شرح المُوطَّأ - 330 - كتاب البيوع: باب الجائِحة في بَيْعِ الثِمار والزَّرْع

شرح المُوطَّأ - 330 - كتاب البيوع: باب الجَائِحَةِ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ وَالزَّرْع
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، باب الْجَائِحَةِ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ وَالزَّرْع.

فجر الأربعاء 15 رجب 1443هـ.

باب الْجَائِحَةِ فِي بَيْعِ الثِّمَارِ وَالزَّرْعِ

1822- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الرِّجَالِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَهَا تَقُولُ: ابْتَاعَ رَجُلٌ ثَمَرَ حَائِطٍ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَعَالَجَهُ وَقَامَ فِيهِ، حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ النُّقْصَانُ، فَسَأَلَ رَبَّ الْحَائِطِ أَنْ يَضَعَ لَهُ، أَوْ أَنْ يُقِيلَهُ، فَحَلَفَ أَنْ لاَ يَفْعَلَ، فَذَهَبَتْ أُمُّ الْمُشْتَرِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "تَأَلَّى أَنْ لاَ يَفْعَلَ خَيْراً". فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَبُّ الْحَائِطِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ لَهُ.

1823- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَضَى بِوَضْعِ الْجَائِحَةِ. قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى ذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا.

1824- قَالَ مَالِكٌ: وَالْجَائِحَةُ الَّتِي تُوضَعُ عَنِ الْمُشْتَرِي الثُّلُثُ فَصَاعِداً، وَلاَ يَكُونُ مَا دُونَ ذَلِكَ جَائِحَةً.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته ودينه، وبيانها على لسان عبده وحبيبه وأمِينه، سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحبه الراكبين في سفينه، وعلى مَن تبعهم بصدقٍ وإحسان في ظاهر الأمر وبطونه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين المخصوصين بتفضيل الله إيّاهم وتعيينه وتبيينه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المُقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين. 

ويتحدث الشيخ -عليه رضوان الله- فيما يتعلق ببيع الثِّمار والزُّروع إذا أصابها بعد الشراء جائحة، فاستئصلتها وأتلفت الكثير منها أو الحظ والنصيب مما أُشتُريَ إما بريحٍ أو ببَرَدٍ وثلج أو بشيء من هذه الجوائح التي تنزل بالزروع، وما ينبغي للمشتري أن يساعد البائع الذي اشترى منه الزرع فأصابته الجائحة. 

  • فيُطلقون في اللغة الجائحة على المصيبة المُستأصِلة، وتُجمع على الجوائح. 

والجائحة عند الفقهاء، يقول الإمام مالك: جائحة من قبل الماء، جائحة من قبل غير الماء. 

  • أما الجائحة من قبل الماء، فإن كانت من قبل العطش، يقول الإمام مالك: بوضع قليل ذلك وكثيره، سواءً أكانت شرب مطر أم غيره. 

  • والقسم الثاني الجائحة التي تكون من الآدميين كحصول سرقة ونحوها، فهذا منهم لم يعدُّه من الجوائح أصلًا. 

 

  • يقول الإمام مالك في الجائحة: كل شيءٍ لا يُستطاع دفعه لو عُلِم به؛ كسماوي: كالبرد والحر، وريح السّموم، والثلج والمطر، أو مجىء الجراد وأكله للزرع، أو فئران أو غبار أو نار ونحو ذلك. 

  • وهكذا يقول الشَّافعية والحنابلة عن الجائحة: أنها كل ما أذهب الثمر أو بعضها بغير جناية آدمي؛ كريح، مطر، وثلج، بَرَد، جليد، صاعقة، حر، برْد، وعطش إلى غير ذلك. 

إذًا؛ فهذه الجوائح هل تؤثر في البيع أم لا فما تُهلكه الجائحة من الثمار؟ 

  • يقول الحنابلة: من ضمان البائع، وكذلك قال الإمام مالك وأكثر أهل المدينة، وهو المذهب القديم للشافعي، أن بالجائحة يضمن البائع. 

  • وقال الإمام أبي حنيفة والإمام الشَّافعي في مذهبه الجديد: من ضمان المشتري. 

لمَا جاء أن امرأة أتت النَّبي ﷺ قالت: إن ابني اشترى ثمرة من فلان، فأذهبتها الجائحة، فسألته أن يضع عنه، فتألّى؛ يعني حلف ألا يفعل. قال ﷺ: "تَأَلَّى -فلان- أَنْ لاَ يَفْعَلَ خَيْراً". فلو كان واجب، لقال: يجب عليه أن يضمن وأن يرد ولكن قال: خير. عدَّه من الخير ومن المحاسن والفضائل أنه يرد إلى المشتري الذي أصاب الجائحة ثمنه أو ما يصطلحون عليه، فتسميته له بـ خير أن ذلك من فعل المعروف لا يلزمه ذلك؛ فلهذا قال أبي حنيفة والإمام الشَّافعي: لا يلزمه. 

  • قال الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل: إذا نزلت الجائحة فعلى البائع أن يرُد الثمن؛ لأن المشتري لم يُحصّل شيء؛ أعطاه الثمن ولم يجد شيئًا مقابل ذلك أصلًا. 

فهكذا، وجاء في رواية عند الإمام مُسلم، أن جابر يقول: أن النبي ﷺ أمر بوضع الجوائح. وعن جابر أن رسول الله ﷺ: "إن بِعْت من أخيك تمرًا، فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بمَ تأخذ مال أخيك بغير حق؟" أيضًا في رواية مُسلم وأبي داود، وهذا دليل المالكية والحنابلة.

وقال الإمام الشَّافعي: لم يثبت عندي أن ﷺ أمر بوضع الجوائح، ولو ثبت لم أعده؛ -ما بتخطّاه، ولا أتجاوزه أصلًا، لم يثبت عنده- ولو كنت قائلًا بوضعها، لوضعتها في القليل وفي الكثير. فعلى كل حال، ثبت عند الإمام أحمد هذا الحديث، وبه أخذ. وهو أيضًا مذهب الإمام مالك، أنه ما دام أن المشتري لم ينتفع بشيءٍ مما دفع عليه الثمن؛ فيُرَد له الثمن. وإن اصطلحا على أمر، فذلك خير. 

في البُخاري جاء: "إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها ثم أصابته عاهة فهو من البائع"، ذكر فيه حديث أنس عن بيع الثمار حتى تُزهي. قال: "أرأيت إن منع الله الثمرة، بمَ يأخذ أحدكم مال أخيه؟" 

إذًا: قال جماعة من جمهور السلف، والثوري، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومُحمَّد، والشَّافعي، وجعفر الطبري: ما ذهب من الثمر المبيع الذي أصابته الجائحة من شيء سواء كان قليلًا أو كثيرًا بعد قبض المشتري إياه، فهو ذاهب من مال المشتري؛ قد دخل مُلكك، فأصابته الجائحة وهو في ملكك، فما يفعل لك البائع؟ قد خرج من ملكه وأعطاك إياه، وقدَّر الله عليك ذلك، فالحمد لله رب العالمين. لو كان أصابته الجائحة قبل ما يبيعك، وقبل ما تقبض منه أنت، وقبل ما يقبض الثمن وتقبض أنت منه الثمر، لكان الأمر نعم واقع عليه. لكن الآن قبضت وقبض، وأنت أخذت الثمر فأصابته الجائحة، فوقعت في ملكك؛ فأنت الذي تتحمل ذلك، وهذا مذهب جمهور السَّلف وعليه أبي حنيفة والإمام الشَّافعي. 

ويذكر الإمام أبي حجر العسقلاني يقول: إنما ورد وضع الجائحة ما إذا بيعت الثمرة قبل بدو صلاحها، وهو الذي استدلّ الإمام البُخاري. "أرأيت إن منع الله الثمرة"؛ عاده ما بدا صلاحها، بغير شرط القطع، فيُحمل مطلق الحديث في رواية جابر على ما قيده فيه في حديث أنس. 

وجاء في حديث سيِّدنا أبي سعيد: أنه "أُصِيبَ رجل فِي عهد رسولِ اللهِ ﷺ في ثِمارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُر دَيْنُه، فقال رسول الله ﷺ: تَصَدَّقُوا عليه. فَتَصَدَّق النَّاس عليه، فلم يَبلغ ذلك وفاءَ دَيْنِه، فقال رسول اللهِ ﷺ لِغُرَمَائِهِ:"؛ يقول لأهل الدِّين "خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ". أخرجه مسلم. (فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ) [البقرة:280] فما أبطل دين الغُرماء بذهاب الثمار. 

إذًا؛ 

  • فمذهب جمهور السَّلف، والإمام أبي حنيفة، والشَّافعي، أن الأمر بوضع الجوائح على عمومه، فهو عندهم مُستحب لا مُستحق؛ لكن يُستحب من هذا البائع ما دام رأى صاحبه ما استفاد شيء من ثمن الذي أعطاه أن يساعد؛ يرد له كل الثمن أو بعضه ما تسمح به نفسه، فذلك من المُستحبات. 

يقول: عن عَمرة بنت عبد الرَّحمن قالت: ابتاع رجل ثمر حائط في زمن رسول الله ﷺ؛ معنى الحائط: البستان، جاء الحديث في الصَّحيحين. سَمِعَ رَسولُ اللهِ ﷺ صَوْتَ خُصُومٍ بالبَابِ، عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا، وإذَا أَحَدُهُما يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ في شيءٍ، -يقول له: ساعدنا في النائبة لأني أعطيتك الثمن وما حصّلْت شيء، جاءت الجائحة وأتلفت الثمر، وَهو يقولُ: وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ، فَخَرَجَ عليهما رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ ﷺ، فَقَالَ: "أيْنَ المُتَأَلِّي علَى اللَّهِ لا يَفْعَلُ المَعْرُوفَ؟!" فَقَالَ: أنَا يا رَسولَ اللَّهِ، قلت كذا، وله أيُّ ذلكَ أحَبَّ. الحب إليه يأخذه، تأثَّر من قوله ﷺ، تحلف ما تفعل معروف وما تفعل خير؟! فرجع إلى المعروف والخير مُتأثرًا بطلعة وجه نبي الخير صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم. 

وفي الحديث: دخلت امرأة إلى رسول الله ﷺ قالت: ابتعت أنا وابني من فلان تمرًا فأحصيناه، لا والذي بعثك بالحق ما أحصينا منه إلا ما نأكله في بطوننا ونُطعمه مسكينًا، وجئنا نستوضعه ما نقصنا، إلى آخر الرواية، وأنه حلف، فقال ﷺ: حلف ألا يفعل المعروف!

قال: "ابْتَاعَ رَجُلٌ ثَمَرَ حَائِطٍ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَعَالَجَهُ وَقَامَ فِيهِ، حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ النُّقْصَانُ، فَسَأَلَ رَبَّ الْحَائِطِ أَنْ يَضَعَ لَهُ، أَوْ أَنْ يُقِيلَهُ"، ولهذا قال له بعد ذلك: له أحب الأمرين، يضع له من الثمن مقدار ما فسد عليه أو يُقيله من البيع. "فَحَلَفَ"؛ أي البائع "أَنْ لاَ يَفْعَلَ، فَذَهَبَتْ أُمُّ الْمُشْتَرِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ"، وأن الرَّجل حلف، "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "تَأَلَّى أَنْ لاَ يَفْعَلَ خَيْراً""؛ يعني: حلف بالله ألا يفعل الخير! كأنه إنكار منه لحلفه، "فَسَمِعَ بِذَلِكَ" أي: قوله ﷺ "رَبُّ الْحَائِطِ" -البائع-، "فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ لَهُ"؛ أي: للمشتري، أرد له ثمنه كله وأقيله البيعة. قال له: "هُوَ لَهُ"؛ يعني: أنه أقلع عما أتاه من الحلف على ألا يضع من المتاع شيئًا، رجع عن ذلك وتاب، ورجع إلى مراد النَّبي ﷺ وإلى ما وصفه النَّبي بالخير وبالمعروف. في رواية ابن حِبان قال: إن شئت وضعت ما نقصوا، وإن شئت من رأس المال، فوضع ما نقصوا؛ يعني حطّ من رأس المال بمقدار ما نقص عليه. 

"وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رضي الله عنه- قَضَى"؛ أي حكم "بِوَضْعِ الْجَائِحَةِ". قال أبي حنيفة والشَّافعي والجمهور: أن ذلك على الاستحباب؛ لأن ما أصاب المبيع بعد القبض فهو من ضمان المشتري. وإذا باع ولم يقبض بعد، فأصابه شيء، فهو في ضمان البائع. فبعد القبض خلاص يكون في ضمان المشتري.  "قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى ذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا"، فمذهب مالك في وضع الجوائح. 

"قَالَ مَالِكٌ: وَالْجَائِحَةُ الَّتِي تُوضَعُ عَنِ الْمُشْتَرِي الثُّلُثُ فَصَاعِداً"، ولا يكون ما دون ذلك جائحة، فمقدار الثلث أو أكثر من الثلث. وأما إذا أصابت الجائحة أقل من الثلث فيتحمّلها المشتري في مذهب مالك الذي يقول بوضع الجوائح. قال: بشرط أن تكون الجائحة أخذت عليه ثلث الثمرة أو أكثر، وأما أقل من الثلث يتحمّلها وما توضع عنه، إلا أن يفعل البائع معروفًا فيرد إليه شيئًا.  

رزقنا الله الاقتداء بنبيّه مُحمَّد والاهتداء بهديه، والعمل بشريعته، وحقيقة نُصرته، وأكرمنا بشريف مرافقته، وأسعَدَنا بالاستمساك بسُنّته، وحَشَرنا في زمرته وهو راضٍ عنّا بِسِرّ الفاتحة، وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

22 رَجب 1443

تاريخ النشر الميلادي

23 فبراير 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام