(364)
(535)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، باب مَا جَاءَ فِي الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ.
فجر الثلاثاء 21 رجب 1443هـ.
باب مَا جَاءَ فِي الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ
1833- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ. وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلاً، وَبَيْعُ الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلاً.
1834- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أبِي أَحْمَدَ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَالْمُحَاقَلَةِ. وَالْمُزَابَنَةُ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ فِي رُؤُوسِ النَّخْلِ، وَالْمُحَاقَلَةُ كِرَاءُ الأَرْضِ بِالْحِنْطَةِ.
1835- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ. وَالْمُزَابَنَةُ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَالْمُحَاقَلَةُ اشْتِرَاءُ الزَّرْعِ بِالْحِنْطَةِ، وَاسْتِكْرَاءُ الأَرْضِ بِالْحِنْطَةِ.
1836- قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنِ اسْتِكْرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ؟ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ.
1837- وَتَفْسِيرُ الْمُزَابَنَةِ: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْجِزَافِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ كَيْلُهُ، وَلَا وَزْنُهُ، وَلَا عَدَدُهُ، ابْتِيعَ بِشَيْءٍ مُسَمًّى مِنَ الْكَيْلِ، أَوِ الْوَزْنِ، أَوِ الْعَدَدِ. وَذلِكَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الطَّعَامُ الْمُصَبَّرُ الَّذِي لَا يُعْلَمُ كَيْلُهُ مِنَ الْحِنْطَةِ، أَوِ التَّمْرِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذلِكَ مِنَ الْأَطْعِمَةِ. أَوْ يَكُونُ لِلرَّجُلِ السِّلْعَةُ مِنَ الْخَبَطِ، أَوِ النَّوَى، أَوِ الْقَضْبِ، أَوِ الْعُصْفُرِ، أَوِ الْكُرْسُفِ، أَوِ الْكَتَّانِ، أَوِ الْقَزِّ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذلِكَ مِنَ السِّلَعِ. لَا يُعْلَمُ كَيْلُ شَيْءٍ مِنْ ذلِكَ، وَلَا وَزْنُهُ، وَلَا عَدَدُهُ. فَيَقُولُ الرَّجُلُ لِرَبِّ تِلْكَ السِّلْعَةِ: كِلْ سِلْعَتَكَ هذِهِ. أَوْ مُرْ مَنْ يَكِيلُهَا. أَوْ زِنْ مِنْ ذلِكَ مَا يُوزَنُ. أَوْ اعْدُدْ مِنْهَا مَا كَانَ يُعَدُّ. فَمَا نَقَصَ مِنْ كَذَا وَكَذَا صَاعاً، لِتَسْمِيَةٍ يُسَمِّيهَا. أَوْ وَزْنِ كَذَا، وَكَذَا رِطْلاً. أَوْ عَدَدِ كَذَا، وَكَذَا. فَمَا نَقَصَ مِنْ ذلِكَ فَعَلَيَّ غُرْمُهُ، حَتَّى أُوفِيَكَ تِلْكَ التَّسْمِيَةَ. فَمَا زَادَ عَلَى ذلِكَ التَّسْمِيَةِ، فَهُوَ لِي. أَضْمَنُ مَا نَقَصَ مِنْ ذلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِي مَا زَادَ. فَلَيْسَ ذلِكَ بَيْعاً. وَلَكِنَّهُ الْمُخَاطَرَةُ، وَالْغَرَرُ، وَالْقِمَارُ . يَدْخُلُ هذَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِ مِنْهُ شَيْئاً بِشَيْءٍ أَخْرَجَهُ، وَلَكِنَّهُ ضَمِنَ لَهُ مَا سُمِّيَ مِنْ ذلِكَ الْكَيْلِ، أَوِ الْوَزْنِ، أَوِ الْعَدَدِ. عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مَا زَادَ عَلَى ذلِكَ. فَإِنْ نَقَصَتْ تِلْكَ السِّلْعَةُ مِنْ تِلْكَ التَّسْمِيَةِ، أَخَذَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ مَا نَقَصَ بِغَيْرِ ثَمَنٍ، وَلَا هِبَةٍ. طَيِّبَةٍ بِهَا نَفْسُهُ. فَهذَا يُشْبِهُ الْقِمَارَ. وَمَا كَانَ مِثْلُ هذَا مِنَ الْأَشْيَاءِ، فَذلِكَ يَدْخُلُهُ.
1838- قَالَ مَالِكٌ: وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضاً: أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ لَهُ الثَّوْبُ: أَضْمَنُ لَكَ مِنْ ثَوْبِكَ هَذَا كَذَا وَكَذَا ظِهَارَةَ قَلَنْسُوَةٍ، قَدْرُ كُلِّ ظِهَارَةٍ كَذَا وَكَذَا -لِشَيْءٍ يُسَمِّيهِ- فَمَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيَّ غُرْمُهُ، حَتَّى أُوفِيَكَهُ، وَمَا زَادَ فَلِي. أَوْ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: أَضْمَنُ لَكَ مِنْ ثِيَابِكَ هَذِهِ كَذَا وَكَذَا قَمِيصاً، ذَرْعُ كُلِّ قَمِيصٍ كَذَا وَكَذَا، فَمَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيَّ غُرْمُهُ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلِي. أَوْ أَنْ يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ لَهُ الْجُلُودُ مِنْ جُلُودِ الْبَقَرِ أَوِ الإِبِلِ: أُقَطِّعُ جُلُودَكَ هَذِهِ نِعَالاً، عَلَى إِمَامٍ يُرِيهِ إِيَّاهُ. فَمَا نَقَصَ مِنْ مِئَةِ زَوْجٍ فَعَلَيَّ غُرْمُهُ، وَمَا زَادَ فَهُوَ لِي بِمَا ضَمِنْتُ لَكَ.
وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ عِنْدَهُ حَبُّ الْبَانِ: اعْصُرْ حَبَّكَ هَذَا، فَمَا نَقَصَ مِنْ كَذَا وَكَذَا رِطْلاً فَعَلَيَّ أَنْ أُعْطِيَكَهُ، وَمَا زَادَ فَهُوَ لِي. فَهَذَا كُلُّهُ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الأَشْيَاءِ، أَوْ ضَارَعَهُ مِنَ الْمُزَابَنَةِ، الَّتِي لاَ تَصْلُحُ وَلاَ تَجُوزُ.
وَكَذَلِكَ أَيْضاً إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ لَهُ الْخَبَطُ، أَوِ النَّوَى، أَوِ الْكُرْسُفُ، أَوِ الْكَتَّانُ، أَوِ الْقَضْبُ، أَوِ الْعُصْفُرُ: أَبْتَاعُ مِنْكَ هَذَا الْخَبَطَ بِكَذَا وَكَذَا صَاعاً مِنْ خَبَطٍ يُخْبَطُ مِثْلَ خَبَطِهِ، أَوْ هَذَا النَّوَى بِكَذَا وَكَذَا صَاعاً، مِنْ نَوًى مِثْلِهِ، وَفِي الْعُصْفُرِ، وَالْكُرْسُفِ، وَالْكَتَّانِ، وَالْقَضْبِ مِثْلَ ذَلِكَ. فَهَذَا كُلُّهُ يَرْجِعُ إِلَى مَا وَصَفْنَا مِنَ الْمُزَابَنَةِ.
الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته الغرَّاء، وبيانها على لسان خير الورى مَن به الله إلى المسجد الأقصى أسرى، اللَّهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبعه على الصِّدق سِرًا وجهرًا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين المُرتقين في الفضل أعلى الذُّرى، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقربين وجميع عبادك الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.
أما بعدُ،
فيبيَّن الشَّيخ -عليه رحمة الله- في هذا الباب ما جاء من نهي نبينا ﷺ عن "الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ"؛ وهي من البُيوع التي يكون فيها الغرر ويحصل فيها الغبن، وجاءت الشَّريعة بتصفية المعاملات وإصلاح النّيات والطويات وإقامة المُعاملة على ما يناسب ذلك الصّلاح، فحرَّمت بيوع الغرر وما يحصل به الضّرر واعتداء بعض النَّاس على بعض بشيء من الحيَل والطرق التي لا يتضح فيها الأمر على ما ينبغي، ومن جملة ذلك: الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ.
والْمُحَاقَلَةِ: أن يبيع حبًا لا يزال رطبًا في سنبله، بحبٍّ يابس لديه بُرًّا أو ذرةً أو غير ذلك، فيبيع هذا بهذا ولا يُدرى عندما ييبس ذلك الحب كم سيكون كيله، ولا يتأتى في هذا إقامة المثلية في الكيل فنُهيَ عن ذلك.
ونُهيَ عن الْمُزَابَنَةِ؛ وهي: أن يبيع تمرًا برطب لا يزال بالنخلة أو أخرج منها، وكذلك أن يبيع زبيبًا قد يبس بعنبٍ لم يزل رطبًا فإنه عند جفافه لا يُدرى كم يكون كيله، فلا يتأتى في ذلك المماثلة.
وبيع المطعوم بالمطعوم من جنسه لا بُد فيه من المماثلة كما تقدَّم وإلا صار ربًا، ربا الفضل، فبذلك جاء النهي عن هذا.
ووسعه الإمام مالك إلى كل ما يكون فيه الغبن.
وكذلك قال أبو حنيفة: كل ما يكون فيه الكيل أو الوزن ويختلف من حال إلى حال؛ لا يجوز بيعه مع هذا الاختلاف الحال.
وجعل الإمام مالك أيضًا من الْمُحَاقَلَة: أن يكتري الأرض ببعض ما يخرج منها، فيأخذ من صاحبها ويزرع على أن يُسلِّمه نسبةً من الثمر الذي يخرج من الأرض، فعدّ ذلك كله من الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ كما سمعت شرحه.
والتفسير جاء عن سيِّدنا جابر -عليه رضوان الله- أحد رواة الحديث كما جاء عن غيره.
فجاء تفسير جابر:
أن الْمُزَابَنَةِ؛ بيع التمر بالرطب، والزبيب بالعنب.
وأن الْمُحَاقَلَةِ؛ بيع الحب اليابس من الطعام بالرطب الذي لا يزال في شجره.
وعلى ذلك مضى الشَّافعية في تفسير الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ.
وأورد لنا حديث النهي، والنهي جاء كما روى الإمام مالك في الموطأ جاء في صحيح الإمام البُخاري ومُسلم وغيرهما نهيه ﷺ عن الْمُحَاقَلَةِ وعن الْمُزَابَنَةِ. وقال في حديث ابْنِ عُمَرَ: "وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ الثَّمَرِ"؛ يعني: الرُّطب على النخل "بِالتَّمْرِ كَيْلاً"؛ أي من حيث الكيل؛ أي عادتهم في ذلك يكيلونه مهما قدَّر الكيل في التمر، فلن يستطيع أن يقدّره ويحدده في الرُّطب، فإنه سيجف وسيصغر حجمه ولا ينضبط كيله.
"وَبَيْعُ الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلاً"؛ أي: العنب، وفيه: بيان جواز تسمية العنب كرمًا مع الكراهة لما ورد عن النَّهي عن ذلك في أن الكرم قلب الرجل المؤمن؛ فلا نسمي العنب كرمًا كما كانوا يسمونه. وذلك أنهم كانوا متولّعون بالعنب وما يستخرجونه منه من الخمر ويحبون مجالسه فسمّوه بهذا الاسم الذي فيه معنى من التفخيم والتمجيد والتكريم؛ فنهى النَّبي ﷺ وقال: أن الأحق بالتكريم والتمجيد قلب المؤمن، فإن كان في هذا الشجر فوائد ومنافع، ففوائد ومنافع قلب المؤمن أكثر. وإن كان في هذا ما يتصل بمكارم الأخلاق، فما عند المؤمن هو أولى وأحق. فحُمِل النّهي على التنزيه والكراهة، وهذا إن كان من نص الحديث ويُحمَل على بيان الجواز. قد جاء في رواية عُبيد الله عن نافع في مُسلم: "بيع العنب بالزبيب" ولم يقل الكرم، وإن كان موقوفًا، فليس فيه الحُجّة.
يقول: "عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَالْمُحَاقَلَةِ"، وفسَّر قال: "وَالْمُزَابَنَةُ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ فِي رُؤُوسِ النَّخْلِ، وَالْمُحَاقَلَةُ كِرَاءُ الأَرْضِ بِالْحِنْطَةِ". هذا أيضًا ما جاء في رواية مُسلم في تفسير المُحاقلة، ولم يأتِ في صحيح البُخاري وهو أحد التفاسير الذي فسَّر بها الإمام مالك معنى المُحاقلة. فعنده هذا نوع من المُحاقلة؛ "كِرَاءُ الأَرْضِ بِالْحِنْطَةِ"؛ أي: بما يخرج منها.
و "عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ" -مرسلًا هنا-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ. وَالْمُزَابَنَةُ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَالْمُحَاقَلَةُ اشْتِرَاءُ الزَّرْعِ بِالْحِنْطَةِ، وَاسْتِكْرَاءُ الأَرْضِ بِالْحِنْطَةِ."؛ ففسَّر المُحاقلة أن يباع الزرع بالقمح أو تُستكرى -تُستأجر- الأرض بالقمح، فصار نوعان في تفسير المُحاقلة.
"قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنِ جواز اسْتِكْرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ؟"؛ أي: الفضة "فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ."؛ أي: يجوز، لأنه ما فيه غرر، إنما نُهيَ عن هذا لأنه لا يدري كم سيخرج؟ وكم سيكون رُبع ذلك؟ على اختلافٍ بعد ذلك في جواز استكراء الأرض ببعض ما يخرج منها.
"قَالَ مَالِكٌ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَتَفْسِيرُ الْمُزَابَنَةِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْجِزَافِ"، وسّع معناه، كل شيء فيه المجازفة والحدس والظن غير مُبيّن ومعلوم "الَّذِي لاَ يُعْلَمُ كَيْلُهُ، وَلاَ وَزْنُهُ، وَلاَ عَدَدُهُ، ابْتِيعَ بِشَيْءٍ مُسَمًّى مِنَ الْكَيْلِ، أَوِ الْوَزْنِ، أَوِ الْعَدَدِ" مضبوط؛ فهذا لا يجوز، "وَذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ"، أحد النَّاس للرجل الآخر "يَكُونُ لَهُ الطَّعَامُ الْمُصَبَّرُ"؛ يعني مُجمّع. والمُجمّع من الطعام يُسمى صُبرة، كما يقول العوام عندنا: ركمة، فهذا المصبّر؛ أي المُجمّع، وإذا تجمّع الحب فوق الحب، التمر فوق التمر سُمّي: صبرة. "يَكُونُ لَهُ الطَّعَامُ الْمُصَبَّرُ"؛ يعني: المجموع بعضه فوق بعض، "الَّذِي لاَ يُعْلَمُ كَيْلُهُ"، ما يدرى كم كيله "مِنَ الْحِنْطَةِ، أَوِ التَّمْرِ"، أو الثمر "أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأَطْعِمَةِ"، كما هو في توسيع الإمام مالك للمعنى. "أَوْ يَكُونُ لِلرَّجُلِ السِّلْعَةُ مِنَ الْخَبَطِ"؛ ما يسقط على الأرض من أوراق الشجر، يستعملونه علف للدواب. والأصل من الخبط وهو الضرب بالعصا؛ يضربون الشجر بالعصا فينزل هذا؛ فيُسمى الورق النازل على الأرض خَبَط. يُسمى الخبط. "أَوِ النَّوَى" التمر الذي يستعمل علف للدواب، "أَوِ الْقَضْبِ" أيضًا علف للدواب يُقطع مرة بعد أُخرى، "أَوِ الْعُصْفُرِ"؛ نبت، "أَوِ الْكُرْسُفِ"؛ أيضًا من القطن، "أَوِ الْكَتَّانِ" له بذر يُعتصَر ويستصبح به، "أَوِ الْقَزِّ" ما يُعمل به الإبريسم، "أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ السِّلَعِ، لاَ يُعْلَمُ كَيْلُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ وَزْنُهُ، وَلاَ عَدَدُهُ"، فهذه هي الحيثية التي يتم بها التحريم:
عدم العلم بالكيل والوزن.
"فَيَقُولُ الرَّجُلُ لِرَبِّ"؛ أي: لصاحب "تِلْكَ السِّلْعَةِ" -التي لا يُعلم مقدارها-: "كِلْ سِلْعَتَكَ هَذِهِ، أَوْ مُرْ مَنْ يَكِيلُهَا، أَوْ زِنْ مِنْ ذَلِكَ مَا يُوزَنُ، أَوْ عُدَّ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ يُعَدُّ"، إذا كانت السّلعة من المعدودات، "فَمَا نَقَصَ عَنْ كَيْلِ كَذَا وَكَذَا صَاعاً -لِتَسْمِيَةٍ يُسَمِّيهَا- أَوْ وَزْنِ كَذَا وَكَذَا رِطْلاً، أَوْ عَدَدِ كَذَا وَكَذَا، فَمَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيَّ غُرْمُهُ لَكَ، حَتَّى أُوفِيَكَ تِلْكَ التَّسْمِيَةَ، فَمَا زَادَ عَلَى تِلْكَ التَّسْمِيَةِ فَهُوَ لِي"، ما عاد لك شيء، هذا غرر وفيه الضرر، ولا يجوز، وأدخله الإمام مالك في النهي عن المزابنة والمحاقلة. و "أَضْمَنُ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ لِي مَا زَادَ".
"فَلَيْسَ ذَلِكَ بَيْعاً، وَلَكِنَّهُ الْمُخَاطَرَةُ وَالْغَرَرُ"؛ الأمر المطوي الذي لا يُعلم حقيقته، "وَالْقِمَارُ" الذي هو المَيسر. "يَدْخُلُ هَذَا، لأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِ مِنْهُ"؛ يعني: من رب السلعة "شَيْئاً بِشَيْءٍ" موصوف، "أَخْرَجَهُ"؛ يعني: من عند نفسه بطريقة ما "وَلَكِنَّهُ ضَمِنَ لَهُ مَا سُمِّىَ مِنْ ذَلِكَ الْكَيْلِ، أَوِ الْوَزْنِ، أَوِ الْعَدَدِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ"، وإن نقص فهو الذي سيغرم هذا نوع من المخاطرة والمقامرة؛ لا يجوز في الشَّريعة المُطهرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ) [النساء:29].
"فَإِنْ نَقَصَتْ تِلْكَ السِّلْعَةُ عَنْ تِلْكَ التَّسْمِيَةِ، أَخَذَ"؛ يعني: رب السلعة "مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ"؛ أي: الضامن هذا "مَا نَقَصَ، بِغَيْرِ ثَمَنٍ وَلاَ هِبَةٍ، طَيِّبَةٍ بِهَا نَفْسُهُ"، خلاص قد وقع فيها يوم قدر وطلع تقديره غلط "فَهَذَا يُشْبِهُ الْقِمَارَ"؛ لأنه دائر بين الغنم والغُرم، "وَمَا كَانَ مِثْلَ هَذَا مِنَ الأَشْيَاءِ فَذَلِكَ يَدْخُلُهُ"؛ يعني: ذلك القمار يدخله؛ فيكون من المُزابنة المنهي عنها.
"قَالَ مَالِكٌ: وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضاً"؛ يعني المُزابنة "أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ لَهُ الثَّوْبُ: أَضْمَنُ لَكَ مِنْ ثَوْبِكَ هَذَا كَذَا وَكَذَا"؛ يعني: مئة أو مئتين "ظِهَارَةَ"؛ خلاف البطانة "قَلَنْسُوَةٍ"؛ كوفية، "قَدْرُ كُلِّ ظِهَارَةٍ كَذَا وَكَذَا -لِشَيْءٍ يُسَمِّيهِ-"؛ يعني: مقدار عشر أصابع أو عشرون أو كذا، "فَمَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ" فما نقص من ذلك المسمى عددًا وصفة "فَعَلَيَّ غُرْمُهُ، حَتَّى أُوفِيَكَهُ"؛ أعطيك إياه كامل، "وَمَا زَادَ فَلِي". أملكه أنا وآخذه خلاص، يرجو أن يكون المُحصَّل زائد عن ذلك، فيكون هو الرابح فهو يُزابن صاحبه؛ يُدافعه؛ وهذا كله من الغرر المُحرَّم في الشَّرع.
"أَوْ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: أَضْمَنُ لَكَ مِنْ ثِيَابِكَ هَذِهِ كَذَا وَكَذَا قَمِيصاً" مقدار معين، "ذَرْعُ كُلِّ قَمِيصٍ كَذَا وَكَذَا، فَمَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ" عليّ أُحضر لك البز من عندي وأُكمل باقي القمصان "فَعَلَيَّ غُرْمُهُ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلِي. أَوْ أَنْ يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ لَهُ الْجُلُودُ مِنْ جُلُودِ الْبَقَرِ أَوِ الإِبِلِ" مثلًا: "أُقَطِّعُ جُلُودَكَ هَذِهِ نِعَالاً، عَلَى إِمَامٍ يُرِيهِ إِيَّاهُ"؛ يعني: على مثال يريه إياه، يقول هذا المثال، الذي هو نموذج تبني عليه بقية أشكال النِّعال. "فَمَا نَقَصَ مِنْ مِئَةِ زَوْجٍ"؛ يعني: نعلين نعلين، كل نعلين زوج، "فَعَلَيَّ غُرْمُهُ، وَمَا زَادَ فَهُوَ لِي"؛ أي: بِعِوَض "بِمَا ضَمِنْتُ لَكَ".
"وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ" كله هذا داخل في المُزابنة، "أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ عِنْدَهُ حَبُّ الْبَانِ"؛ شجر معروف، يؤخذ منه الدُّهن "اعْصُرْ حَبَّكَ هَذَا، فَمَا نَقَصَ مِنْ كَذَا وَكَذَا رِطْلاً فَعَلَيَّ أَنْ أُعْطِيَكَهُ، وَمَا زَادَ فَهُوَ لِي. فَهَذَا كُلُّهُ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الأَشْيَاءِ، أَوْ ضَارَعَهُ"؛ يعني: شابهه، "مِنَ الْمُزَابَنَةِ، الَّتِي لاَ تَصْلُحُ وَلاَ تَجُوزُ".
"وَكَذَلِكَ أَيْضاً إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ لَهُ الْخَبَطُ، أَوِ النَّوَى، أَوِ الْكُرْسُفُ، أَوِ الْكَتَّانُ، أَوِ الْقَضْبُ، أَوِ الْعُصْفُرُ: أَبْتَاعُ"؛ يعني: أشتري "مِنْكَ هَذَا الْخَبَطَ بِكَذَا وَكَذَا صَاعاً مِنْ خَبَطٍ يُخْبَطُ مِثْلَ خَبَطِهِ، أَوْ هَذَا النَّوَى" الذي عندك "بِكَذَا وَكَذَا صَاعاً، مِنْ نَوًى مِثْلِهِ، وَفِي الْعُصْفُرِ، وَالْكُرْسُفِ، وَالْكَتَّانِ، وَالْقَضْبِ مِثْلَ ذَلِكَ". ومثل ما قال في الخبط والنوى، "فَهَذَا كُلُّهُ يَرْجِعُ إِلَى مَا وَصَفْنَا مِنَ الْمُزَابَنَةِ". فإذًا؛ المُزابنة عند الإمام مالك: بيع كل مجهول بمعلوم من صِنف ذلك كائنًا ما كان؛ فهذا منهي عنه، ولا يجوز في الشَّرع المُطهر إلا التعامل عن بيان وعن رضا وعن بيّنة وطيب نفس.
جعلنا الله من أهل تقواه وأهل رضاه، وأهل الصِّدق معه والإنابة إليه تعالى في عُلاه، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين، وأصلح الشأن كله لنا ولكم وللمسلمين وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.
29 رَجب 1443