شرح الموطأ - 302 - كتاب الطلاق: باب طلاق المَرِيض

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطلاق، باب طَلاَقِ الْمَرِيضِ.
فجر السبت 14 جمادى الأولى 1443هـ.
باب طَلاَقِ الْمَرِيضِ
1666 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ - قَالَ وَكَانَ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ - وَعَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَوَرَّثَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ مِنْهُ، بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا.
1667 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنِ الأَعْرَجِ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَرَّثَ نِسَاءَ ابْنِ مُكْمِلٍ مِنْهُ، وَكَانَ طَلَّقَهُنَّ وَهُوَ مَرِيضٌ.
1668 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَبِيعَةَ بْنَ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّ امْرَأَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ سَأَلَتْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَقَالَ: إِذَا حِضْتِ، ثُمَّ طَهُرْتِ فَآذِنِينِى، فَلَمْ تَحِضْ حَتَّى مَرِضَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَلَمَّا طَهُرَتْ آذَنَتْهُ، فَطَلَّقَهَا الْبَتَّةَ، أَوْ تَطْلِيقَةً لَمْ يَكُنْ بَقِيَ لَهُ عَلَيْهَا مِنَ الطَّلاَقِ غَيْرُهَا، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَوْمَئِذٍ مَرِيضٌ، فَوَرَّثَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ مِنْهُ، بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا.
1669 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ قَال: كَانَتْ عِنْدَ جَدِّي حَبَّانَ امْرَأَتَانِ، هَاشِمِيَّةٌ وَأَنْصَارِيَّةٌ، فَطَلَّقَ الأَنْصَارِيَّةَ وَهِيَ تُرْضِعُ، فَمَرَّتْ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ هَلَكَ عَنْهَا وَلَمْ تَحِضْ، فَقَالَتْ: أَنَا أَرِثُهُ، لَمْ أَحِضْ، فَاخَتَصَمَتَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقَضَى لَهَا بِالْمِيرَاثِ، فَلاَمَتِ الْهَاشِمِيَّةُ عُثْمَانَ، فَقَالَ: هَذَا عَمَلُ ابْنِ عَمِّكِ، هُوَ أَشَارَ عَلَيْنَا بِهَذَا. يَعْنِى عَلِيَّ بْنَ أبِي طَالِبٍ.
1670 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلاَثاً وَهُوَ مَرِيضٌ، فَإِنَّهَا تَرِثُهُ.
1671 - قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ طَلَّقَهَا وَهُوَ مَرِيضٌ، قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَلاَ عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَلَهَا الْمَهْرُ كُلُّهُ وَالْمِيرَاثُ، الْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ فِي هَذَا عِنْدَنَا سَوَاءٌ.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرِمنا بشريعته والدين، والبيان على لسان الحبيب الأمين، خاتم النبيين وسيد المرسلين، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من والاهم في الله وتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم والتابعين وعلى الملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويواصل سيدنا الإمام مَالِكْ -عليه رحمة الله تعالى- ذكر الأحاديث المتعلقة بشؤون الزوجين، ويتكلم في هذا الباب على "طَلاَقِ الْمَرِيضِ"؛ إذا طلَّق زوجته وهو مريض:
-
إما رجعيةً
-
وإما طلاقًا بتًّا؛
-
بأن يكون بخُلعٍ
-
أو تكون الثالثة
-
أو يُطلقِّها ثلاثًا
-
فإن هذا تأتي فيه تهمة فرار الزوج من أن ترثه تلك الزوجة، ولأجل هذه التهمة اختلف الأئمة عليهم رضوان الله تعالى.
-
فأما طلاق الرجعة ما دامت في العدة فإنه يلحقها طلاقه، وإن ماتت ورثها، وإن مات هو ورثته ما دامت في العدة هذا للرجعية بالاتفاق.
-
وأما المطلقة طلاقًا باتًّا إما بعِوض وإما قد كانت الطلقة الثالثة فهذا الذي اختلف فيه الأئمة عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
فكان أوسع الأقوال فيه قول الإمام مَالِكْ: بأنها ترثه لمحل تُهمته أنه يريد أن يحرمها الميراث، فطلَّقها في مرض موته فإنها ترثه ولو قد انقضت عدتها، بل قال الإمام مَالك والمشهور عنه: ولو تزوجت، ولو بأزواجٍ ما دام طلَّقها فرارًا من الإرث فهي ترثه.
