شرح الموطأ - 321 - كتاب الرضاع: متابعة باب رَضَاعَةِ الصَّغِير

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الرضاع، باب رَضَاعَةِ الصَّغِير.
فجر السبت 4 رجب 1443هـ.
متابعة باب رَضَاعَةِ الصَّغِير
1771 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَصَّةً وَاحِدَةً، فَهُوَ يُحَرِّمُ.
1772 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَأَرْضَعَتْ إِحْدَاهُمَا غُلاَماً، وَأَرْضَعَتِ الأُخْرَى جَارِيَةً، فَقِيلَ لَهُ: هَلْ يَتَزَوَّجُ الْغُلاَمُ الْجَارِيَةَ؟ فَقَالَ لاَ: اللِّقَاحُ وَاحِدٌ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله على نعمة الشريعة، وبيانها على لسان سيدنا محمدٍ ذي الوَجاهات الوسيعة، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه ومن كان تبيعه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل الدرجات الرفيعة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويواصل سيدنا الإمام مَالِك ذكر الأحاديث المتعلقة بالرَّضاع، وسمعنا حديث: "عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَصَّةً وَاحِدَةً، فَهُوَ يُحَرِّمُ"، وفي هذا الأثر الإشارة إلى مسألتين:
-
مسألة هل يشترط في الرَّضاع عدد؟ أو أن قليل الرضاع وكثيره يُحرِّم؟
-
والمسألة الثانية: هل يشترط في الرضاع السن أم لا؟
والجمهور على أن الرَّضاع يُشترط فيه السن، فلا يؤثر الرَّضاع بعد الحولين؛ وإنما يكون في وقت تغذية الطفل والناشئ باللبن، وذلك إلى الحولين، وقد أشار إلى ذلك القرآن بقول الله: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ) [البقرة:233] وتنتهي الرضاعة بعد الحولين.
-
وقال الشَّافعية والرواية الأصح عند الإمام أحمَدْ بالنسبة للعدد في الرضاعات: أنه لا يُحرِّم إلا خمس رضعات، وما دون الخمس الرضعات لا يُحرِّم؛ سواءً شبع أم لم يشبع، فالعبرة بالعدد في الرضعات بحسب العُرف.
-
قال الإمام أبو حَنِيفَة والإمام مَالِك: يُحرِّم قليل الرَّضاع وكثيره، وهي رواية عن الإمام أحمَدْ بن حَنبَل، أي شيءٍ من لبن المرأة وصل إلى جوف الطفل ومعدته فقد حصّل بذلك الرَّضاع والمحرمية.
وقال الشَّافعية والرواية الأصح عن الإمام أحمَد: لا بُد من خمس رضعات.
-
ورواية أخرى عن الإمام أحمَدْ ثلاث رضعات، والأصح في مذهبه ما قال الشَّافعية أنه لا بُد من خمس رضعاتٍ لأجل حديث عائشة الآتي معنا، فالعبرة في العدد بالعُرف؛
-
فلو حوّلته من ثدي إلى ثدي فهو رضاع واحد، رضعة واحدة وليس باثنين.
-
ولو أخرج الثدي من فمه وعاد إليه فهو رضاع واحد.
-
بل لو التهى بقليلٍ من اللهو أو اللعب ثُمَّ عاد فهي رضعة واحدة.
-
بل ولو قامت لشغلٍ خفيف قد تفتح باب لأحد أو تحضر ماء وعادت فهو رضاع واحد. فإنما يحكم العُرف في أنه رَضعتان.
وإذا أخرجت اللبن من ثديها ثم أرضعته، فإن أخرجته دفعةً واحدة ثم أرضعته في أوقاتٍ متعددة فكوّنت منه خمسة رضعات، أو تكون أخرجت اللبن في أوقات متعددة، ثُمَّ سقته إياه دُفعةً واحدة فقام الاختلاف:
-
هل النظر إلى خروجه من الثدي؟
-
أو النظر إلى تناول الصبي له وإرضاعه؟
فصار قولين عند الشَّافعية:
-
إذا تفرّق في الإخراج، ثُمَّ تفرّق في الإرضاع فهو يُحرِّم.
-
فإن توحّد في أحدهما؛ ففيه قولان:
-
قيل: يحرّم
-
وقيل: لا يُحرِّم؛ لأنه ما حصلت العدد من الرضاعات.
-
واللبن ولو تغيّر عن هيئته:
-
لا يزال حُكمه كذلك عند الشَّافعية وعند الحَنَابِلَة، كذلك في الرواية عند المَالِكْية
-
وقال الحَنَفِية: إذا تغير عن هيئته فليس بمُحرِّم.
وإذا تغيّر إلى الحموضة أو تحوّل إلى الجبن ونحوه فأُطعمه الصبيّ، أو كان لبن المرأة خلطوه بشرابٍ آخر أو بطعام آخر فتّوه فيه للصبيّ فأكله، فوصل إلى جوفه، فعند الشَّافعية والحَنَابِلَة مؤثر ما دام جزء مما أصله لبن من المرأة وصل إلى الجوف فهو يؤثر.
"يَقُولُ: مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَصَّةً وَاحِدَةً، فَهُوَ يُحَرِّمُ"، على ذلك مذهب الإمام أبي حَنِيفَة، ورواية عند الإمام أحمَدْ وكذلك مذهب الإمام مَالِكْ: أنه يُحرِّم قليل الرضاع وكثيره، ما دام في السن المحدّد قبل الحولين، فبذلك ينبغي الاحتياط لمن كان أُرضع رضعةً أو رضعتين، ينبغي الاحتياط، فلا يُعتبر مَحرَمًا من جهة الدخول عليه، ويُعتبر مَحرَمًا من جهة الزواج فيكون عليه الاحتياط، إذا كان أقل من خمس رضعات.
وفي الحديث الثاني: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَأَرْضَعَتْ إِحْدَاهُمَا غُلاَماً"؛ أي: ذكرًا، "وَأَرْضَعَتِ الأُخْرَى جَارِيَةً" بنتًا، كبُرا "فَقِيلَ لَهُ: هَلْ يَتَزَوَّجُ الْغُلاَمُ الْجَارِيَةَ؟"؛ لأن الجارية أمها واحدة، والغلام أمه ثانية من الرَّضاع؛ لكن الامرأتين تحت رجل واحد، "فَقَالَ" سيدنا ابِن عباس "لاَ، اللِّقَاحُ وَاحِدٌ"، اللقاح واحد، ما دام السبب الذي خرج به لبن هذه ولبن هذه واحد، وهو هذا الرجل، فإذًا صارا أخوين من الرَّضاع، من جهة الأب، أبوهما واحد، أما أمهاتهم لا، هذا له أم وهذه لها أم ثانية، فالجارية لا تدخل على إخوان مرضعة الغلام، ولا الغلام يدخل على المرأة التي أرضعت الجارية؛ لكن يدخل على أمه والأب يجتمعون فيه كلهم يدخلون، وإخوان الأب كلهم يدخلون عليهم هذا وهذا، إخوان الأب، ولا يدخل أيضًا الغلام على أخوان التي أرضعت الجارية، ليسوا أخواله، فلا الأم أمه ولا الأخوال أخواله؛ لكن الأب نعم، الأب أبوه وأخوانه أعمامه، وهكذا قال "لاَ: اللِّقَاحُ وَاحِدٌ".
والله يَملأنا بالإيمان واليقين، ويُصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون الصَّالحين، نظر الله إلينا وأصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون عباده المقرّبين، في لطفٍ وعافيةٍ ويقين وتمكين، ويدفع السوء عنا وعن جميع المؤمنين بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي مُحمد ﷺ.
11 رَجب 1443