(364)
(535)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطلاق، باب مَا جَاءَ فِي الأَقْرَاءِ وَعِدَّةِ الطَّلاَقِ وَطَلاَقِ الْحَائِضِ.
فجر السبت 28 جمادى الأولى 1443هـ.
باب مَا جَاءَ فِي الأَقْرَاءِ وَعِدَّةِ الطَّلاَقِ وَطَلاَقِ الْحَائِضِ.
1688- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ".
1689- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا انْتَقَلَتْ حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ دَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَتْ: صَدَقَ عُرْوَةُ، وَقَدْ جَادَلَهَا فِي ذَلِكَ نَاسٌ فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة:228] فَقَالَتْ عَائِشَةُ: صَدَقْتُمْ، تَدْرُونَ مَا الأَقْرَاءُ؟ إِنَّمَا الأَقْرَاءُ الأَطْهَارُ.
1690- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: مَا أَدْرَكْتُ أَحَداً مِنْ فُقَهَائِنَا إِلاَّ وَهُوَ يَقُولُ هَذَا. يُرِيدُ قَوْلَ عَائِشَةَ.
1691- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ الأَحْوَصَ هَلَكَ بِالشَّامِ حِينَ دَخَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَقَدْ كَانَ طَلَّقَهَا، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أبِي سُفْيَانَ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ زَيْدٌ: إِنَّهَا إِذَا دَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ، وَبَرِئَ مِنْهَا، وَلاَ تَرِثُهُ، وَلاَ يَرِثُهَا.
1692- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا دَخَلَتِ الْمُطَلَّقَةُ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَقَدْ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا، وَلاَ مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا، وَلاَ رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا.
1693- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، فَدَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ وَبَرِئَ مِنْهَا. قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الأَمْرُ عِنْدَنَا.
1694- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ أبِي عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى الْمَهْرِيِّ، أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ كَانَا يَقُولاَنِ: إِذَا طُلِّقَتِ الْمَرْأَةُ، فَدَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ وَحَلَّتْ.
1695- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَابْنِ شِهَابٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ ثَلاَثَةُ قُرُوءٍ.
1696- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ: عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ الأَقْرَاءُ وَإِنْ تَبَاعَدَتْ.
1697- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَّ امْرَأَتَهُ سَأَلَتْهُ الطَّلاَقَ، فَقَالَ لَهَا: إِذَا حِضْتِ فَآذِنِينِي. فَلَمَّا حَاضَتْ آذَنَتْهُ، فَقَالَ إِذَا طَهُرْتِ فَآذِنِينِي، فَلَمَّا طَهُرَتْ آذَنَتْهُ، فَطَلَّقَهَا.
قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ.
الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته وبيانها على لسان حبيبه المُصطفى مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه والمقتدين به العاملين بشريعته في استقامتها واتزانها، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين وآلهم وصحبهم والتابعين، وعلى ملائكة الله المُقرّبين، وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيذكر الإمام مالك -عليه رضوان الله- في هذا الفصل الأقراء التي تنتهي بها عدة المُطلَّقة في قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ) [البقرة:228]، فيجمع القُرء والقَرء على أقراء وعلى قروء، كما يُجمع الفرع على فروع، فيُجمع القرء على قروء، والقرء واحد وهذه الأقراء.
ويتحدث عن الطلاق في الحيض وقد أشار إليه في الحديث، يقول: "مَا جَاءَ فِي الأَقْرَاءِ وَعِدَّةِ الطَّلاَقِ وَطَلاَقِ الْحَائِضِ"، وذكر حديث ابْنَ عُمَرَ الذي هو أيضًا في الصحيحين، أنه حصل منه أن طَلَّقَ زوجته وَهِيَ حَائِضٌ، فأخبر سيدنا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ له: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، حتى تطهر ثم إن شاء طلَّق وإن شاء أمسك.
ففي هذا بيان أو حُرمة الطلاق وهي حائض مع نفوذه؛ لأنه لا معنى للأمر بالمراجعة إلا أن يكون نفذ الطلاق، وعلى ذلك الأئمة الأربعة وجماهير العلماء. حتى قال ابن عبد البر وغيره: أنه لم يخالف في ذلك إلا من ضلّ وشذّ؛ أي لا يحسب الطلاق إذا كان في أيام الحيض مع أنه متفق على أنه معمد/ متعمَّد؛ كان عالمًا أن زوجته حائض فطلقها؛ فهو مأثوم ولكن الطلاق نافذ؛ فيصح الطلاق وهذا الأمر فيه بالمراجعة؛ لأنها بانت منه.
وقد جاء في أحاديث أنه سُئل، قال النَّبي ﷺ: قل أرأيت لو قد بتت طلاقها؛ يعني طلقتها ثلاث، أراجعها؟ قال: لا ليس لك مراجعة؛ لا قد انتهت لكن إذا كان الطلقة الأولى أو الطلقة الثانية ولا زال عنده إمكانية العودة ببقاء تطليقة له؛ فيُسن له أن يراجع كما أشار الحديث الشريف.
يقول: "عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ"، التي كانت تسمى آمنة بنت غفار "طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَسَأَلَ عُمَرُ" أبوه، "عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله تعالى عنه- رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ"؛ أي: حكم طلاق ابنه، جاء في الصَّحيحين فتغيّظ رسول الله ﷺ؛ أي: لإقدامه على الطلاق فيها وهي حائض. "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مُرْهُ"؛ أي: ابنك عبد الله، "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا" فهذه المراجعة لمَن طلّق وهي حائض.
قيل: بوجوبها.
وقيل: أنها سُنَّة، ومعتمد الأئمة الثلاثة أنها سُنَّة.
وعند الإمام مالك: أن مراجعتها واجب؛ أنه واجب عليه أن يُراجعها.
كما يروى في رواية عن الإمام أحمد غير المعتمد بمذهبه.
وكذلك عن بعض الحنفية غير المعتمد في مذهبهم.
فمذهب الأئمة الثلاثة، أنه يراجعها استحبابًا.
ومذهب الإمام مالك، وجوبًا؛ فيُراجعها وجوبًا. إذا كان بقي له طلقات؛ وجب عليه أن يراجعها عند مالك.
ونُدب له؛ استحب له أن يراجعها عند غير الإمام مالك من الأئمة الثلاثة عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
إذًا، هناك بعض الحنفية يقولون أيضًا بقول مالك، ورواية عن الإمام أحمد ولكن المعتمد عند الأئمة الثلاثة الحنفية والشَّافعية والحنابلة: أن هذه المراجعة إنما تُسن.
إذًا؛ الطلاق نافذ كما عَلِمنا
ولكن المراجعة ما بين القول بوجوبها أو استحبابها.
قال: "ثُمَّ يُمْسِكْهَا"؛ أي: بعد أن يراجعها؛ أي فلا تكون المراجعة على مجرد قصد الطلاق وحده. "يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ" وهي في عقده، حتى يكون له من بعد إرجاعها إلى عقده أيام طهر، ولعلّ ذلك يكون سببًا في مراجعته لنفسه ألا يعود إلى الطلاق ويمتد الوقت معه حتى تطهر؛ ولئلا يكون مقصود المراجعة الطلاق، فذهب قصد النكاح وقصد الرجعة إليه ولكن يبقيها عنده طهرًا كاملًا آخر. كذلك هذا مما اختلفوا فيه في أنه يذهب عنه الكراهة بإبقائها طهرًا أو يكفي أنها إذا طَهُرت أن يطلقها في ذلك الطهر الأول الذي تطهُر فيه عنده.
قال: "ثُمَّ تَطْهُرَ"؛ يعني: المرة الأولى "ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ"؛ أي: بعد الطهر الثاني "وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ"، فإذا طهرت، فليطلقها، في الرواية الأخرى. وجاء في رواية: "مُرْهُ فليُراجعها ثم ليُطلِّقها طاهرًا أو حاملًا". إذًا حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ. فاختلفوا في تطليقها في الطهر الذي يلي الحيض هذا:
وعند الشَّافعية وجهان.
وكلام المالكية يقضي أن التأخير هذا مستحب؛ أن يبقيها في عقده مع أن المراجعة عندهم واجبة ولكن أن يبقيها طهرًا آخر حملوه على الاستحباب.
وكذلك عند الحنفية، جاء عن أبي حنيفة جواز أن يطلقها في هذا الطهر الأول بعد مراجعتها.
وجاء عند صاحبيه، المنع وأنه لا يخرج عن البدعية هذه في الطلاق إلا أن يمسكها طهرًا كاملًا ثانيًا عنده، ثم تحيض، ثم بعد ذلك إن شاء طلقها. وهذا المسمى بالطلاق السُّنّي؛ أي الواقع على السُّنَّة؛ أن يطلّقها في طهر لم يجامعها فيه.
وهكذا يقول الحنابلة: إذا راجعها؛ وجب عليه إمساكها حتى تطهر، واستحب إمساكها حتى تحيض بعد الطهر حيضة أخرى ثم تطهر. إذًا فقد حملوه على الاستحباب في إمساكها مدة الطهر الثاني وأن تحيض بعده، ثم في الطهر الذي بعده أن يطلقها.
وعَلِمنا أن من الحِكَم التي ذكرها أهل العلم، لا تصير الرجعة لغرض الطلاق، فيمسكها زمان ولعله في هذا الزمان يراجع نفسه ويُعرض عن أبغض الحلال إلى الله؛ وهو الطلاق. ويقول ابن عبد البر: إن الرّجعة لا تكاد تُعلم صحتها إلا بالوطء فهو من أظهر مقاصد النكاح. ولا يحصل الوطء إلا في طهر، فيمسكها في هذا الطهر فلعله أن يقربها، فتحرم عليه ويعرض عن إرادة الطلاق وإلا فمُضيّ المدة كاملة إلى أن تحيض مرة أخرى ثم تطهر كافٍ في تثبُته ومراجعته نفسه. فإن كان لأمر يقتضيه الشأن والحال ولا يستطيع المواصلة، فإنه لن يقربها في أيام الطهر، ويأتي الحيض الثاني ثم يأتي الطهر الذي لم يجامعها فيه أيضًا، فيطلقها إن شاء. قال: يطلقها "قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ" عزّ اسمه "أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ". وكلما كان في آخر الطُّهر الذي لم يقربها فيه، فهو أفضل لنقص المدة عليها في العدة.
وذكر لنا الحديث الآخر: "عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا انْتَقَلَتْ حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ دَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ".
"قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَتْ: صَدَقَ عُرْوَةُ" بن الزُّبير، "وَقَدْ جَادَلَهَا فِي ذَلِكَ نَاسٌ".
تقول: نُقلت أو "انْتَقَلَتْ حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ" لمّا طلّقها زوجها المنذر بن الزُّبير بن العوام "حِينَ دَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ". لتمام حيضها عند عائشة،
فإن القروء عند عائشة؛ هي الأطهار، وهو كذلك عند مالك، وعند الإمام الشَّافعي.
وقال أبو حنيفة وأحمد: أن المراد بالقروء؛ هي الحيضات؛ ثلاث حيضات.
فهنا كلام السيدة عائشة أنها "انْتَقَلَتْ حَفْصَةَ" انتقلت في الدم "مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ"؛ يعني كمل الطُّهر. فلما دخلت الحيضة، انتهت الأطهار الثلاث؛ كملت الأطهار الثلاثة؛ فانقضت عدتها. قال: "وَقَدْ جَادَلَهَا" أي عائشة "فِي ذَلِكَ نَاسٌ" من الصحابة والتابعين لأن في المسألة خلاف على المراد بالقروء؛ الأطهار أو الحيضات؟ "فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ) [البقرة:228]"، وحفصة هذه لم تتم لها ثلاثة قروء فإنها قد انتقلت في أول القُرء الثالث وهو الحيض عندهم. "فَقَالَتْ عَائِشَةُ: صَدَقْتُمْ، تَدْرُونَ مَا الأَقْرَاءُ؟ إِنَّمَا الأَقْرَاءُ الأَطْهَارُ". هذا هو مذهب السيدة عائشة. فالقرء هذا: يقع على الطُّهر، وعلى الحيضة في اللغة. واختلفوا في المراد في الآية، فقالوا: قُرء وقَرء في كلام العرب يقع على الحيض وعلى الطُّهر جميعًا، فهو من الأسماء المشتركة. واختلفوا أهل العلم في الآية والمراد منها،
○ فجاء في الرواية عن أحمد أنها الحيض، وكذلك نُقل عن بعض الصحابة.
○ وجاء عن بعض الصحابة، ومنهم عائشة وابن عمر قالوا: وكانا من أهل اللغة، أن المراد بالقروء؛ الأطهار.
○ وعند أبي حنيفة: أن المراد بالقروء الحيضات.
○ والإمام مالك كالإمام الشافعي يقول: أن الأقراء هي الأطهار.
وذكر: "سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: مَا أَدْرَكْتُ أَحَداً مِنْ فُقَهَائِنَا إِلاَّ وَهُوَ يَقُولُ هَذَا. يُرِيدُ قَوْلَ عَائِشَةَ".
وذكر: "أَنَّ الأَحْوَصَ هَلَكَ"؛ أي: مات "بِالشَّامِ حِينَ دَخَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَقَدْ كَانَ طَلَّقَهَا"؛ أي: قبل ذلك، "فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أبِي سُفْيَانَ"؛ يعني: يسأله "إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ" الأنصاري -رضي الله عنه- كاتب الوحي يقول له؛ "يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ زَيْدٌ: إِنَّهَا إِذَا دَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ، وَبَرِئَ مِنْهَا"؛ أي: قطع علاقة النكاح، "وَلاَ تَرِثُهُ، وَلاَ يَرِثُهَا"؛ يعني: إذا ماتت هي؛ لا يرثها الزوج إن ماتت بعد خروجها من العدة.
وذكر: "عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا دَخَلَتِ الْمُطَلَّقَةُ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَقَدْ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا، وَلاَ مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا، وَلاَ رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا". فيكون الطُّهر الذي طلقها فيه؛ أول قرء، ثم حاضت حيضًا أولًا -حيضة أولى- ثم طهرت؛ فكان القرء الثاني، ثم حاضت حيضة ثانية ثم طهرت؛ فكان القرء الثالث، فإذا شرعت في الحيضة الثالثة فقد كمُلت العدة.
ومَن قال أنها هي الحيضات، يقال: لا، إنما حاضت حيضتان بعد الطلاق، فلا بد أن تكمل الحيضة الثالثة، فإذا طهُرت؛ انقضت العدة بطهرها من الحيضة الثالثة. يَقُولُ: "إِذَا دَخَلَتِ الْمُطَلَّقَةُ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَقَدْ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا، وَلاَ مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا، وَلاَ رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا"؛ لأنه انتهت العدة.
وذكر: "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، فَدَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ وَبَرِئَ مِنْهَا"؛ أي: كملت العدة؛ ولا ترثه ولا يرثها. "قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الأَمْرُ" المرجح "عِنْدَنَا"؛ أي: عند علماء المدينة المنورة أن المراد بالقروء؛ هي الأطهار.
وذكر: "أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ كَانَا يَقُولاَنِ: إِذَا طُلِّقَتِ الْمَرْأَةُ، فَدَخَلَتْ فِي الدَّمِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ وَحَلَّتْ".
كذلك ذكر: "عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَابْنِ شِهَابٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ ثَلاَثَةُ قُرُوءٍ" هذا متفق عليه ولكن الاختلاف في، هل المراد بها الأطهار أو الحيضات؟ يَقُولُ: "عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ الأَقْرَاءُ وَإِنْ تَبَاعَدَتْ". بأن كانت ما تحيض إلا بعد في الشهرين مرة أو في الثلاثة الأشهر مرة، ما دامت من ذوات الحيض؛ فلا تنتهي العدة إلا بالقروء الثلاثة. فإن كانت يائسة أو لم تصل حد الحيض بعد؛ فبالثلاثة الأشهر كما قال الله تعالى: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ۚ) عدتهن ثلاثة أشهر. وأما ذوات الأحمال، فقال كما قال تعالى: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ) [الطلاق:4].
وذكر لنا: "عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَّ امْرَأَتَهُ سَأَلَتْهُ الطَّلاَقَ، فَقَالَ لَهَا: إِذَا حِضْتِ فَآذِنِينِي. فَلَمَّا حَاضَتْ آذَنَتْهُ، فَقَالَ إِذَا طَهُرْتِ فَآذِنِينِي، فَلَمَّا طَهُرَتْ آذَنَتْهُ، فَطَلَّقَهَا"؛ أي: ترقّب العدة التي أمر الله أن يطلق فيها، فإنها إنما قال لها: إذا حضتِ فآذنيني لأنه قد مسها في هذا الطهر فما يفيد لا بد أن تحيض. فإذا حاضت، قال: إذا طهرت، آذنيني، فلما طهرت مرة ثانية طلقها. إذًا؛ فيحرم الطلاق في الحيض أو في طهر قد مسّها فيه مع وقوعه ويقع في ذلك الطلاق، والله أعلم.
رزقنا الله الاتباع والعمل بالشريعة، ورقّانا بالاقتداء بحبيبه إلى المراتب الرفيعة، ورعانا بعين عنايته في كل شأنٍ من شؤوننا، وتولّانا بما هو أهله في جميع أطوارنا، ووقانا الأسواء والأدواء وكل بلوى والأمة وكشف عنا وعنهم كل غمة، بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
30 جمادى الأول 1443