبي مريم المذكور أن يدفع طعامًا بنصف الدرهم، نهاه عن ذلك سعيد بن مُسيّب، أن يدفع إليه من ذلك الطعام الذي يشتريه منه أو يدفع إليه من غيره. 

  • فأما أن يدفع من نفس الطعام؛ فهذا يكون باع بعض الطعام الذي اشتراه قبل أن يقبضه؛ فلا يصح. 

  • وإن كان من غيره؛ يعطيه طعام آخر من غيره؛ فهذا الذي استحب ابن المُسيّب بأن يُسلّم المشتري الثمن كامل؛ درهم كامل، والنصف الذي عليه يأخذ منه طعامًا من ذلك البائع للصك حتى لا يكون فيها بيع مُد بعجوة، حتى لا يكون بهذه الصورة. 

إذًا فعند حدوث تلك الصكوك، جاء بيان الحكم على ألسن العلماء الموجودين في ذلك الزمان، وهكذا يشبه ما جاء في الوقت من الأسهم وبيع الأسهم وما إلى ذلك. والقصد أن الشَّريعة مستوعبة لعامة المسائل، والواجب على المؤمن أن لا يصدر في أحواله إلا عن علم بشريعة الله -تبارك وتعالى- وموافقة  لأحكامها.

ثم ذكر لنا قول "مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ" ويروى حديثًا مرفوعًا: "لاَ تَبِيعُوا الْحَبَّ فِي سُنْبُلِهِ حَتَّى يَبْيَضَّ"؛ فبيع الثمر وهو لم يزل في الشجر:

  • إن كان بعد بدو صلاحه وظهوره وهو مما يظهر؛ فهذا الذي يجوز. 

  • وإن كان مما لا يظهر، فيقول الشَّافعية: 

    • ما لا يرى حبّه مثل: البُر، والعدس، والسّمسم في السّنبل؛ فالأصح عندهم: لا يصح بيعه لأنه ما يرى؛ مستور؛ والغرر موجود لأن المقصود من هذا البيع مستتر مما ليس من صلاحه. 

    • وأما ما كان يظهر؛ فيجوز عند الحنفية والمالكية والحنابلة يجوز بيع الحنطة في السنبل، والباقلاء في القشر، والأرز والسّمسم كذلك. 

وقالوا: أنه ﷺ نهى عن بيع النخل حتى يزهو وعن بيع السنبل حتى يبيضّ ويأمن العاهة. فقالوا: إذًا؛ إلى أن يبيضّ، فإذا ابيضّ ارتفع المنع وجاز البيع. قال الشَّافعية: إنما يحمل هذا الحديث على الشعير ونحوه مما يظهر الثمر المقصود منه، جمعًا بين الدليلين. ولذا قالوا: ما لا يظهر؛ لا يصح بيعه على الشجر حتى يخرج ويظهر ويبرز. وما هو ظاهر فبالاتفاق يجوز بيعه.

"قال مالك: مَنِ اشْتَرَى طَعَاماً بِسِعْرٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَلَمَّا حَلَّ الأَجَلُ" مثلًا شهر، وتم الشهر، "قَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ" وجب عليه أداء الطعام وهو البائع "لِصَاحِبِهِ"؛ أي: المشتري: "لَيْسَ عِنْدِي طَعَامٌ"، في هذه الفترة الآن أسلمه لك، ما عندي شيء؛ بِعني الطعام الذي لك هو نفسه الذي تستحقه في ذمتي الطعام بِعه عليّ! "فَبِعْنِي الطَّعَامَ الَّذِي لَكَ"؛ أي: يجب "عَلَيَّ" أداؤه لك "إِلَى أَجَلٍ"؛ يعني: أسلم لك ثمنه بعد شهر ثاني أو بعد أي مدة، "فَيَقُولُ صَاحِبُ الطَّعَامِ"؛ المشتري الأول "هَذَا" البيع "لاَ يَصْلُحُ"؛ لا يجوز "لأَنَّهُ قَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُسْتَوْفَى، فَيَقُولُ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ" حتى يُقبض، والآن عاده ما قبض شيء، "فَيَقُولُ" في تحيّله هذا الذي عليه الطعام وهو البائع الأول يقول "لِغَرِيمِهِ: فَبِعْنِي طَعَاماً" آخر من عندك الثاني "إِلَى أَجَلٍ"؛ يعني: أؤدي ثمنه بعد مُدة معينة "حَتَّى أَقْضِيَكَهُ". 

قال سيِّدنا مالك: "فَهَذَا لاَ يَصْلُحُ"، لماذا؟ "لأَنَّهُ إِنَّمَا يُعْطِيهِ طَعَاماً، ثُمَّ يَرُدُّهُ إِلَيْهِ"؛ يرد هذا الطعام إلى الذي أعطاه إياه في أداء ديْن كان عليه "فَيَصِيرُ" آل الأمر إلى "الذَّهَبُ الَّذِي أَعْطَاهُ ثَمَنَ الطَّعَامِ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَيْهِ"؛ يعني: أعطى عَمرو لزيد بثمن هذا الطعام الآخر، ثمن الطعام الذي كان له عليه؛ أي: على عَمرو؛ يعني يؤول الأمر إلى أن الثمن الذي أعطى عَمرو في هذا البيع الثاني هو حقيقة ثمن الطعام الذي كان واجبًا على عمرو في البيع السابق، "وَيَصِيرُ الطَّعَامُ الَّذِي أَعْطَاهُ" -باعه الآن- " مُحَلَّلاً"؛ أي: حيلةً للجواز "فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ إِذَا فَعَلاَهُ بَيْعَ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى." فلهذه العِلّتين صار هذا البيع، لا يصح، ولا يجوز.

"قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ طَعَامٌ ابْتَاعَهُ مِنْهُ"؛ يعني: اشتراه منه، "وَلِغَرِيمِهِ عَلَى رَجُلٍ طَعَامٌ مِثْلُ ذَلِكَ الطَّعَامِ"، هذا عليه من الطعام خمسة أرطال، قال له الثاني: وأنا معي طعام على واحد ثاني خمسة أرطال. "فَقَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ لِغَرِيمِهِ: أُحِيلُكَ عَلَى غَرِيمٍ لِي، عَلَيْهِ مِثْلُ الطَّعَامِ الَّذِي لَكَ عَلَيَّ"، فأُحيلك إليه "بِطَعَامِكَ الَّذِي لَكَ عَلَيَّ". 

"قَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ، إِنَّمَا هُوَ طَعَامٌ ابْتَاعَهُ"؛ اشتراه "فَأَرَادَ أَنْ يُحِيلَ غَرِيمَهُ بِطَعَامٍ ابْتَاعَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ"، لأن الطعام إنما هو طعام ابتاعه، فأراد أن يحيل غريمه بطعامٍ ابتاعه، ابتاع ذلك الطعام. "فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ"؛ أي: لا يجوز لماذا؟ "وَذَلِكَ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى، فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ"؛ يعني: الذي لعَمرو هذا على بكر مثلًا "سَلَفاً حَالاًّ"؛ يعني: قرضًا ما اشتراه، "سَلَفاً حَالاًّ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُحِيلَ بِهِ" هذا الطعام "غَرِيمَهُ، لأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِبَيْعٍ"، بل قرض عليه؛ فهو ديْن في ذمة ذاك لهذا؛ فيُحيله للدين الذي عليه وليس بطعامٍ اشتراه منه. 

قال: "وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى" كما تقدَّم معنا؛ فلا بُد من القبض قبل البيع "لِنَهْي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ"؛ أي: عن بيع الطعام قبل أن يستوفى. "غَيْرَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالشِّرْكِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالإِقَالَةِ"؛ يقيل البيع "فِي الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ"؛ غير الطعام من باب أولى.

"قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ أَنْزَلُوهُ عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ"، أنزلوه بمنزلة المعروف والإرفاق والإحسان، "وَلَمْ يُنْزِلُوهُ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ"؛ على وجه تحصيل المنافع بالمقايسة، وإنما هو إرفاق وإحسان. 

يقول: "وَذَلِكَ مِثْلُ الرَّجُلِ يُسَلِّفُ الدَّرَاهِمَ النُّقَّصَ"؛ الناقصة، "الدَّرَاهِمَ النُّقَّصَ". وإذا رجل مثلًا زيد أعطى عَمر دراهم ناقصة ديْن، "فَيُقْضَى دَرَاهِمَ وَازِنَةً"؛ يعني: يقضي عَمرو زيدًا في أداء دينه دراهم وازنة؛ أي كاملة الوزن، وتلك ناقصة "فِيهَا فَضْلٌ"؛ يعني: زيادة، "فَيَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ" الفضل؛ لأنه حُسن قضاء وليس رِبًا مُحرَّم، لم يشترط، ولم يلزمه بذلك ولكن أحسن الأداء وأحسن القضاء، و "خيركم أحسنكم قضاءً". 

قال: "وَيَجُوزُ، وَلَوِ اشْتَرَى مِنْهُ دَرَاهِمَ نُقَّصاً بِوَازِنَةٍ"؛ يعني: بعوض دراهم كاملة، "لَمْ يَحِلَّ ذَلِكَ"، لماذا؟ لأن هذا بيع، والبيع لا بُد فيه إذا كان بيع نقد بنقد لا بُد فيه من المُماثلة، الآن المماثلة ما حصلت، أما ذاك استدان وأخذ سلف، بعد ذلك قضى بدراهم كاملة أحسن من الدراهم الناقصة، فهذا من حُسن القضاء وليس من البيع. قال: "وَلَوِ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ حِينَ أَسْلَفَهُ وَازِنَةً، وَإِنَّمَا أَعْطَاهُ نُقَّصاً لَمْ يَحِلَّ لَهُ ذَلِكَ".

"قَالَ مَالِكٌ: وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ"، كما تقدَّم معنا وهذا مُجمَع عليه، "وَأَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ، وَإِنَّمَا فُرِّقَ بَيْنَ ذَلِكَ أَنَّ بَيْعَ الْمُزَابَنَةِ بَيْعٌ عَلَى وَجْهِ الْمُكَايَسَةِ وَالتِّجَارَةِ"؛ يعني: المُغالبة، وطلب كل منهم تحصيل غرضٍ له بواسطة الآخر، "وَأَنَّ بَيْعَ الْعَرَايَا عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ" والإحسان،  "لاَ مُكَايَسَةَ فِيهِ" ولا مغالبة.

"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِيَ رَجُلٌ طَعَاماً بِرُبُعٍ" درهم "أَوْ بِثُلُثٍ" درهم "أَوْ بِكسْرٍ مِنْ دِرْهَمٍ، عَلَى أَنْ يُعْطَى بِذَلِكَ طَعَاماً إِلَى أَجَلٍ"؛ أي: بعد شهر؛ لأنه بيع الطعام بالطعام بنسيئة، "وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَبْتَاعَ الرَّجُلُ طَعَاماً بِكِسْرٍ مِنْ دِرْهَمٍ" -ربع، نصف، ثلث- "إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ" إذا جاء الأجل "يُعْطي دِرْهَماً" كاملًا، "وَيَأْخُذُ بِمَا بَقِىَ لَهُ"؛ يقول: باقي ثلث درهم، باقي نصف درهم، باقي ثلثين درهم وأنا إنما اشتريت منك بالثلث، وهذا درهم كامل، يعطيه ويأخذ منه سلعة أخرى من السلع؛ لأنه أعطى الكسرة الذي عليه فضة وأخذ ببقيته سلعة، فهذا لا بأس به. 

إذًا؛ لا يجوز لأحد أن يشتري طعام بكسرة من درهم "عَلَى أَنْ يُعْطَى بِذَلِكَ طَعَاماً إِلَى أَجَلٍ"؛ لأنه يدخله بيع الطعام بالطعام إلى أجل؛ وهو غير جائز. ويجوز أن يشتري منه بكسرة درهم طعامًا، ويدفع إليه درهم كامل، ولا يدخل ذلك بيع وسلف، لأنه ما تعاقد عليه إنما لمّا جاء يقضي، قال: عاد باقي هذا بشتري به كذا وكذا؛ فلا يضر ذلك.

"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ"؛ يعني: المشتري "عِنْدَ الرَّجُلِ دِرْهَماً، ثُمَّ يَأْخُذُ" المشتري "مِنْهُ بِرُبُعٍ أَوْ بِثُلُثٍ" درهم بنصف درهم "أَوْ بِكِسْرٍ مَعْلُومٍ سِلْعَةً مَعْلُومَةً، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ" الذي عيّنه من السلعة "سِعْرٌ مَعْلُومٌ"، فقط وضع الدرهم عنده "وَقَالَ الرَّجُلُ:"؛ يعني: واضع الدرهم "آخُذُ مِنْكَ بِسِعْرِ كُلِّ يَوْمٍ"؛ أي: على السعر الذي يكون للسلعة في السوق يوم الأخذ، قال: "فَهَذَا لاَ يَحِلُّ"؛ لا يجوز، "لأَنَّهُ غَرَرٌ، يَقِلُّ مَرَّةً وَيَكْثُرُ مَرَّةً، وَلَمْ يَفْتَرِقَا عَلَى بَيْعٍ مَعْلُومٍ"؛ بسعر متعيِّن. فالرجل يجوز له أن يضع عند الرجل درهم، ويأخذ منه لبعضه ما شاء، ويترك عنده الباقي أمانة؛ فيكون ذلك يضع عنده ويهمله، أو يقول له: أخذ منك كذا وكذا من التمر، أو كذا وكذا من اللبن وغير ذلك، ويترك ذلك حالًا، يقول: خلّه، أخذه متى ما شئت. فإذا اشترى في نفس الوقت، وقال: اتركه عندك، وكل ما احتجت سآخذ منك، فهذا قد تم البيع، إنما صار هذا طعام وديعة الآن، صار طعام وديعة عند البائع؛ فلا إشكال في ذلك.

"قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ بَاعَ طَعَاماً جِزَافاً"، بالتخمين "وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ شَيْئاً، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ شَيْئاً"؛ يعني: بدا للبائع  أن يشتري من الطعام الذي باعه هذا شيء، "فَإِنَّهُ لاَ يَصْلُحُ" ولا يجوز "لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ شَيْئاً، إِلاَّ مَا كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنَهُ"، وهذا الذي تقدَّم معنا أنه إذا باع صُبرة من الطعام مثلًا. 

فيقول الإمام مالك: "يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنَهُ، وَذَلِكَ الثُّلُثُ فَمَا دُونَهُ"، ويترك ثلثي هذه الصُّبرة أو ثلاث أرباعها.

 ولكن عند غيره: ما يمكن، إما يبيع الصُّبرة كاملة أو لا؛ لأنه لا يدرى كم نصفها؟ وكم ربعها؟ لكن الصُبرة كاملة لو شافها بعينه يجوز. 

لكن عند مالك إلى الثلث يجوز الاستثناء. فعنده كذلك إذا أراد أن يشتري من الذي باعه هذا جزافًا أن كان الثلث فما دونه يجوز. الذي يجوز يُستثنى؛ يجوز يشتري. وإلا ما يشتري منه شيء أكثر من ذلك. "وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهُ إِلاَّ الثُّلُثَ"، وما دونه "وَهَذَا الأَمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا"؛ يعني: بالمدينة المُنوَّرة. فإذا باع طعام جزاف ثم أراد أن يشتري منه؛ لا يجوز له أن يشتري منه إلا بمقدار ما يستثني في البيع؛ وهذا مقدار الثلث في مذهب الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- فعندهم يجوز بيع الصُّبرة والثمرة جزاف واستثنى مقدار الثلث فأقل، والله أعلم.

رزقنا الله تعظيم الشَّريعة والعمل بها على الوجه المرضي له متحصنين بحصونه المنيعة، ووقانا الله الأسواء والأدواء وكل خارجٍ عن سُنَّة حبيبه سيِّد أهل التقوى، وبارك لنا ولكم في ليلة النصف من شعبان وللأُمة، وبارك لنا في بقية شعبان وبلّغنا رمضان، وجعلنا عنده من خواصّ أهل صيامه وأهل قيامه وأهل تلاوة القرآن في لطفٍ وعافية، وأصلح شؤوننا والأُمة الظاهرة والخافية بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

23 شَعبان 1443

تاريخ النشر الميلادي

26 مارس 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام