(364)
(535)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطلاق، تتمة باب جامع الطلاق.
فجر الإثنين 21 جمادى الآخرة 1443هـ.
تتمة باب جَامِعِ الطَّلاَقِ
1724 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الأَحْنَفِ، أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ وَلَدٍ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: فَدَعَانِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، فَجِئْتُهُ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا سِيَاطٌ مَوْضُوعَةٌ، وَإِذَا قَيْدَانِ مِنْ حَدِيدٍ، وَعَبْدَانِ لَهُ قَدْ أَجْلَسَهُمَا، فَقَالَ: طَلِّقْهَا، وَإِلاَّ وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ فَعَلْتُ بِكَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَقُلْتُ هِيَ الطَّلاَقُ أَلْفاً. قَالَ: فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ، فَأَدْرَكْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِي، فَتَغَيَّظَ عَبْدُ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَقَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِطَلاَقٍ، وَإِنَّهَا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْكَ، فَارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ. قَالَ: فَلَمْ تُقْرِرْنِي نَفْسِي حَتَّى أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ أَمِيرٌ عَلَيْهَا - فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِي، وَبِالَّذِي قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْكَ، فَارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ. وَكَتَبَ إِلَى جَابِرِ بْنِ الأَسْوَدِ الزُّهْرِيِّ - وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ - يَأْمُرُهُ أَنْ يُعَاقِبَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَنْ يُخَلِّيَ بَيْنِى وَبَيْنَ أَهْلِي، قَالَ: فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَجَهَّزَتْ صَفِيَّةُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ امْرَأَتِي، حَتَّى أَدْخَلَتْهَا عَلَيَّ بِعِلْمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، ثُمَّ دَعَوْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَوْمَ عُرْسِي لِوَلِيمَتِي فَجَاءَنِي.
1725 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَرَأَ: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ) [الطلاق:1] لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ. قَالَ مَالِكٌ: يَعْنِي بِذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَ فِي كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً.
1726 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ ارْتَجَعَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، كَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا أَلْفَ مَرَّةٍ، فَعَمَدَ رَجُلٌ إِلَى امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا شَارَفَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا رَاجَعَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا، ثُمَّ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ لاَ آوِيكِ إِلَيَّ، وَلاَ تَحِلِّينَ أَبَداً. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [البقرة:229] فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ الطَّلاَقَ جَدِيداً مِنْ يَوْمِئِذٍ، مَنْ كَانَ طَلَّقَ مِنْهُمْ أَوْ لَمْ يُطَلِّقْ.
1727 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ يُرَاجِعُهَا، وَلاَ حَاجَةَ لَهُ بِهَا، وَلاَ يُرِيدُ إِمْسَاكَهَا، كَيْمَا يُطَوِّلَ بِذَلِكَ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ لِيُضَارَّهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [البقرة:231] يَعِظُهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ.
1728 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، سُئِلاَ عَنْ طَلاَقِ السَّكْرَانِ فَقَالاَ: إِذَا طَلَّقَ السَّكْرَانُ جَازَ طَلاَقُهُ، وَإِنْ قَتَلَ قُتِلَ بِهِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى ذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا.
1729 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَانَ يَقُولُ: إِذَا لَمْ يَجِدِ الرَّجُلُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا.
قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى ذَلِكَ أَدْرَكْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا.
الحمد لله مكرمنا بشريعته وبيانها على لسان خير بريّته، محمد عبده وصفوته صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته وعترته، وعلى أهل ولائه ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من أنبياء الله ورسله صفوته من خليقته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقرّبين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،
يواصل الإمام مالك -عليه رحمة الله- في هذا الباب ذكر قضايا تتعلق بالطلاق. ويذكر في هذا الحديث: طلاق من أُكره على أن يطلّق، وقال جمهور أهل العلم: إذا أُكره ويتم عن شروط الإكراه؛ فإن قوله لاغٍ، وكذلك في جميع الأقوال التي يُكره عليها الإنسان، إذا اجتمعت شروط الإكراه فإن ذلك القول لاغٍ؛
في طلاق
أو في بيع
أو في وكالة
أو في أي شيء من الأشياء..
حتى من أُكره على النطق بكلمة الكفر، كما قال تعالى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) [النحل:106].
فيذكر حديث: "عَنْ ثَابِتِ بْنِ الأَحْنَفِ، أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ وَلَدٍ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ"، ابن أخِ سيدنا عمر، كان وُلِدَ في حياته ﷺ وأحضره أبو أمه عنده ﷺ فحنّكه ومسح رأسه ودعا له بالبركة، فكان لبيبًا عاقلًا، زوّجه عمه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ابنته فاطمة، ووَليَ إمرة مكة أيام يزيد، مات سنة بضع وستين؛ هذا عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب.
"قَالَ: فَدَعَانِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ"؛ ولده، "فَدَعَانِي"، وهو تزوج أم ولد أبيه عبد الرحمن بن زيد، فدعاني ابنه ودعى غلامين؛ كما جاء في رواية. "فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا سِيَاطٌ مَوْضُوعَةٌ"؛ جمع سَوط: آلة الضرب. "وَإِذَا قَيْدَانِ مِنْ حَدِيدٍ، وَعَبْدَانِ لَهُ قَدْ أَجْلَسَهُمَا"، عنده مهيّآن للضرب والربط.
"فَقَالَ: طَلِّقْهَا، وَإِلاَّ"؛ يعني: إن لم تفعل، "وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ"؛ وهو الله تعالى، "فَعَلْتُ بِكَ كَذَا وَكَذَا"؛ أوجعتك بالسياط، أضربك فوق ذلك، وانظر القيد عندي والسياط عندي والجلّادين موجودين سيفعلون اللازم!
قال ثابت: "فَقُلْتُ هِيَ الطَّلاَقُ أَلْفاً"؛ ألف مرة، بعد هذا التهديد، "فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ"، قال: وأردت السفر إلى مكة، "فَأَدْرَكْتُ"، ابن عم أبيه سيدنا، "عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ"، عمه سيدنا عمر، هذا ابن عم أبيه، أبوه عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، فعم أبيه سيدنا عمر، هذا ابن عم أبيه عبد الله بن عمر.
قال: "فَأَدْرَكْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِي، فَتَغَيَّظَ عَبْدُ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ"؛ أي: على حفيد عمه، "وَقَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِطَلاَقٍ"؛ أي: لوجود الإكراه، "وَإِنَّهَا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْكَ"؛ بذلك الذي قلته مكرهًا مما تلفظت به وأنت مُكره، "فَارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ"؛ أي: فإنها زوجتك.
"قَالَ: فَلَمْ تُقْرِرْنِي نَفْسِي"، وفي لفظ: "فلم تقرَّ به نفسي" وفي لفظ: "فلم تقرَّني نفسي"، "حَتَّى أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ -وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ أَمِيرٌ عَلَيْهَا-"، فشكوت إليه، "فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِي، وَبِالَّذِي قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، قَالَ: فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْكَ، فَارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ. وَكَتَبَ إِلَى جَابِرِ بْنِ الأَسْوَدِ الزُّهْرِيِّ -وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ-"، من جهة ابن الزبير، "يَأْمُرُهُ أَنْ يُعَاقِبَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ"، بن زيد هذا، يعني يعزّره على ظلمه، "وَأَنْ يُخَلِّيَ"؛ يهيئ أسباب التخلية، "بَيْنِى وَبَيْنَ أَهْلِي".
قَالَ ثابت: "فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَجَهَّزَتْ صَفِيَّةُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ امْرَأَتِي، حَتَّى أَدْخَلَتْهَا عَلَيَّ بِعِلْمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ"؛ زوجها، "ثُمَّ دَعَوْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ"، بن الخطاب، "يَوْمَ عُرْسِي لِوَلِيمَتِي فَجَاءَنِي.".
فعلم أن طلاق المُكره ليس بشيء. وكذلك هو عند جمهور أهل العلم، إلا في بعض ما يروى عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه. والشرط فيه:
أن يُهدد بما لا يُحتمل عادة، أما إن أحد قال له: طلّق وإلا سببتك، دعه يسبّك! قال: مُكره، لست مكره! لماذا مُكره؟! ألا تحتمل السباب؟! دعه يسبّك إيش المشكلة! ولكن إن هدده بما لا يحتمل عادة. قال: طلّق وإلا أصفعك كف، تحمّل كف، هذا ما هو أمر شديد يُحتمل في العادة، قال: طلّق وإلا أخذت قلمك! دعه يأخذ القلم، إن طلّقت فالطلاق نافذ؛ لأن هذا تهديد بشيء يحتمل. لكن؛ بشيء لا يحتمل عادة: إما ضرب مبرّح شديد، أو قطع يد أو قطع رجل، أو قتل فيقتل، نعم هذا الذي لا يحتمل عادة.
وهو يعلم أن المهدّد يُنفّذ، لا يكون معروف أنه كثير كلام فيكذب دائمًا ويقول: سأقتلك وإلا..، وهو يعلم أنه لا يستطيع قتله ولا يقدر.. ثم يقول: أنا مُكره، ما أنت مُكره، تكون مُكره إذا هُددت من قِبَل قويّ لا تستطيع ردّه.
كذلك أن لا يستطيع الهرب، يهرب ويتركه، قال: أنا كنت مكره، ولماذا لم تهرب؟ اهرب بنفسك! ما دمت قادر على الهرب أنت غير مُكره،
أو غير قادر على الاستغاثة؛ أما إذا لديه ناس جنبه له إذا صاح، يخلّصونه منه، لكن قال: أنا مُكره وتلّفظ، في هذه الحالة وقع عليه؛ لأنه كان بإمكانه أن يستغيث ويُخلَّص.
فإذا لم يكن بقدرته الهرب ولا الاستغاثة ويعلم أنه سيُنفّذ ما هدّده به، وهو أمر لا يُحتمل في العادة؛ لغى نطقه بذلك فكأنه لم يقل شيء. شرط أن لا تظهر منه قرينة اختيار؛ علامة تدل على أنه مختار، هدّده يقول: طلّق زوجتك ثلاث، قال: واحدة فقط، وقعت واحدة، هذا اختيار منك أنت. أو قال: اثنتين، أو قال: طلّق زوجتك مرّة، قال: ثلاث، هذا اختيار منك فوقعت ثلاث، لا بد ما تظهر قرينة اختيار، كما يقول لك قُل، بالضبط لا تزيد ولا تنقص، إذا زدت أو نقصت فمعناه أنت تريد هذا، ولكن تبقى على ما أنت عليك.
قال: طلّق زوجتك الفلانية، قال: لا، فلانة الثانية، فنفذ الطلاق لأن هذا اختيار منه، فلا بد أن يخلو عن قرينة الاختيار.
وهكذا؛ يقول صاحب (المغني): لا تختلف الرواية عن أحمد؛ أن طلاق المُكره لا يقع، وهذا المروي عن سيدنا عمر وسيدنا علي وابن عمر وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين، كما هو مذهب الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام الأوزاعي والشعبي والنخعي والزهري والثوري وغيرهم من الأئمة.
لكن جاء في رواية عن الشعبي والنخعي، الرواية عن أبي حنيفة: أنه ينفذ هذا الطلاق، قال: لأنه طلاق من مُكلَّف في محل يملكه، فهذه الرواية عن الإمام أبي حنيفة في نفوذ طلاق المكره.
واستدل الجمهور بأحاديث، منها: ما رواه الإمام مالك في الموطأ، ومنها ما جاء عنه ﷺ في رواية ابن ماجة وغيره: "إنَّ اللَّهَ وضَعَ عن أُمَّتِي الخطَأَ، والنِّسيانَ، وما اسْتُكْرِهُوا عليه".
وما جاء عن السيدة عائشة أنه ﷺ قال: "لا طلَاقَ في إِغلاقٍ"؛ وفسروا الإغلاق بالإكراه، "لا طلَاقَ في إِغلاقٍ". فعلمنا أن الجمهور قالوا: أن طلاق المُكره لا ينفذ.
ثم ذكر أن وقت الطلاق يجب أن يكون في طُهر لم يقربها فيه، فهذا المسمى بالطلاق السني، وما عداه فبدعي وإن كان ينفذ.
ومما ينفذ فيه أثر الإكراه: لو أَكرَه امرأة على إرضاع ولد؛ فإن المحرمية تثبُت، بسبب وجود اللبن في جوف الطفل وإن كان ذلك بإكراه، ففي هذه المسألة ما يؤثر أثر الفعل، لأن المحرمية تحصل بوجود اللبن في جوف الصبي، ولا عبرة أنه إنما فعلت ذلك مكرهة.
وهذا وقت الطلاق: "قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَرَأَ: (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ) [الطلاق:1] لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ."؛ أي: في الوقت الذي يستقبلن فيه العِدة.
قالوا: إنها قراءة على التفسير وليست قراءة مروية للتلاوة، فطلقوهن في قُبُلِ عدّتهن: أي مستقبلات لعدتهن عند ابتداء شروعهن، وذلك في الطهر الذي لم يقربها فيه، فإن طلقها وهي حائض -يعلم أنها حائض-
فهو آثم
والطلاق نافذ
والطلاق بدعي
أو طلقها في طُهر قد قاربها فيه فإن الطلاق نافذ وهو بدعي إلا أن يكون حملها قد تبيّن.
إذًا؛ فالسُنّة في الطلاق:
أن يطلقها طلقة واحدة
وأن تكون وهي في طهر لم يجامعها فيه.
"قَالَ مَالِكٌ: يَعْنِي بِذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَ فِي كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً".
يقول: أُنكرت هذه الرواية على يحيى بن يحيى، وقيل أنها مخالفة لمذهب مالك، يعني: في أي طهر يبتدئ فيه الطلاق وليس المراد أن يوزع الطلقات على الأطهار.
معنى طلاق السُّنة: الطلاق الذي أَذِنَتْ السُنّة في فعله هذا معناه، وليس معناه أن حكم الطلاق يكون سُنّة، لا! أي: الكيفية أقرّتها السُنّة؛ هذا معناه.
ثم ذكر لنا عن عروة: "كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ ارْتَجَعَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، كَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا أَلْفَ مَرَّةٍ، فَعَمَدَ رَجُلٌ إِلَى امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا شَارَفَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا رَاجَعَهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا، ثُمَّ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ لاَ آوِيكِ إِلَيَّ، وَلاَ تَحِلِّينَ أَبَداً. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [البقرة:229]"؛ أي: لم يكن عدد معيّن للطلاق، ثم قُيّد ذلك بالثلاث فقط وأنه لا يملك غيرها، فإن طلقها ثلاثًا فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره وتَبِين منه؛ حتى لا يتلاعب الرجال -الذين بيدهم عقدة النكاح- بالطلاق.
فقال تعالى: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ) بعدها (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، (فَإِن طَلَّقَهَا): أي: ثالث مرة (فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ۗ)، فإذا طلّق الثلاث مباشرة أو مُفرّقة فلا تحِل له حتى تنقضي عِدّتها منه، ثم إن تزوّجها آخر ودخل بها، ثم إن طلقها الآخر وانقضت عدّتها منه جازت أن ترجع إلى الأول: (فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۗ) [البقرة:230] وتعود بثلاث.
بخلاف ما إذا كان طلقها طلقتين، ثم تزوجها غيره، ثم إنه مات عنها أو طلقها، ثم أعادها الأول فإنه يعيدها بطلقة واحدة، لا يبقى له إلا طلقة واحدة، ولا يضر أنها تزوجت غيره ما دامت الثلاث لم تَكمُل، كما تقدم معنا.
فأنزل الله: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ)، فإنه إذا أراد المُضارة بالطلاق، يتركها إذا قربت كمال العدة راجعها، ثم يطلقها فإذا قاربت كمال العدة راجعها، قالوا: خلاص لم يعد لك تطليقة إلا واحدة، إن طلّقتها الثالثة حرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك، فلا تملك مراجعتها بعد ذلك.
وقد كان بعضهم يريد أن يُضار زوجته فيفعل هكذا، ويتكرر الطلاق فحدّده الشارع بثلاث، "فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ الطَّلاَقَ جَدِيداً مِنْ يَوْمِئِذٍ، مَنْ كَانَ طَلَّقَ مِنْهُمْ أَوْ لَمْ يُطَلِّقْ."؛ يعني: من يوم نزول الآية، يعني: لا عبرة بما قد مضى ولكن من يوم نزول الآية لكل زوج ثلاث، ولا يحسب عليه ما قد مضى؛ من يوم نزول الآية: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)؛ يعني: استأنفوا تجديد الطلاق من ذلك اليوم، تحديده ثلاثًا سواءً سبق لأحد منهم طلقة قبل ذلك أو لم يسبق، الآن كل واحد له ثلاث من يوم نزول الآية إلى أن تقوم الساعة، لا يملك الزوج إلا ثلاثة تطليقات؛ لأن المُضارّة مُنعها.
كما قال في الحديث الآخر: "أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ يُرَاجِعُهَا، وَلاَ حَاجَةَ لَهُ بِهَا، وَلاَ يُرِيدُ إِمْسَاكَهَا، كَيْمَا يُطَوِّلَ بِذَلِكَ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ لِيُضَارَّهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [البقرة:231]".
وهكذا؛ يعقل عن الله من آمن بالله: أن كل محاولة تريد أن تؤذي بها الغير وتضُر بها الغير فإنما تضر نفسك وتؤذي نفسك من حيث لا تشعر، ويأتيك من البلايا والمصائب ما يُكدّر عيشك وحالك لأنك آذيت خلق الله، ولهذا يقول: (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)، (وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)؛ فلا يُمسك ضرار ولا يطلّق ضرار، ولكن إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان هذا شرع الله تبارك وتعالى، والذين يخالفون ذلك يعرضون أنفسهم للعذاب في الدارين وللعقاب في الآخرة، قال: "يَعِظُهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ".
ثم يتكلم آخر الباب عن طلاق السكران، والسكران: إذا تعدى بِسُكره فهو مؤاخذٌ بنطقه وينفذ عليه الطلاق.
وذكر: "أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، سُئِلاَ عَنْ طَلاَقِ السَّكْرَانِ فَقَالاَ: إِذَا طَلَّقَ السَّكْرَانُ جَازَ طَلاَقُهُ، وَإِنْ قَتَلَ قُتِلَ بِهِ"؛ أي: بقدره، أي: يُحسب عليه كل ما عمل؛ لأنه تعدى بسُكره، بخلاف من لم يتعدَّ بسُكره، ومن جُنَّ، فحينئذ لا يحسب لفظه ولا فعله، وأما من تعمّد السُكر فكل ما يفعله محسوب عليه وكل ما يقوله محسوب عليه لأنه متعدٍ عاصٍ.
و"قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى ذَلِكَ الأَمْرُ"؛ يعني: أن السكران ينفذ ما يقول، "وَعَلَى ذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا". وجاءت روايات عن الإمام أحمد:
أصحّها: وقوع الطلاق كما عليه الجمهور.
والثانية: لا.
والثالثة: التوقف عنده إذا طلق السكران.
والجمهور: على أن ذلك جائز، أي: يُنفَذ عليه تغليظًا عليه.
كذلك إذا لم يستطع النفقة على زوجته وتضررت من عدم الإنفاق عليها، جاز لها أن ترفع إلى الحاكم فيفسخ النكاح، "سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ كَانَ يَقُولُ: إِذَا لَمْ يَجِدِ الرَّجُلُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا"؛ لأن النفقة لازمة، فإذا عجز فلا بد من التفريق، وهكذا، "عن أبي الزِّناد قال: سألتُ سعيد بن المسيب عن الرجل، لا يجدُ ما يُنفقُ على امرأته، قال: يُفَرَّقُ بينهما. قال أبو الزِّناد: قلتُ: سُنَّة؟ فقال سعيد: سُنَّة".
"قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى ذَلِكَ أَدْرَكْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا"؛ يعني: الرجل إذا منع امرأته النفقة لعُسرته وغيرها وعدم ما ينفق؛ فالمرأة مخيّرة:
إما أن تصبر عليه وعلى ما ييسر الله له من رزق وتصبر على ما يكون من جوع ومن تعب، ولها بذلك الأجور والخير الكثير.
وإما أن تطلب طلاقها فيُفرَّق بينهما.
وجاء عن الإمام أبي حنيفة: أنه في هذه الحالة ما يفرّق بينهما، ولكن يفسح لها المجال لتكتسب لنفسها ما تستطيع اكتسابه، فتكتسب ما ييسر الله لها أن تكتسب. وعن سيدنا عمر: أنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم، أمرهم بأن ينفقوا أو يطلّقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى، والله أعلم.
الله يكتبنا في ديوان أهل الصدق من خيار الخَلق، ويرزقنا الاقتداء برسوله ﷺ في الفعل والنطق، وينظِمنا في سلكه ويحملنا في فُلكه، ويصلح أحوال أمّته، ويرفع البلاء عن أمته، ويجمع شمل أمته، ويجعلنا في خيار أمّته، وفي أبرك أمته على أمته وأنفع أمته لأمته في عافية، وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
23 جمادى الآخر 1443