شرح الموطأ -291- كتاب الطلاق: تتمة باب ما جاء في الخَلِيَّة والبَرِيَّة وأشباه ذلك

شرح الموطأ -291- باب ما جاء في الْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ، من قول عَلِي بْنَ أبِي طَالِبٍ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ: إِنَّهَا ثَلاَثُ
للاستماع إلى الدرس

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطلاق،  تتمة باب مَا جَاءَ فِي الْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.

فجر الأربعاء 26 ربيع الثاني 1443هـ.

تتمة باب مَا جَاءَ فِي الْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ

1591- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أبِي طَالِبٍ كَانَ يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ: إِنَّهَا ثَلاَثُ تَطْلِيقَاتٍ.

قَالَ مَالِكُ: وَذَلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ.

1592- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، كَانَ يَقُولُ فِي الْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ: إِنَّهَا ثَلاَثُ تَطْلِيقَاتٍ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.

1593- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ رَجُلاً كَانَتْ تَحْتَهُ وَلِيدَةٌ لِقَوْمٍ، فَقَالَ لأَهْلِهَا: شَأْنَكُمْ بِهَا، فَرَأَى النَّاسُ أَنَّهَا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ.

1594- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لاِمْرَأَتِهِ: بَرِئْتِ مِنِّى، وَبَرِئْتُ مِنْكِ: إِنَّهَا ثَلاَثُ تَطْلِيقَاتٍ، بِمَنْزِلَةِ الْبَتَّةِ.

1595- قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ، أَوْ بَرِيَّةٌ، أَوْ بَائِنَةٌ: إِنَّهَا ثَلاَثُ تَطْلِيقَاتٍ، لِلْمَرْأَةِ الَّتِي قَدْ دَخَلَ بِهَا، وَيُدَيَّنُ فِي الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، أَوَاحِدَةً أَرَادَ أَمْ ثَلاَثاً، فَإِنْ قَالَ: وَاحِدَةً، أُحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ خَاطِباً مِنَ الْخُطَّابِ، لأَنَّهُ لاَ يُخْلِي الْمَرْأَةَ الَّتِى قَدْ دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا، وَلاَ يُبِينُهَا، وَلاَ يُبْرِيهَا، إِلاَّ ثَلاَثُ تَطْلِيقَاتٍ، وَالَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، تُخْلِيهَا، وَتُبْرِيهَا، وَتُبِينُهَا، الْوَاحِدَةُ.

قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته وبيانها على لسان عبده سِّيدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه ومَن سار في سبيلها خاضعًا لسلطانها، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين حصن الخلائق وأمانها، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقرَّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين. 

يواصل سيِّدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله- ذِكر ما أُثر فيما يتعلق بالطلاق، وفي قول الرَّجُل لامرأته: "أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ"، وما ورد عن سيِّدنا عليّ في ذلك. فأصح ما ورد عنه ما أورده الإمام مالك في الحديث في قوله: كان "يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ: إِنَّهَا ثَلاَثُ تَطْلِيقَاتٍ"؛ وإنما تحرُم عليه الحُرمة المؤقتة أو البينونة بالثلاث تطليقات، فهذه رواية عن سيِّدنا علي.

  • والرواية الأخرى، أنها مقرونة بالنية، وأنه قال فيما أخرجه البيهقي بسنده قال: كان عليّ -رضي الله عنه- يجعل الحرام ثلاثًا. وروى عنه أنه قال: الحرام، إذا نوى فهو بمنزلة الثلاث؛ فقَرَنه بالنية. 

  • وجاءت رواية ثالثة أيضًا، في رواية الإمام البيهقي عن عامر الشعبي يقول: يقولون أن عليًا جعلها ثلاثًا. قال عامر: ما قال عليّ ذلك، إنما قال: لا أُحلّها ولا أحرّمها، وهكذا ذكر ابن حزم عن عليّ الوقف في ذلك.

إذًا؛ فهذه روايات عن سيِّدنا علي وهذه الروايات التي ذكرها الإمام مالك أشهر الروايات قال "وَذَلِكَ"؛ -يعني أنها ثلاث تطليقات- "أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ".

إذًا فتأكّد:

  • أن يلاحظ المؤمن ألفاظه عمومًا. 

  • والمتزوج ألفاظه خصوصًا فيما يتعلق بالنكاح والعقد والطلاق.

 فإن الله -سبحانه وتعالى- رتب على هذه الألفاظ أحكامًا غليظة، قوية، شديدة، عظيمة عليها مسؤولية في يوم القيامة، فليراقب الله تعالى فيما يصدر منه من ألفاظ، ولا يتكلم بمثل هذا الكلام وإنما يكون ظهارًا إذا شبَّه تحريمها عليه بأحد من محارمه، وهو قول من الزور المحرَّم الذي نهى الله عنه قال تعالى: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ۖ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) [المجادلة:2]، وهكذا تبيّن بذلك خطر التَّلفُظ، ثم إن هذا القول الذي ذكره الإمام مالك وذكر فيه رواية عن سيِّدنا علي بن أبي طالب للعلماء فيه أقوال:

  • ويعتبره بعضهم أنه من لغو القول الباطل الذي يأثم عليه صاحبه لكن ما يترتب عليه شيء في النكاح وفي العقد. فمجرد قوله أنت حرام؛ كذّاب؛ كذب في تحريم شيء هي حلال كونها زوجته حرام فهو حرام؛ فهو كذّاب، بذلك عليه إثم الكذب ولا يؤثر في العقد شيء، هذا قول وهو أحد أقوال المالكية وكان ربيعة يقول به. 

  • والقول الثاني: هذا الذي سمعنا عن سيِّدنا أنه "ثَلاَثُ تَطْلِيقَاتٍ"، وذلك كان يقول سيِّدنا زيد بن ثابت وعبد الله بن عُمَر والحسن البصري من التابعين بعدهم: أنها ثلاث تطليقات، وهذا أحد أقوال المالكية أيضًا.

  • القول الثالث: أنها بهذا القول صارت حرام عليه، فيؤمر باجتنابها، وهذا أيضًا رواية عن سيِّدنا علي. 

  • وقول رابع: بالوقف، وهو أيضًا قول عن سيِّدنا عليّ كما سمعت. 

  • وقول خامس: إن نوى الطلاق فهو، وإن لم ينوه فهو يمين، هذا في بعض الروايات عن الإمام الشَّافعي أن يسلك به مسلك اليمين. 

  • وقول سادس:

○ إن نوى ثلاث؛ ثلاث.

○ وإن نوى واحدة؛ واحدة بائنة.

○ وإن نوى يمينًا؛ فيمين.

○ وإن لم ينوِ شيء؛ فهو كذبة؛ عليه فيها إثم الكذب فقط.

  • وفي قول سابع مثل هذا: إلا أنه قال وإن كان أيضًا لم ينوِ شيئًا؛ فهي يمين. 

  • وقول أيضًا ثامن مثل هذا: إذا لم ينوِ شيء؛ فواحدة؛ لا بيمين؛ واحدة بائنة إعمالًا للفظ التحريم.

  • وقول تاسع: أن فيه كفارة الظِّهار، وإنها مثل الظِّهار أن قال أنت علي حرام كمثل ما قال كظهر أمه فهي مثل الظِّهار. وهذا جاء عن ابن عباس -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد بن حنبل. 

  • وقول عاشر: أنها تطليقة واحدة، وهي إحدى الروايات عن سيِّدنا عُمَر بن الخطاب.

  • وهكذا القول الحادي عشر: أنه ينوي ما أراد من أصل الطلاق وعدده، وإن نوى تحريمًا من غير طلاق؛ فيمين مُكفَّرة.

  • وقول ثاني عشر: ينوي ما شاء من عدد الطلاق إلا إذا نوى واحدة؛ فبائنة. وإن لم ينوِ شيئًا؛ فهو إيلاء، هذا قول أبي حنيفة وأصحابه؛ أنه إذا لم ينوي شيء، فحكمه حكم الإيلاء؛ حكم من حلف أن لا يقربها.

  • وقول ثالث عشر: أنه يمين يُكفّره ما يكفر اليمين. ويروى عن سيِّدنا أبي بكر، وعن سيِّدنا عُمَر، وعن سيِّدتنا عائشة، ورواية عن زيد بن ثابت وغيرهم.

  • وقول رابع عشر: أنه يمين مغلّظة يتعيّن بها عتق رقبة، ويروى عن ابن عباس وغيرهم. 

  • وقول خامس عشر: أنه طلاق؛ إذا قال أنها حرام عليه فهو طلاق،

    • إن كان غير مدخول بها فما نوى.

    • وإن كان مدخول بها؛ فهو ثلاث هذه إحدى الروايتين أيضًا عن الإمام مالك. 

انظر كيف تشعّب اجتهاد الأئمة في هذه اللفظة؛ مما يدلّك على خطر هذه الألفاظ. وأن المؤمن يجب أن يضبط لسانه، وأن لا ينطق في وقت غضبه فضلًا عن غيره إلا ما هو مزمومٌ بزمام العقل وزمام الشرع، فليقل خيرًا أو ليصمت.

ثم ذكر لنا: "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، كَانَ يَقُولُ فِي الْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ"؛ إذا قال: أنتِ خليّة، أنتِ بريّة هو كما تقدَّم معنا من كنايات الطلاق. يقول: "إِنَّهَا ثَلاَثُ تَطْلِيقَاتٍ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا"، إن قال خليّة وإن قال بريّة؛ فهي عنده "ثَلاَثُ تَطْلِيقَاتٍ"، وهذا أيضًا المشهور في مذهب الإمام مالك أنه إذا عبَّر بالخليّة والبريّة أنها ثلاث. 

ويقول الشَّافعية وغيرهم: هي ما نوى، 

○ إن نوى أقل من ثلاث؛ فهي رجعية. 

○ وإن نوى ثلاث؛ فهي بائن، تلك البينونة الكبرى.

وذكر لنا: "عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ رَجُلاً كَانَتْ تَحْتَهُ وَلِيدَةٌ لِقَوْمٍ"؛ أي: أمَة لقوم كان متزوج بها، "فَقَالَ لأَهْلِهَا: شَأْنَكُمْ بِهَا، فَرَأَى النَّاسُ أَنَّهَا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ". لمَّا قال لسيِّدها وأهلها والذين يملكونها شأنكم بها: ما معناه؟ يعني: خرّجتها من عقدي؛ وهذا من كنايات الطلاق، 

  • فهو يقع بها الطلاق الرجعي عند الإمام مالك وعند الإمام الشَّافعي. 

  • وهو عند الإمام أبي حنيفة؛ بائن، إن قال "شَأْنَكُمْ بِهَا"؛ بانت منه؛ فلا تحل إلا بعقد جديد.

فهي من ألفاظ الكنايات كما تقدَّم سابقًا معنا ومحمولة على نيته بعد ذلك، وجاء هذا الاختلاف. وعَلِمنا أنه إذا نوى بها الطلاق؛ صارت طلقة رجعية عند الإمام مالك والإمام الشَّافعي. وعند الإمام أبي حنيفة؛ هي بائن منه. 

وذكر: عن "ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لاِمْرَأَتِهِ: بَرِئْتِ مِنِّى، وَبَرِئْتُ مِنْكِ: إِنَّهَا ثَلاَثُ تَطْلِيقَاتٍ، بِمَنْزِلَةِ الْبَتَّةِ"؛ لفظ البراء يقتضي ثلاث ولكن في قوله "بَرِئْتِ مِنِّى"، سواء، برئت منك إذا قالها الرجل معلوم، أما كلام المرأة فما يؤثر في هذا لأنه ليس بيدها عُقدة النكاح. 

وذكر لنا: "فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ، أَوْ بَرِيَّةٌ، أَوْ بَائِنَةٌ: إِنَّهَا ثَلاَثُ تَطْلِيقَاتٍ، لِلْمَرْأَةِ الَّتِي قَدْ دَخَلَ بِهَا، وَيُدَيَّنُ فِي الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، أَوَاحِدَةً أَرَادَ أَمْ ثَلاَثاً"؛ يعني: يُرجع الأمر إلى ضميره، هذا دينك ما نويت بينك وبين الله؟ فيترتب الحكم عليه، هذا معنى: " وَيُدَيَّنُ فِي الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، أَوَاحِدَةً أَرَادَ أَمْ ثَلاَثاً، فَإِنْ قَالَ: وَاحِدَةً، أُحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ خَاطِباً مِنَ الْخُطَّابِ"، فتبِين غير المدخول بها بطلقةٍ واحدة بالاتفاق. 

قال: "لأَنَّهُ لاَ يُخْلِي الْمَرْأَةَ الَّتِى قَدْ دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا، وَلاَ يُبِينُهَا، وَلاَ يُبْرِيهَا، إِلاَّ ثَلاَثُ تَطْلِيقَاتٍ، وَالَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، تُخْلِيهَا، وَتُبْرِيهَا، وَتُبِينُهَا، الْوَاحِدَةُ"، فهذا مذهب الإمام مالك. إن كان قد دخل بها، إذا قال: خليّة أو بريّة أو برئت مني، فكيف تبرأ منه؟ يقول: 

  • إن كانت دخل بها؛ فما تبرأ إلا بثلاث، هذه الثلاث. 

  • وإن كان لم يدخل بها؛ تبرأ بواحدة. 

هذا مذهب الإمام مالك، "قَالَ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ". والله أعلم. 

الله يكرمنا بالإنابة والخشية والاستقامة، ويتحفنا بأنواع المِنَن والمواهب والكرامة، ويعيذنا من موجبات الندامة في الدُّنيا والبرزخ ويوم القيامة، ويصلح شؤوننا بما أصلح به شؤون الصَّالحين المترقّين إلى أعلى مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، يفرج كروب الأمة أجمعين وإلى حضرة النَّبي مُحمَّد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

05 جمادى الأول 1443

تاريخ النشر الميلادي

09 ديسمبر 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام