(364)
(535)
(604)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطلاق، باب ظِهار الحُر، وباب ظِهار العبيد.
.فجر الثلاثاء 3 جمادى الأولى 1443هـ
باب ظِهَارِ الْحُرِّ
1615 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ: أَنَّهُ سَأَلَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَةً إِنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا؟ فَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: إِنَّ رَجُلاً جَعَلَ امْرَأَةً عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ إِنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا، فَأَمَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا، أَنْ لاَ يَقْرَبَهَا، حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الْمُتَظَاهِرِ.
1616 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، عَنْ رَجُلٍ تَظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْكِحَهَا؟ فَقَالاَ: إِنْ نَكَحَهَا فَلاَ يَمَسَّهَا، حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الْمُتَظَاهِرِ.
1617 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ تَظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ نِسْوَةٍ لَهُ, بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.
1618 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِثْلَ ذَلِكَ.
قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى ذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا
قَالَ مَالِكٌ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْمُتَظَاهِرِ: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) [المجادلة:3] (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) [المجادلة:4].
1619 - قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَتَظَاهَرُ مِنِ امْرَأَتِهِ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ تَظَاهَرَ، ثُمَّ كَفَّرَ، ثُمَّ تَظَاهَرَ بَعْدَ أَنْ يُكَفِّرَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ أَيْضاً.
1620 - قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ تَظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ مَسَّهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَيَكُفُّ عَنْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ وَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، وَذَلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ.
1621 - قَالَ مَالِكٌ: وَالظِّهَارُ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَالنَّسَبِ سَوَاءٌ.
1622 - قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ ظِهَارٌ.
1623 - قَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ، ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) [المجادلة:3] قَالَ: سَمِعْتُ أَنَّ تَفْسِيرَ ذَلِكَ أَنْ يَتَظَاهَرَ الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ يُجْمِعَ عَلَى إِمْسَاكِهَا وَإِصَابَتِهَا، فَإِنْ أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا وَلَمْ يُجْمِعْ بَعْدَ تَظَاهُرِهِ مِنْهَا، عَلَى إِمْسَاكِهَا وَإِصَابَتِهَا، فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَمَسَّهَا، حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الْمُتَظَاهِرِ.
1624 - قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَتَظَاهَرُ مِنْ أَمَتِهِ: إِنَّهُ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُصِيبَهَا، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا.
1625 - قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَدْخُلُ عَلَى الرَّجُلِ إِيلاَءٌ فِي تَظَاهُرِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُضَارًّا، لاَ يُرِيدُ أَنْ يَفِيءَ مِنْ تَظَاهُرِهِ.
1626 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً يَسْأَلُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، عَنْ رَجُلٍ قَالَ لاِمْرَأَتِهِ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَنْكِحُهَا عَلَيْكِ مَا عِشْتِ فَهِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: يُجْزِئُهُ عَنْ ذَلِكَ عِتْقُ رَقَبَةٍ.
باب ظِهَارِ الْعَبِيدِ
1627 - حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ ظِهَارِ الْعَبْدِ؟ فَقَالَ: نَحْوُ ظِهَارِ الْحُرِّ.
قَالَ مَالِكٌ: يُرِيدُ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ، كَمَا يَقَعُ عَلَى الْحُرِّ.
1628 - قَالَ مَالِكٌ: وَظِهَارُ الْعَبْدِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَصِيَامُ الْعَبْدِ فِي الظِّهَارِ شَهْرَانِ.
1629 - قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبْدِ يَتَظَاهَرُ مِنِ امْرَأَتِهِ: إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ إِيلاَءٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ ذَهَبَ يَصُومُ صِيَامَ كَفَّارَةِ الْمُتَظَاهِرِ، دَخَلَ عَلَيْهِ طَلاَقُ الإِيلاَءِ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صِيَامِهِ.
الحمد لله مكرمنا بأحكامه وبيانها على لسان خير أنامه، سيدنا مُحمَّد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه أفضل صلاته وأزكى سلامه، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، ومن ظفر بولائه ومحبته والائتمام به، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم، وتابعيهم والملائكة المقربين وعلى جميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيتحدث الإمام مالك -عليه رضوان الله- عن حكم الظّهار بعد أن تكلم عن حكم الإيلاء، وذلك مما يقع فيه الناس. وقد علمنا أن الجاهلية كانوا يُعدّون الظّهار والإيلاء والطلاق شيء واحد وكله عندهم فراق، فَأقرَّت الشريعة اسم الطلاق ولفظ الطلاق وجعلته الفراق بين الزوجين، وجعلت للإيلاء حكمًا كما تقدَّم، وللظهار كذلك حكمًا.
فهذا حكم الظّهار وفيه نزلت أوائل سورة المجادِلة، وذلك عندما حصل الظّهار من زوج خولة بنت زرارة وجاءت إلى النبي ﷺ تشتكي وتجادِل في زوجها، فأنزل الله: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا) [المجادلة:1-2].
فالتلفظ بلفظ الظهار مُنكَر و زُور؛ فهو حرام، وبعد وقوع صاحبه في هذا الإثم فإنه لا يجوز أن يَقْرَب زوجته حتى يُكفِّرَ كفَّارة الظّهار: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [المجادلة:3-4].
فهذه الكفّارة التي تلزم بعد إثمه بالتلفّظ بلفظ الظّهار؛ وذلك أن يشبّه زوجته بمُحرَّمة عليه؛
مِن أُمّه بالإجماع
ومن غيرها من المحارم على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة.
بأن يشبهها بأخته أو بعمته أو خالته أو بنت أخيه وما إلى ذلك من المحارم.
أو أم زوجته أو بنت زوجته وما إلى ذلك من المحارم بالمصاهرة.
أو أخته من الرّضاع أو عمته من الرّضاع أو خالته من الرّضاع.
فإذا شبهها بذلك، والأصل فيه: أنتِ عليَّ كظَهر فلانة؛ يعني حكم قربي منكِ كقربي من فلانة، وهي مَحرَمٌ من المحارم لا يجوز بحال أن يقربها، فبذلك يكون مُظاهِرًا.
وإنما سمي ظهارًا؛ لأن الأصل في استعمالها أن يُشبَّه بالظَّهر، فيقول لزوجته: أنها عليه كظهر أمه، والتشبيه بظهر الأم مُتفق عليه بأنه يحصل به هذا الحكم، بهذه الظاهرة التي أشارت إليها الآية الكريمة، مع ما حكم الله عليه أنه قال مُنكرًا من القول وزورًا فهو مأثوم، يجب عليه التوبة ويجب عليه أن لا يعود لمثل ذلك، ومع ذلك هو مخاطبٌ بالكفّارة، فهذا هو الظِّهار؛ أن يشبّه زوجته بأحد من محارمه في القرب منها.
وذكر لنا: أنه إذا سبق فشبَّه امرأة بعضو من أعضاء أُمّه أو من تَحرُم عليه قبل أن يتزوّجها ثم تزوجها.
فقال الإمام الشافعي: لا يحصل، لا طلاق ولا ظهار ولا إيلاء قبل أن يتزوج، حتى يتزوج أولًا.
وقال الإمام مالك والإمام أحمد: إذا عيّنها ثم تزوجها وعلّق ظِهاره بها إذا قال: إذا تزوجتك فأنت علي كظهر أمي ونحو ذلك؛ فإنه إذا تزوجها لا يجوز أن يقربها حتى يكفّر كفّارة الظّهار.
وقال بهذا جماعة من أهل العلم، وقليل قالوا: بأن الطلاق إذا قال لفلانة: إن تزوجتها فهي طالق أو إن تزوجتُكِ فأنت طالق، فتزوَّجَها، قال أكثر أهل العلم: لا يقع شيء؛ لأنها لم تدخل في عصمة نكاحه بَعد حتى يحق له طلاقها. وقليل قالوا: بأنه يلحقه، ولكن في الظّهار كثير قالوا: بأنه يلحقه إذا عيّنها قبل أن يتزوجها ثم تزوج بها فلا يجوز أن يقربها حتى يخرج كفارة الظَّهار.
وقال الإمام الشافعي وغيره من أهل العلم: لا يلحقها ظهار ولا إيلاء ولا كفارة ولا طلاق حتى يتزوجها أولًا، عندئذ ٍ يحق له أن يظاهر ويحق له بعد أن يتزوج، أما قبل أن يتزوج كلام لغو وكلام فارغ ولا شيء له في ذلك.
إذًا؛
إذا شبّه بظهر من تحرم عليه على التأبيد: كالأم من الرضاعة والأخت من الرضاعة وما إلى ذلك، فيقول: مثل ظهر فلانة، فهذا مضار في قول أكثر أهل العلم.
وكذلك إذا شبهها بمن تحرم عليه تحريم مؤقت: كأخت امرأته مثلًا، حرام عليه حتى يطلّق هذه وتنقضي عدتها، ويطلّقها بائنًا؛ فتحلُّ له أختها أو عمتها أو خالتها أو ما إلى ذلك.
فجاءت روايتان عن الإمام أحمد، وكما هو في قول الإمام مالك والإمام الشافعي: ليس بظهار؛ لأنها غير محرّمة على التأبيد، وهكذا قال الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي: هذا لا يكون ظهارًا ولا يكون طلاقًا، خلافًا لمن قال: أنه مظاهِر أو أنه يُعدُّ عليه طلاقًا، وإذا شبّه بمن تحرم عليه تحريمًا مؤقتًا.
وقال الحنفية والشافعية: أن هذا لا يعد ظهارًا ولا طلاقًا؛ لأن تلك ليست محرّمة على التأبيد؛ أي: التي شبّهها بها.
وأما إذا شبّهها بغير النساء أو قال: كظهر البهيمة أو كالميتة وما إلى ذلك؛ فهذا عند أكثر العلماء: أنه ليس تشبيه بمحل، ليس محل يجوز فيه الاستمتاع فهو لا يضرُّ ولا يؤثر، فهو ليس بظَهار ولا بشيء، فكأنه قال أيضًا: أنت عليَّ كمَالِ فلان وهو حرام، لكن المسألة تدور في الظَّهار على الاستمتاع وهذا ليس من الاستمتاع بشيء، فلذلك لا يُعدّ ظهارًا عند أكثر أهل العلم.
فأما إذا قال لها: أنتِ عليَّ حرام؛
إن نوى الظَّهار: فهذا ظَهار في قول عامة أهل العلم.
وإن لم ينو ذلك: فهو طلاق، إن نوى الطلاق.
وكذلك، إذا شبّه عضوًا من امرأته بظهر أمه أو بعضوٍ من أعضائها:
فهذا أيضًا مظاهر كما قال الشافعية والمالكية، وجاءت عن أحمد هذه رواية.
ورواية أخرى ليس بمظاهر حتى يشبّه جملة امرأته.
ويقول أبو حنيفة:
إن شبّهها بما يَحرُم النظر إليه من الأم فهو مظاهر.
وأما إن قال: كالرأس والوجه ونحو ذلك فليس بمظاهر.
وعلمت أن الجمهور قالوا: هو مظاهر.
فالمظاهر يَحرُم عليه وطء امرأته حتى يُكفِّر إما بعتق أو بصوم، وكذلك بالإطعام عند أكثر أهل العلم، فلا يجوز أن يقربها حتى يطعم ستين مسكين إذا عجز عن صيام شهرين متتابعين، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) [المجادلة:3-4]؛ أي: عتق الرقبة، بأن لم توجد أو لم يقدر على شرائها وملكها، (فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [المجادلة:4].
وسبب الاختلاف في الثالث: هل يجوز أن يقربها قبل أن يُطعم أو لا؟ أن الحقَّ نصَّ في الأولَيين على قوله: (مِّن قَبۡلِ أَن یَتَمَاۤسَّاۚ)، ولم ينصّها في الثالث، قال: (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا)، ولم يقل: من قبل أن يتماسّا، فلذلك جاء الخلاف، فهل يجوز له وطئها قبل يُخرج الكفّارة أم لا؟
أما إن كان كفارته عتق رقبة أو صيام شهرين فبالإجماع: ما يجوز له أن يقربها حتى يخرج الكفارة أولًا.
فإن كانت كفارته إطعام ستين مسكينًا:
فأكثر أهل العلم يقولوا: كذلك بالقياس على ذلك.
وقال بعضهم: لا، هذا لا يلزم أن يكون قبل أن يتماسّا.
يقول: "سَأَلَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَةً إِنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا؟"؛ هذا سوف يأتي فيما بعد حكم الطلاق ، وهو عند عامة أهل العلم: لا يؤثر، أن يقول إن تزوجها فهي طالق، أولًا تزوجها، هذا كلام فارغ إلا أنه من جملة اللغو الذي يوشك أن يعاقَب عليه صاحبه لأنه تلاعب في الأحكام.
"فَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: إِنَّ رَجُلاً جَعَلَ امْرَأَةً عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ إِنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا، فَأَمَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا، أَنْ لاَ يَقْرَبَهَا، حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الْمُتَظَاهِرِ."؛ وهذا يوافق مذهب الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى- لأنه إن علّق عليها وقد عيّنها الظَّهار إذا تزوجها، أنه يقع عليه إذا تزوجها. وعلمت ما قال الشافعية: أن ذلك ليس بشيء.
فمسألة الطلاق عامة أهل العلم: أنه لا يقع إلا بعد أن يعقد عليها وأن تدخل في عقده،
وأما مسألة الظَّهار؛ فقال جماعة من أهل العلم: أنه يُحسب عليه وأنه إذا تزوجها لا يقربها حتى يكفّر.
وقال آخرون: بل كلامه لغو، وإنما يُحسب عليه إذا تكلم بعد أن دخلت في عقده.
إذًا؛ المسألة الأولى أشبه بإجماع الأئمة الأربعة وأكابر أهل العلم: أنه لا يقع طلاق إذا علّق الطلاق قبل أن يتزوج فلا يقع الطلاق. لكن في المسألة الثانية هذا الاختلاف الذي أشرنا إليه؛ إذا قال: أنه إذا تزوجها فهي كظهر أمه، فإذا علّق الطلاق بتزوجّه بها، إذا علّق فهذه التي جاء فيها الخلاف، وما بين الوقوع مطلقًا وعدم الوقوع مطلقًا، والتفصيل بين إذا عيّن أو عمّم، وعامة جمهور أهل العلم يقولون: بعدم الوقوع بالنسبة للطلاق، وكذلك هو المقرّر في مذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد وجمهور أهل الحديث.
ولكن في مذهب الحنفية قالوا: إذا علّق الطلاق بتزوجّه إياها، فإذا تزوجها فهي طالق بما سبق من تعليقه، هكذا عند الإمام أبي حنيفة؛ يقول بالوقوع.
وعند بعض أهل العلم مثل ربيعة والثوري والليث والأوزاعي وغيرهم يقولون: فيه تفصيل، وهو كذلك في مذهب الإمام مالك:
إن خصّص وقع
وإن عمّم فلا يقع
يعني لم يُسمِّ امرأة معينة، قال: من تزوجتها من النساء فهي طالق فهذا لا يقع عندهم، ولكن إذا قال: فلانة، سمّى وعيّن فيقع الطلاق. وهذا يروى أيضًا عن الإمام مالك، والرواية الثانية عنه كالجمهور: عدم وقوع الطلاق مطلقًا، وإنما الذي قال بوقوع الطلاق هم الحنفية، إذا علّق الطلاق عليها سواءً عيّن أو عمّم، فإذا تزوّج وقع عليها الطلاق مؤاخذةً له بما يقول.
ويذكر لنا بعد ذلك: عن القاسم بن محمد وسليمان بن يسار لمّا سُئِلا "عَنْ رَجُلٍ تَظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْكِحَهَا؟ فَقَالاَ: إِنْ نَكَحَهَا فَلاَ يَمَسَّهَا، حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الْمُتَظَاهِرِ"؛ فهؤلاء من القائلين بذلك، إن قال: إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي، أو قال لها ذلك مباشرة: أنت عليّ كظهر أمي ثم تزوجها، "فَقَالاَ: إِنْ نَكَحَهَا فَلاَ يَمَسَّهَا، حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الْمُتَظَاهِرِ".
وذكر عن عروة بن الزبير: "أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ تَظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ نِسْوَةٍ لَهُ، بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ"؛ يعني: في الحنث، "إِلاَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ."؛ أي: لا أربع كفارات وهذا مذهب الإمام مالك.
"وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِثْلَ ذَلِكَ."، "قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى ذَلِكَ الأَمْرُ"؛ أي: توحيد أن الكفارة واحدة "عِنْدَنَا"، هذا المشهور في مذهب الإمام مالك.
وفي قول في مذهب الإمام مالك كالجمهور: أنه يتعدد بتعدده، فلا تجوز له واحدة منهن حتى يخرج الكفارة عنها، وإن كان ظَاهَرَ بكلمةٍ واحدة للثلاث أو للأربع أو للإثنتين؛ فكل واحدة منها، فإذا قال للأربعة معًا: أنتُنَّ عليّ كظهر أمي فلا يُجزؤه كفّارة واحدة عند الإمام الشافعي وعند الإمام أبي حنيفة، ولكن يقول الإمام مالك: أنه يكفي فيه كفّارة واحدة، فإذا كفّر عن واحدة بطل حكم الظّهار بالنسبة لسائرهنّ هكذا. ويُروى هذا عن سيدنا علي وعن سيدنا عمر وجماعة من الصحابة. ولكن قال الحنفية والشافعية: أنه لا تحلّ له واحدة منهن حتى يخرج كفّارة مستقلة عنها.
"قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْمُتَظَاهِرِ: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ)"؛ يعني: إعتاق رقبة؛ كفّارة المُظاهر القادر على الإعتاق عتق رقبة، لا يجزئه غير ذلك مهما قدر على عتق الرقبة.
ولا بد أن تكون رقبة مؤمنة.
قياسًا على ما صرّح الحق في كفّارة القتل: (فَتَحۡرِیرُ رَقَبَةࣲ مُّؤۡمِنَةࣲ) [النساء:92]، فقاسوا عليها بقيّة الكفّارات إذا فيها عتق رقبة لا بد تكون مؤمنة، وعلى ذلك الجمهور.
وجاء في رواية عن الإمام أحمد -رواية كالجمهور- والرواية الثانية: في غير كفّارة القتل لا يلزم أن تكون مؤمنة، وفي كفّارة القتل لا بد أن تكون مؤمنة.
"(فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ)"؛ معلوم أن تكون سالمة من العيوب.
"(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ)"؛ فمن لم يجد الرقبة؛ بأن لم يجدها هي أو لم يجد ثمنها.
"(فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ)"؛ فيجب التتابع في صيام كفّارة الظَّهار بالإجماع كما نصَّ عليه القرآن، حتى من قطعه لعذرٍ أو لغير عذر عليه استئناف الشهرين، ولو كان في آخر الشهرين ولو كان آخر يوم من أيام الشهرين قطعه ولو لعذر ولو لمرض، وجب عليه أن يصوم شهرين متتابعين، وهكذا..
"(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) [المجادلة:4]؛ من لم يستطع الصيام فإطعام ستين مسكينًا، فقال أكثر أهل العلم: أن التكفير بالإطعام مثل العتق والصوم، أنه يَحرُم وطؤها حتى يكفّر بإخراج إطعام الستين مسكينًا.
وجاء في الحديث: "أن سائلًا سأل رسول الله ﷺ عن امرأة تظاهر منها، قال: لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله"، وداخل فيما أمرك الله: الإطعام، فلا يجوز له أن يقربها حتى يُطعِم ويُخرج عنها الكفّارة، فإذا لم يجد الرقبة ولم يستطع الصيام ففرضه إطعام ستين مسكينًا كما جاء في نص الآية الكريمة وفي سُنّته ﷺ.
فلو أطعم مسكينًا: أول يوم، ثاني يوم، ثالث يوم، رابع يوم،..، ستين يوم؛ فهذا لا يجزئ عند الجمهور.
ولكن قال الإمام أبو حنيفة: يجزئ، لو أطعم مسكين واحد ستين يومًا أجزأه، وهذا رواية عن الإمام أحمد.
وقال جماهير أهل العلم: لا، بل نص القرآن على العدد فلا بُدَّ من عدد، ستين مسكينًا يَطعمون على يده، هذا وهذا وهذا، فإن كان في البيت مساكين أربعة أو خمسة حَسَبَهُمْ، وهكذا حتى يستوعب ستين مسكينًا.
فلا يقول أُعطي للستين مُدْ، لهؤلاء الأربعة الأُسرة، هؤلاء الخمسة منهم يستعملونه، يقول: هذا للخمسة باقي عليك خمسة وخمسين مُدْ، لا بد تعطي خمسة وخمسين مسكين حتى تستوعب ستين مسكينًا، لكل مسكين مُدْ، وقيل: أكثر من ذلك، فيُملِّك كل إنسان من المساكين القدر الواجب له في الكفّارة، فكيف إذا عزمه فقط؟ وأحضره وأطعمه الغداء والعشاء؟ لا يجوز ذلك عند الإمام الشافعي ولا عند الإمام أحمد، بل لا بد أن يملّكه إياه.
في رواية عن الإمام أحمد مثل قول أبي حنيفة: إذا أطعمهم بالقدر الواجب وأكلوا مقدار المُدْ عنده، كل واحد منهم أجزأه، هذا قول أبو حنيفة وقول النخعي. وهكذا يقول الإمام مالك: لا أحب في كفّارة الظَّهار الغداء والعشاء لأني لا أظنه يبلغ مُدًا، لن يأكل مُدْ كامل.. اذًا؛ الأَولى أن يملّكه ذلك المقدار من الطعام من قوت البلد أو من قوتٍ أفضل منه كما هو في الفطرة.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَتَظَاهَرُ مِنِ امْرَأَتِهِ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ"؛ لأنه تكرار لأمر واحد على امرأة واحدة، فإذا ظاهر منها مرارًا فلم يكفّر فالكفّارة واحدة عند إرادته الرجوع إليها، عليه كفّارة واحدة.
"فَإِنْ تَظَاهَرَ، ثُمَّ كَفَّرَ، ثُمَّ تَظَاهَرَ"؛ فيحتاج كفّارة ثانية، فعليه كفّارة أخرى أيضًا مستقلة؛ لأنه إذا ظاهر بعد أن أتمَّ الكفّارة فلا بُدَّ لهذا التظاهر الثاني من كفّارة أخرى، لأن الأولى ليست بكفّارة عما يأتي بعدها، إنما هي كفّارة عما قبلها، ما قبلها تقوم بتكفيره، أما شيء بعدها ما يصح! لذلك؛ فإذا عاد وظاهر فعليه كفّارة أخرى، فإن عاد فعليه كفّارة ثالثة، وهكذا..، أما قبل أن يخرج الكفّارة: ظاهر ثلاث مرات، أربع مرات، خمس مرات؛ عليه كفّارة واحدة.
"وَمَنْ تَظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ مَسَّهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَيَكُفُّ عَنْهَا حَتَّى يُكَفِّرَ وَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ"؛ أي: يَتُبْ إلى الله تعالى عن فعل ذلك لكونه حرامًا، يقول: "وَذَلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ".
"قَالَ مَالِكٌ: وَالظِّهَارُ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَالنَّسَبِ سَوَاءٌ"؛ فإذًا؛ شامل لكل من حرمت على التأبيد: بالنسب أو الرضاع أو المصاهرة.
"قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ ظِهَارٌ"؛ ما يصح الظهار من النساء لأن ليس بيدها عقدة النكاح فليس يُعقد منها، وبلفظها ظهارٌ؛ يعني: لو قالت للرجل أنت عليّ كظهر أبي أو كظهر أمي وما إلى ذلك، ما يُعدُّ شيء فلا يكون ظهار، وهكذا قال الإمام مالك والإمام الشافعي.
وفي قول: أن عليها كفّارة يمين، وفي قول: أن عليها كفّارة ظهار، لكن جمهور العلماء قالوا: لا، ليس قولها بشيء، لكنها لا تخلو من الإثم والتجرّي؛ لأنه تجرؤ على الأحكام وتلاعب بأمر الشرع، فما أباحه أباحه، وما حرّمه حرّمه، وما جعله في حكمه فهو في حكمه، لا يدخل هذا في هذا، ولا أحد يملك يعمل هكذا! فلا يجوز التلفظ بمثل هذه الألفاظ.
فإذا قالت له: أنت علي كظهر أبي، أو قالت: إن تزوجت فلان فهو عليّ كظهر أبي؛ فليس هذا بظهار عند عامة أهل العلم.
وفي الآية: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ)، ما قال اللاتي، (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ) [المجادلة:3]، وهكذا..، كما إذا طلّقت زوجها قالت له: أنت طالق، لا يُعتبر قولها.
"قَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ، ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) [المجادلة:3] قَالَ: سَمِعْتُ أَنَّ تَفْسِيرَ ذَلِكَ أَنْ يَتَظَاهَرَ الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ يُجْمِعَ عَلَى إِمْسَاكِهَا وَإِصَابَتِهَا، فَإِنْ أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا وَلَمْ يُجْمِعْ بَعْدَ تَظَاهُرِهِ مِنْهَا، عَلَى إِمْسَاكِهَا وَإِصَابَتِهَا، فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ"
شبهها بظهر أمه وقال: هي طالق، خلاص الآن صارت نعم مثل ظهر أمك بسبب، فإذا أعقبه بالطلاق مباشرة لا كفّارة عليه؛ وقع طلاق من دون ظهار، فإذا لم يتبعه طلاق مباشرة فعليه الكفّارة؛ لأنه قال: "(ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا)"؛ يعني: يُجمع على إمساكها وإقامتها عنده كزوجة، وهو قد قال: كذا، فهو عليه الكفّارة. وأما إن أَتبعها مباشرة بالطلاق؛ انتهى فهي محرّمة عليك الآن بهذا الطلاق كما حَرُمَت عليك المحارم، "قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَمَسَّهَا، حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الْمُتَظَاهِرِ". يقول الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى-: لأنه أَبقى عنده حكم الظَّهار معلَّقًا، الآن صارت بعيدة منه، قال: لكن إذا عاد إليها وتزوجها فعليه أن يخرج الكفارة عن الظّهار.
ويقول مالك أيضًا: "فِي الرَّجُلِ يَتَظَاهَرُ مِنْ أَمَتِهِ: إِنَّهُ إِنْ أَرَادَ أَنْ يُصِيبَهَا، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا"؛ وهو قد شبّهها بظهر أمه. "قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَدْخُلُ عَلَى الرَّجُلِ إِيلاَءٌ فِي تَظَاهُرِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُضَارًّا، لاَ يُرِيدُ أَنْ يَفِيءَ مِنْ تَظَاهُرِهِ"؛ يعني: أن يكون تظاهر غير معلّق بصفة، يقول: إن لم أفعل كذا فكذا، "إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُضَارًّا، لاَ يُرِيدُ أَنْ يَفِيءَ مِنْ تَظَاهُرِهِ"؛ إذا لم يتبيّن ضرره لم يُوقف إلا أن يطول ذلك.
يقول حدثني: "عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً يَسْأَلُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ, عَنْ رَجُلٍ قَالَ لاِمْرَأَتِهِ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَنْكِحُهَا عَلَيْكِ مَا عِشْتِ فَهِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: يُجْزِئُهُ عَنْ ذَلِكَ عِتْقُ رَقَبَةٍ"؛ ومعنى يجزئه عتق رقبة؛ يعني: أنه ينتقض الظّهار هذا بتزوّج أول امرأة على زوجته تلك فعليه كفّارة، ثمّ انتقض يجزؤه ذلك عتق رقبة واحدة، فإذا تزوّج واحدة ثانية فإنه قد انحل، وهذا كله على القول بأنه يلحق الظّهار قبل التزويج، ولكن الذين قالوا كالشافعية: لا يلحق فلا يلحق ولا أثر له.
كذلك ظهار العبد مثل ظهار الحُر يؤآخَذ به، وكيف يفعل؟ لا يستطيع أن يعتق رقبة؛ لأنه هو مملوك بنفسه، ولا يستطيع أن يطعم ستين مسكينًا؛ لأنه لا يملك شيء، فعليه أن يصوم شهرين متتابعين.
قال: "يُرِيدُ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ، كَمَا يَقَعُ عَلَى الْحُرِّ". "وَظِهَارُ الْعَبْدِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَصِيَامُ الْعَبْدِ فِي الظِّهَارِ شَهْرَانِ"؛ يعني: يلزمه ما تلفّظ به وليس له إلا أن يصوم شهرين؛ لأنه لا يملك عتق رقبة ولا يملك إطعام ستين مسكينًا.
"قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَبْدِ يَتَظَاهَرُ مِنِ امْرَأَتِهِ: إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ إِيلاَءٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ ذَهَبَ يَصُومُ صِيَامَ كَفَّارَةِ الْمُتَظَاهِرِ، دَخَلَ عَلَيْهِ طَلاَقُ الإِيلاَءِ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صِيَامِهِ"، والله أعلم.
رزقنا الله الاستقامة وأتحفنا بالصدق والإخلاص معه، والإنابة إليه والاقتداء بحبيبه ﷺ، وحَفِظَ وحَرسَ وحَمى أُسَرَنا وأهلينا وذرارينا من الآفات والعاهات، ومن الجراءة على الشرع المصون ومن كل سوء أحاط به علمه، وأقام لنا في أُسَرِنَا روابط اليقين والإيمان والتعظيم لأمره وأمر رسوله، والتعاون على مرضاته سبحانه وتعالى والظفر بعنايته ورعايته وتوفيقه وتسديده، بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
10 جمادى الأول 1443