شرح الموطأ - 305 - كتاب الطلاق: باب نفقة الأَمَة إِذا طُلِّقَتْ وهي حامل، و باب عِدَّة التي تَفْقِد زوجها

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطلاق: باب نَفَقَةِ الأَمَةِ إِذَا طُلِّقَتْ وَهِيَ حَامِل، وباب عِدَّةِ الَّتِي تَفْقِدُ زَوْجَهَا.
فجر الأربعاء 25 جمادى الأولى 1443هـ.
باب نَفَقَةِ الأَمَةِ إِذَا طُلِّقَتْ وَهِيَ حَامِلٌ
1682 - قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَى حُرٍّ وَلاَ عَبْدٍ طَلَّقَا مَمْلُوكَةً، وَلاَ عَلَى عَبْدٍ طَلَّقَ حُرَّةً طَلاَقاً بَائِناً نَفَقَةٌ وَإِنْ كَانَتْ حَامِلاً، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ.
1683 - قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ عَلَى حُرٍّ أَنْ يَسْتَرْضِعَ ابنَهُ، وَهُوَ عِنْدَ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَلاَ عَلَى عَبْدٍ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِهِ عَلَى مَا يَمْلِكُ سَيِّدُهُ، إِلاَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ.
باب عِدَّةِ الَّتِي تَفْقِدُ زَوْجَهَا
1684 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ فَقَدَتْ زَوْجَهَا، فَلَمْ تَدْرِ أَيْنَ هُوَ، فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً، ثُمَّ تَحِلُّ.
1685 - قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَدَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَلاَ سَبِيلَ لِزَوْجِهَا الأَوَّلِ إِلَيْهَا.
قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا، وَإِنْ أَدْرَكَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا.
1686 - قَالَ مَالِكٌ: وَأَدْرَكْتُ النَّاسَ يُنْكِرُونَ، الَّذِي قَالَ بَعْضُ النَّاسِ، عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: يُخَيَّرُ زَوْجُهَا الأَوَّلُ إِذَا جَاءَ فِي صَدَاقِهَا، أَوْ فِي امْرَأَتِهِ.
1687 - قَالَ مَالِكٌ: وَبَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فِي الْمَرْأَةِ يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، ثُمَّ يُرَاجِعُهَا فَلاَ يَبْلُغُهَا رَجْعَتُهُ، وَقَدْ بَلَغَهَا طَلاَقُهُ إِيَّاهَا، فَتَزَوَّجَتْ: أَنَّهُ إِنْ دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا الآخَرُ، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَلاَ سَبِيلَ لِزَوْجِهَا الأَوَّلِ الَّذِي كَانَ طَلَّقَهَا إِلَيْهَا.
قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي هَذَا وَفِي الْمَفْقُودِ.
نص الدرس مكتوب:
الحمدُ لله مُكرِمِنا بشريعتِه العظيمة، وبيانِ أحكامِها على لسانِ حبيبِه محمدٍ ذي المراتبِ الرفيعةِ الفخيمة. اللهم أدِمْ صلواتِك على المُجتبى المختارِ سيدِنا محمد، وعلى آله الأطهارِ وأصحابِه الأخيار، وعلى مَن على منهجِهم سار، وعلى آبائه وإخوانِه من الأنبياء والمرسلين، وآلهِم وصحبِهم والتابعين، وعلى ملائكتِك المقربين، وجميعِ عبادِ الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
ويواصل سيدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ذِكرَ الأحاديثِ المتعلقة بالنّفقة والطلاق، ويذكر في هذا الباب "نَفَقَةِ الأَمَةِ إِذَا طُلِّقَتْ وَهِيَ حَامِلٌ"، ومن المعلوم أنّ الزوجةَ الحُرّة إذا طُلقت وهي حاملٌ وجب أن ينفقَ عليها زوجُها حتى تضعَ حملَها، كما نصَّت الآية الكريمة، قال تعالى: (وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) [الطلاق:6].
وفي هذه الأَمَةِ المملوكةِ أيضًا إذا طلَّقها زوجُها، هل يلزمُه نفقتها إذا طُلّقت وهي حامل؟
"قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَى حُرٍّ وَلاَ عَبْدٍ طَلَّقَ مَمْلُوكَةً، وَلاَ عَلَى عَبْدٍ طَلَّقَ حُرَّةً طَلاَقاً بَائِناً نَفَقَةٌ وَإِنْ كَانَتْ حَامِلاً، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ"؛ وهذا مبنيٌّ على القول: بأنّ النفقةَ لأجلِ الحمل، أو للحامل لأجلِ الحمل؟
-
وهذا القول لأجل الحمل فالحملُ صار مِلكًا لسيّدِ تلك الأَمَة، فحينئذٍ لا يلزم الزوجَ.
-
وإن قلنا إنّما يلزم للحامل بواسطة الحمل فيجب الإنفاق، وهذا الذي عليه الجمهور سواءً كانت أَمَةً أو حرّة، إذا طلقها زوجُها وهي حاملٌ فعليه الإنفاق عليها حتى تضعَ حملَها.
فإذا طلّقَ الأمَةَ طلاقًا رجعيًا فلها النفقةُ في العِدّة، لأنّها لا تزالُ زوجةً، فالرجعيةُ حكمُها حكمُ الزوجةِ إلى أن تنقضيَ العدة. فإذا أبانها وهي حامل -أبانها يعني طلّقها ثلاثاً، ومثله إذا طلقها بِعِوَض-، فإن كانت غير حامل فلا نفقةَ لها، وإن كانت حاملاً فلها النفقةُ لأجل الآية: (وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) [الطلاق:6].
وهكذا هو عند جماهيرِ أهلِ العلم، وإذا طلق رجلٌ امرأتَه:
-
فإن كان الطلاقُ رجعيًا فلها النفقةُ والسُّكنى في عدتها،
-
وإن كان الطلاقُ بائنًا:
-
فعند الحنفية لا فرقَ بين البائن والرجعيِّ فلها النّفقة.
-
قال الشافعية: إن كانت المطلقةُ حاملاً وإن كان الطلاق بائنًا فلها النفقةُ حتى تضعَ، وإن لم تكن حاملاً فإن كان الطلاقُ غيرَ رجعيٍّ، -بأن كان الطلاق بائن- فلا نفقةَ لتلك الزوجةِ غيرِ الحامل إذا كان الطلاقُ بائنًا.
-
والطلاقُ البائن:
-
ثلاثُ طلقاتٍ
-
أو طلقةٌ بعِوَضٍ راجعٍ إلى جهة الزوج، حيث لا يستطيع أن يراجعَها إلاّ بعقدٍ جديدٍ ومهرٍ جديد.
"قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ عَلَى حُرٍّ أَنْ يَسْتَرْضِعَ ابنَهُ، وَهُوَ عِنْدَ قَوْمٍ آخَرِينَ"؛ لأنّ الطفلَ إذا كانت أمُّه مملوكةً فإنّ الطفلَ مِلكٌ لمالكِها؛ مالِكِ أمِّها. فلا يلزمه مؤونةُ الرضاعِ؛ أي: زوجها؛ لأنّ ابنَهُ هذا صار مملوكًا لمالِكِ تلك الزوجةِ المطلقة، فيكونُ رضاعُه على مواليه، وهو سيّد أمِّ ذلك الرضيع، فمالكُها هو الذي يتولَّى رضاعَ هذا الطفل لأنه صار ملكًا له.
باب عِدَّةِ الَّتِي تَفْقِدُ زَوْجَهَا
ثمّ ذكرَ -عليه رحمةُ الله- حُكمَ المفقودِ من حيثُ العِدّة، إذا فُقد زوجٌ فلم يُدْرَ أهو حيٌّ أو ميت، وبقيت زوجتُه منتظرةً فإلى كم تنتظر؟
والأصل أن الزوجيةَ باقيةٌ، فإن فُقد وذهب وغاب ولم يُعلم، فمهما مرّت من السنين إذا لم تأتِ بيّنةٌ ولا علامةٌ على موتِه، ولم يحكمْ به حاكمٌ، فهي باقيةٌ على عِصمةِ نِكاحِه، وهي زوجته، حتى يحكمَ الحاكمُ بموته، أو يأتيَ خبر موتِه وانتقالِه.
ويتكلمُ على عِدةِ التي تفقدُ زوجَها، وذكر لنا ما جاء عن سيّدِنا عمرَ بنِ الخطابِ -رضي الله عنه-، وقيل: إنه رجع عن ذلك، إنهّ يقول: أنْ إذا رفعَت المرأةُ القضيةَ إلى الحاكمِ فيأمرُها بانتظارِ أربعِ سنين، فإذا مرَّت أربعُ سنينَ ولم يأتِ الخبر.. اعتدَّت عِدةَ الوفاةِ؛ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا، فإذا انقضَت العدةُ فقدْ حلَّت أن يتزوجَها غيرُه وانفسخَ النّكاح.
-
وهذا في المفقودِ الذي احتُملَ موته، وهذا قول سيدِنا عمر، وعليه بعضُ الأئمة.
-
وقال بقيَّتُهم: إنّما ينتظر إلى غالب العمر، واختلفوا فيه:
-
فقيل السبعون
-
وقيل الثمانون
-
وقيل التسعون
-
وفي روايةٍ عند بعضِ أصحابِ الإمام أحمد: أنها مئةٌ وعشرون،
-
هذا نادراً أن يبلغَها الإنسان، بل الأقلُّ من الأُمّة من يُجاوِزُ السبعين، كما جاء في الحديث: "أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين"، وأقلهم من يجاوز ذلك. ولذلك لا تجدُ اجتماعًا للناس إلا وعِدّةُ الناشئةِ والشبابِ أضعافٌ مضاعفةٌ عن عددِ الشيابة والذي جاوزَ السبعين، لماذا؟ لأنها دارُ ممرٍّ ما فيها مقرٌّ، يجاوز السبعين ذلك قليل من هذه الأمة، أكثرهم يموت قبل ذلك.
فيا فوزَ المُستعدِّ لعُقباهُ، والمُتهيِّئ لملاقاةِ الله -جل جلاله وتعالى في علاه-، ويا ويحَ مغرورٍ بهذه الحياة وملتفتٍ إليها ومُعوِّلٍ عليها، وليست بشيءٍ، وليس فيها إلاّ ما كان من إيمانٍ ويقين وعمل، قُصد به وجه الله فقبِلَه، وليس فيها بعد ذلك شيءٌ من الخير أصلاً، وليست بشيء، إلاّ ما كان من إيمانٍ ويقينٍ وعملٍ صالحٍ يقبله الرحمن، فهذا هو خيرُ الحياة، وهذه هي الحياة، ما عدا ذلك ماذا فيها؟ ليست بشيءٍ، ومرحلةُ مرورٍ وعبورٍ إلى لقاء العزيزِ الغفورِ سبحانه وتعالى.
فهذا القول إذا رفعَت إلى الحاكم فتنتظر أربعَ سنينَ بعدَ الرفعِ إلى الإمام، ثمّ إمّا أن يحكمَ بموته، أو يأمرَها بالاعتدادِ أربعةَ أشهرٍ وعَشرًا، ثم تحلُّ للأزواج بعدَ ذلك.
فإذا تزوَّجت ثمّ قدِمَ زوجُها الأولُ، تبيَّن أنّه حيٌّ بعد أن تتزوجَ بهذا الثّاني.
-
وفي هذا يقول الإمامُ مالكٌ: إذا دخلَ بها الثاني وهو لا يعلم حياتَه انفسخَ النّكاحُ الأولُ، ولم تعُدْ له زوجةً.
-
وقال غيره: بل يجبُ أن تنفصلَ عن الثاني وتعتدَّ منه ثمّ تعودَ إلى زوجِها الأول.
وكما يقول الإمام مالك: أنْه إذا كانوا عدة نسوةٍ، فقدَّمت إحداهُنّ إلى الحاكم فأمرَها بالتربُّصِ فتربَّصَت فما حُكمُ الأخريات؟ قال: حكمُها يعمُّ الباقيات في المعتمَد عند الإمام مالك، رضوان الله عليه تبارك وتعالى.
وفرَّق بعضُهم بين:
-
الغَيبة التي ظاهرُها الهلاكُ، والغَيبة التي ظاهرُها السّلامةُ.
-
فيُنتظرُ أكثرَ للتي ظاهرُها السّلامةُ.
فأمّا إن فُقد من معركةٍ أو من ركوبِ بحرٍ مَخُوفٍ، فهذه ظاهرُها الهلاكُ بالغالب، فيرجعُ الأمرُ إلى ما ذُكر من الأربع سنين، أو اجتهادِ الحاكم. وإن كان غيرَ مَخُوفٍ ويغلبُ فيه السلامةُ كالرحلةِ في طلبِ العلمِ، أو في التجارة، وما إلى ذلك، فيحتاج إلى انتظارٍ أكثر.
وقد جاء عن سيدِنا عليٍّ وغيرِه: يجبُ عليها أن تنتظرَ، ولا سبيل لها إلاّ أن يأتيَ خبرُ موتِه أو خبرُ طلاقِه، وإلاّ فتنتظرُ مهما طالت السنواتُ عليها. وهذا مذهبُ بعضِ الأئمةِ، عليهم رضوانُ الله تبارك وتعالى.
"قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَدَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَلاَ سَبِيلَ لِزَوْجِهَا الأَوَّلِ إِلَيْهَا."، وإذا قد تمّ فعندَه في هذا القولِ والرواية عن مالكٍ أنّه بمجرَّد العقدِ مع الثاني لا ترجعُ إلى الأول. فاختلف قولُ مالكٍ -عليه رحمةُ الله تعالى- في زوجةِ المفقود، تعتدّ ثم تتزوج، فيقدم المفقود..
-
فإذا قد بنى بها الثّاني فلا سبيلَ للأول.
-
وجاء عنه: أنَّ الأولَ أحقُّ بها ما لم يدخلْ بها الثاني. وهذا الذي يختاره ابنُ القاسم عن مالكٍ من المالكية.
-
حتى قال الزرقاني في قول مالك هذا، ثم رجع مالكٌ عن هذا قبلَ موته بعامٍ فقال: لا يقطعُها عن الأول إلاّ دخول الثاني غيرَ عالمٍ بحياةِ الأول.
"وَإِنْ أَدْرَكَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ" الثاني، "فَهُوَ" الأول "أَحَقُّ بِهَا".
-
وهكذا يقول الحنابلة: إذا قدِم زوجُها الأولُ قبل أن تتزوجَ فهي امرأتُه؛ وهذا عليه أكثرُ أهلِ العلم.
-
وعند بعضِهم إذا قد ضُربت لها مدةٌ فانقضت.. انفسخَ النّكاح وإن عاد الزوجُ الأولُ.
-
لكن قال الجمهور: لا، حتى وإن اعتدَّت وضُربت لها مدةٌ إذا عاد ولم تتزوجْ فهو أحقُّ بها وهو زوجها.
"قَالَ مَالِكٌ: وَأَدْرَكْتُ النَّاسَ" أرادَ بهم علماءَ أهلَ المدينةِ "يُنْكِرُونَ الَّذِي قَالَ بَعْضُ النَّاسِ" بعضُ الرُّواة "عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ" يعني عمر: "يُخَيَّرُ زَوْجُهَا الأَوَّلُ إِذَا جَاءَ" بعد زواجها بالثّاني، في إما أن يأخذَ صَداقَها، أو يعود إلى امرأته فتعتدُّ من الثاني. فمنهم من أنكرَ هذا القولَ، ومنهم من أنكر روايتَه عن سيدِنا عمرَ رضي الله تعالى عنه.
"قَالَ مَالِكٌ: وَبَلَغَنِى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فِي الْمَرْأَةِ يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، ثُمَّ يُرَاجِعُهَا فَلاَ يَبْلُغُهَا رَجْعَتُهُ، وَقَدْ بَلَغَهَا طَلاَقُهُ إِيَّاهَا، فَتَزَوَّجَتْ: أَنَّهُ إِنْ دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا الآخَرُ، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَلاَ سَبِيلَ لِزَوْجِهَا الأَوَّلِ الَّذِي كَانَ طَلَّقَهَا إِلَيْهَا".
هكذا قال الإمامُ مالكٌ: "وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي هَذَا" طلاق الغائب "وَفِي الْمَفْقُودِ".
هذا ما ذكر الإمامُ مالكٌ في الموطَّأ، ولكن ذكر في (المدوَّنة): أنّها لا تفوته إلاّ بدخول الثاني، كما تقدَّم الإشارة إليه معنا. فإن لم يدخل بها الثاني وإن عقد عليها فهي باقيةٌ على عقد الزوج الأول. هذا هو المشهورُ في مذهب الإمامِ مالك -عليه رضوانُ الله-، غير ما حكى في الموطأ، بل ما ذكر في المدونة.
هكذا أيضًا فيما يذكر الحنفيةُ في طلاق الغائبِ، وعند الإمام محمدٍ صاحبِ الإمامِ أبي حنيفة في المفقود، وكذلك الذي طلّقَ زوجتَه ولم تعلمْ برجعتِها حتى تزوجتْ أن عقد الثّاني عليها يُفيته؛ تفوت به على الأول.
وجاء عن ابنِ القاسمِ، يذكرُ عن الإمام مالكٍ: أنّه وقف قبل موتِه بعامٍ أو نحوِه بامرأةِ المطلق، وقال: زوجُها الأولُ أحقُّ بها ما لم يدخل بها الثاني.
هكذا يقول الحنابلة: أنّ زوجَ الرجعيةِ إذا راجعَها وهي لا تعلمُ.. صحَّت المراجعة؛ لأنّها لا تفتقرُ إلى رضاها، ولا تفتقرُ إلى علمها، فإذا انقضت عدتُها وتزوجَت غيرَه وهي لا تعلم أنّ زوجَها الأولَ قد راجعَها، وجاء وادّعى أنه راجعَها قبلَ انقضاءِ العدةِ: فإن كانت عنده بينةٌ وأقام البينةَ على ذلك، ثبت أنّها زوجتُه، ونكاحُ الثّاني فاسدٌ لأنه بان أنه تزوجَ امرأةَ غيرِه، فعليها أن تستبرئ من الثّاني، وتعود للزوج الأول. وأكثرُ الفقهاءِ على ذلك الحنابلة والشافعية وأكثر الفقهاء.
وجاء عن بعضهم: إذا دخل بها الثّاني فهي امرأتُه، وبطلَ نكاحُ الأول، وهذا جاء عن جماعةٍ من الصحابة، وعليه بعضُ أهل العلم.
وهكذا شأنُ المفقودِ وما يتعلق بزوجته وعدّتِها، كذلك فيما يتعلق بأمر إرثه، فلا يمكن أن يُورثَ ولا يُقسم ماله حتى يحكمَ الحاكمُ بموته، فإذا عيّن التاريخ لموته فمن كان من ورثته في ذلك الوقت المعيّن فهم الذين يقتسمون تركته. وهكذا تأتي الأحكامُ في المفقود من عدة نواحٍ.
واللهُ يُصلح أحوالَ المسلمينَ ويجمعُ شملَهم، ويقيمُ بينهم شريعتَه على الوجهِ المَرضيِّ، ويخلّصهم من خِداعِ إبليسَ وجندِه وشياطينِ الإنسِ والجنِّ من الزيغِ عن سبيل الله والرِّضا بحكمِ غيرِ الله، وأن يُحوِّلَ اللهُ أحوالَنا وأحوالَ المسلمينَ لأحسنِ الأحوال، ويديمَ لنا العوافيَ والسرورَ والأنس والحبورَ بسر الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
25 جمادى الأول 1443