(364)
(535)
(604)
شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطلاق، باب مَا جَاءَ فِي اللِّعَانِ.
فجر الإثنين 9 جمادى الأولى 1443هـ.
باب مَا جَاءَ فِي اللِّعَانِ
1647 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عُوَيْمِراً الْعَجْلاَنِىَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِىٍّ الأَنْصَاري، فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ، أَرَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ. فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ، مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ، جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ فَقَالَ عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ: لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ، قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا. فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ لاَ أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا، فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ، حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَسْطَ النَّاسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا". قَالَ سَهْلٌ: فَتَلاَعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلاَعُنِهِمَا قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا. فَطَلَّقَهَا ثَلاَثاً، قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَكَانَتْ تِلْكَ بَعْدُ سُنَّةَ الْمُتَلاَعِنَيْنِ.
قال مالِكٌ: إِذَا لاَعَنَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَلَيْسَ لَهَا إِلاَّ نِصْفُ الصَّدَاقِ.
الحَمدُ لله مُكرمنا بشريعتهِ ومِلّته، وبَيانها على لسان عبدهِ وصفوته سيدنا مُحَمَّد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وصحابته، وعلى أهل ولائه ومحبتهِ ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانهِ من الأنبياء والمرسلين المخصوصين بأسمى معاني محبة الله ومودّته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويذكر الإمام مَالِك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- "باب مَا جَاءَ فِي اللِّعَانِ"، وذلك أن الحق -جل جلاله- حَمَى الأعراض، كما حمى الأنفس والأموال، وفي ذلك جاءت الشريعة الغرّاء ببلاغ سيدنا رسول الله ﷺ في حجة وداعه، "إنَّ دِماءَكُم، وأمْوالَكم وأعْراضَكُم حرامٌ عَلَيْكُم كَحُرْمة يومِكُم هَذَا، في شهرِكُمْ هَذَا، في بلَدِكُم هَذَا، ألا هَلْ بلَّغْت؟ قالوا: بلغت يا رسول الله، قال: اللهم فاشهد ثم قال: ألا فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ".
وكان في حماية شريعة الله- تبارك وتعالى-، للأعراض رفع حرمة المؤمن، وأنها أعظم عند الله تعالى من الكعبة المشرفة، كما كان يقول الصحابي ابن عمر -عليه رضوان الله- يقول للكعبة المشرفة: أعلم أنكِ عند الله عظيمة، وأن لك عند الله حرمة، ولكن حرمة الرجل المؤمن أعظم عند الله منكِ.
ولذا في جاء في بعض الآثار: أن كسر خاطر المؤمن أشد من هدم الكعبة؛ في الإثم وكراهة الحق -تبارك وتعالى- لذلك، فَحرم علينا السب واللعن والشتم والكذب والخداع والغش وأنواع الضرر والإيذاء.
وما يتعلق بجانب الطهر والعفاف، كذلك أكد الأمر فيه، وحرم الخوض فيه، وجعل من أعظم الآثام: إثم القذف بالزنا وفعل الفواحش، وأن من قذف مسلمًا أو مسلمةً بشيءٍ من ذلك، ولم يكن هناك أربعة شهداء، وهي أقوى وأصعب الشهادات كلها، أن يكون أربعة شهداء، كما ذكر الحق (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور:4] والعياذ بالله -تبارك وتعالى- إلا من تاب، (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[النور:5]. فكان الأمر كذلك، حتى أن من رأى فعلة الخبيثة بعينه:
لا يجوز له أن يتكلم
ولكن يجب عليه أن ينصح
وأن يبغض ذلك
وأن يذكر بالله سبحانه وتعالى والدار الآخرة
فإن الحق -سبحانه وتعالى- رتّب على ذلك كثيرًا من الغضب والعقاب والإثم والعذاب الشديد. ويبدأ واجب المؤمن من حين النظرة، ومن حين الخطرة أن يصرفها عما حرّم الله، (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ)[النور:30-31] إلى آخر ما ذكر -سبحانه وتعالى- في الآيات.
ولما شدَّدَ الأمر في النسبة إلى هذا الفعل واشترط الأربعة الشهداء، قال سيدنا سعد: للنبي ﷺ: "يا رسول الله ألو رأى الرجل مع امرأته أحدًا غيره يذهب حتى يأتي بأربعة شهداء؟ والله لو وجدته لقتلته بسيفي هذا، فقال ﷺ: أتعجبون من غيرة سعد، أنا أغيَر من سعد والله أغيَر منّي ومن سعد"، لا إله إلا الله.. غَيرُة الله أن تنتهك محارمه.
لما كان الأمر كذلك ويترتب فيما يتعلق بخصوص الزوجين مسألة النسب والولد، فجاء حكم خاص في قذف الرجل لزوجته إذا خافا أن يكون ولد ليس منه يُنسب إليه، فعند ذلك أنزل الله سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّه)[النور:6] إلى آخر ما فصّل -سبحانه وتعالى- فأربع شهادات (وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)، وهي إما أن تقِرّ ويُقام عليها الحد، (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [النور:8-9].
واختار اللفظة الشنيعة: الغضب؛ لأنه قد يكثرن اللعن فربما استخفت به ألسنتهنّ، فقال الغضب؛ للزَّجر عن أن تَدعي براءة مما ليست بريئة منه، وتعلم أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وأن فضيحة الدنيا أهون من فضيحة الآخرة.
ثم إن الحكم في ذلك:
إن كان تيقّن إما برؤيةٍ أو بإقرارٍ منها، ثم لا ولد ولا خشية من اختلاط نسب، فحينئذٍ يكون الأولى له الستر، وقد جعل الله له طريقًا وهي الفراق، فيُطلّق من دون أن يقذف ومن دون أن يُلاعن فذلك هو المسلك الحميد .
وأما إن كان حصل من ذلك حملٌ أو ولد، فإن كان أتاها الحمل وهي في طُهرٍ لم يقربها فيه ولم يجامعها فيه وتيقّن ذلك، فهنا أيضا اختلفوا في مسألة الولد ونفيه، وهل يجب ذلك أو يكون الأولى له أو مجرد الإباحة لذلك.
أما إن كان بمجرد كلام الناس وبالظنون، فلا يجوز ويَحرمُ قذف الزوجة، وقد يتكلّم الناس بكلام باطل، وكثير يُلصقون بالناس ما ليس فيهم وينتشر، فلا يجوز تصديق مثل ذلك، ولا يجوز أن يلاعن زوجته على مثل ذلك الظن.
إذًا؛ فتختلف الأحوال حتى:
قد يكون حرامًا.
وقد يكون واجبًا عند بعض أهل العلم من أجل نفي الولد.
وإذا تمّ ذلك فحرُمَت عليه على الأبد، ولا يجوز له أن يرجع إليها أبدًا، فيُفارقها كما سمعت في هذه القصة التي أشار إليها الإمام ماَلِك عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
إذًا، في أحوال يجب عليه اعتزالها والتأكد من البراءة، فإذا تيقّن أن الحمل ليس منه وَجَبَ عليه نفيه عند جماعة من أهل العلم. وأما إن رأى ذلك أو أقرّت أو شاع في الناس فلا يلزمه شيء من ذلك، ولكن إن كان مجرد إشاعة فلا يجوز له أن يتكلم، وله طريقٌ إذا رابه أمر أن يطلق.
يقول: "عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عُوَيْمِراً الْعَجْلاَنِىَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِىٍّ الأَنْصَاري، فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ، أَرَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً"؛ يعني: أجنبيًا، "أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟"؛ يعني: يغار فيؤدي غيرته إلى قتله، فيوجب بعد ذلك القتل القصاص فيُقتصّ من ذلك القاتل، "أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟"؛ أي شيء يفعل؟.. "سَلْ لِي يَا عَاصِمُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ. فَسَأَلَ عَاصِمٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا"؛ أحبّ أن لا يَسترسلوا في الخوض في مثل هذه الأمور، وأن لا يستعجل الإنسان بقذفٍ بلا بيّنةٍ وما إلى ذلك.
وقد قال لهلال بن أمية في الحديث: "البينة أَوْ حَدٌّ في ظَهْرِك"، أو الحد في ظهرك، ولأجل قُبح النازلة وما فيه من هتك ستر المسلم، كره ﷺ ذلك وسكت. "حَتَّى كَبُرَ عَلَى عَاصِمٍ، مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا رَجَعَ عَاصِمٌ إِلَى أَهْلِهِ، جَاءَهُ عُوَيْمِرٌ فَقَالَ: يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟" جواب مسألتي؟ "فَقَالَ عَاصِمٌ لِعُوَيْمِرٍ: لَمْ تَأْتِنِي بِخَيْرٍ"؛ أوقعتني في مشكلة، أثرُت حزن النبي ﷺ وكراهته الأمر وقعتنا في هذه المصيبة، وأنت السبب جعلتني أنا أسأل لك النبي في هذه المسألة، "قَدْ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي سَأَلْتُهُ عَنْهَا"؛ يعني: وسكت عنها، "فَقَالَ عُوَيْمِرٌ: وَاللَّهِ لاَ أَنْتَهِي حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا"، لأن المسألة واقعة حال، وما كان في عرض المسألة تبيين أن هنا واقع حال، وأن صاحب الواقعة يريد الخلاص ويُريد الفكاك، فاحتسبها النبي ﷺ أنها افتراض وقوع مسألة فكَرِه ذلك وأعرض عنه.
فجاء بنفسه عامر لأن المسألة تهمه، وهي واقعة في حاله، لما أن النازلة وقعت عنده فخاف الانتهاء إلى شيءٍ شديد أو أمرٍ مكروهٍ، فكلّف على سؤال رسول الله ﷺ، " فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ، حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَسْطَ النَّاسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟"، فَعلم النبي ﷺ أن المسألة واقعة حال، وأن الرجل يتحدّث عن أمرٍ وَقَع يريد الخلاص منه والفكاك، وأن الحق تعالى أنزل في ذلك كتابًا.
جاء في رواية الإمام مسلم: أنه سكت رسول الله ﷺ ولم يجبه، بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به فنزلت الآية (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ) [النور:6]، فقال ﷺ: "قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ"؛ يعني: في شأنك وشأن أهلك، "قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ"؛ يعني: زوجتك، "قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ"؛ أي: قرآن، "فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا"؛ هات زوجتك، فراح، "قَالَ سَهْلٌ: فَتَلاَعَنَا" سألها ﷺ فأنكرت، فوَعَظها ﷺ ولم تتعظ، وأراد أن ينفي عنه حملاً معها، فقَبِل منهم ﷺ التلاعن بالحلف بالأربع، والخامسة عليه أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، والخامسة عليها أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
"فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلاَعُنِهِمَا قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا"، قال: يعني ما أنا صادق في كلامي وحديثي وشكّي فيها، إن رجعت إليها وتركتها زوجة لي، "فَطَلَّقَهَا ثَلاَثاً"، وهي على كل حال عند جمهور العلماء محرّمة عليه طول الأبد، لا يجوز له أن يراجعها بحال بعد أن يلاعنها. قال: "قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ" بطلاقها، "قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَكَانَتْ تِلْكَ بَعْدُ سُنَّةَ الْمُتَلاَعِنَيْنِ"؛ أن يُفرّق بينهما؛ الفُرقة بينهما سنة ثابتة بين المتلاعنين؛ لا يجوز له أن يقربها.
وهكذا، إذا رأى رجلًا وشكّ ثمّ قارب أهله لم يجز له بعد ذلك أن يُلاعِن، ولكن إذا رأى بعينه ثم لم يقرب أهله فله أن يُلاعن.
وفهمت اختلاف حكم المسألة، وهكذا بالنسبة للفرقة بينهم، فأقوال أهل العلم اختلفت:
فعند أبي حنيفة: لا تقع الفرقة حتى يفرّق الحاكم بينهما؛ أي: وعلى الحاكم أن يفرق بينهما.
وقال الإمام مالك: إذا فرغا من اللعان، وقعت الفرقة وإن لم يفرق حاكم ولا غيره.
وهكذا يقول الشافعي: إذا أكمل الزوج الشهادة فقد زال فراش امرأته ولا تحل له أبدًا، إن هي التعنت أو لم تلتعن هي بنفسها.
فكانت الفرقة بين المتلاعنين عند الحنابلة بتلاعنهما معًا، أي بلعان الأول ثم الثاني وردّ عليه.
وعند الشافعية إذا كان الزوج نفسه لعن، وإن لم تلاعن الزوجة فإنها تحرم عليها بعد هذا القذف وبعد هذه الوحشة، فلا يَحل له أن يعود إليها.
وعلمت الضرورة في ذلك وخصوصًا من أجل طلب طهارة الفراش، ومن أجل طلب أن لا يلحق بنسبه من ليس من ولده؛ فينفي عنه الولد فلا يكون الولد إذًا منسوبا لهذا الأب، وإنما فقط يُدعى لأمه؛ فلهذه الضرورة جاء هذا الحكم، وإلا فقد علمت أن الأصل في هذه المسائل: وجوب الستر والنصح والهجر من أجل الله -تبارك وتعالى-، وجعل الحق الطريقة للزوج إذا لم يطمئن لزوجته أن يطلقها ولا يتحدث عنها بسوء، ولا يتكلم.
وبذلك تعلم أن الذين يُسارعون في تحكيم الظنون والاحتمالات خارجون عن آداب الشرع وعن حكمة الشريعة، فلا تجوز البلبلة؛ لأن الحق يكره إشاعة أمثال هذه الألفاظ والخوض في هذا حتى في خاطر الإنسان مع نفسه، فكيف بالحديث بينهم البين! فإن الحق يكره ذلك ولا يحبه، ويحب من المؤمن أن يشغل خاطره وبالهُ بالطيبات الصالحات والحسنات والمنافع ورقيّ الدرجات، وتنقية السرائر وفعل الخيرات وما إلى ذلك مما يزيده إيمانًا ويقينًا وقربةً ومحبة .
الله يصلح قلوب المسلمين وقوالبهم، وديارهم وأسرهم وأحوالهم، ويرزقنا الإنابة والخشية والاستقامة، ويتحفنا بأنواع الكرامة، وأن الله يعلي درجة المنتقل إلى رحمته: مبارك بن سالم بن مبارك بن عبيدون، ويتجاوز عنه جميع السيئات ويتحمل عنه وعنّا جميع التبعات، ويبدل السيئات إلى حسنات تامات موصلات، ويتقبل منا ومنه جميع الحسنات، ويضاعفها إلى ما لا نهاية ويغفر للمنتقلين إلى رحمة الله في أيامنا هذه، ويجمعنا بهم في دار الكرامة وهو راضٍ عنا، من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب، ونسأل الله لنا ولهم الدرجات العلى من الجنة، ونسأل الله لنا ولهم الفردوس الأعلى من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب ولا توبيخ ولا عقاب، ويغفر ويرحم لموتانا وأحيانا بالرحمة الواسعة يا أرحم الراحمين، ارحمنا وبارك في أعمارنا واختمها لنا بأكمل حسنى واجعل اللهم آخر كلام كل فرد منّا من هذه الحياة الدنيا لا إله إلا الله، متحققًا بحقائقها وأنت راضٍ عنه في خيرٍ ولطفٍ وعافية، وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
15 جمادى الأول 1443