وقال الإمام أبو حَنِيفَة والإمام أحمَدْ كذلك: إن كانت لم تزل في العدة فهي ترث، وإن كان الطلاق باتًا ما دامت في عدتها فهي ترثه
وقال في لفظ عن الإمام أحمَدْ ما لم تتزوج، أي وإن انقضت عدتها ما لم تتزوج، فإن لم تنقضي عدتها فالقول قويٌ عنده كما هو عند أبي حَنِيفَة فهي ما دامت في العدة ترث.
جاء الاختلاف بينهم -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى- من قائل:
-
أنها ترث ما لم تتزوج زوجًا غيره، وهذا مذهب الإمام أحمَدْ عليه رحمة الله تعالى وإن انقضت عدتها، والمشهور في مذهب الإمام أحمَدْ.
-
والثاني أنها ترثه وإن تزوجت حتى بعدد من الأزواج، فانقضت عدتها من الزوج الثاني، وانقضت عدتها من الزوج الثالث، وانقضت عدتها من الزوج الرابع، مات، فلها من تركة هذا الفَار من الإرث، فترِثه عند الإمام مالك عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
-
وقال قائلون: لا ترثه أصلًا، لا أن طلَّقها قبل الدخول بها أو بعده، وهذا ما دامت الطلقة مبتوتة، وهذا أيضًا قول الإمام الشَّافعي عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
-
وفي قولٍ عندهم: أنها ترثه ما دامت في العدة، وهكذا مضى عليه مذهب الإمام أبي حَنِيفَة -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ما دُمن في العدة فإذا انقضت العدة قبل أن يموت فلا ميراث.
وأورد لنا حديث: "طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ - قَالَ وَكَانَ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ -"؛ أي: الخبر الذي يأتي من طلاق ابنِ عوفٍ وتوريث عثمان له، "وَعَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ" أحد العشرة المبشرين بالجنة طَلَّقَ امْرَأَتَهُ"، تُماضر بنت الأصبغ الكلبية، وقد كان ﷺ أرسله إلى بني كَلبٍ هؤلاء وأمره إن هم أطاعوه أن يتزوج بنت ملكهم أو سيدهم، فلما قدم عبد الرحمن بن عوف دعاهم للإسلام استجابوا، وأقام من أقام منهم على إعطاء الجزية والأكثر أسلموا، فتزوج تُماضر بنت الأصبغ بن عمرو الذي كان ملكهم، ثُمَّ قدم بها المدينة، وكانت سيئة الخُلق فطلقها ثُمَّ راجعها، ثُمَّ طلقها، ثُمَّ دخلت عليه وهو في مرض موته وخاصمته وطلبت منه الطلاق، فجعل أمرها بيدها، فطلَّقت نفسها ثُمَّ توفي سيدنا عبد الرحمن بن عوف -عليه رضوان الله- في عهد سيدنا عثمان بن عفان. "طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ" لأنها الطلقة الثالثة "وَهُوَ مَرِيضٌ، فَوَرَّثَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ مِنْهُ، بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا". واختلفوا في رواية جاءت وهي لم تزل في العدة، توفي وهي لم تزل في العدة، وعلى هذا صارت تنتقل من عدة الطلاق إلى عدة الوفاة، وعلى القول بالإرث وترثه.
واشترط أبو حَنِيفَة والإمام أحمَدْ كذلك أن لا تكون هي:
-
التي طلبت الطلاق.
-
أو التي خالعت.
-
أو التي تسببت في الطلاق.
فإذا كان الطلاق بسببها فلا ترث عندهم ولو كانت في العدة؛ ولكن إذا كان من دون سبب ليكون طلاقه لها طلاق الفار، أو فار من الإرث فهذه عندهم ترِث.
وعلمت أطول ما قال في ذلك الإمام مَالِكْ: أنها حتى لو تزوجت من بعده فإنه لا ينقطع إرثها منه ما دام طلَّقها وهو في مرض الموت، في مرض موته إن طال به المرض.
وذكر في الحديث الآخر: "أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَرَّثَ نِسَاءَ ابْنِ مُكْمِلٍ مِنْهُ، وَكَانَ طَلَّقَهُنَّ وَهُوَ مَرِيضٌ". ثُمَّ مكث بعد طلاقه يقولوا سنتين، فورّثهن عثمان بن عفان بعد انقضاء العدة؛ لأنه استمر في مرضه حتى مات، فكان ذلك مرض موته، فهذا مذهب سيدنا عثمان.
وكذلك يقول أيضًا في الحَنَفِية: أنه إن طلقها قبل أن يدخل بها فلا إرث لها، إذا طلقها بتاتًا فإنما لها نصف الصَدَاق فقط وليس لها إرث؛ ولكن إن كان قد دخل بها، ولم تكن طلبت الطلاق ولم تكن تسببت في الطلاق من قِبلها ولم تخَتلع؛ فإنها ترثه عند الحَنَفِية،
وكذلك سمعت قول الإمام أحمَدْ أنها ما دامت في العدة، والقول الثاني عنده أنها ما لم تتزوج.
ثم ذكر أيضًا: عن "رَبِيعَةَ بْنَ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّ امْرَأَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ" تُماضر التي مرّ ذكرها، "سَأَلَتْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا" لمّا وقع بينهم شيء مِنَ النزاع وهذا في مرض موته، "فَقَالَ: إِذَا حِضْتِ، ثُمَّ طَهُرْتِ فَآذِنِينِى، فَلَمْ تَحِضْ حَتَّى مَرِضَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَلَمَّا طَهُرَتْ آذَنَتْهُ" وهو في مرض موته "فَطَلَّقَهَا الْبَتَّةَ"؛ لأنها وقعت التطليقة الثالثة، "أَوْ تَطْلِيقَةً لَمْ يَكُنْ بَقِيَ لَهُ عَلَيْهَا مِنَ الطَّلاَقِ غَيْرُهَا" هذا هو الوجه الثاني، أيَّدته بقية الروايات أنها معنى قولها البتَّة أنَّ الطلقة هذه صارت الثالثة "وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَوْمَئِذٍ مَرِيضٌ" فمات من مرضه ذلك، "فَوَرَّثَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ مِنْهُ، بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا" وسمعت أن الرواية جاءت وهي لم تزل في العدة، أنها لم تزل في العدة.
وأورد لنا بعد ذلك: عن "مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ قَال: كَانَتْ عِنْدَ جَدِّي حَبَّانَ امْرَأَتَانِ، هَاشِمِيَّةٌ وَأَنْصَارِيَّةٌ"؛ الهاشمية هذه زينب بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، والأخرى أنصارية "فَطَلَّقَ الأَنْصَارِيَّةَ وَهِيَ تُرْضِعُ"؛ إذ ذاك؛ أيام طلاقه كانت ترضع "فَمَرَّتْ بِهَا سَنَةٌ"، وهي تُرضع "ثُمَّ هَلَكَ" مات زوجها حَبّان "عَنْهَا وَلَمْ تَحِضْ" لماذا؟ لأجل الرضاع، بسبب الرضاع انقطع الحيض عنها، وعدتها إذًا ثلاثة قروء، لأنها ليست آيسة ولم تكن صغيرة، فعدّتها ثلاثة قروء، والآن انقطع الحيض بسبب الرضاع، فتبقى في العدة إلى أن تحيض الحيضة الأولى، ثُمَّ الثانية، ثُمَّ تحيض الثالثة لتخرج من العدة، فصارت في عدّتها مع أنه مضت سنة، بسبب أن الحيض انقطع بسبب الرضاع.
"فَقَالَتْ: أَنَا أَرِثُهُ، لَمْ أَحِضْ"؛ يعني: فلم تكمل عدتها لأنها كانت من ذوات الحيض، قال: "فَاخَتَصَمَتَا" الهاشمية والأنصارية، الهاشمية تريد تأخذ الثُمن كامل، وهذه تأخذ نصفه، "إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ،" رضي الله عنه، فلما اختصمتا كان عنده سيدنا علي وزيد بن ثابت، قال: وما تريان؟ قالا: نرى أنها ترثه؛ لأنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض، ولا من اللائي لم يحضن، فهي عنده على حيضها، ما كان لم يمنعها إلا الرضاع، فانتزع حَبَّان ابنه فلما حاضت حَيضتين مات حَبَّان، ورثت واعتدّت عدّة الوفاة.
"فَقَضَى لَهَا" عثمان بن عفان- رضي الله عنه- للأنصارية بالميراث مشتركة مع زوجته الثانية، "فَلاَمَتِ الْهَاشِمِيَّةُ عُثْمَانَ"؛ لأنها إذا طُلَّقت كيف أشركها معها في الميراث؟ "فَقَالَ:" سيدنا عثمان رضي الله عنه، "هَذَا عَمَلُ ابْنِ عَمِّكِ"؛ يعني: ما حكمت أنا بهذا وحدي، رجعت إلى أهل العلم ومنهم ابن عمك علي بن أبي طالب وقالوا وقرّروا هذا القرار، فما هو قرار من عندي مجرد؛ ولكن توَثقت فيه ورجعت إلى من تعترفين بعلمهم، ورسوخهم في العلم ومنهم ابن عمك علي بن أبي طالب، أي باب مدينة العلم وهو الذي قضى بهذا وحكم بهذا معي، وأخبر أنَّ هذا هو الحكم، "فَقَالَ: هَذَا عَمَلُ ابْنِ عَمِّكِ، هُوَ أَشَارَ عَلَيْنَا بِهَذَا" الحُكم، أي: وافقنا في هذا الحُكم ووافقناه فيما رآه، "يَعْنِى عَلِيَّ بْنَ أبِي طَالِبٍ" كرَّم الله وجهه ورضي الله عنهم أجمعين. فهي ما تشك أيضًا في إشفاقه عليها، وإرادته الخير لها، ولكنه بيّن حكم الشريعة كما عَلِمَ عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
وهكذا جاء في رواية البيهقي: أنّ رجل من الأنصار يقال له حَبَّان بن مُنقذ طلَّق امرأته وهو صحيحٌ، وهي ترضع ابنته فمكثت سبعة عشر شهرًا لا تحيض، يمنعها الرضاع أن تحيض، ثُمَّ مرض ابن حَبَّان بعد أن طلقها سبعة أشهر أو ثمانية، فقيل له إن امرأتك تريد أن ترث، فقال: احملوني إلى عثمان، فحملوه إليه فذكر له شأن امرأته، وعنده علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت فقال لهما عثمان: ما تريان؟ قالا: نرى أنها ترثه إن مات ويرِثها إن ماتت؛ لأنها رجعية، فإنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض وليست من الأبكار اللائي لم يحضن -لم يبلغن-، ثُمَّ هي على عدة حيضها ما كان من قليلٍ أو كثير، جاء حَبَّان إلى أهله أخذ ابنته، فلما فقدت الرضاع حاضت حيضة، ثُمَّ حاضت حيضة أخرى، ثُمَّ توفي حَبَّان قبل أن تنقضي عدّتها؛ قبل أن تحيض الثالثة؛ فلا زالت في العدة فاعتدت عدة المتوفى عنها زوجها وورثت من زوجها.
يقول: وعن "ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ: إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلاَثاً وَهُوَ مَرِيضٌ، فَإِنَّهَا تَرِثُهُ"؛ كما تقدم عن بعض الصَّحابة ومذهب الإمام أبي حَنِيفَة، والإمام مالك، والإمام أحمد، ما لم تتسبب هي في الطلاق أو تطلبه.
"قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ طَلَّقَهَا وَهُوَ مَرِيضٌ، قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَلاَ عِدَّةَ عَلَيْهَا"؛ لأنه طلقها قبل الدخول بها، (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) [الأحزاب:49] قال: "وَإِنْ دَخَلَ بِهَا، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَلَهَا الْمَهْرُ كُلُّهُ وَالْمِيرَاثُ، الْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ فِي هَذَا عِنْدَنَا سَوَاءٌ"، يقول الإمام مَالِكْ لا فرق بينهما. والله أعلم.
رزقنا الله الاستقامة، وأصلح ديارنا ومنازلنا وأهَالينا، ورجالنا ونساءنا، وصغارنا وكبارنا بأتم الصلاح، وألحقنا بأهل الفلاح، وجنّبَنا الآفات والعاهات، وجميع الشرور في الظواهر والخفيات، وأصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون الصَّالحين والصَّالحات، وثبَّتنا على ما يحب، وجعلنا فيمن يحب، ودفع عنّا كل سوء أحاط به علمه في الدارين بسر الفاتحة إلى حضرة النَّبي مُحمد ﷺ.
18 جمادى الأول 1443