شرح المُوطَّأ - 338 - كتاب البيوع: باب المُرَاطَلَة

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، باب الْمُرَاطَلَةِ.
فجر السبت 2 شعبان 1443هـ.
باب الْمُرَاطَلَةِ
1864- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، أَنَّهُ رَأَى سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يُرَاطِلُ الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، فَيُفْرِغُ ذَهَبَهُ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ، وَيُفْرِغُ صَاحِبُهُ الَّذِي يُرَاطِلُهُ ذَهَبَهُ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ الأُخْرَى، فَإِذَا اعْتَدَلَ لِسَانُ الْمِيزَانِ أَخَذَ وَأَعْطَى.
1865- قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ بِالْوَرِقِ مُرَاطَلَةً، أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ، أَنْ يَأْخُذَ أَحَدَ عَشَرَ دِينَاراً بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، يَداً بِيَدٍ إِذَا كَانَ وَزْنُ الذَّهَبَيْنِ سَوَاءً، عَيْناً بِعَيْنٍ، وَإِنْ تَفَاضَلَ الْعَدَدُ وَالدَّرَاهِمُ أَيْضاً فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّنَانِيرِ.
1866- قَالَ مَالِكٌ: مَنْ رَاطَلَ ذَهَباً بِذَهَبٍ، أَوْ وَرِقاً بِوَرِقٍ، فَكَانَ بَيْنَ الذَّهَبَيْنِ فَضْلُ مِثْقَالٍ، فَأَعْطَى صَاحِبَهُ قِيمَتَهُ مِنَ الْوَرِقِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، فَلاَ يَأْخُذُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَبِيحٌ وَذَرِيعَةٌ إِلَى الرِّبَا، لأَنَّهُ إِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمِثْقَالَ بِقِيمَتِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ عَلَى حِدَتِهِ جَازَ لَهُ، أَنْ يَأْخُذَ الْمِثْقَالَ بِقِيمَتِهِ مِرَاراً، لأَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ الْبَيْعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَلَوْ أَنَّهُ بَاعَهُ ذَلِكَ الْمِثْقَالَ مُفْرَداً، لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، لَمْ يَأْخُذْهُ بِعُشْرِ الثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ بِهِ، لأَنْ يُجَوِّزَ لَهُ الْبَيْعَ، فَذَلِكَ الذَّرِيعَةُ إِلَى إِحْلاَلِ الْحَرَامِ وَالأَمْرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ.
1867- قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُرَاطِلُ الرَّجُلَ وَيُعْطِيهِ الذَّهَبَ الْعُتُقَ الْجِيَادَ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا تِبْراً ذَهَباً غَيْرَ جَيِّدَةٍ، وَيَأْخُذُ مِنْ صَاحِبِهِ ذَهَباً كُوفِيَّةً مُقَطَّعَةً، وَتِلْكَ الْكُوفِيَّةُ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ النَّاسِ، فَيَتَبَايَعَانِ ذَلِكَ مِثْلاً بِمِثْلٍ: إِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ.
قَالَ مَالِكٌ: وَتَفْسِيرُ مَا كُرِهَ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّ صَاحِبَ الذَّهَبِ الْجِيَادِ، أَخَذَ فَضْلَ عُيُونِ ذَهَبِهِ فِي التِّبْرِ، الَّذِي طَرَحَ مَعَ ذَهَبِهِ، وَلَوْلاَ فَضْلُ ذَهَبِهِ عَلَى ذَهَبِ صَاحِبِهِ، لَمْ يُرَاطِلْهُ صَاحِبُهُ بِتِبْرِهِ ذَلِكَ، إِلَى ذَهَبِهِ الْكُوفِيَّةِ فَامْتَنَعَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَ ثَلاَثَةَ أَصْوُعٍ مِنْ تَمْرٍ عَجْوَةٍ، بِصَاعَيْنِ وَمُدٍّ مِنْ تَمْرٍ كَبِيسٍ، فَقِيلَ لَهُ: هَذَا لاَ يَصْلُحُ. فَجَعَلَ صَاعَيْنِ مِنْ كَبِيسٍ، وَصَاعاً مِنْ حَشَفٍ، يُرِيدُ أَنْ يُجِيزَ بِذَلِكَ بَيْعَهُ، فَذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الْعَجْوَةِ، لِيُعْطِيَهُ صَاعاً مِنَ الْعَجْوَةِ بِصَاعٍ مِنْ حَشَفٍ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا أَعْطَاهُ ذَلِكَ لِفَضْلِ الْكَبِيسِ، أَوْ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ بِعْنِي ثَلاَثَةَ أَصْوُعٍ مِنَ الْبَيْضَاءِ، بِصَاعَيْنِ وَنِصْفٍ مِنْ حِنْطَةٍ شَامِيَّةٍ، فَيَقُولُ: هَذَا لاَ يَصْلُحُ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ. فَيَجْعَلُ صَاعَيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ شَامِيَّةٍ، وَصَاعاً مِنْ شَعِيرٍ، يُرِيدُ أَنْ يُجِيزَ بِذَلِكَ الْبَيْعَ فِيمَا بَيْنَهُمَا، فَهَذَا لاَ يَصْلُحُ، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُعْطِيَهُ بِصَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ، صَاعاً مِنْ حِنْطَةٍ بَيْضَاءَ، لَوْ كَانَ ذَلِكَ الصَّاعُ مُفْرَداً، وَإِنَّمَا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ لِفَضْلِ الشَّامِيَّةِ عَلَى الْبَيْضَاءِ، فَهَذَا لاَ يَصْلُحُ، وَهُوَ مِثْلُ مَا وَصَفْنَا مِنَ التِّبْرِ.
1868- قَالَ مَالِكٌ: فَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَالطَّعَامِ كُلِّهِ، الَّذِي لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ، إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مَعَ الصِّنْفِ الْجَيِّدِ مِنْهُ، الْمَرْغُوبِ فِيهِ، الشَّيْءُ الرَّدِيءُ الْمَسْخُوطُ، لِيُجَازَ الْبَيْعُ، وَلِيُسْتَحَلَّ بِذَلِكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الأَمْرِ، الَّذِي لاَ يَصْلُحُ إِذَا جُعِلَ ذَلِكَ مَعَ الصِّنْفِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ صَاحِبُ ذَلِكَ، أَنْ يُدْرِكَ بِذَلِكَ فَضْلَ جَوْدَةِ مَا يَبِيعُ، فَيُعْطِيَ الشَّيْءَ الَّذِي لَوْ أَعْطَاهُ وَحْدَهُ، لَمْ يَقْبَلْهُ صَاحِبُهُ، وَلَمْ يَهْمُمْ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ مِنْ أَجْلِ الَّذِي يَأْخُذُ مَعَهُ، لِفَضْلِ سِلْعَةِ صَاحِبِهِ عَلَى سِلْعَتِهِ، فَلاَ يَنْبَغِي لِشَيْءٍ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَالطَّعَامِ أَنْ يَدْخُلَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الطَّعَامِ الرَّدِيءِ أَنْ يَبِيعَهُ بِغَيْرِهِ، فَلْيَبِعْهُ عَلَى حِدَتِهِ، وَلاَ يَجْعَلْ مَعَ ذَلِكَ شَيْئاً، فَلاَ بَأْسَ بِهِ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته وأحكامها، وتفصيلها على لسان إمامها سيّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرّم عليه، وعلى آله وأصحابه الظافرين بحسن الائتمام به، وعلى مَن والاهم وسار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين سادات أهل محبة الله وقُربه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المُقربين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
فيذكر الإمام مالك في الموطأ: "باب الْمُرَاطَلَةِ"، ومما تفرّد به المالكية أن جعلوا التّبادل بين النقدين يأتي على ثلاثة أصناف:
-
الصنف الأول: ما تقدَّم الكلام فيه وهو الصّرف؛ وهو أن يبيع ذهبًا بفضة أو فضة بذهب أو بفلوس، فذاك خصّصوه بالصرف.
-
وجعلوا المُراطلة: أن يبيع النقد بصنفه من النقد وزنًا، وسمّوه مُراطلة.
-
وأما أن يبيع النقد بمثله عددًا؛ سموه المُبادلة.
فجعلوا عندهم الصّرف والمُراطلة والمُبادلة، فصارت ثلاثة أصناف.
يتكلم هنا عن المُراطلة، ويذكر عن "سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ" أنه "يُرَاطِلُ"؛ يعني: يبيع مُراطلةً "الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ"، ووصَف ذلك بقوله: "فَيُفْرِغُ ذَهَبَهُ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ"؛ يعني: يصبّ ويضع ذهبه في إحدى الكفتين؛ إحدى كفتي الميزان. كِفّة، ويقال فيها: كُفّة. "وَيُفْرِغُ صَاحِبُهُ" الَّذِي يبادل منه الذهب وهو "الَّذِي يُرَاطِلُهُ ذَهَبَهُ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ الأُخْرَى، فَإِذَا اعْتَدَلَ لِسَانُ الْمِيزَانِ"؛ فتساوت الكفتان، "أَخَذَ" ذهب الآخر "وَأَعْطَى" ذهبه للآخر، فهذه هي المراطلة؛ يقابل الذهب بالذهب وزنًا.
فعندهم:
-
إذا كان هذا الذهب غير مصكوك، فلا خلاف فيه في الجواز كما هو عند غيرهم، أن الذهب بالذهب مثلًا بمثل، هاءً بهاء جائز.
-
وإن كان مصكوك، فعندهم روايتان في مذهب الإمام مالك في جوازه وعدم جوازه. وعندهم يأتي في المصكوك المقابلة بالعدد.
"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ بِالْوَرِقِ"؛ أي: الفضة بالفضة "مُرَاطَلَةً، أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ"؛ يعني: يجوز، "أَنْ يَأْخُذَ أَحَدَ عَشَرَ دِينَاراً بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ"؛ يعني: أحد عشر دينار خفيفة بأحد عشر دينار ثقيلة يستوي وزنهما؛ وزن هذا بوزن هذا. "يَداً بِيَدٍ"؛ مناجزة مثلًا بمثل هاءً بهاء "إِذَا كَانَ وَزْنُ الذَّهَبَيْنِ"؛ يعني: وزن الأحد عشر الدينار والعشرة الدنانير "سَوَاءً، عَيْناً بِعَيْنٍ، وَإِنْ تَفَاضَلَ"؛ أي: زاد "الْعَدَدُ"؛ العدد فيه فرق، لكن الوزن واحد. "وَالدَّرَاهِمُ أَيْضاً فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّنَانِيرِ"؛ يعني: يُعتبر وزنها. إذًا؛
-
فالعبرة في الذهب والفضة، الوزن. فيُراعى الوزن في مُراطلة الذهب بالذهب والفضة بالفضة، فالاعتبار في الذهب والفضة إنما هو بالوزن.
-
ثم أن المالكية جعلوا أن بعض البلاد للعُرف الذي فيها يُقام بينهما التبادل بالعدد، فجوّزوا ذلك.
إذًا؛ المراطلة بالوزن ما دامت مِثلًا بمثل هاءً بهاء، جائزة عند الجماهير بل عند كل العلماء، عليهم رضوان الله تعالى.
-
فأجمعوا في جواز الذهب بالذهب والفضة بالفضة،
○ إذا اتفق الوزن، وإن اختلف عدد القطع.
○ إذا كانت صفة الذهبين واحدة.
-
واختلفوا فيما إذا كان ذهب أزكى من ذهب:
-
فمنهم من راعى هذه المفاضلة وجعل أنه عندئذٍ لا يستقيم المماثلة.
-
ومنهم مَن لم يلتفت إلى أنواع الذهب وجعله جنسًا واحدًا؛ إذا باع بعضها ببعض، لا بُد فيها من المماثلة والحلول والتقابض كما تقدَّم معنا.
-
يقول الإمام "مَالِكٌ: مَنْ رَاطَلَ ذَهَباً بِذَهَبٍ"؛ يعني: باعه أرطالًا؛ وزنًا "أَوْ وَرِقاً بِوَرِقٍ، فَكَانَ بَيْنَ الذَّهَبَيْنِ" أو الورِقين "فَضْلُ" زيادة "مِثْقَالٍ" مثلًا، "فَأَعْطَى صَاحِبَهُ قِيمَتَهُ"؛ أي: قيمة المثقال "مِنَ الْوَرِقِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، فَلاَ يَأْخُذُهُ"؛ يعني: لا يأخذ صاحب الزيادة هذا البدل، "فَإِنَّ ذَلِكَ"؛ يعني: أخذ البدل من غير الذهب "قَبِيحٌ"؛ لا يجوز "وَذَرِيعَةٌ إِلَى الرِّبَا"، لماذا؟ قال: "لأَنَّهُ إِذَا جَازَ لَهُ"؛ يعني: صار جائزًا له أن يفعل ذلك "أَنْ يَأْخُذَ الْمِثْقَالَ" الزائد "بِقِيمَتِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ" اشترى هذا المثقال "عَلَى حِدَتِهِ جَازَ لَهُ، أَنْ يَأْخُذَ الْمِثْقَالَ بِقِيمَتِهِ مِرَاراً، لأَنْ يُجِيزَ"؛ أي: لأجل أن يُبيح "ذَلِكَ الْبَيْعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ". البيع المحظور؛ "بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ" يعني بين البائع والمشتري بفعله ذلك. قال: فهو ذريعة إذًا إلى الربا؛ فلذلك منعه الإمام مالك، عليه الرضوان.
"قَالَ مَالِكٌ: وَلَوْ أَنَّهُ بَاعَهُ ذَلِكَ الْمِثْقَالَ مُفْرَداً، لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، لَمْ يَأْخُذْهُ بِعُشْرِ الثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ بِهِ، لأَنْ يُجَوِّزَ لَهُ الْبَيْعَ، فَذَلِكَ الذَّرِيعَةُ إِلَى إِحْلاَلِ الْحَرَامِ وَالأَمْرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ".
"وَلَوْ أَنَّهُ" الرجل المذكور الذي باع مثقال. "بَاعَهُ"؛ أي" باع "ذَلِكَ الْمِثْقَالَ مُفْرَداً لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، لَمْ يَأْخُذْهُ بِعُشْرِ الثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ بِهِ"، لأجل أن "يُجَوِّزَ لَهُ الْبَيْعَ، فَذَلِكَ الذَّرِيعَةُ" الوسيلة "إِلَى إِحْلاَلِ الْحَرَامِ"؛ إحلال بيع المحرم "وَالأَمْرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ".
فيقول: من راطل ذهبًا بذهب؛ أنه لا يجوز له أن يكون مع أحد الذهبين ورِق ولا عَرَض ولا شيء سوى الذهب بالذهب.
-
لو كان إحدى الذهبين أكثر من الأخرى، ويكون العَرَض في مقابله، أو في مقابلة زيادة أحد الذهبين على الآخر؛ ما يصح ذلك.
-
أو كان الذهبين متساويين؛ فيكون قد دفع إليه دينارين بدينار، فيجعل مع الدينار ثوبًا أو طعامًا أو فضة مقابل الدينار الثاني؛ فهذا لا يجوز عند الإمام مالك ومنعه، وقال: أنه قبيح وممنوع لنفسه لفساد العقد على هذا الوجه، وأن هذا العقد ذريعة إلى الحرام؛ فلا بُد من سدّ الذرائع.
فإذا باع دينار رديء بدينارين جيّدين وعلِم أنه لا يصح أن يعطيه بذلك الدينار نصف دينار جيّد، جعل مع الدينار ما يساوي أكثر من الدينار الجيد مرارًا وجعله ثمنًا للدينار الآخر الجيّد. ففي الحقيقة، إنما أعطاه الدينار الرديء بنصف دينار جيد، وأخذ السلعة بدينار ونصف من الذهب الجيد؛ وهذا لا يحِل، فهذا مذهب الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- في هذه المسألة.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُرَاطِلُ الرَّجُلَ وَيُعْطِيهِ الذَّهَبَ الْعُتُقَ"؛ جمع عتيق، بُرُد، جمع بريد، "الذَّهَبَ الْعُتُقَ"؛ يعني: الجيد النفيس "الْجِيَادَ"، تأكيد العُتُق "وَيَجْعَلُ مَعَهَا تِبْراً ذَهَباً غَيْرَ جَيِّدَةٍ"، رديء "وَيَأْخُذُ مِنْ صَاحِبِهِ ذَهَباً كُوفِيَّةً"؛ يعني: رديئة "مُقَطَّعَةً، وَتِلْكَ الْكُوفِيَّةُ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ النَّاسِ"، لرداءة الذهب "فَيَتَبَايَعَانِ ذَلِكَ" المذكور بأن أحد الجانبين ذهب جيد وتِبر رديء، وفي الجانب الآخر كله ذهب رديء "مِثْلاً بِمِثْلٍ: إِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ".
"قَالَ مَالِكٌ: وَتَفْسِيرُ مَا كُرِهَ مِنْ ذَلِكَ:" لماذا؟ توضيح سبب الكراهة ما هو؟ "أَنَّ صَاحِبَ الذَّهَبِ الْجِيَادِ"، الممتاز الطيّب "أَخَذَ فَضْلَ"؛ يعني: زيادة "عُيُونِ ذَهَبِهِ" الجيد "فِي التِّبْرِ، الَّذِي طَرَحَ" الرديء هذا، وقارن "مَعَ ذَهَبِهِ" الجيد، "وَلَوْلاَ فَضْلُ ذَهَبِهِ" وجودته "عَلَى ذَهَبِ صَاحِبِهِ، لَمْ يُرَاطِلْهُ صَاحِبُهُ بِتِبْرِهِ ذَلِكَ" الرديء، "إِلَى ذَهَبِهِ الْكُوفِيَّةِ" لأن التِبر أردى من الكوفية والكوفية أردى من ذهب العُتُق الجيد.
إذًا؛ إذا راطَل ذهبًا بذهب، وأحد الذهبين من جنسين، والآخر من نوع آخر. فإن كان لم يُعلم بمقدار الجيد من الرديء؛ لم تَجُز المراطلة. كما إذا كانت مغشوشة بنحاس؛ ما تجوز فيها المُراطلة.
وتوّسع الإمام أبو حنيفة في مثل هذه المسائل، وكذلك يُروى عن الشَّافعي إذا اختلف الذهبان؛ فلا يجوز.
يقول الإمام مالك: "وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَ ثَلاَثَةَ" آصع أو "أَصْوُعٍ مِنْ تَمْرٍ عَجْوَةٍ، بِصَاعَيْنِ وَمُدٍّ مِنْ تَمْرٍ كَبِيسٍ"، نوع آخر أعلى عندهم، قال: "فَقِيلَ لَهُ: هَذَا لاَ يَصْلُحُ. فَجَعَلَ صَاعَيْنِ مِنْ كَبِيسٍ، وَصَاعاً مِنْ حَشَفٍ، يُرِيدُ أَنْ يُجِيزَ بِذَلِكَ" الصاع من الحشف "بَيْعَهُ، فَذَلِكَ لاَ يَصْلُحُ، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الْعَجْوَةِ، لِيُعْطِيَهُ صَاعاً مِنَ الْعَجْوَةِ بِصَاعٍ مِنْ حَشَفٍ"، أبدًا! لأنها مختلفة جودة ورداءة، "وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا أَعْطَاهُ ذَلِكَ لِفَضْلِ الْكَبِيسِ"، الذي مع الحشف؛ فهذا لا يجوز باتفاق.
قال الإمام مالك: وذاك المسألة مثله، فلا بُد يكون ذهب من نوع واحد خالص. أما ذهب وشيء آخر مع مقابل ذهب؛ فلا. ومثاله: "أَوْ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ بِعْنِي ثَلاَثَةَ أَصْوُعٍ مِنَ الْبَيْضَاءِ"؛ يعني: الحنطة "بِصَاعَيْنِ وَنِصْفٍ مِنْ حِنْطَةٍ شَامِيَّةٍ"، وهي أجود من البيضاء. "فَيَقُولُ" الرجل: "هَذَا لاَ يَصْلُحُ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ. فَيَجْعَلُ صَاعَيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ شَامِيَّةٍ"، وهي أجود "وَصَاعاً مِنْ شَعِيرٍ"، يدخِّل فوقه الشعير حتى يتوصل إلى أخذ زائد مقابل. "يُرِيدُ أَنْ يُجِيزَ بِذَلِكَ الْبَيْعَ فِيمَا بَيْنَهُمَا، فَهَذَا لاَ يَصْلُحُ"؛ أي: لا يجوز "لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيُعْطِيَهُ بِصَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ، صَاعاً مِنْ حِنْطَةٍ بَيْضَاءَ، لَوْ كَانَ ذَلِكَ الصَّاعُ مُفْرَداً"، إلا أن يكون معه نوع جيد آخر قبل، فهي حيلة؛ فلا تصح.
"قَالَ مَالِكٌ: فَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ"؛ أي: الفضة "وَالطَّعَامِ كُلِّهِ"، كل أنواع الطعام "الَّذِي لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ، إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مَعَ الصِّنْفِ الْجَيِّدِ مِنْهُ، الْمَرْغُوبِ فِيهِ، الشَّيْءُ الرَّدِيءُ الْمَسْخُوطُ، لِيُجَازَ"؛ أي: يتوصّل إلى إجازة "الْبَيْعُ" المحظور، "وَلِيُسْتَحَلَّ بِذَلِكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الأَمْرِ، الَّذِي لاَ يَصْلُحُ إِذَا جُعِلَ ذَلِكَ"؛ يعني: خلط المسخوط "مَعَ الصِّنْفِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ"، ظرف ليستحلّ به هذا البيع، "وَإِنَّمَا يُرِيدُ صَاحِبُ ذَلِكَ، أَنْ يُدْرِكَ بِذَلِكَ" الخلط "فَضْلَ جَوْدَةِ مَا يَبِيعُ، فَيُعْطِيَ الشَّيْءَ" الرديء "الَّذِي لَوْ أَعْطَاهُ وَحْدَهُ، لَمْ يَقْبَلْهُ صَاحِبُهُ" الآخر، "وَلَمْ يَهْمُمْ"؛ يعني: يهُمّ "بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ مِنْ أَجْلِ الَّذِي يَأْخُذُ مَعَهُ"؛ أي: مع الرديء "لِفَضْلِ سِلْعَةِ صَاحِبِهِ عَلَى سِلْعَتِهِ"، التي هي العجوة مثلًا، سلعة صاحبه الكبيس، وسلعته العجوة. والكبيس عندهم أغلى من العجوة، فإذًا؛ صارت حيلة دائرة على التوصّل إلى بيعٍ ممنوع.
قال: "فَلاَ يَنْبَغِي لِشَيْءٍ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَالطَّعَامِ أَنْ يَدْخُلَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ"؛ يعني: خلط الجيد بالرديء "فَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الطَّعَامِ الرَّدِيءِ أَنْ يَبِيعَهُ بِغَيْرِهِ، فَلْيَبِعْهُ عَلَى حِدَتِهِ"، متميزًا غير منفرد "وَلاَ يَجْعَلْ مَعَ ذَلِكَ شَيْئاً" آخر. فإذا باعه منفردًا، فلا بأس به؛ أي: يجوز إذا كان كذلك؛ أي: إذا كان البيع منفردًا لعدم الذريعة، كما أرشد ﷺ بقوله: بيعوا الصَّاع من هذا بدرهم، واشتروا الصَّاع من ذاك بدرهمين.
رزقنا الله الاتباع لنبيه والاهتداء بهديه، وأقام حكم الشَّريعة في أسواقنا ومعاملاتنا وجميع تصرّفاتنا في الحياة على الوجه المرضي له تعالى في عُلاه، ودفع عنّا كيد النفس والهوى والشَّيطان، وأصلح لنا السِّر والإعلان، وبارك لنا في شعبان وليالي شعبان وأيام شعبان وساعات شعبان، وجعلنا من الظافرين فيه بواسع الامتنان والعطايا الحِسان والفضل والإحسان في لطف وعافية وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.
05 شَعبان 1443