شرح الموطأ - 313 - كتاب الطلاق: باب جامع الطلاق

شرح الموطأ - 313 - كتاب الطلاق: باب جامع الطلاق
للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطلاق، باب جامع الطلاق.

فجر الأحد 20 جمادى الآخرة 1443هـ.

 باب جَامِعِ الطَّلاَقِ

1722- وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ أَسْلَمَ، وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ حِينَ أَسْلَمَ الثَّقَفِي: "أَمْسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعاً، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ".

1723- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَحُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، كُلُّهُمْ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ، ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى تَحِلَّ وَتَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ، فَيَمُوتَ عَنْهَا أَوْ يُطَلِّقَهَا، ثُمَّ يَنْكِحُهَا زَوْجُهَا الأَوَّلُ، فَإِنَّهَا تَكُونُ عِنْدَهُ، عَلَى مَا بَقِىَ مِنْ طَلاَقِهَا.

قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى ذَلِكَ السُّنَّةُ عِنْدَنَا الَّتِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهَا.

أَدْرَكْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مكرمنا بشريعته الغرّاء، وبيانها على لسان خير الورى سيدنا محمد، صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله من حُبُوا به من الله طُهرا، وعلى أصحابه المرتقين به أعلى الذرى، وعلى من سار بسَيْرهم وبمجراهم جرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين سادات المقرّبين المقدّمين الكبراء، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وبعدُ، 

فيذكر لنا الإمام مالك -عليه رحمة الله- في هذا الباب،- أحاديث متعلقة بمسألة الطلاق، وما يترتب على ذلك في أحوال مخصوصة.

 فأوّلها: إذا أسلم المسلم وكان عنده قبل إسلامه أكثر من أربع زوجات، فما الحكم وقت إسلامه؟  بأن كان عنده خمس أو ست أو سبع أو ثمان زوجات، أو تسع أو عشر أو أكثر من ذلك فأسلم،  فبإسلامه لا يحل له إلا أربع، وما زاد عن الأربع يجب عليه أن يفارقهن.

  • قال الأئمة الثلاثة: يتخيّر من بين مجموع من تحته من النساء أربعًا، وباختياره الأربع ينفسخ نكاح البقية.

  • قال الإمام أبو حنيفة وصاحبه أبو يوسف:  بل ننظر إلى من تزوجهنّ أولا، فنثبت له الأربع الأوّلات، وما زاد عن العقد الذي وقع بعد الأربعة نبطله، فيكون باطلًا هذا العقد الذي وقع بعد أن كنّ في عقده أربع نساء؛  فيُحكم ببطلانه، فيرجع إلى الترتيب في العقود. فلو كان أخذ أكثر من أربع في عقد واحد، بطل عقد نكاح الجميع، ووجب عليه أن ينكح من جديد، من شاء منهن، هكذا قال الحنفية.

 قال الأئمة الثلاثة والجمهور: بل يتخيّر، لما جاء في هذا الحديث وغيره من الأحاديث، أنه ﷺ خيره بين أربع منهن، ولم يحدد له الأوليات منهن ولا غيرهن، وتركه يختار، وبذلك أخذ الأئمة الثلاثة.

قال: "باب جَامِعِ الطَّلاَقِ"، يقول: "وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ أَسْلَمَ"، اسمه غيلان بن سلمة بن مالك الثقفي، سكن الطائف، أسلم بعد فتح الطائف، وكان أحد وجوه ثقيف، وقيل: أنه قصده المشركون بقولهم (لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف:31]، وأول من بُنِيَ له أُطُم في الطائف، وهو من أسْلَم؛ اسمه غيلان بن سلمة.

" وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ حِينَ أَسْلَمَ" فأَسْلَمنَ مَعَه. 

  • أما لو أسلم بعض النساء، فهُنّ يُقدّمن في البقاء معه بالإسلام، ولحرمة البقية عليه.

  •  فإن كان من البقية من أهل الكتاب، فله تمام الأربع منهن. 

ولكن هذا لما أسلم، أسلمن نساءه بإسلامه، وعرض أمره على النبي ﷺ، وقال: أنا أسلمت وعندي عشر زوجات كلهن أسلمن، قال ﷺ:  "أَمْسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعاً، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ"؛ أي: باقيهِنّ.

استدلّ به الجمهور، على أنه يأخذ باختياره أربعًا من شاء منهنّ، فإنه لا يجوز الزيادة على أربع من النسوة بالاتفاق، في الأقوال المعتبرة، ولا عبرة لما ذهب إليه بعض الخوارج، ولا ما ذهب إليه الظاهرية، من أن المثنى تثنية واحدة، والثلاث تثنية ثلاثًا، وأن المثنى والثلاث والرباع يجتمعون، فيصيرون تسعًا، ولا إلى ما قال الظاهرية من ثمانية عشر، كل ذلك باطل. فلا يجوز أن يزيد على أربع لغير رسول الله ﷺ، لقوله تعالى: (خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۗ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي اَزْوَاجِهِم) [الأحزاب:51].(وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) حلالٌ لهم. أما بالزوجية، فلا يمكن أن ينكح إلا أربعًا.

كان هذا هو الشرع الوسط لسداد حالة وحاجة الأمة رجالًا ونساءً، فإنه بحكمته -سبحانه وتعالى- جعل عدد النساء أكثر في عامة الأزمنة والأمكنة. ويُقال: أنه لما كَثُر النساء في عهد سيدنا موسى عليه السلام، وقلّ الرجال لما كان من تقتيل فرعون لهم، قال تعالى: (يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَهمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَهمْ)[الأعراف:141]، فكثُر النساء، فكن أضعافًا مضاعفة لعدد الرجال، فكان في شريعته لا تحديد، يجوز للرجل أن يتزوج اثنتين وثلاثًا وأربعًا وخمسًا وستًا وسبعًا وثمان… ما استطاع، لكن من غير شك أن نظام الشرع المصون، مع القيام بحقوقهنّ، وأداء الواجب لهن، والعدل بينهن، إلا فيما تسامحن فيه وتراضين.

 ثم يقال: أنه قلّ النساء في عهد عيسى ابن مريم، وكَثُر الرجال، فكان عدد النساء لا يزيد على عدد الرجال في وقته، فجاء في شريعته، أنه لا يجوز أن يتزوج المسلم إلا واحدة، ليترك لبقية الرجال الموجودين أن يجدوا أزواجًا.

ثم جاءت الشريعة الخاتمة الكاملة، والحق أعلم بعباده، ففي الغالب هناك زيادة في النساء على الرجال، والغالب في أكثر الأحوال، أن الزيادة لا تكون أكثر من أربع أضعاف غالبًا، وقد يزيد ذلك وينقص، في مختلف من الأحوال، حتى تأتي أحوال في آخر الزمان يكون للخمسين امرأة القيّم الواحد، كما أخبر ﷺ. فجاء حكم الشريعة على ما هو الغالب، وأباح أن يأخذ الرجل أربعًا، بشرط العدل وأداء الحقوق، إلا ما تراضين بينهن من رضى.

وذلك ما قاله الشيخ الشعراوي -عليه رحمة الله- لما سأله بعضهم لما زار أمريكا عن جواز التعدد في الشريعة عندكم، قال: هذا من أجل إنقاذ وضعكم في أمريكا! قالوا: كيف؟ قال: كم عدد السكان عندكم؟ وكم عدد النساء؟ وكم عدد الرجال؟ فكان النساء أربع أضعاف الرجال، فقال الشيخ الشعراوي: أنت تريد الربع منهن يتزوجن،  والباقي؟ تريدهن يفسدن في بلادكم؟ أو يعشن بلا أزواج محرومات؟..

شريعة الله جاءت تنقذكم وتصلح شأنكم، وسبحان الحكيم القادر العليم، وهو أعلم بمصالح عباده، ومن المعلوم أن هذا يأتي في حكم الغالب، ثم إنه لا يتسنّى لكل الرجال أن يتزوجوا أربعًا، ومنهم من يتزوج واحدة، ومنهم من لا يتزوج ولا واحدة، وجاءت الشريعة بهذه الأحكام، وحددت العدد إلى الأربع، وفي كل الأحوال، واحدة أو اثنتين أو ثلاث أو أربع:

  • أوجبت حُسن المعاشرة

  • وأوجبت حدودًا فيما يتعلق بالنفقة والسكنى والكسوة وما إلى ذلك

  •  وحدّدت عدلًا

  •  وأقامت الأمر على التراضي كذلك بينهم، في الحدود التي حددتها الشريعة.

 فلا يمكن أن يوجد حكم أحسن من حكم الله، ولا أنفع للبشر ولا أنقذ لهم وأبعد من الضرر، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[المائدة:50]. "فقال أَمْسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعاً، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ"؛ أي: باقيهنّ.

 ثمَّ أَورد لنا: "عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَحُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، كُلُّهُمْ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ، ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى تَحِلَّ وَتَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ، فَيَمُوتَ عَنْهَا" زوجها الثاني "أَوْ يُطَلِّقَهَا، ثُمَّ يَنْكِحُهَا زَوْجُهَا الأَوَّلُ، فَإِنَّهَا تَكُونُ عِنْدَهُ، عَلَى مَا بَقِىَ مِنْ طَلاَقِهَا" فقط.

حتى لا يؤخذ الأمر بالتلاعب، ولا بالتحيّل.: فإذا طلّق امرأته طلقةً وتركها، وانقضت عدّتها، فتزوّجت زوجًا غيره، ثم مات عنها، أو طلّقها، فعاد إليها، يقول :أنت قد نكحت غيري فلي عليك ثلاث طلقات، لا، ليس لك ذلك، إنما يكون ذلك لو نكحت زوجًا غيره بعد أن طلقها زوجها الأول ثلاثًا، أما مادام لم يطلقها إلا مرة فلا تعود إلا بطلقتين، فإن طلقها اثنتين ونكحت زوجًا غيره ثم أبانت من الزوج الثاني، وعاد إليها الزوج الأول، فليس معه إلا طلقة واحدة، لأنه قد سبقت له طلقتان، فإن طلقها واحدة صارت الثالثة عليه وحَرُمت، ولا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره.

 إنما إذا سبق الطلاق ثلاثًا قال: نعم. قال تعالى: (فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ)[البقرة:230]؛ يعني: مراجعة بطيب نية وقصد حسن (إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ)؛ يعني: يقيموا أمر الله بينهم بالعشرة المحمودة المباركة فنعم، لا بقصد أذى ولا بقصد ضر ولا بقصد معاندة ، (إِنْ ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) فتعود ثلاث أخرى، فيرجع إليه ثلاث طلقات.

وهكذا الحكم فيما جعل الله -تبارك وتعالى- من هذا الأمر، ليكون أبعد عن التلاعب، وعن إرادة الأذى، فإنه عند صدور الثلاث طلقات لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، والزوج الغير لا يجوز أن يكون بنية التحليل للزوج الأول، فلعن الله المحلل والمحلل له.

بل تمضي في حياتها، إذا يسّر الله لها زوجا لتعيش معه، وتخطّ طريقا في الحياة، تستقر فيها شأنها وحالها، ولكن إذا صادف أن مات أو طلقها، رغبةً منه في طلاقها، وبانت عدّتها، جاز للأول أن يعود إليها، ومن دون هذه الطريقة لا يجوز. وذلك إبعادًا للأنفس عن غلوائها، وعن سوءها وعن شرها، وتهدئة لها وتمكينًا للكل لأن يمضي في سبيل حسن، كما قال سبحانه وتعالى: (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا) [النساء:130]، لأن المقصود أن يعيشوا عيشة هانئة، وهادئة، وطيبة مباركة، كما أحب الله منهم على ظهر الأرض، استعدادًا للقائه.

"قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى ذَلِكَ السُّنَّةُ عِنْدَنَا الَّتِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهَا."؛ أنه لا يُعاد العدد لكونها تزوجت زوجًا غيره، مادام أنه لم يسبق له الثلاث، فلا يبقى له إلا ما بقي من هذه الثلاث، وبالله التوفيق.  

أصلح الله أحوال المسلمين، ودفع عنّا وعنهم الآفات والعاهات، في كل شأن وحال وحين، وأصلح الأسر والذراري والأهلين، وجعلنا في الهداة المهتدين، ومن ترعاه عين العناية في كل شأن وحال وحين، وفرّج كروب الأمة، وختم لنا بأكمل الحسنى وهو راضٍ عنا بسِرَ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

22 جمادى الآخر 1443

تاريخ النشر الميلادي

25 يناير 2022

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام