شرح الموطأ - 319 - كتاب الطلاق: باب ما جاء في الإِحْدَاد

شرح الموطأ - 319 - كتاب الطلاق: باب مَا جَاءَ فِي الإِحْدَادِ
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطلاق، باب مَا جَاءَ فِي الإِحْدَاد.

فجر الإثنين 28 جمادى الآخرة 1443هـ.

 باب مَا جَاءَ فِي الإِحْدَادِ

1753 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أبِي سَلَمَةَ: أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ هَذِهِ الأَحَادِيثَ الثَّلاَثَةَ قَالَتْ زَيْنَبُ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ تَوَفَّى أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبٍ، فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ أَوْ غَيْرُهُ، فَدَهَنَتْ بِهِ جَارِيَةً، ثُمَّ مَسَحَتْ بِعَارِضَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيْتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً".

1754 - قَالَتْ زَيْنَبُ: ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، حِينَ تَوَفَّى أَخُوهَا، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ حَاجَةٌ، غَيْرَ إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، تُحِدُّ عَلَى مَيْتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً".

1755 - قَالَتْ زَيْنَبُ: وَسَمِعْتُ أُمِّي أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ تَقُولُ : جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِي تَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا، أَفَتَكْحُلُهُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لاَ". مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: "لاَ"، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْراً، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ". قَالَ حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ: فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ: وَمَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ؟ فَقَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، دَخَلَتْ حِفْشاً، وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طِيباً وَلاَ شَيْئاً، حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ، حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَيْرٍ، فَتَفْتَضُّ بِهِ، فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إِلاَّ مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً، فَتَرْمِي بِهَا، ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ.

قَالَ مَالِكٌ: وَالْحِفْشُ الْبَيْتُ الرَّدِيءُ، وَتَفْتَضُّ تَمْسَحُ بِهِ جِلْدَهَا، كَالنُّشْرَةِ.

1756 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أبِي عُبَيْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ زَوْجَي النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيْتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ".

1757 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَتْ لاِمْرَأَةٍ حَادٍّ عَلَى زَوْجِهَا، اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ مِنْهَا: اكْتَحِلِي بِكُحْلِ الْجِلاَءِ بِاللَّيْلِ، وَامْسَحِيهِ بِالنَّهَارِ.

1758 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنْهُ بَلَغَهُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولاَنِ فِي الْمَرْأَةِ يُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا: إِنَّهَا إِذَا خَشِيَتْ عَلَى بَصَرِهَا مِنْ رَمَدٍ بِهَا، أَوْ شَكْوٍ أَصَابَهَا، إِنَّهَا تَكْتَحِلُ وَتَتَدَاوَى، بِدَوَاءٍ أَوْ كُحْلٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ.

1759 - قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا كَانَتِ الضَّرُورَةُ، فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ يُسْرٌ.

1760 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ أبِي عُبَيْدٍ اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا، وَهِيَ حَادٌّ عَلَى زَوْجِهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَلَمْ تَكْتَحِلْ حَتَّى كَادَتْ عَيْنَاهَا تَرْمَصَانِ.

1761 - قَالَ مَالِكٌ: تَدَّهِنُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا بِالزَّيْتِ وَالشَّبْرَقِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ.

1762 - قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ تَلْبَسُ الْمَرْأَةُ الْحَادُّ عَلَى زَوْجِهَا شَيْئاً مِنَ الْحَلْي، خَاتَماً وَلاَ خَلْخَالاً وَلاَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْحَلْىِ، وَلاَ تَلْبَسُ شَيْئاً مِنَ الْعَصْبِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَصْباً غَلِيظاً، وَلاَ تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً بِشَيْءٍ مِنَ الصِّبْغِ، إِلاَّ بِالسَّوَادِ، وَلاَ تَمْتَشِطُ إِلاَّ بِالسِّدْرِ وَمَا أَشْبَهَهُ، مِمَّا لاَ يَخْتَمِرُ فِي رَأْسِهَا.

1763 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ حَادٌّ عَلَى أبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ جَعَلَتْ عَلَى عَيْنَيْهَا صَبِراً، فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ؟". فَقَالَتْ: إِنَّمَا هُوَ صَبِرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "اجْعَلِيهِ فِي اللَّيْلِ، وَامْسَحِيهِ بِالنَّهَارِ".

1764 - قَالَ مَالِكٌ: الإِحْدَادُ عَلَى الصَّبِيَّةِ الَّتِى لَمْ تَبْلُغِ الْمَحِيضَ، كَهَيْئَتِهِ عَلَى الَّتِي قَدْ بَلَغَتِ الْمَحِيضَ، تَجْتَنِبُ مَا تَجْتَنِبُ الْمَرْأَةُ الْبَالِغَةُ، إِذَا هَلَكَ عَنْهَا زَوْجُهَا.

1765 - قَالَ مَالِكٌ: تُحِدُّ الأَمَةُ، إِذَا تَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، شَهْرَيْنِ وَخَمْسَ لَيَالٍ، مِثْلَ عِدَّتِهَا.

1766 - قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ إِحْدَادٌ، إِذَا هَلَكَ عَنْهَا سَيِّدُهَا، وَلاَ عَلَى أَمَةٍ يَمُوتُ عَنْهَا سَيِّدُهَا إِحْدَادٌ، وَإِنَّمَا الإِحْدَادُ عَلَى ذَوَاتِ الأَزْوَاجِ.

1767 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ كَانَتْ تَقُولُ: تَجْمَعُ الْحَادُّ رَأْسَهَا بِالسِّدْرِ وَالزَّيْتِ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكرمنا بشريعته الغراء، وحسن بيانها على لسان خير الورى، عبده المصطفى محمد المخصوص بالمعراج والإسراء، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله من حُبوا به طُهرا، وأصحابه من رفع الله لهم به قدرا، وعلى من سار في مسيرهم واقتدى بهم سِرًّا وجهرا، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أكابر الكبراء في مراتب القرب من الحق تبارك وتعالى باطنًا وظاهرا، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. 

ويذكر الإمام مالك -عليه رضوان الله تعالى- في هذا الباب: الإحداد. 

  • الإحداد المأخوذ من القطع.

  •  وهو متعلّق بانقطاع المرأة عن استعمال الزينة والطيب مدة بعد وفاة الزوج.

 وهذا الإحداد قد يُباشره بعض الناس تفجّعًا وحزنًا على فراق أحد من أقاربهم، فراعت الشريعة طبائع النفوس، وجعلت ذلك:

  • جائزًا غير واجب ولا مستحب إلى ثلاثة أيام. 

  • وما زاد على ذلك فلا يجوز. 

  • إلا المرأة إذا مات زوجها فإنه ليس مجرد جائز بل واجب عليها أن تحد أربعة أشهر وعشرًا. 

وكانوا في الجاهلية وبداية الإسلام تحد المرأة وتعتد حولًا كاملًا، وسنة كاملة، كما قال: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ۚ) [البقرة:240]، ثم نسخ الله ذلك وردّه إلى أربعة أشهر وعشرة أيام بلياليها، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ)[البقرة:234]؛ فالمرأة التي مات عنها زوجها وقد نكحها نكاحًا صحيحًا، هي المُجْمَع على وجوب الإحداد عليها هذه المدة. 

وما يُذكر عن الحسن في هذا، ينفيه إجماع من قبله ومن بعده؛ فأجمع من قبله ومن بعده على وجوب أن تحد المرأة -أي: تمتنع- عن لبس الزينة، وعن التزين، وعن استعمال الطيب، مدة أربعة أشهر وعشرًا. 

  • وهذه سواء دخل بها زوجها أو لم يدخل، إذا قد عقد عليها فمات، فعليها أن تحد أربعة أشهر وعشرًا. 

  • أما المطلقة، فالتربصُ بملازمة المسكن، وعدم نكاح الغير أيضًا عليه أهل العلم، وجماهير العلماء. 

أما الإحداد بالامتناع عن الزينة: 

  • فأمّا التي طلاقها رجعي، فأجمعوا على أنه لا إحداد عليها، وأنها إذا رَجَت مراجعة الزوج لها، فيُستحبَ أن تتزين، وتتعرّض له، رجاء أن يعاود ردّها إلى عقده و نكاحه، وإرجاعها إليه. 

  • وقال الإمام الشافعي: إن لم ترجُ الرجعة، فيُستحب لها الإحداد. 

كما قال في البائنة -وهي التي طُلّقت طلاقًا خُلعيًا أو كانت ثالثة- فهذه لا يُستحب لها الزينة بالاتفاق، ولكن هل يجوز لها أم لا؟ 

قال الحنفية: يجب أن تُحد ولا يجوز أن تتزين، ولا أن تتطيّب مدة القروء الثلاث -ثلاثة قروء- فإن لم تكن من الحُيَّض، صارت ثلاثة أشهر. 

كذلك المطلقة التي لم يدخل بها زوجها، فلا عِدة ولا إحداد بالاتفاق. فذلك مجمَع عليه، إذا طلقها ولم يدخل بها، عقد بها وطلقها، فلم يدخل بها، بخلاف إذا مات فإنه وإن لم يدخل بها فعليها العِدّة. 

أما المطلقة؛ فقد ذكر الله حكمها في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) [الأحزاب:49]؛ فلا تلزمها العدة ولا الإحداد، وإنما تعتد التي دخل بها زوجها ونكحها في نكاح صحيح، أما النكاح الفاسد فلا حكم له. 

  • فمن نُكِحَت نكاحًا صحيحًا، فطلّقها زوجها بعد أن دخل بها: 

    • فإن كان الطلاق رجعياً، لم تحدّ. 

    • وإن كان الطلاق غير رجعي، فأوجب الحنفية أن تُحِد، وهي رواية عن الإمام أحمد، وقيل: في المذهب القديم للشافعي.

    •  وقال الشافعي في المذهب الجديد، والإمام مالك، والرواية الأشهر عن الإمام أحمد: أنه لا إحداد عليها، وإنما عليها أن تلازم المسكن، ولا تنكِحَ آخر، ولا تقبل خطبة أحد، حتى ينقضي وقتُ العدة. 

    • ويُذكَر عن الشافعي أنه قال: يستحب لها الإحداد، هذه البائنة بينونة صغرى أو كبرى. 

فهذه الخلاصة فيما قال الفقهاء فيما يتعلق بإحداد المرأة. 

والرجل والمرأة أيضاً إحدادهم على أي ميت آخر لا يجوز فوق ثلاث، ولا يُستحب في الثلاث، ولكن من أحَدَّ من نفسه لِغلبة طبعه البشري، فهو معذورٌ إلى ثلاث، لا يجوز له بعد الثلاث كما قال ﷺ في الصحيحين: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدَّ على ميت فوق ثلاثة أيام، إلا على زوجٍ أربعة أشهرٍ وعشراً".

فإن كان لفظ الحديث أنه إباحة بعد منعٍ لا تقتضي الوجوب، تقتضي الجواز، فإن الوجوب استُفيدَ من أدلّةٍ أخرى، ومن الإجماع، ومن الدلالات في النصوص الأخرى، فليس الإحداد على الزوج الميت مجرد مباح، ولكنه واجب؛ واجب على المرأة إذا مات زوجها أن تحد عليه أربعة أشهر وعشرا. وفي هذا مدُّ حبال الوفاء، والذكرى الحسنة، ورعاية حق المعاشرة بالمعروف (وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) [البقرة:237]، كما قال جل جلاله وتعالى في علاه. 

واختلفوا في إذا كانت كتابية زوجة مسلم، فمات المسلم، فهل تحِد أو لا تحد؟ 

  • يقول الشافعية والحنابلة وهي أيضاً في رواية ابن القاسم عن الإمام مالك: أنها تحد، لأنها داخلة في حكمنا، والتوجيهات ثابتة، فعليها أن تحد إذا مات زوجها. 

  • وقال الحنفية وفي رواية أشهب عن مالك: أنه لا إحداد عليها؛ لأنها غير مؤمنة وغير مسلمة، وأن الحديث يقول: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر" وهذه لا تؤمن بالله واليوم الآخر فلا إحداد عليها. 

كذلك الصغيرة غير البالغة إذا مات عنها زوجها: 

  • قال الجمهور: يجب الإحداد؛ أن يجنبها أهلها الزينة والطيب. 

  • وقال الحنفية: أنها مرفوع عنها القلم، فلا تخاطَب بإحداد، ولا على شيء ما دامت دون البلوغ، وهي في حكم الصبية لا يلزمها شيء. 

والأَمَة كذلك، إذا مات زوجُها فعليها أن تحِد، إلا أن مدة عدتها وإحدادها عند بعض الأئمة: نصف مدة إحداد الحرة، فتصير شهرين وخمسة أيام بدل أربعة أشهر وعشرة أيام. 

وأورد لنا الإمام مالك الأحاديث في ذلك وقال: "عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أبِي سَلَمَةَ: أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ هَذِهِ الأَحَادِيثَ الثَّلاَثَةَ" الحديث الأول: "قَالَتْ زَيْنَبُ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ"، وأم حبيبة تسمى: رملة بنت أبي سفيان، وهي التي هاجرت الهجرة الأولى إلى الحبشة، ثم إن زوجها خُذِلَ فتنصَّر -والعياذ بالله تعالى- وارتد عن الدين، فثبتتْ على دين الله، وعلى شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وعلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وانفصلت عن زوجها الذي ارتد -والعياذ بالله تعالى- وصبرت وهي غريبة في أرض الحبشة لا قريب لها، إنما هاجرت مع زوجها فتنكر للإسلام وخُذِل -والعياذ بالله تعالى- إلى الردة، فصبرت وثبتت، فكافأها الله وجازاها أن يجعلها أمًّا لجميع المؤمنين به بتزويجها رسول الله، تزوج النبي ﷺ إياها، وبعث إلى ملك الحبشة ليزوجه إياها، فأُعِدَّت، وأقيمَ عقد الزواج، وأُرسِلَت إلى المدينة المنورة بعد ذلك زوجةً لزين الوجود، أمًّا للمؤمنين بالإله المعبود، جزاء ما صبرت وكابدت ما كان في غربتها، وثبتت على دين ربها جلّ جلاله. 

قال: قالت: "حِينَ تَوَفَّى أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ" وكانت وفاته في سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة، في خلافة سيدنا عثمان رضي الله عنه، قالت:"حِينَ تَوَفَّى أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبٍ" طلبت طيبًا، "فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ أَوْ غَيْرُهُ"؛ خلوق: طِيب مركّب من زعفران وغيره تغلب عليه الحمرة والصفرة، وكان يستعمله النساء هذا الخَلوق، حتى اختُلف في جواز استعمال الرجال له؛ لأنه صار كالعَلَم على النساء أو المخصوص بهن. قال: "أَوْ غَيْرُهُ" أو غير ذلك من أنواع الطيب، "فَدَهَنَتْ بِهِ جَارِيَةً، ثُمَّ مَسَحَتْ بِعَارِضَيْهَا" أي: دهنت أم حبيبة بهذا الخلوق الجارية، ثم مسحت أم حبيبة يديها بباقي الطيب بعارضيها -أي: جانبيّ وجهها- "ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيْتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً".

"لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ"؛ 

  • وعليه قال الحنفية: إنه يقول امرأة، فالصبية ما تدخل. 

  • قال غيرهم: إنما جاء على الغالب، وكل من مات عنها زوجها وجب أن تحد.

  • فقال الجمهور: بوجوب الإحداد على الصبية. 

"لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ

  • وبذلك قال الحنفية: لا إحداد على الذمّية.

  • وقال الجمهور: عليها الإحداد. 

"أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيْتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ"، فلها أن تحِد على أحد من أقاربها ثلاثًا فأقل. 

وبذلك يُعلم أنه في أي بلد من بلاد المسلمين يمتنع النساء أو الرجال عن شيء من المعتاد لهم من الأفراح أو غيرها، أو استعمال الأزياء المباحة لهم لأجل ميت بعد ثلاثة أيام، حرام، لا يجوز ذلك، ولا يحل بالنص النبوي؛ "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ" فبعد الثلاثة أيام لا يمكن تمتنع عن شيء تعتاده لأن قريبها مات، وتجلس شهر ولا شهرين ولا سنة كله ذلك حرام. "لاَ يَحِلُّ" بإخبار صاحب الشرع ﷺ

 "لاَ يَحِلُّ" فهو حرام تأثم به، ويأثم كل من فعل ذلك، بل يجب عليهم الرضا بقضاء الله، جلّ جلاله وتعالى في علاه. إنما تمتنع عن الإحداد المرأة أربعة أشهر وعشرًا، "إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ"؛ أي: فإنها تحد عليه "أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً".

والولد يتكامل تخليقه وتُنفخ فيه الروح بعد مضي مئة وعشرين يوم، وهي أربعة أشهر، إلا أنه قد بعض الأشهر تكون كم؟ تسعة وعشرين، فجُعل الإحداد أربعة أشهر وعشر، أضيف عِقد فوق الأربعة الأشهر من أجل الأشهر التي يقع فيها نقصان الشهر وخروجه تسعة وعشرين، يكمل بها أيام أُخر، أضيف عِقد فوق كامل أو عشرة أيام فوق الأربعة الأشهر احتياطًا. هذا ما يذكرونه في استجلاء الحكم، ولله تعالى حِكم في كل ما يشرع فوق ما يصل إليه عقل العقلاء، وفهم الفاهمين العلماء. 

وأيامها ولياليها "وَعَشْراً" أيام وليالي، حتى تدخل الليلة الحادية عشر بعد الأربعة الأشهر. ويذكر عن بعضهم أن العبرة بالليالي فقط، ففي اليوم العاشر تحِل. لكن الجمهور: لا، بل عشر بلياليها. 

وجاء: "عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَوْمَ الثَّالِثَ مِنْ قَتْلِ جَعْفَرٍ فَقَالَ: لَا تَحِدِّي بَعْدَ يَوْمِكِ هَذَا"، هذا في لفظ الإمام أحمد. 

وفي رواية عند الإمام أحمد وابن حبان لما أصيب جعفر أتى النبي ﷺ فقال: "تسلّبي ثلاثًا ثم اصنعي ما شئت"؛ فظاهره أنه لا يجب الإحداد بعد اليوم الثالث، لأن سيدتنا أسماء هي زوجة سيدنا جعفر بن أبي طالب، وقالوا إن هذا الحديث شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة، وقد أجمع الصحابة ومن بعدهم على خلافه. فثبت ما دلت عليه الآية: (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ).

وتقول زينب أيضًا في حديثها الثاني: "ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ"، أم المؤمنين التي كانت زوجة لسيدنا زيد فتأذى بها ولم ينسجم معها، فكان يستشير النبي في طلاقها، والنبي يثبّته يقول: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ، حتى ضاقت نفسه  منها فطلقها، وأنزل الله:(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ)[الأحزاب:37] أي: بما قد أوحينا إليك من قبل أنه سيطلقها، وأننا سنزوجك إياها.

وكان قد تبنى زيد بن حارثة قبل تحريم التبنّي، فكانوا يقولون: زيد بن محمد، فلما أبطل الله التبنّي عاد اسمه زيد بن حارثة، لا زيد بن محمد، وفي إبطال التبني شرع الله تعالى لنبيّه أن يتزوج من هذه، فكانت لائقةً بالمقام، ولأجل تثبيت إبطال التبنّي (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا)[الأحزاب:37].

كان أخبره بذلك، ويعلم ما يكون في نفوس بعض المنافقين ومن حواليه، وأن يتكلموا أنه تزوج زوجة ابنه زيد، فكان يحب أن يتأخر الأمر حتى يثبت الإيمان، خشية تأثّر بعض النفوس الضعيفة والعقول الضعيفة بأن يقول: كيف يتزوج زوجة ابنه! ومن ترويج أهل النفاق وغيرهم، فخشي ﷺ عليهم أن يقعوا في هذا الزلق، فيغضب عليهم من خَلَق، ولهذا قال: (وَتَخْشَى النَّاسَ)؛ أي: تخشى انحرافهم و انزلاقهم و بلبلتهم، تخشى ذلك عليهم من أجل ربك فإنك رحيم بعباده، تخشى أن يزيغون عن مرضاته، والله أحق أن تخشاه، فتتعامل هذا التعامل مع عباده، فإنك أعرف خلقه به، فلأجله حملت الرحمة بخلقه فخشيت أن يزيغوا وأن ينحلّوا (وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ)[الأحزاب:37]. فأنت صاحب المعرفة الكبرى، فأنت أحق بالخشية من جميع الخلق، ومن خشيتك لله -تبارك وتعالى- رأفتك بعباده، ورحمتك بهم أن يزيغوا أو يزلوا، ولكن ضاق ذرعًا زيد وطلقها، والآن خذها زوجناكها، بعد أن انقضت عدتها زوجه إياها فكانت أمًّا للمؤمنين. 

حِينَ تَوَفَّى أَخُوهَا، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ حَاجَةٌ، غَيْرَ إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، تُحِدُّ عَلَى مَيْتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً".

قالت:"ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، حِينَ تَوَفَّى أَخُوهَا" ومعنى قول: "ثُمَّ" أي: في خبرها لا في واقع الحال، فإن موت أبي سفيان كان بعد هذه الحادثة، لأن نفسها سيدتنا زينب بنت جحش ماتت قبل أبي سفيان، إذن فقولها "ثُمَّ" يأتي في الأخبار.. ثم إنه حصل كذا، ثم إنه حصل كذا، … ولهذا يقول: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا)[النازعات:30-32]. فهو خلق الأرض أولاً، ثم استوى إلى السماء، لكن في ذكر الخبر، ذكر هذا، ثم ذكر هذا بعد هذا، فيأتي البعدية ولفظة: "ثم" للترتيب الذكري لا الترتيب الوجودي، ليس الترتيب الوجودي. 

"ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، حِينَ تَوَفَّى أَخُوهَا، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ حَاجَةٌ، غَيْرَ إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، تُحِدُّ عَلَى مَيْتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً"؛ وفيه أن أمهات المؤمنين بعد وفاة زين الوجود، تجنّبن الطيب، ولم يلتفتن إلى شيءٍ منه، ولكن استعملن هذا في المواقف ليخرجن عن مظهر الإحداد على ميت فوق ثلاث، غير زين الوجود ﷺ.

 قَالَتْ زَيْنَبُ: "وَسَمِعْتُ أُمِّي أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ تَقُولُ : جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ"؛ اسمها عاتكة بنت نعيم الأنصارية أو قال: العدوية، "فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِي تَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا" المغيرة المخزومي "وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا"؛ يعني: أرادت أن تكتحل، "أَفَتَكْحُلُهُمَا؟" فخاف ﷺ من تساؤلهم، "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لاَ"، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لاَ"؛ أي: لأنه لا ضرورة هناك، إنما مجرد أن تريد أن ترتاح بالكحل، ولم يكن هناك مرض واقع صحيح تحتاج فيه إلى الكحل، فقال: لا. بخلاف لو كانت مريضة ينفع فيها الكحل فتكتحل في الليل وتمسحه في النهار، فالحادّة تجتنب أمثال ذلك من: الطيب والزينة في نفسها، الزينة نفسها تحرم عليها؛ تختضب وتكتحل بإثمد من غير ضرورة، لأن الكحل من مظاهر الزينة، وفي دليل كما قال النووي على تحريم الاكتحال على الحادَّة. 

وجاء أيضا في حديث أم سلمة هذه: "اجْعَلِيهِ فِي اللَّيْلِ، وَامْسَحِيهِ بِالنَّهَارِ"؛ والمعنى: 

  • أنه عند الحاجة والضرورة يجوز تكتحل في الليل. 

  • وعند عدم الحاجة لا تكتحل لا ليلاً ولا نهارًا. 

"ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْراً، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ"؛ يعني: الواحدة منكن "فِي الْجَاهِلِيَّةِ" قبل حكم الإسلام، "تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ" واحدة البعر "عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ؟" يعني: بعد تمام السنة، في تقاليدهم وعاداتهم، "قَالَ حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ: فَقُلْتُ لِزَيْنَبَ: وَمَا تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ؟ فَقَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، دَخَلَتْ حِفْشاً" ما حفشًا هذا؟ "وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا"؛ يعني: أرداها وأخسّها "وَلَمْ تَمَسَّ طِيباً وَلاَ شَيْئاً، حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ" من موت زوجها "ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ، حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَيْرٍ، فَتَفْتَضُّ بِهِ، فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إِلاَّ مَاتَ"؛ قال: أي تكسر ما هي فيه من العدة بأن تأخذ طيرًا وتمسح به وجهها وتنبذه، ولا يكاد يعيش ما تفتض به، وتغتسل، وتذهِب الدرن، فتتمسّح بشيء من هذه الدواب، تقليد عندهم في مجتمعهم، كانوا على ذلك، فتمسح جلدها به، "ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً" من بعر الإبل أو الغنم "فَتَرْمِي بِهَا" -أي البعرة- أمامها، ويكون هذا علامة إحلالها وخروجها من العدة في الجاهلية. 

قال: "ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ". "قَالَ مَالِكٌ: وَالْحِفْشُ الْبَيْتُ الرَّدِيءُ"؛ يعني: الغرفة غير المرتبة، غير المرغوب فيها، غير المزينة، تقعد وسطها سنة كاملة -عادتهم في الجاهلية- ونُسخ كل ذلك في حكم الشريعة المطهرة. 

و ذكر: "عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ زَوْجَي النَّبِيِّ ﷺ" أمهات المؤمنين "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيْتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ".

وذكر: "أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَتْ لاِمْرَأَةٍ حَادٍّ عَلَى زَوْجِهَا، اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ مِنْهَا: اكْتَحِلِي بِكُحْلِ الْجِلاَءِ بِاللَّيْلِ، وَامْسَحِيهِ بِالنَّهَارِ"، ففهمت من النبي ﷺ هذا الحكم .

"وذكر مالك أَنْهُ بَلَغَهُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولاَنِ فِي الْمَرْأَةِ يُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا: إِنَّهَا إِذَا خَشِيَتْ عَلَى بَصَرِهَا مِنْ رَمَدٍ بِهَا، أَوْ شَكْوٍ أَصَابَهَا، إِنَّهَا تَكْتَحِلُ وَتَتَدَاوَى، بِدَوَاءٍ أَوْ كُحْلٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ".

"وَإِذَا كَانَتِ الضَّرُورَةُ، فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ يُسْرٌ. قال الإمام مالك، عليه رضوان الله.

وذكر: "أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ أبِي عُبَيْدٍ اشْتَكَتْ عَيْنَيْهَا، وَهِيَ حَادٌّ عَلَى زَوْجِهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَلَمْ تَكْتَحِلْ حَتَّى كَادَتْ عَيْنَاهَا تَرْمَصَانِ"، وبالغت في ذلك ومع أنه عند الحاجة يجوز. 

"قَالَ مَالِكٌ: تَدَّهِنُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا بِالزَّيْتِ وَالشَّبْرَقِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ."، دهن من دون طيب. 

"قَالَ مَالِكٌ: وَلاَ تَلْبَسُ الْمَرْأَةُ الْحَادُّ عَلَى زَوْجِهَا شَيْئاً مِنَ الْحَلْي، خَاتَماً وَلاَ خَلْخَالاً وَلاَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْحَلْىِ، وَلاَ تَلْبَسُ شَيْئاً مِنَ الْعَصْبِ"؛ برود يمانية يعصب غزلها ويجمع ويشد "إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَصْباً غَلِيظاً" تلبسه؛ لأنه رقيقه بمنزلة الثياب المصبغة، وثياب الزينة، فنهى عن ذلك. "وَلاَ تَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً بِشَيْءٍ مِنَ الصِّبْغِ، إِلاَّ بِالسَّوَادِ، وَلاَ تَمْتَشِطُ إِلاَّ بِالسِّدْرِ وَمَا أَشْبَهَهُ، مِمَّا لاَ يَخْتَمِرُ فِي رَأْسِهَا"؛ وهو من خير ما تمتشط به المرأة وتغتسل السدر الذي هو دقيق ورق شجر النبق هذا العِلْب؛ الدوم.

و ذكر: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ حَادٌّ عَلَى أبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ جَعَلَتْ عَلَى عَيْنَيْهَا صَبِراً، فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ؟". فَقَالَتْ: إِنَّمَا هُوَ صَبِرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "اجْعَلِيهِ فِي اللَّيْلِ، وَامْسَحِيهِ بِالنَّهَارِ"."، ومن هذا استفادت الحكم الذي أفتت به. 

"قَالَ مَالِكٌ: الإِحْدَادُ عَلَى الصَّبِيَّةِ الَّتِى لَمْ تَبْلُغِ الْمَحِيضَ، كَهَيْئَتِهِ عَلَى الَّتِي قَدْ بَلَغَتِ الْمَحِيضَ". 

  • وهو عند الأئمة الثلاثة. 

  • وقال الإمام أبو حنيفة: لا تحد الطفلة غير البالغة.

"تَجْتَنِبُ مَا تَجْتَنِبُ الْمَرْأَةُ الْبَالِغَةُ، إِذَا هَلَكَ عَنْهَا زَوْجُهَا."

"قَالَ مَالِكٌ: تُحِدُّ الأَمَةُ، إِذَا تَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، شَهْرَيْنِ وَخَمْسَ لَيَالٍ، مِثْلَ عِدَّتِهَا."

"قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ إِحْدَادٌ"، نعم هذا ليست زوجة "إذَا هَلَكَ عَنْهَا سَيِّدُهَا"، وإنما إذا أرادت تتزوج، فلا بد من استبرائها بحيضة كما تقدّم معنا. "وَلاَ عَلَى أَمَةٍ يَمُوتُ عَنْهَا سَيِّدُهَا إِحْدَادٌ، وَإِنَّمَا الإِحْدَادُ عَلَى ذَوَاتِ الأَزْوَاجِ."، إذا كانت مزوّجة، وإن كانت أَمَة يجب عليها تحِد، وأما إن كانت غير مزوّجة إنما بالملك، ما عليها إحداد .

وذكر: "أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ كَانَتْ تَقُولُ: تَجْمَعُ الْحَادُّ رَأْسَهَا بِالسِّدْرِ وَالزَّيْتِ."؛ يعني: شعر رأسها بالسدر والزيت، تلفّه، وتجمعه، تضمّه، يجوز لها ذلك لأنه لا طيب فيه، والله أعلم. 

وبهذا أكمل الأحاديث المتعلقة بأبواب النكاح، وينتقل إلى الرضاع.

رزقنا الله الاتباع، والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في أكرم المساع، وشرفنا بسِرّ الاتباع له في جميع الأقوال والأفعال والمقاصد والنيّات والحركات والسكنات، حتى نتحقّق بحُسن الاستجابة لخير داع، ونرقى مراقي القُرب والارتفاع، وننال محبة الرحمن، وندرك بذلك صلاح كل شأن، في السِرّ والإعلان، في الدنيا والآخرة، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

08 رَجب 1443

تاريخ النشر الميلادي

09 فبراير 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام