شرح الموطأ - 337 - كتاب البيوع: باب ما جاء في الصَّرْف

شرح الموطأ - 337 - كتاب البيوع: باب مَا جَاءَ فِي الصَّرْفِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، باب مَا جَاءَ فِي الصَّرْفِ.

فجر الثلاثاء 28 رجب 1443هـ.

باب مَا جَاءَ فِي الصَّرْفِ

1862- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ النَّصْرِيِّ أَنَّهُ الْتَمَسَ صَرْفاً بِمِئَةِ دِينَارٍ قَالَ: فَدَعَانِي طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَتَرَاوَضْنَا حَتَّى اصْطَرَفَ مِنِّي، وَأَخَذَ الذَّهَبَ يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: حَتَّى يَأْتِيَنِى خَازِنِي مِنَ الْغَابَةِ. وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسْمَعُ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لاَ تُفَارِقْهُ حَتَّى تَأْخُذَ مِنَهُ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِباً، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِباً، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِباً، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِباً، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ".

1863- قَالَ مَالِكٌ: إِذَا اصْطَرَفَ الرَّجُلُ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ، ثُمَّ وَجَدَ فِيهَا دِرْهَماً زَائِفاً، فَأَرَادَ رَدَّهُ، انْتَقَضَ صَرْفُ الدِّينَارِ، وَرَدَّ إِلَيْهِ وَرِقَهُ، وَأَخَذَ إِلَيْهِ دِينَارَهُ. وَتَفْسِيرُ مَا كُرِهَ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِباً، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ". وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَإِنِ اسْتَنْظَرَكَ إِلَى أَنْ يَلِجَ بَيْتَهُ فَلاَ تُنْظِرْهُ، وَهُوَ إِذَا رَدَّ عَلَيْهِ دِرْهَماً مِنْ صَرْفٍ، بَعْدَ أَنْ يُفَارِقَهُ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ، أَوِ الشَّيْءِ الْمُسْتَأْخِرِ، فَلِذَلِكَ كُرِهَ ذَلِكَ وَانْتَقَضَ الصَّرْفُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ لاَ يُبَاعَ الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ وَالطَّعَامُ، كُلُّهُ عَاجِلاً بِآجِلٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَأْخِيرٌ وَلاَ نَظِرَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، أَوْ كَانَ مُخْتَلِفَةً أَصْنَافُهُ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته ودينه، والبيان على لسان عبده وحبيبه وأمينه، سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحبه الواعين لتبيينه، وعلى مَن والاهم في الله واهتدى بهديهم في شأنه وحاله وحينه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين الظافرين من الحق في المعرفة به بأعلى تمكينه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقرّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين. 

يتحدث الإمام مالك -عليه رضوان الله- عن الصَّرف في بيع الذهب بالفضة والفضة بالذهب، ويذكر لنا في هذا أحاديث تتعلّق بهذا الشأن الذي يُشير إليه: "باب مَا جَاءَ فِي الصَّرْفِ"؛ وهو البيع إذا كان كل واحد من العِوضين من جنس الأثمان، للحاجة إلى النقل في البدلين من يدٍ إلى يد. 

ويقول: "عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ النَّصْرِيِّ أَنَّهُ الْتَمَسَ"؛ أي: طلب "صَرْفاً بِمِئَةِ دِينَارٍ"؛ أي: طلب من الدراهم والفضة بمئة دينار. فجاء في رواية البُخاري أنه قال: "مَن عنده صرف؟ فقال طلحة: أنا". وفي رواية الإمام مُسلم: "مَن يصطرف الدراهم" بمئة دينار كانت عنده؛ يعني أراد أن يبيع مئة الدينار بدراهم. "قَالَ: فَدَعَانِي طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَتَرَاوَضْنَا"؛ أي تجاريْنا في الكلام بقدر العِوض بالزيادة والنقصان. "حَتَّى اصْطَرَفَ مِنِّي" طلحة؛ أي: أخذ مني ما كان معي ليصرفه بالدراهم، "وَأَخَذَ" طلحة "الذَّهَبَ" المئة دينار التي كانت عندي "يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: حَتَّى يَأْتِيَنِى خَازِنِي مِنَ الْغَابَةِ" -موضع قريب من المدينة المُنوَّرة كان يقال له الغابة-، كان لسيِّدنا طلحة فيه بعض المال، بعض النخل. 

فكان يظن أنه يجوز هذا التأجيل مثل سائر البيوع، وما بلغه من قبل هذا حكم المسألة، فبلَّغه سيِّدنا عُمَر قال: "وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسْمَعُ"، فذلك التأجيل مُحرَّم كما هو المعتمد في مذهب الإمام مالك وبقية الأئمة -عليهم رضوان الله- كما تقدَّم معنا أنه إذا كان بيع نقد بنقد، فلا بُد من الحلول والتقابض. 

"قَالَ: وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسْمَعُ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لاَ تُفَارِقْهُ"؛ أي: لا تفارق طلحة "حَتَّى تَأْخُذَ مِنَهُ" الدراهم عِوض الذهبجاء في رواية: "والله لتعطينّه ورِقه أو لتردنّ إليه ذهبه"، وفيه: تفقُّد سيِّدنا عُمَر أحوال الرعية وشأن الأحكام في الدِّين

"ثُمَّ قَالَ"؛ أي: سيِّدنا عُمَر مستدلًّا لما منعهم من ذلك: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِباً، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ"؛ يعني: بيع الذهب بالفضة ربًا، إذا كان في التأجيل إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ"؛ بالحلول والتقابض في الحال. "وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِباً، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِباً، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِباً، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ". ففيه ذِكر المطعومات والنقد، والحديث في الصَّحيحين هذا الذي ذكره سيِّدنا عُمَر، رضي الله تعالى عنه.

فأخذ سيِّدنا طلحة الذهب "يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ" ليعلم جودتها، وقال: "حَتَّى يَأْتِيَنِى خَازِنِي"، يريد أن يؤخر ذلك إلى أن يأتي خازنه "مِنَ الْغَابَةِ"، وسمعه سيِّدنا عُمَر فنهاه، قال: "لاَ تُفَارِقْهُ"، وبينكما عقد حتى يتنجّز ما بينكما من التقابُض. ولذا قال الفُقهاء: 

  • حتى وإن تبايعوا على الحلول ثم تفرّقوا قبل التقابض بطل العقد، ولا يصح العقد. 

فلا بُد مع الحلول؛ أن يتقابضا في المجلس وإلا كان ما سبقت الإشارة إليه أنه ربا اليد.  إن كانا يتبايعين في مطعومين أو في نقدين على الحلول ولكن يتفرقان قبل أن يقبض أحدهما من الآخر، فحينئذٍ يبطل العقد ولا يصح. 

  • قال أصحاب مالك: أنهم إذا تبايعوا على شيء من النقدين أو من المطعومات على الحلول، فلا بُد أن يقترن التقابُض بالعقد. حتى عندهم إذا جلسوا مدة ثم تقابضوا في نفس المجلس؛ لم يصح عند المالكية بل اشترطوا أن يكون التقابض عقب العقد مباشرة. 

  • وقال الشَّافعية وغيرهم: إذا تم القبض في المجلس كفى، لا يشترط المباشرة والفورية أن يكون مع العقد ولكن لا يتفرّقا حتى يتقابضا. 

  • وهكذا يقول الحنابلة: أنهما إذا اصطرفا في الذمة؛ يعني أن يقول بعتك دينار مثلًا بعشر دراهم، يقول الآخر: قبلت أنهم إذا تقابضا في المجلس قبل الافتراق؛ فالعقد صحيح والمعاملة جائزة. 

"قَالَ مَالِكٌ: إِذَا اصْطَرَفَ الرَّجُلُ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ، ثُمَّ وَجَدَ فِيهَا دِرْهَماً زَائِفاً، فَأَرَادَ رَدَّهُ، انْتَقَضَ صَرْفُ الدِّينَارِ" كله، "وَرَدَّ إِلَيْهِ وَرِقَهُ، وَأَخَذَ إِلَيْهِ دِينَارَهُ". قال: "وَتَفْسِيرُ مَا كُرِهَ مِنْ ذَلِكَ"؛ أي: سبب كراهة ذلك: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِباً، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ". وَقَالَ سيِّدنا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَإِنِ اسْتَنْظَرَكَ إِلَى أَنْ يَلِجَ بَيْتَهُ فَلاَ تُنْظِرْهُ". وقد تقدَّم ذاك معنا. 

"وَهُوَ إِذَا رَدَّ عَلَيْهِ دِرْهَماً مِنْ صَرْفٍ، بَعْدَ أَنْ يُفَارِقَهُ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ"؛ أي: على بائع الدرهم "أَوِ الشَّيْءِ الْمُسْتَأْخِرِ، فَلِذَلِكَ كُرِهَ ذَلِكَ وَانْتَقَضَ الصَّرْفُ"، فإنه:

  • إذا وجد في الدراهم درهمًا زائف، فإنه يكون مقابل بعض الدينار. 

  • وإذا وجد دينارًا زائفًا، فإنه يكون مقابل عدد من الدراهم، فينتقض في مقابل الدينار كاملًا؛ أي: في عدد من الدراهم التي تساوي صرف الدينار، بذلك كله يحصل الخلل في الحلول والتقابض فيُنهى عن ذلك. 

قال: "وَإِنَّمَا أَرَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ لاَ يُبَاعَ الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ وَالطَّعَامُ، كُلُّهُ"؛ أي: كل شيء من الربويات "عَاجِلاً بِآجِلٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَأْخِيرٌ وَلاَ نَظِرَةٌ"؛ أي: مُهلة وتأجيل "وَإِنْ كَانَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، أَوْ كَانَ مُخْتَلِفَةً أَصْنَافُهُ."، 

  • فوجود التقابض والحلول ثابت في الكل. 

  • وإنما المماثلة تختص إذا كان من جنس واحد. 

وهكذا إذا اصطرف دراهم بدنانير بعد ذلك وجد فيها درهم زائف، أراد ردّه.. 

  • يقول مالك: ينتقض الصرف. وإن كان الدنانير كثيرة، انتقض منها دينار للدرهم فما فوقه إلى صرف دينار. 

  • يقول الإمام أبو حنيفة: لا يبطل الصرف بالدرهم الزائف ويجوز تبديله، إلا إذا كانت الزيوف نصف الدراهم أو أكثر فإنّ ردّها بطل الصرف في المردود. 

إذًا؛ فهنا أقوال الفقهاء: إذا وجد في الصرف درهم زائفًا: 

  • فقول: بإبطال الصرف مطلقًا عند الردّ.

  • وقول: بإثبات الصرف ووجوب البدل كما سمعنا عن الحنفية. 

  • وقول: في التفريق بين القليل والكثير. 

  • وقول: بالتخيير بين بدل الزائف أو يكون شريكًا له. 

هذا ما ذكره فيما يتعلّق بمسألة الصرف. 

فلما كان الصرف في ذات النقد والزكاة مُتعلِّقة بذاته من دون تجارة؛ صار لا بُد من حلول الحول؛ من مرور الحول على ما بيده من ذهب أو فضة حتى تلزم فيه الزكاة بعد مرور السنة، ولا يبقى بيده في الغالب من الدراهم ولا من الدنانير ما يمر عليه الحول. فبذلك قالوا: لا زكاة على الصيارفة لأن الزكاة المُتعلّقة بذات النقد مقدّمة على الزكاة العارضة لأجل التجارة. 

  • ففي غير النقد تتعلق الزكاة بعروض التجارة؛ أي شيء كان. 

  • أما إذا كان نقد خالص؛ فإن الزكاة تتعلق بعين النقد، فلا بُد من مرور سنة على عين النقد حتى تلزم فيه الزكاة. 

وقفنا عند المراطلة

ملأ الله قلوبنا بالإيمان، وأثبتنا في ديوان أهل الصِّدق والإخلاص في كل شأن، وحققنا بحقائق الصِّدق والعرفان، ورفعنا مراتب أهل القرب والتدان، سقانا سلسبيل مودّته الهاني في عافية، بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

05 شَعبان 1443

تاريخ النشر الميلادي

08 مارس 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام