(364)
(535)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطلاق، باب عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِذَا كَانَتْ حَامِلاً.
فجر الثلاثاء 22 جمادى الآخرة 1443هـ.
باب عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِذَا كَانَتْ حَامِلاً
1730- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ يُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آخِرَ الأَجَلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِذَا وَلَدَتْ فَقَدْ حَلَّتْ. فَدَخَلَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ، فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، وَلَدَتْ سُبَيْعَةُ الأَسْلَمِيَّةُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِنِصْفِ شَهْرٍ، فَخَطَبَهَا رَجُلاَنِ، أَحَدُهُمَا شَابٌّ، وَالآخَرُ كَهْلٌ، فَحَطَّتْ إِلَى الشَّابِّ، فَقَالَ الشَّيْخُ: لَمْ تَحِلِّي بَعْدُ. وَكَانَ أَهْلُهَا غَيَباً، وَرَجَا إِذَا جَاءَ أَهْلُهَا أَنْ يُؤْثِرُوهُ بِهَا، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "قَدْ حَلَلْتِ، فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ".
1731- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ يُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا فَقَدْ حَلَّتْ. فَأَخْبَرَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ عِنْدَهُ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لَوْ وَضَعَتْ، وَزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِهِ لَمْ يُدْفَنْ بَعْدُ لَحَلَّتْ.
1732- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "قَدْ حَلَلْتِ، فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ".
1733- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ اخْتَلَفَا فِي الْمَرْأَةِ تُنْفَسُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: إِذَا وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا فَقَدْ حَلَّتْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آخِرَ الأَجَلَيْنِ. فَجَاءَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي. يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ، فَبَعَثُوا كُرَيْباً مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ يَسْأَلُهَا عَنْ ذَلِكَ، فَجَاءَهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهَا قَالَتْ: وَلَدَتْ سُبَيْعَةُ الأَسْلَمِيَّةُ، بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "قَدْ حَلَلْتِ: فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ".
قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا الأَمْرُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ عِنْدَنَا.
الحمد لله مُكْرِمِنا ببيان الأحكام على الإتقان والإحسان والتمام، على لسان عبده ورسوله سيِّدنا مُحمَّد سيِّد أهل الإحسان والإحكام، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرّم على مَن جعلته للنبوة الختام سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله الكرام وصحبه ومَن على منهاجه استقام إلى يوم القيام، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياءك ورسلك العظام، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وملائكتك المقربين وعبادك الصَّالحين أجمعين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
فيذكر الإمام مالك -عليه رضوان الله تعالى- في هذا الباب حكم من توفي عنها زوجها وكانت حاملًا، فمتى تنقضي عِدتها؟ وهي المسألة التي تم الإجماع فيها بعد عصر الصَّحابة على أن عدتها تنقضي بوضع الحمل، سواءً كان لمدة قريبة أو بعيدة، سواءً كانت في أول شهر من أشهر الحمل. فلا تنقضي عدتها من وفاة زوجها إلا بعد أن تضع في الشهر التاسع، ولو بقيت ثمانية أشهر أو تسعة أشهر في الحمل فهي في العدة، ولو ولدت بعد وفاة زوجها ولو بساعة، ولو بنصف ساعة؛ انقضت عدتها لقول الله تعالى: (وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) [الطلاق:4]؛ صاحبات الأحمال أجلهن؛ عدتهن أن يضعن حملهن. فهي عامة، لِمَن طُلّقت كما جاءت في سورة الطلاق، وكذلك لمَن توفي عنها زوجها. وهي نزلت بعد قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) [البقرة:234]، هذه الآية الأخرى في سورة الطلاق، بعدها نزلت آية مخصِّصة لحكم تلك، فتلك لمَن لم تكن حاملًا.
أما مَن كانت حاملًا، فسواءً:
طلقها زوجها
أو اعتدت من وطء شُبهة
أو مات عنها زوجها
فعدتها: أن تضع الحمل.
كان ابن عباس يقول: ننظر أقصى الأجلين.
إن كان باقي من حملها أكثر من أربعة أشهر وعشرة أيام؛ فعدتها بوضع الحمل.
وإن كان بقي من حملها أقل من أربعة أشهر وعشرة أيام؛ فتعتد بأربعة أشهر وعشرة أيام.
وجعل حكم الآية خاصًّا بمَن طُلقت لا بمَن مات عنها زوجها. أما من طُلقت فبالاتفاق. كما حصل الاتفاق بعد ذلك على هذه المسألة الثانية، ولمّا صح عند ابن عباس حديث سُبيعة الذي تذكره سيِّدتنا أم سلمة، رجع إلى القول بذلك؛ فقال بقول الجمهور، وأجمع على ذلك من بعدهم من التابعين وتابعيهم وعليه الأئمة الأربعة؛ أن الحامل وضعها الحمل به انقضاء عدتها؛ تنقضي عدتها بوضع الحمل لعموم قوله تعالى: (وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) [الطلاق:4].
وإن جاء عن الحسن البصري والشَّعبي، أنه إن انقضت عدتها بوضع الحمل، فلا تنكح زوجًا آخر حتى تطهُر من نفاسها. ولم يقل بذلك جماهير أهل العلم، يقولون: نعم، لكن اتفقوا على أنه وإن تزوجها؛ لا يجوز له أن يقربها ما دامت في النّفاس، ذلك أمر مجمع عليه. إنما يصح العقد، ولو كانت في أيام نفاسها.
على ذلك جاءت الأحاديث التي أوردها الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-، فذكر أنه: "سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَامِلِ يُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا" وفي بطنها حمل، "فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آخِرَ الأَجَلَيْنِ"؛ يعني:
○ إن كان بقي من وقت الحمل أربعة أشهر وعشرة فأكثر؛ فبوضع الحمل.
○ وإن وضعت قبل أربعة أشهر وعشرًا؛ فعليها أن تُكمل العدة أربعة أشهر وعشرًا.
وهذا قوله الأول الذي رجع عنه.
"وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِذَا وَلَدَتْ فَقَدْ حَلَّتْ. فَدَخَلَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ"، وأرسل ابن عباس غلامه كُريبًا إلى أُم سلمة يسألها، وإنما رجعوا إلى أم سلمة لأن المسألة تتعلق بالنساء، ولعلها أن سَمِعت من فم رسول الله ﷺ في ذلك حُكمًا، فالمرجع إلى ذلك. فأرسلوا إلى أُم سلمة، فجاء أبو سلمة وكُريب إلى أم سلمة، "فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، وَلَدَتْ سُبَيْعَةُ"؛ بنت الحارث "الأَسْلَمِيَّةُ"؛ وهي زوجة سيِّدنا سعد بن خولة المُهاجري الذي توفي بمكَّة، فرثا له ﷺ أن يموت بمكَّة؛ لأنها موطن مهاجرته؛ أي: خروجه منها لأجل الله، وقال: ولكن البائس سعد بن خولة، يرثي له أن مات بمكَّة وقد هاجر منها، فأحب له أن يموت بغيرها لأنه قد تركها من أجل الله في هجرته.
سيِّدنا سعد بن خولة -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- تزوّج هذه سُبيعة بنت الحارث الأسلمية. وقيل هي أول امرأة أسلمت بعد صلح الحديبية، وكان بعد وفاة زوجها. والأصح في وفاة زوجها منها أقوال أنه كان ذلك في حجة الوداع. "بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِنِصْفِ شَهْرٍ"، في رواية جاءت عند البُخاري: "بعد موته بأربعين ليلة". في رواية في مُسلم: "فلم تنشب أن وضعت". في مُصنف عبد الرزاق: "بسبع ليال"، وجاء عن إبراهيم التيمي: "بسبعة عشر ليلة"، وجاء: في عشرين ليلة. وعن عكرمة: بخمس وأربعين ليلة. وعلى كلٍّ القصة واحدة، وأقل ما قيل في ذلك أنها ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر ، كما جاء في رواية موطأ الإمام مالك ولكن كل الروايات مُجمعة على أنها قبل الأربعة الأشهر والعشرة أيام، بالاتفاق.
قالت: "فَخَطَبَهَا رَجُلاَنِ، أَحَدُهُمَا شَابٌّ" يقال له: أبو البَشر بن الحارث من بني عبد الدار، "وَالآخَرُ كَهْلٌ"، وهو الذي خطّه الشيب من بعد الثلاثين، من بعد الأربعين، يقال له: كهل. "فَحَطَّتْ إِلَى الشَّابِّ"؛ أي: مالت ونزلت إلى الشاب، "فَقَالَ الشَّيْخُ" الكهل: "لَمْ تَحِلِّي بَعْدُ"؛ يعني: لم تخرجي من العدة بعد، "وَكَانَ أَهْلُهَا"؛ أي: أهل سُبيعة "غَيَباً" جمع غائب، "وَرَجَا" هذا أبو السَّنابل -الكهل الذي خطبها- "إِذَا جَاءَ أَهْلُهَا أَنْ يُؤْثِرُوهُ بِهَا"؛ يعني: يقدِّموه ويرغّبوها فيه فيقدّموه على الثاني. فقال: لكن أنت لا زلتِ في العدة ومن فترة قريبة مات زوجك. "فَجَاءَتْ" سُبيعة تسأل "رَسُولَ اللَّهِ ﷺ". جاء في رواية البُخاري: فلمّا قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت وأتيت رسول الله.. فذكرت ذلك له، "فَقَالَ ﷺ: قَدْ حَلَلْتِ"؛ أي: ليس كما قال أبو السنابل-. "قَدْ حَلَلْتِ، فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ". وهذا هو البيان النَّبوي في أن عدة المتوفى عنها زوجها كعدّة المُطلّقة إذا كانت حاملًا؛ أن العدة تنقضي بوضع الحمل.
وهكذا ذكر: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ يُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا فَقَدْ حَلَّتْ. فَأَخْبَرَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ عِنْدَهُ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لَوْ وَضَعَتْ، وَزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِهِ لَمْ يُدْفَنْ بَعْدُ لَحَلَّتْ"؛ يعني: مات زوجها، مات زوجها وما يزال في البيت، لم يدفنوه بعد، فولدت هي؛ ما دام الولادة بعد أن فاضت روحه؛ فقد انقضت العدة. ولو كان ولادتها قبل أن يُدفن الزوج، المهم قد مات. إذا وضعت بعد الموت فقد خرجت من العِدّة.
وذكر: "أَنَّ سُبَيْعَةَ -بنت الحارث- الأَسْلَمِيَّةَ" نسبة إلى قبيلة أسلم "نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا"؛ يعني: سعد بن خولة "بِلَيَالٍ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قَدْ حَلَلْتِ، فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ". في رواية البُخاري: نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فجاءت النَّبي فاستأذنته أن تنكح، فأذن لها، فنكحت.
وكذلك ذكر لنا: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ اخْتَلَفَا فِي الْمَرْأَةِ تُنْفَسُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: إِذَا وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا فَقَدْ حَلَّتْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آخِرَ الأَجَلَيْنِ". على قوله الأول، وجعل آية: (وَأُولاتُ الأحْمَالِ) للمطلقات فقط. فجاء أبو هريرة؛ يعني كان قام لحاجة أبو هريرة، وغاب عنهم ثم رجع إليهم، ثم قصّوا عليه قوليهما في حكم المُعتدة الحامل إذا توفي عنها زوجها. "فَجَاءَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي. يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ"؛ يعني: أقول بأنه متى وضعت، فقد انقضت عدتها. "فَبَعَثُوا كُرَيْباً مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ يَسْأَلُهَا عَنْ ذَلِكَ"، فبذلك نعلم أن الدِّين وحي وشرع، لا مجرد عقل ولا رأي لأحد، بل هو أكبر وأنور من ذلك، حكم من العزيز المالك المحيط بكل شيء علمًا جلَّ جلاله.
فهؤلاء الصَّحابة لمَّا انفسح لهم المجال في النظر في الآيات، أرادوا توقيفًا من التشريع الكريم، فبعثوا إلى أُم سلمة، وقالوا: ما الحكم في ذلك البلاغ، هل جاء عن رسول الله شيء؟ فحدّثتهم، فرجعوا إلى ذلك. فالدين وحي وتنزيل من الله، ما هو رأي، ولا عقل لزيد ولا لعَمرو، ولا لصغير ولا لكبير، أكبر من أن يكون وليد فكر بشر، الدِّين أكبر من ذلك وأنور وأطهر. وقال الله عمّن سلّم إليه زمام التشريع والتقرير: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:3-4]، وقال ﷺ: (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم) [يونس:15]، فليس الدّين عقل أحد ولا رأي أحد كما يحلوا لبعض المخبَطين وللمخبِّطين من المسلمين الذين يريدون وضع الدِّين تحت أنظارهم وتحت أفكارهم. مَن قال لك أن دين الله نزل لهذه الدرجة يا قليل الأدب؟! صحّح إسلامك وإيمانك.. الإسلام ليس هكذا، الإسلام؛ يهديك عقلك إلى أن لك رب أعلم بكل شيء، فتخضع لهذا الإسلام. الإسلام ليس أن تخضع لصنم العقل، وتقول: يدخل تحته كل شيء وهو الحاكم على كل شيء. الحكم لله، وليس لعقلك! أنت عندك عقل، وهذا عنده عقل، وهذا عنده عقل، وتتضاربون بعقولكم؟... الدِّين ما هو عقل أحد، الدِّين فوق عقل العقلاء، فوق رأي أهل الرأي. وما وظيفة المجتهدين من الأئمة إلا بذل الوسع في استخراج ما أشار إليه الوحي والشرع والمُشرِّع، لا أن يُحكّموا آرائهم ولا عقولهم بل يرجعون إلى ماذا حكم؟ وماذا أشار؟ وماذا دلّ عليه صاحب الشَّريعة ﷺ؟ قال: أرسلوا إلى أُم سلمة "فَجَاءَهُمْ" الغلام الذي أرسلوه "فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهَا قَالَتْ: وَلَدَتْ سُبَيْعَةُ الأَسْلَمِيَّةُ، بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: قَدْ حَلَلْتِ: فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ".
"قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا الأَمْرُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ عِنْدَنَا"؛ أي: بالمدينة المُنوَّرة، وعلمت اجماع الأئمة الأربعة عليه ومن دونهم، ووقوع الإجماع بعد عهد الصَّحابة، رضي الله عنهم.
ملأنا الله بالإيمان واليقين واتّباع سيِّد المرسلين، والاهتداء بهديه، وجعل هوانا تبعًا لما جاء به، سار بنا في دربه وسقانا من شربه، وجعلنا في حزبه وأكرمنا بقربه في الدُّنيا والبرزخ والقيامة ودار المُقامة، من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.
23 جمادى الآخر 1443