(364)
(535)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، باب الْعِينَةِ وَمَا يُشْبِهُهَا.
فجر الأحد 3 شعبان 1443هـ.
باب الْعِينَةِ وَمَا يُشْبِهُهَا
1869- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنِ ابْتَاعَ طَعَاماً، فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ".
1870- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنِ ابْتَاعَ طَعَاماً، فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ".
1871- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَبْتَاعُ الطَّعَامَ، فَيَبْعَثُ عَلَيْنَا مَنْ يَأْمُرُنَا بِانْتِقَالِهِ، مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي ابْتَعْنَاهُ فِيهِ، إِلَى مَكَانٍ سِوَاهُ، قَبْلَ أَنْ نَبِيعَهُ.
1872- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ ابْتَاعَ طَعَاماً، أَمَرَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلنَّاسِ، فَبَاعَ حَكِيمٌ الطَّعَامَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: لاَ تَبِعْ طَعَاماً ابْتَعْتَهُ حَتَّى تَسْتَوْفِيَهُ.
1873- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ صُكُوكاً خَرَجَتْ لِلنَّاسِ فِي زَمَانِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ مِنْ طَعَامِ الْجَارِ، فَتَبَايَعَ النَّاسُ تِلْكَ الصُّكُوكَ بَيْنَهُمْ، قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفُوهَا، فَدَخَلَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَرَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، فَقَالاَ: أَتُحِلُّ بَيْعَ الرِّبَا يَا مَرْوَانُ؟ فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ، وَمَا ذَاكَ؟ فَقَالاَ: هَذِهِ الصُّكُوكُ تَبَايَعَهَا النَّاسُ، ثُمَّ بَاعُوهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفُوهَا، فَبَعَثَ مَرْوَانُ الْحَرَسَ، يَتْبَعُونَهَا يَنْزِعُونَهَا مِنْ أَيْدِي النَّاسِ، وَيَرُدُّونَهَا إِلَى أَهْلِهَا.
1874- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ رَجُلاً أَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَ طَعَاماً مِنْ رَجُلٍ إِلَى أَجَلٍ، فَذَهَبَ بِهِ الرَّجُلُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهُ الطَّعَامَ إِلَى السُّوقِ، فَجَعَلَ يُرِيهِ الصُّبَرَ وَيَقُولُ لَهُ: مِنْ أَيِّهَا تُحِبُّ أَنْ أَبْتَاعَ لَكَ؟ فَقَالَ الْمُبْتَاعُ: أَتَبِيعُنِي مَا لَيْسَ عِنْدَكَ؟ فَأَتَيَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لِلْمُبْتَاعِ: لاَ تَبْتَعْ مِنْهُ مَا لَيْسَ عِنْدَهَ. وَقَالَ لِلْبَائِعِ: لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ.
1875- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ جَمِيلَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: إنِّي رَجُلٌ أَبْتَاعُ مِنَ الأَرْزَاقِ الَّتِي تُعْطَى النَّاسُ بِالْجَارِ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أُرِيدُ أَنْ أَبِيعَ الطَّعَامَ الْمَضْمُونَ عَلَيَّ إِلَى أَجَلٍ. فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: أَتُرِيدُ أَنْ تُوَفِّيَهُمْ مِنْ تِلْكَ الأَرْزَاقِ الَّتِي ابْتَعْتَ؟ فَقَالَ : نَعَمْ. فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ.
1876- قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ، أَنَّهُ مَنِ اشْتَرَى طَعَاماً بُرًّا، أَوْ شَعِيراً، أَو سُلْتاً، أَو ذُرَةً، أَو دُخْناً، أَوْ شَيْئاً مِنَ الْحُبُوبِ الْقِطْنِيَّةِ، أَوْ شَيْئاً مِمَّا يُشْبِهُ الْقِطْنِيَّةَ، مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، أَوْ شَيْئاً مِنَ الأُدْمِ كُلِّهَا، الزَّيْتِ، وَالسَّمْنِ، وَالْعَسَلِ، وَالْخَلِّ، وَالْجُبْنِ، وَالشَّبْرَقِ، وَاللَّبَنِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأُدْمِ، فَإِنَّ الْمُبْتَاعَ، لاَ يَبِيعُ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَقْبِضَهُ وَيَسْتَوْفِيَهُ.
الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته وبيانها على لسان عبده وخيرته، سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأهل ولائه ومتابعته والاقتداء به، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المُقربين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
ويذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله- في هذا الباب: باب بيع العِينة، وكذلك أن يبيع ما ملك قبل أن يقبض، فأورد لنا في ذلك الأحاديث والآثار. ويأتي في مسألة باب بيع العِينة؛ أنها بيع العين بثمن زايد نسيئةً؛ أجل؛ يبيعه شيء من البضاعات بثمن مرتفع معيّن إلى أجل، فيقبض البضاعة. فإذا قبض البضاعة وثمنها ديْن في ذمته، اشتراها منه البائع بثمن أقل، فيبيعه إياه مثلًا بستمائة، فيقبضها والستمائة في ذمته، فيقول: بعها عليّ بخمسمائة. يقول: بعتك إياها بخمسمائة، فيُسلّمه خمسمائة ثم يبقى الثمن الأول في ذمة المشتري الأول، ستمائة يسلمها. فهذه فيها حيلة، فكأنه أقرضه خمسمائة ليسلمه ستمائة. بهذا المنظار:
نظر إليها الأئمة الثلاثة فقالوا: إنها حرام ولا تجوز.
ونظر الإمام الشَّافعي إلى أن هذه النية بينهم وبين الله ويحاسبهم عليها، ولنا في الحكم حكم الظاهر. قال: بعتك بستمائة. قال: قبلت، فدخلت مُلكه. قال: بعتك بخمسمائة. قال: قبلت. فاجتمعت الأركان والشروط الخاصة بالبيع ولكن هذا يكرهه الإمام الشَّافعي لكن لا يحكم ببطلانه لأنه راجع إلى نية بين هؤلاء وربهم سبحانه وتعالى.
وقال الأئمة الثلاثة: بل هو باطل، بيعٌ لا يجوز ولا يصح.
"باب الْعِينَةِ"،
أن يبيع شيئًا من غيره بثمن مؤجّل، ويسلّمه المشتري ثم يشتريه بائعه قبل قبض الثمن بثمنٍ نقد أقل من ذلك القدر.
يقول المالكية: بيع من طُلبت منه سلعة قبل ملكه إياها لطالبها بعد أن يشتريها.
فإذًا ترجع إلى أنها قرض في صورة بيع لاستحلال الفضل والزيادة. فبذلك نظر الأئمة الثلاثة إلى أنها بهذه الصورة حيلة ربا، ولا تجوز، ولا تصح؛ والبيع فيها باطل.
فإذا باع السلعة بثمن إلى أجل معلوم ثم اشتراها نفسها بثمن أقل، نهاية الأجل يدفع المشتري الثمن الأول، وهناك فرق بين الثمنين هو فضل ربا، يرجع إلى البائع الأول وهكذا.
إذًا فهذه الصورة:
قال أبو حنيفة ومالك والإمام أحمد: لا يجوز هذا البيع.
حتى قال محمد بن الحسن: هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال، اخترعه أَكَلة الربا وهكذا.
وعَلِمْنا ما نُقِل عن الشَّافعي من كراهته لذلك، وحكمه في صحة البيع على ظاهر الأمر، وإنما يؤاخذون فيما بينهم وبين الله، جلّ جلاله.
وجاء عن العالية أنها قالت: دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم على عائشة، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلامًا من زيد بثمانمائة درهم إلى العطاء؛ -أي: وقت يأتي العطاء اقضيه- ثم اشتريته منه بستمائة درهم نقدًا. فقالت لها سيِّدتنا عائشة: بئس ما اشتريتِ، وبئس ما شَريتِ، أبلغي زيدًا أن جهاده معه ﷺ بطل إلا أن يتوب! قالوا: وهذا قول ما يمكن أن تقوله إلا بتوقيف. ما يمكن أن تقوله برأيها ولا باجتهادها السيِّدة عائشة -عليها رضوان الله تبارك وتعالى- وهكذا. وفي الحديث أيضًا: "إذا - يعني ضنّ الناس بالدينار والدرهم - تبايعوا بالعين، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاءً، فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم".
وهكذا حاصلة وواقعة في الأمة أنواع من البلايا، لن ترتفع إلا بالرجوع إلى الدين؛ مراجعة الدين لأنهم رضوا بأنواع من صور الربا في هذه البنوك وغيرها، وأنواع من صور البيع الفاسد رضوا بها وانتشرت بينهم انتشار النار في الهشيم، فكأنهم لم يبالوا بها والبلاء حلّ بهم! وفي الحديث يقول: لا يرفعه عنهم -سبحانه وتعالى- حتى يراجعوا دينهم؛ ارجعوا إلى حكم الله وتنفيذ أمره؛ يرفع البلاء عنهم -جلّ جلاله-، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)، ولكن استبدلوا بركات الله التي يفتحها بتمنيات أعداءه لهم أن هذا فيه مصلحتهم وفيه ربح لهم وفيه وفيه… كذبوا عليهم، والحق يفتح البركات لمن آمن واتقى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96].
وأورد لنا حديث "عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنِ ابْتَاعَ"؛ يعني: اشترى "طَعَاماً، فَلاَ يَبِعْهُ" على أحد آخر "حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ"؛ يعني: يقبضه.
وهكذا ألحق الإمام مالك بقية عقود المعاوضة مثل أخذ مهر أو صُلح؛ لا يجوز بيعه قبل قبضه.
وهكذا جماهير أهل العلم قالوا: لا يجوز أن يُباع المبيع قبل أن يقبضه المشتري، فيبيعه على الغير، فذلك لا يجوز؛ بيع المبيع قبل قبضه ولكن بعد أن يقبض المبيع ويحوزه إلى نفسه يجوز له بعد ذلك أن يبيعه.
إذًا بيع ما لم يُقبض "مَنِ ابْتَاعَ طَعَاماً، فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ"، في لفظ: "حتى يكتاله"، في لفظ: "حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ"، هكذا جاءت روايات الحديث، إذا اشتريت طعامًا بيعًا فلا تبِعه حتى تقبضه.
وهكذا قال الشَّافعية، وفي القول الأول لأبي يوسف ومحمد من الحنفية أيضًا وراوية عن الإمام أحمد؛ لا يصح بيع المبيع قبل قبضه سواءً كان منقولًا أو عقارًا وإن أذن البائع وقبض الثمن لأنه قال سيِّدنا حكيم بن حزام للنبي ﷺ: يا رسول الله إني أشتري بيوعًا فما يحل لي منها وما يحرم عليّ؟ قال له ﷺ: "إذا اشتريت بيعًا فلا تبعه حتى تقبضه". وهكذا جاء عنه ﷺ قال: "لا يحلُّ سلفٌ وبيعٌ، ولا شرطانِ في بيعٍ، ولا ربحُ ما لم يضمن، ولا بيعُ ما ليسَ عندَك"؛ تبيع شيء معين يكون في محل آخر في ملك الغير، فتشتريه أنت، وبعد ذلك تعيده إليه لهذا المشتري، بل اشتر أولًا واقبض ثم بع وهكذا.
فأما إذا كان المُشترى طعامًا؛ فبالاتفاق أنه لا يصح بيعه حتى يُقبضه المشتري.
وغير ذلك يقول الحنفية: لا يصح بيع المنقول قبل قبضه. الأشياء التي تُنقل، البيع قبل قبضه؛ ولأن في البيع أيضًا قبل القبض؛ غرر انفساخ العقد.
وأجاز الصاحبان لأبي حنيفة بيع العقار قبل قبضه.
ولم يفرِّق الشَّافعية بين الطعام وغيره، وبين الأرض وسواها؛ فلا يصح بيع مبيع حتى يقبضه المشتري أولًا ثم يبيعه.
وخصّص المالكية في حرمة البيع قبل القبض للطعام، فقالوا: بيع الطعام دون غيره من بقية الأشياء.
قال الحنفية: كل المنقولات؛ ما يُنقل بخلاف بيت أو أرض ما تُنقل. فالمنقولات لا بُد فيها من القبض قبل البيع.
ولم يفرّق الشَّافعية بين شيء من ذلك. قالوا: لا يجوز في أي الصور أن يبيع قبل القبض.
والحديث أيضًا الآخر أورده عن ابن عُمَر، "مَنِ ابْتَاعَ طَعَاماً، فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ". الحديث أخرجه الإمام مُسلم أيضًا في صحيحه. وعَلِمنا اتفاقهم على أن الطعام لا يجوز أن يُباع حتى يُقبض بالاتفاق، واختلفوا في غير الطعام بين منقول وغير منقول. وأما الأئمة الشَّافعية الحكم للجميع. وقالوا: لا يصح أي شيء أن يبيعه مشتريه حتى يقبضه أولًا -سواءً كان طعام أو غيره منقول أو غيره-.
وأورد لنا حديث "عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَبْتَاعُ الطَّعَامَ"؛ يعني: نشتريه "فَيَبْعَثُ عَلَيْنَا مَنْ يَأْمُرُنَا بِانْتِقَالِهِ، مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي ابْتَعْنَاهُ فِيهِ، إِلَى مَكَانٍ سِوَاهُ، قَبْلَ أَنْ نَبِيعَهُ". أيضًا أخرجه الإمام مُسلم في صحيحه.
ففيه أولًا القبض قبل أن يبيع.
ثانيًا بأن ينقله من محله الذي اشتراه منه إلى محل آخر تحت يده وهكذا.
وجاءنا عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قال: "رأيت النَّاس على عهد رسول الله ﷺ إذا ابتاعوا"؛ يعني: إذا اشتروا "الطعام جزافًا يضربون في أن يبيعوه في مكانهم وذلك حتى يؤووه إلى رحالهم". فإذًا يجوز بيع الصُّبرة؛ يعني: الرُّكمة من الطعام؛ يبيعه هذه ويشاهدها بعينه، يقول: بكذا كذا. قال الشَّافعي وأصحابه: هذا جائز.
وذكر لنا: "أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ ابْتَاعَ طَعَاماً، أَمَرَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلنَّاسِ، فَبَاعَ حَكِيمٌ الطَّعَامَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: لاَ تَبِعْ طَعَاماً ابْتَعْتَهُ"؛ اشتريته "حَتَّى تَسْتَوْفِيَهُ"؛ يعني: تقبضه وتحوزه إلى ملكك وتحت تصرفك ثم إذا أردت أن تبيعه بعد ذلك فبِع.
"وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ صُكُوكاً" جمع صك؛ الورقة المكتوبة بديْن "خَرَجَتْ لِلنَّاسِ"؛ يعني: مستحقي الأرزاق "فِي زَمَانِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ مِنْ طَعَامِ الْجَارِ"، هذا موضع بساحل البحر، كان يُجمع فيه الطعام ثم يُفرَّق على النَّاس بالصكاك، هذا المحل بينه وبين المدينة مسافة يوم، يسمونه: الجار. "فَتَبَايَعَ النَّاسُ تِلْكَ الصُّكُوكَ بَيْنَهُمْ"؛ يعني: تبايعوا الأرزاق المكتوبة فيها معه صك بكذا كذا، يبيعه على واحد، كانوا الأمراء يكتبون للناس بأرزاقهم وعطياتهم كتب، وصاروا يبيعون ما فيها قبل أن يقبضوه ويعطونهم مثل الصك ليأخذ هو الذي حُوّل لهم فيأخذه المشتري منهم، يبيعون عليهم بأوصاف، "قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفُوهَا، فَدَخَلَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ"، -رضي الله عنه- الصحابي الجليل، "وَرَجُلٌ" آخر "مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ"، والرجل الآخر لعله أبو هريرة أو رافع بن خديج، دخلوا مع سيِّدنا زيد بن ثابت، "فَقَالاَ" للأمير: "أَتُحِلُّ بَيْعَ الرِّبَا يَا مَرْوَانُ؟" في لفظ لمُسلم قال: "أحللت بيع الربا؟" أغلظا عليه في القول، ليزجراه عن أن يستمر في مثل هذا. "فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ"، من أن أُحل الربا! أنا أحللت الربا؟ "وَمَا ذَاكَ؟ فَقَالاَ: هَذِهِ الصُّكُوكُ" التي أخرجتها للناس "تَبَايَعَهَا النَّاسُ، ثُمَّ بَاعُوهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفُوهَا"، ما قبضوا شيء وأخذوا الصكوك هذا يبيع صك على هذا، وهذا يبيع صك على الثاني.. يتبايعون فيها، "فَبَعَثَ مَرْوَانُ الْحَرَسَ"، من الجند "يَتْبَعُونَهَا"؛ يعني: يطلبونها "يَنْزِعُونَهَا مِنْ أَيْدِي النَّاسِ، وَيَرُدُّونَهَا إِلَى أَهْلِهَا" الذين أُخرجت لهم. يقول: اذهبوا احملوا طعامكم أنتم بنفسكم، تبيعوا بعد ذلك بيعوا، لا يمكن أن تبيعوا الصك.
وذكر لنا: "أَنَّ رَجُلاً أَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَ طَعَاماً مِنْ رَجُلٍ" آخر "إِلَى أَجَلٍ" نسيئة، "فَذَهَبَ بِهِ"؛ يعني: المشتري "الرَّجُلُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهُ الطَّعَامَ إِلَى السُّوقِ، فَجَعَلَ يُرِيهِ الصُّبَرَ" الرُّكم المجموعة في السوق "وَيَقُولُ لَهُ: مِنْ أَيِّهَا تُحِبُّ أَنْ أَبْتَاعَ لَكَ؟" أشتري لك من ذا ولا من ذا ولا من ذا؟ "فَقَالَ الْمُبْتَاعُ: أَتَبِيعُنِي مَا لَيْسَ عِنْدَكَ؟" تبيعني شيء ليس في ملكك؟ حتى لو بتشتريه وتبيعه عليّ! "فَأَتَيَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لِلْمُبْتَاعِ"؛ يعني: المشتري "لاَ تَبْتَعْ"؛ يعني لا تشتري "مِنْهُ مَا لَيْسَ عِنْدَهَ"؛ ما ليس في ملكه. "وَقَالَ لِلْبَائِعِ: لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ". فلا يجوز أن يبيع عينًا لا يملكها. من أجل أن يشتريها، وبعد ذلك يسلمها للذي اشتراها منه، املكها أول ثم بع… هكذا.
وتقدَّم معنا في حديث سيدنا حكيم بن حزام يوم قال للنبي: أنه رجل يأتيني فيلتمس مني بيع ما ليس عندي، فأمضي إلى السوق فأشتري ثم أبيعه منه. فقال له النبي ﷺ: "لا تبع ما ليس عندك". أخرجه التِّرمذي والنَّسائي وابن ماجة. "لا تبع ما ليس عندك"؛ أي ما ليس في ملكك، ولم تقبضه بعد في يدك.
ويقول: "عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ جَمِيلَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: إنِّي رَجُلٌ أَبْتَاعُ مِنَ الأَرْزَاقِ الَّتِي تُعْطَى النَّاسُ بِالْجَارِ"، هذا الموقع المعروف الذي بينه وبين المدينة يوم، "مَا شَاءَ اللَّهُ"، إذًا يبتاعها من أربابها الذين خرجت لهم الصكوك بها، "ثُمَّ أُرِيدُ أَنْ أَبِيعَ الطَّعَامَ" الذي اشتريته من الأرزاق "الْمَضْمُونَ عَلَيَّ إِلَى أَجَلٍ. فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: أَتُرِيدُ أَنْ تُوَفِّيَهُمْ مِنْ تِلْكَ الأَرْزَاقِ الَّتِي ابْتَعْتَ" في الجار "فَقَالَ: نَعَمْ. فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ". وقال: اذهب أولًا واقبض ما لك من الطعام ثم بِع، ولا يصح بيع الصكوك هذه.
"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ، أَنَّهُ مَنِ اشْتَرَى طَعَاماً بُرًّا، أَوْ شَعِيراً، أَو سُلْتاً، أَو ذُرَةً، أَو دُخْناً، أَوْ شَيْئاً مِنَ الْحُبُوبِ الْقِطْنِيَّةِ، أَوْ شَيْئاً مِمَّا يُشْبِهُ الْقِطْنِيَّةَ"، القطنية هذه هي: الحمص، والفول، واللوبيا، والعدس، والترمس، والجلبان -جلبّان-، والبسيلة، يقولون لها قِطنية. "أَوْ شَيْئاً مِمَّا يُشْبِهُ الْقِطْنِيَّةَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، أَوْ شَيْئاً مِنَ الأُدْمِ" -جمع إدام- "كُلِّهَا"؛ يعني: جميع أنواع الأدُم "الزَّيْتِ، وَالسَّمْنِ، وَالْعَسَلِ، وَالْخَلِّ، وَالْجُبْنِ، وَالشَّبْرَقِ"؛ دهن السمسم هذا يقال له شيرق وسيرج أيضًا وما أشبه ذلك. "وَاللَّبَنِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأُدْمِ، فَإِنَّ الْمُبْتَاعَ، لاَ يَبِيعُ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى يَقْبِضَهُ وَيَسْتَوْفِيَهُ". والله أعلم.
رزقنا الله الاستقامة على المنهاج، والرُّقي بأعلى معراج، والحفظ من الآفات والعاهات، وبلوغ الأمنيات في عوافي كاملات، وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.
05 شَعبان 1443