شرح الموطأ - 340 - كتاب البيوع: باب ما يُكْرَه مِن بَيْعِ الطَّعَام إلى أَجَل

شرح الموطأ - 340 - كتاب البيوع: باب مَا يُكْرَهُ مِنْ بَيْعِ الطَّعَامِ إِلَى أَجَلٍ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، باب مَا يُكْرَهُ مِنْ بَيْعِ الطَّعَامِ إِلَى أَجَل.

فجر الإثنين 4 شعبان 1443هـ.

باب مَا يُكْرَهُ مِنْ بَيْعِ الطَّعَامِ إِلَى أَجَلٍ

1877- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، يَنْهَيَانِ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ حِنْطَةً بِذَهَبٍ إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ بِالذَّهَبِ تَمْراً قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الذَّهَبَ.

1878- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ فَرْقَدٍ، أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنِ الرَّجُلِ يَبِيعُ الطَّعَامَ مِنَ الرَّجُلِ بِذَهَبٍ إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ يَشْتَرِي بِالذَّهَبِ تَمْراً قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الذَّهَبَ، فَكَرِهَ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ.

1879- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ.

1880- قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا نَهَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَابْنُ شِهَابٍ عَنْ أَنْ لاَ يَبِيعَ الرَّجُلُ حِنْطَةً بِذَهَبٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ بِالذَّهَبِ تَمْراً، قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الذَّهَبَ مِنْ بَيْعِهِ الَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ الْحِنْطَةَ، فَأَمَّا أَنْ يَشْتَرِيَ بِالذَّهَبِ، الَّتِي بَاعَ بِهَا الْحِنْطَةَ إِلَى أَجَلٍ تَمْراً مِنْ غَيْرِ بَائِعِهِ، الَّذِي بَاعَ مِنْهُ الْحِنْطَةَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الذَّهَبَ، وَيُحِيلَ الَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ التَّمْرَ عَلَى غَرِيمِهِ الَّذِي بَاعَ مِنْهُ الْحِنْطَةَ بِالذَّهَبِ، الَّتِي لَهُ عَلَيْهِ فِي ثَمَنِ التَّمْرِ، فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ. قَالَ مَالِكٌ: وَقَدْ سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَلَمْ، يَرَوْا بِهِ بَأْساً.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرِمِنا بدينه وبيان أحكامه على لسان عبده وحبيبه سيِّدنا مُحمَّد، سيِّد كل مقبِلٍ على الحق وإمامه، اللَّهم صلّ وسلِّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه وأهل ولائه من كل مُحسن لإتمامه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك وآلهم وصحبهم وتابعيهم وملائكتك المُقرّبين وعبادك الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين. 

ويتحدّث الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- عن ما يتعلّق ببيع الثمن، وترجم بقوله: "مَا يُكْرَهُ مِنْ بَيْعِ الطَّعَامِ إِلَى أَجَلٍ". وغرض الترجمة بيان الصور التي يُكره فيها بيع الطعام النسيئة التي تتصل بشيء من الربا أو يتم فيها بيع الثمن قبل قبضه، على خلافٍ واسع في هذه المسألة بين الأئمة الأربعة وأهل العلم فقه الشَّريعة -رضي الله تعالى عنهم-. 

فأورد حديث: "سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، يَنْهَيَانِ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ حِنْطَةً"؛ أي: بُرًا "بِذَهَبٍ إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ بِالذَّهَبِ تَمْراً قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الذَّهَبَ". ففيه بيع الثمن أو التّصرُّف في الثمن قبل قبضه. والثمن:

  • إما أن يكون معيّنًا. 

  • أو يكون في ذمة المُشتري الذي اشترى؛ فيكون الثمن في ذمته. 

فإذًا، هل للبائع أن يتصرف في الثمن قبل أن يقبض الثمن من المُشتري؟ 

  • قال الحنفية: ذلك صحيح مطلقًا، ويجوز له أن يتصرف بالثمن الذي ثبت له ببيعه تلك البضاعة، بأن يشتري من أحد شيئًا ويحوله على الدراهم التي له عند ذلك المُشتري منه أو يشتري بها شيئًا من البضائع الأخرى إلى غير ذلك. 

  • وقالوا: تارة يكون الثمن حاضرًا، كما إذا اشترى فرسًا مثلًا بهذا المكيل إردب ونحوه من الحنطة، بهذه الحنطة أو بهذه الدراهم. 

  • قالوا: فيجوز التصرّف فيه قبل أن يقبض تلك الدراهم وهي مُعيّنة بهذه الدراهم، باع بهذه الدراهم. فهذا البائع قبل أن يقبض الثمن -هذه الدراهم- أو هذا القفيز أو الإردب من الحنطة، يجوز له التصرف فيه قبل قبضه سواءً بهبة وغيرها من المشتري وغيره، هكذا يقول الحنفية. 

  • ويقولوا: وأحيانًا يكون الديْن أو الثمن في الذمة ليس بمعيّن، يشتري بإردب من الحنطة، يشتري بعشرة دراهم، بمئة درهم غير معينة، فتكون في ذمّته. 

فهذا أيضًا عندهم يجوز التصرُّف فيه بتمليكه من المُشتري فقط؛ لأنه تميلك الديْن، ولا يصح إلا ممَن هو عليه، هكذا يقول الحنفية.

  • ويقول الشَّافعية: 

    • لا يجوز التصرف في الثمن قبل قبضه. الثمن المعين قبل قبضه.

    •  أما الثمن الذي في الذمة؛ فيجوز التَّصرُّف فيه قبل قبضه. 

  • وكذلك عند المالكية يقولون: 

○ إذا كان الثمن طعامًا لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه. 

○ وإذا كان غير الطعام؛ جاز أن يتصرف فيه البائع قبل أن يقبضه من المشتري وهكذا. 

  • ويقول الحنابلة: 

○ إذا كان الثمن معيَّن ليس في الذمة، فإن كان التعاقد عليه بكيل أو وزن أو ذرعٍ أو عدٍّ؛ فلا يجوز عندهم التَّصرُّف فيه قبل أن يقبض. 

○ وأما الذي في الذمة؛ فلا يجوز عند الحنابلة أن يتصرّف فيه قبل قبضه لغير من هو عليه وهو المُشتري. إذا أراد أن يستعوضه بثمن آخر منه أو يأخذ به بمقابلة الثمن الذي عليه شيئًا من البضائع التي عند المُشتري، فيأخذها البائع مقابل الثمن الذي هو في ذمّته. 

يقول: "عَنْ كَثِيرِ بْنِ فَرْقَدٍ، أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنِ الرَّجُلِ يَبِيعُ الطَّعَامَ مِنَ الرَّجُلِ بِذَهَبٍ إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ يَشْتَرِي بِالذَّهَبِ تَمْراً قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الذَّهَبَ، فَكَرِهَ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ"؛ يعني: أبو بكر المذكور؛ يعني منعه. 

وقال مالك "عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ" الزُّهري أنه كره ذلك ومنعه. 

"قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا نَهَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَابْنُ شِهَابٍ عَنْ أَنْ لاَ يَبِيعَ الرَّجُلُ حِنْطَةً بِذَهَبٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ"؛ يعني البائع "بِالذَّهَبِ" الذي على المُشتري "تَمْراً، قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الذَّهَبَ مِنْ بَيْعِهِ الَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ الْحِنْطَةَ، فَأَمَّا أَنْ يَشْتَرِيَ" -البائع- "بِالذَّهَبِ"، الذي له في ذمة المُشتري، يشتري بالذهب "الَّتِي بَاعَ بِهَا الْحِنْطَةَ إِلَى أَجَلٍ تَمْراً مِنْ غَيْرِ بَائِعِهِ، الَّذِي بَاعَ مِنْهُ الْحِنْطَةَ" بالذهب "قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الذَّهَبَ، وَيُحِيلَ" المُشتري منه على المُشتريَ الأول الذي في ذمّته له الثمن، ويُحيل "الَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ التَّمْرَ عَلَى غَرِيمِهِ الَّذِي بَاعَ مِنْهُ الْحِنْطَةَ بِالذَّهَبِ، الَّتِي لَهُ عَلَيْهِ فِي ثَمَنِ التَّمْرِ"، قال: "فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ" البيع. فإنه حوالة لمستحق على مَن عليه أو ثابت ذلك الثمن في ذمّته. "قَالَ مَالِكٌ: وَقَدْ سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَلَمْ، يَرَوْا بِهِ بَأْساً".

إذًا، فإنما أرادوا ما يطرأ على المسألة من خوف بيع مطعوم بمطعوم بنسيئة، فإنهم جعلوا الثمن الذي في الذِّمة هو دراهم، ولكن يريد أن يشتري به طعام، وهو قد باع طعام، فكأن الطعام الجديد الذي يشتريه هو ثمن الطعام السابق الذي باعه، فيصير باع مطعوم بمطعوم بنسيئة، وأسقطوا فيها جانب الذهب أو الفضة أو الدراهم أو الدنانير التي جُعلت ثمنًا للطعام الأول، من هذه الناحية رأى الإمام مالك منع ذلك، وعدّه إنه بيع الطعام بطعام بنسيئة، وأن هذا حيلة؛ قال له: أعطى فيه ثمن مؤجّل في ذمته، بعد ذلك. قال له: هات الطعام ومن دون أن يتقابضوا في المجلس الأول، فكأنه باع طعامًا بطعام؛ ومن هذه الناحية جاء استنكارهم لهذه البيعة. 

وسمعت تفصيل المذاهب فيها؛ في بيع الثمن قبل قبضه، وإن كان مُعيّنًا أو كان في الذمة؛ فلا يجوز تصرف البائع في الثمن قبل القبض. 

  • وعَلمْت جواز ذلك مطلقًا عند الحنفية؛ فإن كان معينًا وحاضرًا؛ جاز التصرف بأي نوع. وإن كان ديْنًا في ذمة المُشتري؛ يجوز التصرف فيه بتمليكه من المُشتري فقط. 

  • وعَلمْت أيضًا ما قال الشَّافعية: أنه لا يجوز التَّصرُّف في الثمن قبل قبضه -الثمن المُعيّن- إذا ثمن معين، قال: باعه بهذا فأراد هذا الذي هو دراهم أو بضاعة أو بيت أو غير ذلك، أراد أن يتصرف فيه قبل أن يقبضه، فيقولون: لا، لأنه باعك بمعين بخلاف الذي في الذمة؛ إذا باعك بشيء في ذمته فثبت لك؛ فيجوز التَّصرُّف فيه قبل قبضه. 

  • وعَلمْت ما قال المالكية

    • أنه إن كان طعامًا؛ فلا يجوز التصرف فيه. 

    • وإن كان غير طعام؛ جاز التصرف فيه. 

  • وربْط الحنابلة ما كان محصورًا بكيل أو وزن أو عدٍّ، جعلوا في ذلك المنع وما خرج عن هذا فأجازوا فيه التَّصرُّف.

رزقنا الله اتباع المُصطفى مُحمَّد والتَّشرُّف بالاهتداء بهديه، والاقتداء به والسير على دربه، وأحيا فينا شريعته ومنهجه وسُنّته وملّته، ودينه الذي بعثه الله به إلينا أتمّ الإحياء، ووقانا جميع الأسواء والأدواء في الأقوال والأفعال والمقاصد والنِّيات والحركات والسَّكنات، وثبّتنا أكمل الثبات على ما هو أحب وأطيب وأرغب وأرضى له ولرسوله في جميع ما نقول ونفعل وننوي ونعتقد ونأتي وندع في لطفٍ وعافية، بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

05 شَعبان 1443

تاريخ النشر الميلادي

08 مارس 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام