(364)
(535)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب البيوع، باب مَا جَاءَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ.
فجر الثلاثاء 14 رجب 1443هـ.
باب مَا جَاءَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ
1819 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَرْخَصَ لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ، أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا.
1820 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أبِي أَحْمَدَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا، فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ. يَشُكُّ دَاوُدُ قَالَ: خَمْسَةِ أَوْسُقٍ: أَوْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ.
1821 - قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا تُبَاعُ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ، يُتَحَرَّى ذَلِكَ وَيُخْرَصُ فِي رُؤُوسِ النَّخْلِ، وَإِنَّمَا أُرْخِصَ فِيهِ لأَنَّهُ أُنْزِلَ بِمَنْزِلَةِ التَّوْلِيَةِ وَالإِقَالَةِ وَالشِّرْكِ، وَلَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْبُيُوعِ، مَا أَشْرَكَ أَحَدٌ أَحَداً فِي طَعَامٍ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ. وَلَا أَقَالَهُ مِنْهُ. وَلَا وَلَاّهُ أَحَداً، حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُبْتَاعُ.
الحمد لله مُكرمنا ببيان الأحكام على لسان خير الأنام، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه أفضل الصلاة والبركة والسلام، وعلى آله وصحبه الكرام ومن والاهم وعلى منهجهم استقام، وعلى آبائه من الأنبياء والمرسلين أهل المراتب العظام، وعلى ملائكة الله المقرّبين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ما يسمى في الفقه بـ بيع العرايا؛ وهو النخلة يُعريها صاحبها أو يُعيرها رجلًا محتاجًا، يجعل له ثمرها عامها فيعروها؛ أي: يأتيها، فهي فعيلة بمعنى مفعولة أو تأتي بمعنى فاعلة.
فالعريّة: بيع الرُّطب على النخل بتمرٍ في الأرض، أو العنب في الشجر بزبيب، كل ذلك فيما دون النصاب؛ فيما دون الخمسة الأوسق.
وهكذا؛ يقول الحنابلة في تعريف بيع العَري أو العَرايا: أنه بيع الرُّطب في رؤوس النخل خَرْصًا بمثله أو ما يساويه يابسًا، فيُخْرَصُ ويُقدَّر أن هذا سيأتي من التمر بكذا، فيُخلّي بين المشتري وبين الثمر الذي في النخل، ويأخذ منه تمرًا مُقدَّرًا كالقيمة لهذا الرُّطب الذي على النخل، أو العنب الذي في شجره بأن يبيعه بزبيب قد يَبِسْ.
فهذا حكم بيع العَرايا وَهِبَتُهَا كذلك، هو عند جمهور الفقهاء من البيوع الجائزة، هكذا يقول الأئمة الثلاثة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-.
وذكر بعضهم عن مالك أنّ له تفسير خاص بالعَريّة، وأنه ما يدخل في هؤلاء القائلين من الشافعية والحنابلة ببيع العرايا على الإطلاق، وإنما فسَّرها بالهِبَة، وبأن يُوهَبَ لأحدٍ من الناس هذا الرُّطب أو الثمر الذي على النخل، ويُقال له: خُذ منه وهو لك، هذه النخلة وهذه، وهذه، وما إلى ذلك.. فحملوه على الهِبَة في قول الإمام مالك، وفي قول عند الإمام أحمد -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-.
فممّا يدخل في هذا المضمار والمجال:
أن يقول الرجل لصاحب حائط بِعْنِي ثمر نخلات بعينها، بخَرَصِها من التمر، تُخْرَص أي: تُقدَّر كم سيأتي منها تمر؟ فيعطيه تمرًا مقابل ذلك؛ يَخْرصها ويَبيعه ويقبض منه التمر ويُسلِّم إليه النخلات، يُخلّي بينه وبينها، ينتفع بِرُطَبِها.
وكذلك أن يَهَبَ صاحب الحائط لرجل نخلات، أو ثمر نخلات معلومة من حائطه، ثم يتضرر بدخوله عليه فيخْرِصها ويشتري منه رُطَبًا بقدر خَرْصِه بتمرٍ يُعطيه إياه مُعجَّلًا.
كذلك: أن يَهَبَهُ إياها فيتضرر الموهوب له بانتظار صيرورة الرُّطب تمرًا، ولا يحب أكلها رُطبًا لاحتياجه إلى التمر، فيبيع ذلك الرُّطب على الذي وهبه له بِخَرْصِهِ، أو بأن يبيعه للذي وهبه أو لغيره بِخَرْصِه بتمر يأخذه مُعجَّلًا ويترك هذا.
فَراجعة الصُّوَر إلى الخَرْصِ في الرُّطَب وأخذ مقابله تمرًا، منها: أن يبيع الرجل ثمر حائطه بعد بدو الصلاح، ويستثني منه نخلات معلومة يبقيها لنفسه وعياله، ويقول: هذه نحن سنأكل خريفها نحن والعيال، وعليك الباقي.
وقد تقدم معنا جواز بيع الثمر بعد بدوّ الصلاح، وأنه في التمر أن يَحْمَرَّ ويَصْفَر، فإذا قد تلوَّن بذلك فهو بدو صلاحه، ويُؤمَن عليه بعد ذلك -غالبًا- أن تصيبه آفة أو عاهة.
أو يُعْرِيَ الرجل تمر نخلات يُبيح له أكلها والتصرّف بها؛ هذه مجرد هِبَة مخصوصة، يدخل كله في بيع العرايا.
أو يُعْرِي عامل الصدقة لصاحب الحائط من حائطه نخلات معلومة لا يَخرصها في الصدقة، فهذا ما يتعلّق بِخَرص العامل، والهِبَة لا بيع فيها.
يقول الإمام أبو حنيفة في بيع العريّة: أن يُعري الرجلُ الرجل ثمر نخلة من نخله، فلا يُسلِّم ذلك إليه حتى يبدو له، فرخّص له أن يحبس ذلك ويعطيه مكانه خَرْصَه تمرًا.
إذًا؛ فالجمهور قائلين بجواز بيع العرايا.
وجاء عن أبي هريرة أن النبي ﷺ رخّص في العرايا، قال: "فيما دون خمسة أوسق"، فإن ما كان خمسة أوسق فقد تعلّقت به الزكاة، فقد يُحتاج إليه؛ بأن يكون المشتري محتاج إلى أكل رُطب، وإما أنه لا يجد لذلك نقدًا فيبيعه بتمرٍ عنده، عنده فُضول من التمر موجود، فيُخْرَص ويعطيه تمر مقابل أن يأخذ منه هذا الرُّطب، ثم يَتَقدَّرُ بالخَرْصِ بقدر ذلك الثمر حسب الخَرْص، ويكون العِوَض من صنف العريّة هذه؛ يعني: تمر من نفس النوع الذي يأخذ رُطَبَهُ، فلا يجوز بيع الرُّطب بالرُّطب، وكذلك في بيع المطعوم بالمطعوم رُخِّصَ في مسألة هذه العرايا فقط؛ لأنه ما يكون مثله في الكيل ولا في الوزن في الوقت الحاضر إنما يُخْرَص إذا يَبِسْ وصار تمرًا: أنه يُقدَّر بكذا وكذا...
يقول -عليه رحمة الله- "عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَرْخَصَ لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ، أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا"؛ والحديث أيضًا عند الإمام البخاري. "رَخَّصَ لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا" لمن شاء، كما هو عند الإمام الشافعي والإمام أحمد. وعند مالك: بِيَدْ وَاهِبَها فقط، ويَقرُب منه قول الحنفية. "بِخَرْصِهَا"؛ أي: بِقدْرِها؛ بتقدير ما يؤول إليه الرُّطب من التمر، كم يُخرج من التمر إذا تُرك حتى ييبس؟ والخارص الواعي الفاهم الذي يعرف التقدير يطيف بالنخلات ويقول: هذا الرُّطب إذا يبس يَحصل منه التمر كذا وكذا، فيُقدّر بذلك.
وذكر لنا: "عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا"؛ أي: بيع تمر العرايا، "بِخَرْصِهَا"؛ تمرًا، "فِيمَا دُونَ"؛ أي: أقل من، "خَمْسَةِ أَوْسُقٍ"؛ هذا مقدار حد الزكاة، النصاب في الزكاة، "أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ"؛ واو الشك، "يَشُكُّ دَاوُدُ قَالَ: خَمْسَةِ أَوْسُقٍ: أَوْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ.".
وعند الإمام الشافعي والإمام أحمد: أنه إذا قد بلغت خمسة أوسق فزائدًا؛ ما عاد يجوز فيها أن يبيعها عرايا، وفي الصور التي قال فيها الإمام مالك بالعرايا، ولو بلغت خمس أوسق لا يضر عنده.
"قَالَ مَالِكٌ: وَإِنَّمَا تُبَاعُ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنَ التَّمْرِ، يُتَحَرَّى ذَلِكَ وَيُخْرَصُ فِي رُؤُوسِ النَّخْلِ"؛ وليست له مكيلة؛ أي: لا يحتاج إلى كيل على رؤوس النخل ولكن بالتقدير، "وَإِنَّمَا أُرْخِصَ فِيهِ لأَنَّهُ أُنْزِلَ بِمَنْزِلَةِ التَّوْلِيَةِ وَالإِقَالَةِ وَالشِّرْكِ".
"بِمَنْزِلَةِ التَّوْلِيَةِ"؛ بيع ما اشتراه بما اشتراه من الثمن.
"وَالإِقَالَةِ"؛ إزالة البيع وفسخه.
"وَالشِّرْكِ"؛ تشريك غيره فيما اشتراه.
فهذه البيوع الثلاثة، كما هي جائزة عند الإمام مالك، وعنده يجوز التصرف في الطعام قبل قبضه. "وَلَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْبُيُوعِ، مَا أَشْرَكَ أَحَدٌ أَحَداً فِي طَعَامٍ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ. وَلَا أَقَالَهُ مِنْهُ. وَلَا وَلَاّهُ" أي: المبيع "أَحَداً"؛ يعني: ما باعه بالتولية التي هي بما اشتراه من الثمن "حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُبْتَاعُ".
فهذه أحكام ما يتعلق ببيع العرايا؛ وهو بيع الرُّطب أو العنب، الرُّطب بِخَرصه تمرًا، والعنب بِخَرصه زبيبًا.
وهكذا؛ نجد دقّة الشرع المصون في تتبع ما يحتاجه الناس، وإعمال الأحكام فيما يجري لهم في الحياة، ومراعاة المنافع والمصالح بميزان رباني قويم، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50].
فالموفَّق السعيد: من حكّم أمر الشريعة في شؤونه وأحواله الظاهرة والباطنة، وفي جميع معاملاته مع القريب والبعيد.
والزائغ: من زاغ به هواه إلى استحسان شيء يخالف الشرع المصون، وقد يؤدي ذلك إلى الكفر -والعياذ بالله تعالى-، وقد يكون معصية وفسقًا إذا لم ينطوِ القلب على استحضار حكم الله ومنهجه، وشريعته ودينه، أو اعتقاد أن نظامًا آخر خير منها، إذا انتهى إلى ذلك فهو الكفر الصريح، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
رزقنا الله حسن الاستسلام والائتمام بخير الأنام في كل خاص وعام، وأن يرزقنا حقيقة الرضا به ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولًا، مع صلاح شؤوننا ودفع الشرور عنا، بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
22 رَجب 1443