شرح المُوطَّأ - 331 - كتاب البيوع: باب ما يجوز في استثناء الثَّمَر

شرح المُوطَّأ - 331 - كتاب البيوع: باب مَا يَجُوزُ فِي اسْتِثْنَاءِ الثَّمَرِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، باب مَا يَجُوزُ فِي اسْتِثْنَاءِ الثَّمَرِ.

فجر السبت 18 رجب 1443هـ.

باب مَا يَجُوزُ فِي اسْتِثْنَاءِ الثَّمَرِ

1825- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ كَانَ يَبِيعُ ثَمَرَ حَائِطِهِ، وَيَسْتَثْنِي مِنْهُ.

1826- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ: أَنَّ جَدَّهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ بَاعَ ثَمَرَ حَائِطٍ لَهُ، يُقَالُ لَهُ الأَفْرَاقُ، بِأَرْبَعَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ بِثَمَانِ مِئَةِ دِرْهَمٍ تَمْراً.

1827- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ ،عَنْ أبِي الرِّجَالِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَارِثَةَ: أَنَّ أُمَّهُ عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَتْ تَبِيعُ ثِمَارَهَا، وَتَسْتَثْنِي مِنْهَا.

1828- قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا بَاعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ، أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْ ثَمَرِ حَائِطِهِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ثُلُثِ الثَّمَرِ، لاَ يُجَاوِزُ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ دُونَ الثُّلُثِ فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ.

1829- قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا الرَّجُلُ يَبِيعُ ثَمَرَ حَائِطِهِ، وَيَسْتَثْنِى مِنْ ثَمَرِ حَائِطِهِ ثَمَرَ نَخْلَةٍ، أَوْ نَخَلاَتٍ يَخْتَارُهَا، وَيُسَمِّى عَدَدَهَا، فَلاَ أَرَى بِذَلِكَ بَأْساً، لأَنَّ رَبَّ الْحَائِطِ إِنَّمَا اسْتَثْنَى شَيْئاً مِنْ ثَمَرِ حَائِطِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ شَيْءٌ احْتَبَسَهُ مِنْ حَائِطِهِ وَأَمْسَكَهُ لَمْ يَبِعْهُ، وَبَاعَ مِنْ حَائِطِهِ مَا سِوَى ذَلِكَ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُبيّن الشَّريعة بلسان عبده وحبيبه صاحب الوجاهات الوسيعة، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه في كل لمحةٍ ونفس وعلى آله وأصحابه الذين به ارتقوا إلى المراقي الرَّفيعة، وعلى مَن والاهم بإحسان واتبعهم في الأمر جميعًا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين مَن جعلهم الله -سبحانه وتعالى- أكرم الودائع للوديعة، وعلى آلهم وصحبهم ومَن تابعهم والملائكة المقرَّبين وعباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. 

وبعدُ،

فيذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله- في هذا الباب الاستثناء في بيع ثمر، إذا باع ثمرًا قد بدا صلاحه واستثنى بعد ذلك شيئًا من هذا الثمر الذي يبيعه. 

  • فإما أن يستثني أشجارًا معينة؛ وهذا لا شيء فيه وصحيح عند جماهير العلم باتفاق المذاهب الأربعة. هذه الشجرة، وهذه الشجرة،… وغيره الباقي؛ يبيع ثمر بقية الشجر، ما فيه غرر، ولا يوجد إشكال والأمر معلوم. 

  • وإما أن يبيع الثمر ويستثني مقدارًا وكيلًا من الثمر؛ 

    • هذا لا يصح ولا يجوز عند الجمهور. 

    • ويصح عند الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-.

وذكر في هذا حديث: "الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ"، وأصل المسألة ما روى البُخاري في صحيحه: أن النَّبي ﷺ نهى عن الثُنيا في البيع؛ يعني يبيع ويستثني شيئًا من المبيع، فأخذ به الجمهور، وخصّصه الإمام مالك بما روى من الآثار، أن ذلك إنما يكون فيما إذا كان المستثنى أكثر من الثلث أو استثنى كثير من كثير أو كثير من قليل. أما إذا استثنى قليلًا من كثير؛ فلا يرى فيه شيئًا ولا بأسًا. وأوردوا تلك الآثار التي أوردها الإمام مالك عن أهل المدينة. وعَلِمنا ما عليه الجمهور من القول: بعدم صحة الاستثناء لقدرٍ معيّن من المبيع. 

  • فإنه إذا دخل فيه الكيل واستثنى شيئًا من الكيل، لم ندري ما يخرج من الكيل في البقية كم يكون.

  •  وإذا اكتفينا بالرؤية؛ صحّ البيع بذلك، ولم يدخل فيه كيل. 

يقول: "أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ كَانَ يَبِيعُ ثَمَرَ حَائِطِهِ، وَيَسْتَثْنِي مِنْهُ". وكل هذه الآثار عند الجمهور حملوها على أن الاستثناء لشجرٍ مخصوص، عددٍ من الشجر؛ فإنه ذكر فيها الاستثناء ولم يذكر كيفية الاستثناء. استثنى شجرة أو استثنى مقدارًا أو استثنى نسبة؟.. كما أن استثناء النسبة من ثلث أو ربع أو نحو ذلك؛ أنه جائز أيضًا عند المالكية.

والأثر الثاني رواه عن: "مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ" أنه "بَاعَ ثَمَرَ حَائِطٍ لَهُ، يُقَالُ لَهُ الأَفْرَاقُ، بِأَرْبَعَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ بِثَمَانِ مِئَةِ دِرْهَمٍ تَمْراً"؛ أي الخُمس. فإن ثمانمائة؛ خُمس الأربعة الآلاف، فهي خُمس القيمة. فكأنه استثنى من ثمر الحائط خُمسها؛ خُمس الثمر إذ قوّم الجميع بأربعة آلاف واستثنى بثمانمائة؛ أي الخمس.

وذكر عن: "عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ" بن سعد بن زرارة أنها "كَانَتْ تَبِيعُ ثِمَارَهَا، وَتَسْتَثْنِي مِنْهَا". هذه الآثار التي ذكرها، لم يذكر كيفية الاستثناء. 

"قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا"؛ أي: في المدينة، "أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا بَاعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ، أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْ ثَمَرِ حَائِطِهِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ثُلُثِ الثَّمَرِ"؛ يعني: إلى الثلث، لا يزيد عليه.  قال: وتستثنى ثلث الثمر "لاَ يُجَاوِزُ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ دُونَ الثُّلُثِ فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ". فهذا في قول الإمام مالك -عليه رحمة الله-، وذكر أنه مذهب أهل المدينة؛ أي: الفقهاء.

وحققوا عن الإمام مالك أنه إذا ذكر عمل أهل المدينة أراد بهم الفقهاء السبعة. وهذا التقييد بالثُلث إذا كان فيما يتعلق بالأرطال. أما إذا كان جزء شائع؛ فيجوز أيضًا عنده أن يستثني نصفًا أو يستثني ثلثين ما يضر، لكن إذا كان بالأرطال مقدار الثلث فما دون، إذا كان بالكيل أو بالوزن مقدار الثلث فما دون، هذا في مذهب الإمام مالك.

عَلِمْنا أن مذهب الجمهور أن في هذا غرر، وأنه جاء فيه النَّهي عنه صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم، فأخذوا بذلك وحرّموه. فتعلم بذلك دِقّة الشَّريعة فيما يتعامل النَّاس حتى يكونوا على بيِّنة من أمرهم وعلى ما يقتضي الصَّلاح لهم والفوز والفلاح، فما أعظم شريعة الله، ويا ويل من استبدل بها غيرها!

فوآسفًا من كونِ كل قبيلةٍ *** تشدّد حكم الجاهلية والكُفر

ومن كون أرباب العبيد وزمرة الـ *** ـقنِيص لهم حُكمٌ يمشي بلا عذر 

وأحكام شرع الله مطروحةٌ بلا *** ملامٍ على مَن حادَ عنها ولا نُكر

كان يقول الإمام عبد الرحمن بلفقيه هذه الأبيات -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- قبل ظهور هذه القوانين الوضعية والتجرؤات على الأحكام الشَّرعية.

"قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا الرَّجُلُ يَبِيعُ ثَمَرَ حَائِطِهِ، وَيَسْتَثْنِى مِنْ ثَمَرِ حَائِطِهِ ثَمَرَ نَخْلَةٍ، أَوْ نَخَلاَتٍ يَخْتَارُهَا، وَيُسَمِّي عَدَدَهَا، فَلاَ أَرَى بِذَلِكَ بَأْساً"، وهو عند غيره كذلك مُجمَع عليه أن هذا جائز "لأَنَّ رَبَّ الْحَائِطِ إِنَّمَا اسْتَثْنَى شَيْئاً مِنْ ثَمَرِ حَائِطِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ شَيْءٌ احْتَبَسَهُ مِنْ حَائِطِهِ وَأَمْسَكَهُ لَمْ يَبِعْهُ، وَبَاعَ مِنْ حَائِطِهِ مَا سِوَى ذَلِكَ."، فلا إشكال في ذلك عند الأئمة الأربعة.

 إذا كانت النخلات معلومات معيّنات، أما إذا بيع الثمر إلا ثلاث نخلات، أين هن؟ فإذا قال بعد ذلك أرى!.. فهذا باطل إلا أن تكون معيّنة فهو صحيح باتفاق، يعيّنُها؛ فتكون ثمر هذه النخل للبائع، وبقية النخلات قد باع ثمرها على المشتري. 

ثم إن من الاستثناء: 

  • ما عدّه بعضهم شرطًا يصح. 

  • ومنهم مَن عدّه شرطًا يُبطل البيع. 

إذا باع دار مثلًا واستثنى سُكناها شهرًا، وقد بعته عليه، 

  • فهذا عند المالكية والحنابلة أيضًا يجوز، واستدلّوا بحديث سيِّدنا جابر لمَّا اشترى منه الجمل على أن له ظهره إلى أن يصل إلى المدينة، اشترط ظهره إلى المدينة، وقال: بعته واستثنيت حُملانه إلى أهلي. 

  • قال الحنفية والشَّافعية: لا يجوز ذلك؛ يبطل الشرط والبيع؛ لأنه شرط يتنافى مع أصل العقد. تبيع عليّ الدار ملكي، وتقول: وأقعد فيه شهر أو شهرين وهذا مستثنى، مستثنى كيف؟! استأجره مني. إذا رضيت أجّرته عليك، أما إذا تبيع عليّ، وتقول لك شهر من أين يدخل هذا الشهر؟ بمجرد البيع صارت الدار ملكي، تريد شهر من أين؟ أردت مني فتستأجر، إذا أنا رضيت بأجّره عليك، وأما بهذا لا! قل: اجلس بعد شهر ببيعك، تمام، اقعد في دارك لا تبِع، بعد شهر تعال إن رضيت، نتبايع أنا وإياك. أما الآن تبيع عليّ، وبعد ذلك تقول: شهر لي! فهذا لا يجوز عند الحنفية والشَّافعية. 

فهكذا أورد هذه الآثار، وبها قام مذهب الإمام مالك وأهل المدينة؛ أي: جماعة منهم.

وكذلك فيما جاء عن ابن عُمَر، الذي فيه رواية جاءت من طريق ابن لهيعة عن ابن عمر، ولكن الذي صحّ عن ابن عُمَر أنه كان يكره ذلك، كما ذكر عن القاسم بن مُحمَّد من الفقهاء، يقول: لولا أن ابن عُمَر كان يكره الثُنيا لقلنا بجواز ذلك. فتبيّن أن ابن عُمَر كان لا يقول بجواز بيعٍ مع الاستثناء، كما يقول الجمهور. وكذلك ما يتعلق باستثناء الجزء المُشاع، فهذا عند مالك وعند أبي حنيفة؛ يجوز. وكذلك يقول الشَّافعية والحنابلة: لا يصح. 

رزقنا الله الحلال، وجنّبنا الحرام، وأغنانا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمَن سواه، وأصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون الصَّالحين، ورقّانا أعلى مراتب علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين في عافية وتمكين، بِسِرّ الفاتحة، وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

22 رَجب 1443

تاريخ النشر الميلادي

23 فبراير 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام