شرح الموطأ - 323 - كتاب الرضاع: باب ما جاء في الرَّضَاعَة بعد الْكِبَر

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الرضاع، باب مَا جَاءَ فِي الرَّضَاعَةِ بَعْدَ الْكِبَر.
فجر الإثنين 6 رجب 1443هـ.
باب مَا جَاءَ فِي الرَّضَاعَةِ بَعْدَ الْكِبَرِ
1781 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْر: أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْراً، وَكَانَ تَبَنَّى سَالِماً، الَّذِي يُقَالُ لَهُ: سَالِمٌ مَوْلَى أبِي حُذَيْفَةَ، كَمَا تَبَنَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَأَنْكَحَ أَبُو حُذَيْفَةَ سَالِماً، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ ابْنُهُ، أَنْكَحَهُ بِنْتَ أَخِيهِ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ، وَهِيَ مِنْ أَفْضَلِ أَيَامَى قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَا أَنْزَلَ فَقَالَ: (ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) [الأحزاب:5] رُدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ إِلَى أَبِيهِ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَبُوهُ، رُدَّ إِلَى مَوْلاَهُ، فَجَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ، وَهِيَ امْرَأَةُ أبِي حُذَيْفَةَ، وَهِيَ مِنْ بَنِى عَامِرِ بْنِ لُؤَىٍّ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نَرَى سَالِماً وَلَداً، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا فُضُلٌ، وَلَيْسَ لَنَا إِلاَّ بَيْتٌ وَاحِدٌ، فَمَاذَا تَرَى فِي شَأْنِهِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، فَيَحْرُمُ بِلَبَنِهَا". وَكَانَتْ تَرَاهُ ابْناً مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَأَخَذَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، فِيمَنْ كَانَتْ تُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنَ الرِّجَالِ، فَكَانَتْ تَأْمُرُ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَبَنَاتِ أَخِيهَا أَنْ يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبَّتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَأَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَقُلْنَ: لاَ وَاللَّهِ مَا نَرَى الَّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ، إِلاَّ رُخْصَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي رَضَاعَةِ سَالِمٍ وَحْدَهُ، لاَ وَاللَّهِ لاَ يَدْخُلُ عَلَيْنَا بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ أَحَدٌ، فَعَلَى هَذَا كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ ﷺ فِي رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ.
1782 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَنَا مَعَهُ عِنْدَ دَارِ الْقَضَاءِ يَسْأَلُهُ عَنْ رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إنِّي كَانَتْ لِي وَلِيدَةٌ وَكُنْتُ أَطَؤُهَا، فَعَمَدَتِ امْرَأَتِي إِلَيْهَا فَأَرْضَعَتْهَا، فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: دُونَكَ فَقَدْ وَاللَّهِ أَرْضَعْتُهَا. فَقَالَ عُمَرُ: أَوْجِعْهَا وَأْتِ جَارِيتَكَ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ رَضَاعَةُ الصَّغِيرِ.
1783 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ فَقَالَ: إنِّي مَصِصْتُ مِنْ امْرَأَتِي مِنْ ثَدْيِهَا لَبَناً، فَذَهَبَ فِي بَطْنِي، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: لاَ أُرَاهَا إِلاَّ قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: انْظُرْ مَاذَا تُفْتِي بِهِ الرَّجُلَ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: لاَ رَضَاعَةَ إِلاَّ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ، مَا كَانَ هَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله الذي أكرمنا بالشرع المصون، وبيانه على لسان عبده وحبيبه الأمين المأمون، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن له يوالون وبهَدْيّه يهتدون، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم والتابعين، وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ولازال الإمام مالك -عليه رحمة الله- يذكر الأحاديث المتعلقة بالرضاع وحكمه، وجاء في هذا الباب ما جاء في الرضاعة بعد الكِبَر. وقد علمنا ما عليه جماهير أئمة الفقه الإسلامي من أنه لا يُحرّم إلا ما كان في الحولين. إلا أن الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- جعل ما اتصلَ بالحولين، وغايته إلى شهرين لاحقٌ بها، ليتدرب الطفل في وقت على الانتقال من التغذّي باللبن إلى تناول الطعام، وإلى أكلِ الطعام، فقال: مهما استمر الرضاع إلى أن بلغ الطفل الحولين، فإنه يبقى رضاعهُ محرّمًا لمدة أقصاها شهرين بعد الحولين، وما عدا ذلك فلا.
-
فهكذا جعل الإمام مالك قال: أن الطفل قد يحتاج هذا المدة للتدرّج في تحويل غذائه من اللبن إلى الطعام، هذا إذا لم يُفطم عن الرضاع قبل هذه المدة، أما إذا فُطِم من قبل؛ فلا يؤثر الرضاع أصلًا بعد الحولين، إذا قد فُطم وأكل الطعام، يقول مالك: ثم رضع؛ فلا يكون الرضاع محرّمًا، وإنما إذا استمر الرضاعة.
-
كذلك قدر الإمام أبو حنيفة -عليه رحمة الله تعالى- بالعامين والنصف؛ فجعل مع الحولين ستة أشهر، لتدرّج الطفل في نصف العام على تحويل الغذاء.
وعلى ذلكَ، بعد ذلك انعقد الإجماع على أن الكبير من جاوز هذا الحد لا يحرّم رضاعهُ أصلا، بعد ما ذُكر من الخلاف عن عائشة وحفصة، ويقال: أن عائشة قد رجعت عن ذلك -عليها رضوان الله تبارك وتعالى- وكانت ترى ذلك ثم رجعت لما صحَّ لديها من الخصوصية، في مسألة سالم مولى أبي حذيفة، ولما جاء من التقييدات الأخرى التي وضعها ﷺ في شأن هذا الرضاع.
وكان يرى الإمام الأوزاعي أيضًا: أنه إذا قد فُطم، ولو في أثناء الحولين، ثم بعد ذلك تناول الطعام واعتاده ثم أرضعه أحد، فإن هذا الرضاع عنده لا يُحرّم، ولو كان في أثناء الحولين بعد أن فُطم وتعود أكل الطعام.
يقول: "باب مَا جَاءَ فِي الرَّضَاعَةِ بَعْدَ الْكِبَرِ"، وقد علمنا أن كيفية تلك الرضاعة لا تكون إلا بأن تحلبَ من لبنها، ثم تقدّمه إليه فيشربه، وأنه لا يجوز أن يلتقمَ الرجل الكبير ثدي الأجنبية، بل لا يجوز له النظر إلى ثديها، ولا أن يمسّه؛ أن يمسّ شيء منه، وإنما تحلب ثم تناوله إياه، على هذا القول.
وقلنا أيضا أن الجمهور قالوا: أن كل ما وصل من لبن المرأة إلى جوف الطفل في هذا السن فإنه يحرِّم، بأي طريقةٍ كان. بخلاف ما يروى عن داود الظاهري: أنه ما يحرّم إلا أن يلتقم الثدي ويمصّ منه، وإن بذلك يحصل التحريم. والجمهور على أن ذلك ليس بشرط.
ثم أن شؤون هذا الرضاع لها تأثيرات حتى قالوا: أن الرضاع يغيّر الطباع، وأحبّوا من المرضع أن تكثر الاشتغال والتلاوة والذكر للرحمن والأعمال الصالحة، ليتأثر لبنها بأنوار التلاوة، وأن لا ترضع الطفل إلا وهي ذاكرة لله -جلّ جلاله وتعالى في علاه- أو تالية للقرآن. وكتب بعض النساء -كأنها من آل قيدون من آل عمودي- فتاوى الإمام السبكي في ثلاثة مجلدات، قالت في آخرها: فليعذر الناظر فإني كتبت هذا وأنا مُرضع؛ يعني: كمّلت كتابة الفتاوى في أيام رضاعها، اشتغلت بنسخ هذا الكتاب وكتابته، فتعتذر أنها إن وقفت على خطأ فيه، فإني كتبته وأنا مرضع، فهكذا كنّ في رضاعهن، وكذلك كنّ في حملهن، وكذلك كان النساء اللاتي لم يستهويهن ولم يستعبدهن شرقي ولا غربي، ولا فاجر ولا شرير ولا نفس ولا شيطان ولا هوى، وكنّ إماء خُلّص لله، مقتديات متابعات، فطابت حياتهنّ بصدقهنّ وإخلاصهنّ وحضورهنّ مع الله، وأنجبن الصالحين وأنجبن العلماء العاملين، وأنجبن الهداة المهتدين، وهكذا جعل الله الترابط بين الأمور، والله يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين.
يقول: "عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْر: أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ"، يُقال اسمه: مهشم، ويقولون: هاشم، ويقول ابن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، "وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ"، من السابقين الأولين، أسلم والمسلمون عددهم شيء وأربعين في أول الإسلام، فدخل الإسلام، فكان بعد ثلاثة وأربعين رجلًا أسلموا قبله؛ فهو من السابقين الأولين، "وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْراً"؛ يعني: والمشاهد بعد بدر، واستشهد - عليه الرضوان - يوم اليمامة، في عهد سيدنا أبي بكر الصديق وهو ابن 56 سنة، عليه الرضوان.
"وَكَانَ تَبَنَّى"؛ أي: اتخذ ابنًا، "سَالِماً" هذا الفارسي المهاجري الأنصاري، "الَّذِي يُقَالُ لَهُ: سَالِمٌ مَوْلَى أبِي حُذَيْفَةَ"، قالوا: ولم يكن مولاه إنما كان يُلازمه، وهو مولى امرأة من الأنصار، ولكن كان يلازم أبا حذيفة، وكان من حلفائه، فنُسِب ولاؤه لحذيفة ويقال: مولى أبي حذيفة، واشتهر بذلك مولى أبي حذيفة، فأعتقته الأنصارية اسمها فاطمة بنت يعار يقال: لها ليلى، ويقال: أن امرأة أبي حذيفة هي التي ملكت هذا، ثم أعتقته فصار مولاه، فوالى أبا حذيفة فتبنّاه، يعني اتخذه ابنًا، وشهد هذا سالم مع أبي حذيفة وقعة اليمامة، وكان معه لواء المهاجرين، قُطعت يمينه فتناوله بيساره فقُطعت يساره فاحتضنه واعتنقه إلى أن صرع -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- وقال: ما فعل أبو حذيفة؟ فقيل له: قُتل، قال: فأضجعوني بجانبه، خلّونا عنده هنا أنا مشرف على الموت مثله، خلّوا قبري جنب قبر مولاي أبو حذيفة، عليهم رحمة الله تبارك وتعالى. ثم بُعث بماله إلى أبي بكر الصديق، فأرسله إلى معتقتهُ فأبَت أن تقبله، ثم لما تولى سيدنا عمر أرسله إليها فأبت أن تقبله فجُعل في بيت المال.
قال: "وَكَانَ تَبَنَّى سَالِماً، الَّذِي يُقَالُ لَهُ: سَالِمٌ مَوْلَى أبِي حُذَيْفَةَ، كَمَا تَبَنَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ"، ثم أبطل الله التبنّي؛ فرجع زيد بن حارثة كما هو، بعد أن كان يقال له: زيد بن محمد ينادونه بذلك، فهو حُب رسول الله ﷺ وأبو حِبّهِ أسامة ابن زيد، وهو من النواحي هذه من نواحي الهجرين، وخرجت أمه إلى عند أهلها تزور به فوقعت واقعة في الجاهلية، فسُبي ولدها هذا زيد بن حارثة، فأخذه البعض وأخذوه إلى السوق وهو ابن ثمان سنين، فأخذه واشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بنت خويلد، فجاء بها إليه فلما جاء بها إليه وهبته بعد ذلك للنبي محمد ﷺ.
ثم بعد أن وصل الخبر إلى أهله جاء عمه وجاء بعض قرابته وسألوا عنه أنه في مكة، يريدون أن يفتدوا ابنهم، فسألوا هو عند من؟ قالوا: هو الآن عند محمد، كان اشتراه حكيم بن حزام لخديجة وأهدته خديجة لمحمد، قالوا: وكيف محمد؟ قالوا: محمد رجلٌ بَرْ، ما يُغالبكم في ابنكم إذا طلبتموه منه، فسألوا عنه حتى لقوه، فلما لقوه قالوا: أن هذا عم زيد وهذا قريبه وهذا خاله وإنا جئناك نفتديه منك بما شئت، قال: لا، بل ادعوه لكم ونخيّره فإن اختاركم فهو لكم من دون شيء لا تعطوني فيه مقابل، وإن اختارني ما أنا بالذي أُكرهه، قالوا: والله لقد أنصفت، ما فوق هذا شيء، هذا أحسن! فاستدعوه وجاء وقال له: هل تعرف هؤلاء؟ وتأمّلهم لأنه وهو صغير لما خرج منهم قال: نعم هذا عمي وهذا قرابة أمي، قال: إنهم جاؤوا إليّ وقالوا كذا قلت كذا، قال: لا، والله ما أختار عليك أحدّ تعجّبوا.. كيف تختار الرق على الحرية؟ قال: ما وجدت مثل هذا ولا أب ولا أم ولا قريب في أخلاقه ورعايته وعنايته، فاطمأنوا أنه تحت كنف عناية ورعاية وأدب عجيب، أمر عجيب! فقالوا: خلاص يا محمد نسافر ونحن مطمئنين ونطمئن أهله عنه، قال لهم: فهو حر وهو ابني، فسمّوه زيد بن محمد، تبنّاه على ما كان في الجاهلية، فاستمر بين الناس يُسمى زيد بن محمد، إلى ما بعد الهجرة أبطل الله التبنّي، ورجع زيد بن حارثة كما هو وأبطل الله هذا التبني، وقال: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) [الأحزاب:5]، وفيه نزل قوله: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ) [الأحزاب:40] ﷺ.
فهذا "كَمَا تَبَنَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَأَنْكَحَ أَبُو حُذَيْفَةَ سَالِماً" هذا، بنت أخيه، وهو يرى أنه ابنه على ما كان الحكم في الجاهلية، أنكحه ابنة أخيه فاطمة، وفي رواية البخاري: بنت أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهي يومئذٍ من المهاجرات الأول، من أفضل أيامى قريش؛ الأيمَ من لا زوج لها، فاختار له هذه المرأة الصالحة ليعلم أنه يحبه، ويحرص عليه.
"فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَا أَنْزَلَ فَقَالَ: (ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) [الأحزاب:5]"، فلا يُنسبون لأحد منكم من جهة النسب، لكن من جهة الولاء والدين "(فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ)، رُدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ إِلَى أَبِيهِ"، كل واحد تبنّى من أولئك خلاص يرجع إلى أبيه، "فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَبُوهُ، رُدَّ إِلَى مَوْلاَهُ"؛ على الولاء لا على النسب. فَجَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ، وَهِيَ امْرَأَةُ أبِي حُذَيْفَةَ، وَهِيَ مِنْ بَنِى عَامِرِ بْنِ لُؤَىٍّ"، قرشية عامرية وأبوها صحابي، ولدت محمد لأبي حذيفة، سمّته محمد بن أبي حذيفة، وهي من بني عامر بن لؤي، جاءت إلى رسول الله ﷺ تسأله، قالت: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نَرَى سَالِماً وَلَدا"، فكَانَ يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد، وكان "يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا فُضُلٌ" أو فَضل ما أنا فَضل تعني متبذلة ثيابها، يعني بثياب المهنة تكون وأنا فُضْلٌ أو فُضُلٌ، يعني في ثياب مهنتي متبذلة غير محتشمة ومسترة، لأنهم كانوا يرونه ابنهم، "وَلَيْسَ لَنَا إِلاَّ بَيْتٌ وَاحِدٌ"؛ عندنا غرفة واحدة، لا عدد من الغرف هي غرفة، والبيت هو هذه الغرفة، "وَلَيْسَ لَنَا إِلاَّ بَيْتٌ وَاحِدٌ فَمَاذَا تَرَى فِي شَأْنِهِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، فَيَحْرُمُ بِلَبَنِهَا"؛ أي: يصير محرَم، "وَكَانَتْ تَرَاهُ ابْناً مِنَ الرَّضَاعَةِ"؛ يعني: تحلب اللبن وتعطيه إياه، في خمس مرات حتى يشبع من لبنها، وبعد الخميس يصير ابنها، فحمل جمهور الصحابة ومن بعدهم هذا على الخصوصية لسالم مولى أبي حذيفة ليس لغيره، وإنما غيره ما يكون الرضاع محرّم إلا ما قبل السنتين، ما قبل أن يكمل الحولين فإذا كملت السنتين فلا عبرة بالرضاع بعد ذلك.
لكن قال: "فَأَخَذَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، فِيمَنْ كَانَتْ تُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنَ الرِّجَالِ، فَكَانَتْ تَأْمُرُ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَبَنَاتِ أَخِيهَا أَنْ يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبَّتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَأَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، ولكن كان يذكر عن حفصة" مثل عائشة "وَقُلْنَ: لاَ وَاللَّهِ مَا نَرَى الَّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ، إِلاَّ رُخْصَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي رَضَاعَةِ سَالِمٍ وَحْدَهُ، لاَ وَاللَّهِ لاَ يَدْخُلُ عَلَيْنَا بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ أَحَدٌ، فَعَلَى هَذَا كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ ﷺ فِي رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ".
ثم يُذكر أن عائشة رجعت عن هذا إلى رأي الجمهور، وتمّ الإجماع أنه لا بد أن يكون صغيرًا وغايته الحولان بالاتفاق، وزيادة إلى شهرين في قول المالكية، وزيادة إلى ستة أشهر في قول الحنفية، ما عدا ذلك فلا عبرة بالرضاع ولا يحرّم شيئًا.
قال: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَنَا مَعَهُ عِنْدَ دَارِ الْقَضَاءِ يَسْأَلُهُ عَنْ رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ" إيش دار القضاء هذا؟ قالوا: دار سيدنا عمر بن الخطاب، فلما توفي كان عليه دين فباعوها لقضاء دينه، فسُمّيت دار القضاء، قضوا بها دين سيدنا عمر، أمير المؤمنين صاحب الفتوحات يموت وعليه دين! ودخل إلى خزانة الدولة على يديه إلى بيت المال، ملايين من هنا وهناك ولكن يموت وعليه دين -عليه الرضوان-، جمع الصحابة وسألهم ما لي في بيت المال هذا؟ قال له سيدنا علي: غداء وعشاء؛ لك غداءك وعشاءك، أنت ومن تلزمك نفقته، تأخذ غداء وعشاء، غير هذا لا.. فكان على ذلك لا يتناول من بيت المال إلا مقدار غداءه وعشاءه له ولزوجته ومن تلزمه نفقته، لا إله إلا الله!
وقد حسب سيدنا أبو بكر ما أنفق على نفسه وأهله من بيت المال في خلال سنتين وستة أشهر أيام خلافته، فبلغت ست ألف درهم، فأوصى إذا مات أن تؤخذ من ماله وتُردّ إلى بيت المال، فجاءوا بها إلى عند سيدنا عمر قال: ما هذا؟ قالوا: سيدنا أبو بكر، بكى سيدنا عمر، قال: أتعبت من يأتي بعدك يا أبا بكر! عليهم الرضوان.. لا إله إلا الله، تربية محمد ﷺ.
قال: "وَأَنَا مَعَهُ عِنْدَ دَارِ الْقَضَاءِ يَسْأَلُهُ عَنْ رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ" ماذا حكمها؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إنِّي كَانَتْ لِي وَلِيدَةٌ وَكُنْتُ أَطَؤُهَا"، يعني بحكم اليمين بملك اليمين، "فَعَمَدَتِ امْرَأَتِي إِلَيْهَا فَأَرْضَعَتْهَا" حتى تصير بنتي وتحرم عليّ، قال: "فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا فَقَالَتْ:"؛ يعني: زوجته "دُونَكَ"؛ خذ مني ما تحرم به عليك جاريتك، خلاص الآن ما لك طريق إليها، "فَقَدْ وَاللَّهِ أَرْضَعْتُهَا." فحرمت عليك يعني، "فَقَالَ عُمَرُ: أَوْجِعْهَا وَأْتِ جَارِيتَكَ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ رَضَاعَةُ الصَّغِيرِ".
"إنِّي كَانَتْ لِي وَلِيدَةٌ" جارية "وَكُنْتُ أَطَؤُهَا" يعني بحكم اليمين بملك اليمين "فَعَمَدَتِ امْرَأَتِي"؛ يعني: زوجتي "إِلَيْهَا فَأَرْضَعَتْهَا" من شان تكون بنتي وتحرم علي قال:" فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا فَقَالَتْ" : يعني زوجته "دُونَكَ" خذ مني ما تحرم به عليك جاريتك، خلاص دحين ما عاد لك طريق إليها، "دُونَكَ فَقَدْ وَاللَّهِ أَرْضَعْتُهَا" فحرمت عليك، جاء إلى عند سيدنا عمر قال هذا ما حصل، قال له: "أَوْجِعْهَا"؛ أدّب هذه المرأة التي تتصرف هذا التصرف، "وَأْتِ جَارِيتَكَ"؛ يعني: ما يؤثر شيء هذا الرضاع لأنها امرأة كبيرة، كيف ترضعها ما هي في سنتين، قدها في سنين كثيرة فما تؤثر، وقال: أدبها ذي أوجعها زوجتك أضربها لأنها تتصرف هذا التصرف ترضع من دون إذنك، وترضع وحدة كبيرة، ما يؤثر الرضاع فيها شيء، "فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ رَضَاعَةُ الصَّغِيرِ".
وهكذا عمدت امرأة من الأنصار إلى جارية زوجها فأرضعتها، فلما جاء زوجها قالت: إن جاريتك هذه قد صارت ابنتك! فانطلق إلى سيدنا عمر ذكر له ذلك، قال له عمر: عزمت عليك إلا ما رجعت فأصبت جاريتك وأوجعت ظهر امرأتك، هذه تحتاج أدب، أدّبها، والوليدة وليدة ما تصير ابنتك، ولا شيء لأنها قدها كبيرة وما يؤثر الرضاع شيء مع الكِبَر.
وجاء رجل يسأل سيدنا أبا موسى الأشعري - رضي الله عنه- قال: "إنِّي مَصِصْتُ مِنْ امْرَأَتِي مِنْ ثَدْيِهَا لَبَناً، فَذَهَبَ فِي بَطْنِي"، فَقَالَ أَبُو مُوسَى" في البداية "لاَ أُرَاهَا إِلاَّ قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: انْظُرْ مَاذَا تُفْتِي بِهِ الرَّجُلَ" تحقق منه، "فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: لاَ رَضَاعَةَ إِلاَّ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ"؛ أي: محرّمة معتبرة في الشرع إلا ما كان في الحولين.
وجاء في رواية قال له ابن مسعود: أنت تفتي بهذا بكذا وكذا! وقد قال: ﷺ لا رضاع إلا ما شدّ العظم وأنبت اللحم؟ فقال أبو موسى: "لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ، مَا كَانَ هَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ"؛ أي: هذه المسألة مما خفيَ عليه دقيقها، ولكن يشير إلى ابن مسعود، أنه صاحب علم واسع لقوة مرافقته للنبي ﷺ في تولّيه شؤون خدمته فسمع عنه ما لم يسمع غيره، وعرف من بيان الأحكام ما لم يعرفه غيره، قال: "لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ، مَا كَانَ هَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ"؛ ارجعوا إلى ابن مسعود فاسألوه، فرجع إلى قول ابن مسعود وهو قول الجمهور.
رضي الله عنهم وعنّا بهم، وسار بنا في سبيلهم، وسقانا من سلسبيلهم، ودفع الآفات عنّا، وأصلح سِرّنا والمعنى، ورزقنا الاستقامة، وأتحفنا بالكرامة وفرّج كروب أمة النبي محمد، ودفع الأسواء عنا وعنهم، وبارك لنا البركة الواسعة التامة الكاملة في رجب؛ لياليه وأيامه وساعاته كلها، وجعلنا من أسعد الناس به وبما فيه، متحققين بحقائق الاستغفار، موفّقين للصدقة بما يتيسر لنا، قائمين بأعمال البر راغبين فيها، مذللي القلوب للرحمن منكسرة من أجله، مقبلين بالكلية عليه، مقبولين لديه حتى يوفر الله حظنا من الشهر، فيتوفّر حظنا من شعبان، ونتهيأ لرمضان أحسن التهيؤ فندرك فيه من جود الله ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، مع اللطف والعافية والتوفيق التام وصلاح أحوال أهل الإسلام وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
15 رَجب 1443