(364)
(535)
(604)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطلاق، باب ما جاء في الْبَتَّةِ.
فجر الإثنين 24 ربيع الثاني 1443هـ.
باب مَا جَاءَ فِي الْبَتَّةِ
1586 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: إنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي مِئَةَ تَطْلِيقَةٍ، فَمَاذَا تَرَى عَلَيَّ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَلُقَتْ مِنْكَ لِثَلاَثٍ، وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ اتَّخَذْتَ بِهَا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً.
1587 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي ثَمَانِيَ تَطْلِيقَاتٍ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَمَاذَا قِيلَ لَكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: إِنَّهَا قَدْ بَانَتْ مِنِّي. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: صَدَقُوا، مَنْ طَلَّقَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ لَبَسَ عَلَى نَفْسِهِ لَبْساً، جَعَلْنَا لَبْسَهُ مُلْصَقاً بِهِ، لاَ تَلْبِسُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَنَتَحَمَّلَهُ عَنْكُمْ، هُوَ كَمَا يَقُولُونَ.
1588 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ لَهُ: الْبَتَّةُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهَا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَقُلْتُ لَهُ كَانَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ يَجْعَلُهَا وَاحِدَةً. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَوْ كَانَ الطَّلاَقُ أَلْفاً، مَا أَبْقَتِ الْبَتَّةُ مِنْهُ شَيْئاً، مَنْ قَالَ الْبَتَّةَ، فَقَدْ رَمَى الْغَايَةَ الْقُصْوَى.
1589 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، كَانَ يَقْضِي فِي الَّذِي يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ: أَنَّهَا ثَلاَثُ تَطْلِيقَاتٍ.
قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ.
الحمد لله مُكرمنا بشريعته الغرّاء، وبيان أحكامها على لسان خير الورى، سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ومن سار بسيرهم وبمجراهم جرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المقربين، وعلى جميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيواصل الإمام مالك -عليه رحمة الله- ذكر الأحاديث المتعلقة بالنكاح، وعَقَدَ هذا الكتاب لبيان أحكام الطلاق وما يترتب عليه؛ وذلك أنه يُضطَرُّ إليه ويُحتاج إليه:
فقد يكون واجبًا: كطلاق المولي إذا لم يرد أن يرجع إلى أهله.
وقد يكون مندوبًا: لمن خاف أن لا يقوم بالحقوق ولا يؤديها.
وقد يكون مباحًا: وهو في الأصل أبغض الحلال إلى الله.
وقد يكون مكروهًا.
وقد يكون حرامًا: كالطلاق في الحيض أو النفاس.
إلى غير ذلك مما يتعلق بالأحكام الخمسة في الطلاق الذي هو
في اللغة: حلُّ القيد.
شرعًا: حلُّ عقد النكاح بلفظٍ مخصوص.
وهذا الطلاق جاء في الشريعة الغرّاء لأجل الضرورة ولأجل الحاجة، وكان أبغض الحلال إلى الله الطلاق.
وينقسم بعد ذلك إلى:
طلاق سُنّي.
وطلاق بدعي.
كلاهما ينفذ، ولكن السُّني: لا يأثم فيه صاحبه ولا يتعرّض لعذاب، والبدعي: ينفذ الطلاق ولكن يكون على صاحبه فيه مؤاخذة.
والطلاق السني: أن يطلق امرأته في طهرٍ لم يقربها فيه؛ فهذا هو الطلاق السني.
فهل إن كان طلقة واحدة، أو اثنتين، أو ثلاثة؟ كله سنّي إذا كان في طهرٍ لم يجامعها فيه؛ هذا ما قاله الإمام الشافعي والإمام أحمد، وعَدّوه من السني لأنهم كرهوا أن يكون ثلاثًا دفعة واحدة أو اثنتين، ولكنه يوصف أنه سني.
قال الإمام أبو حنيفة والإمام مالك: هذا من البدعي، فإن السني أن يطلقها طلقة واحدة فقط لا يزيد عليها.
أما من طلّق بعدد أكثر من الثلاث فهذا بدعي بالاتفاق وهو متلاعب؛ لأن الله لم يملّكه إلا ثلاث فيأخذ لنفسه أعداد من رأسه فيكون كالمناقض للشريعة وكالمستهزيء بآيات الله تعالى فهو يأثم بذلك. ولكن ما ينفذ إلا الذي معه؛ وهو الثلاث اللاتي معه. وعلى هذا جماهير أهل العلم، حتى أن ابن عبد البر قال: لم يشذَّ عن هذا القول إلا من لا يُعتبر قوله، وخالف من لا يمكن اجتماعهم على الخطأ ولا على الجهل بالشرع.
فترتّب بذلك ما أشار إليه الإمام مالك بقوله: "باب مَا جَاءَ فِي الْبَتَّةِ"، ولم يذكر في الحديثين اللذين ذكرهما لفظة الْبَتَّةِ، ولكن ذكر وقوع عدد الطلاق في جملة واحدة وفي دفعة واحدة، هذا هو مذهبه، كما إذا قال: الْبَتَّةِ؛ فعنده أيضًا الإمام مالك معناه ثلاث، إذا طلق زوجته الْبَتَّةِ.
قال الإمام الشافعي: يرجع إلى نيّته؛ إن نوى واحدة فواحدة، وإن نوى اثنتين فاثنتين، وإن نوى ثلاث فثلاث، إذا طلّق زوجته الْبَتَّةِ.
وفي الحديث؛ قالت له بعض النساء: إن زوجي طلقني فَبَتَّ طلاقي، يحتمل أن يكون طلقها بلفظ الْبَتَّةِ، ويحتمل أن يكون قد استكمل ما عليه من العدد، طلّقها ثاني مرة إلى ثالث مرة.
وهذا الطلاق: اسم بمعنى المصدر الذي هو التطليق، مثل السلام: يُراد به التسليم، السراح: يُراد به التسريح، الطلاق كذلك: يُراد به التطليق. فهو في اللغة: حل الوثاق، مشتق من الإطلاق: وهو الإرسال والترك، يقولون فلان طَلْقُ اليد بالخير إذا كان كثير البذل والعطاء. ويطلق في اللغة على رفع القيد، وجعلوا في النسبة للمرأة طلاقًا، في غيرها إطلاقًا، ولهذا؛
إذا قال: أنت مُطَلَّقَة؛ فهذا لفظ صريح يقع به الطلاق.
فإذا قال: أنت مُطْلَقَة إن كان المعنى في اللغة يرجع واحد، لكنه يكون كناية إذا قال أنت مُطْلَقة، إن نوى الطلاق وقع الطلاق، إن لم ينوِ لا.
ولكن إذا قال: مُطَلَّقَة خلاص وقع الطلاق، فجَرَوا به في شأن المرأة مجرى الطلاق، وفي شأن غيرها الإطلاق.
ومع ذلك، إذا جاءت قرينة قوية تدل على أن طلّق أراد به الإطلاق، كأن كانت موثّقة بقيدٍ وحبل، وجاء ففكَّها وقال: قد طلّقتك، وقال: أردت من القيد، فيُقبل قوله بهذه القرينة البالغة القوية، من غير قرينة قوية ما يُقبل قوله، فيقع عليها الطلاق.
بخلاف إذا قال: أطْلَقْتُكِ أو أنت مُطْلَقة، ولم يقل: مُطَلَّقة فهذا ما يتعلق بشأن الطلاق؛
فإذا طلّق مرة وقعت مرة، أو مرتين فاثنتان، أو ثلاثًا وقعت ثلاثًا، وإن كانت بلفظ واحد في مجلس واحد.
وخالف في ذلك الظاهرية والهادوية: فعدّوا إذا كان في مجلس واحد وفي لفظ إذا لم يتخلل بينهما رجعة فهو طلقة واحدة، وإن كان بلفظ الثلاث.
ولكن جماهير الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة: إذا طلق ثلاثًا فثلاث، ولو بلفظ واحد بمجلس واحد، وهو مؤاخذ بلفظه، وإذا طلقها زيادة على الثلاث فهو مجترئ ويقع الثلاث كما سمعنا في الحديث الذي أورده، عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
فيقول: "باب مَا جَاءَ فِي الْبَتَّةِ"؛ أي: أنه إذا قال لامرأته: أنت طالق الْبَتَّةِ، وقلنا أن في قصة رفاعة القرظي وامرأته قالت امرأته للنبي: إن زوجي طلقني فَبَتَّ طلاقي، احتمال أن يكون قال لها: طالق الْبَتَّةِ. وعلمنا ما قال الإمام الشافعي: أنه يرجع إلى ما نوى إذا قال: الْبَتَّةِ، ومذهب الإمام مالك: أن الْبَتَّةِ ثلاث معناها.
وجاء في رواية أبي داود: "أنَّ ركانةَ بنَ عبدِ يزيدَ طلق امرأتَهُ سُهَيْمَةَ ألبتةَ فأخبر النبيَّ ﷺ بذلكَ، فقال: واللهِ ما أردتُ إلا واحدةً، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: واللهِ ما أردتَ إلا واحدةً؟ فقال ركانةُ: واللهِ ما أردتُ إلا واحدةً، فردَّها إليهِ رسولُ اللهِ ﷺ"؛ هنا اعتمد نيته في ذلك، وهذا دليل الإمام الشافعي عليه رحمة الله تبارك وتعالى-
إذًا؛
عند الإمام مالك وربيعة: يقع بها، إذا قال الْبَتَّةِ وقع بها الثلاث.
قالوا: إلا أن يكون في خُلْعٍ فتبقى واحدة، أو على نيته، أو يكون قبل الدخول بها فعندها لا تلحقها الثلاث قبل الدخول بها إذا قال الْبَتَّةِ، وإنما تعتبر واحدة لأنه قبل الدخول بها تَبين منه، لم يعد يستطيع أن يرجع إليها إلا بنكاح جديد، فيكفي الْبَتَّةِ لهذا.
أو كانت بخُلع؛ فينزل منزلة الْبَتَّةِ على الخلع؛ لأنه ما عاد يستطيع الرجوع إليها.
أما إذا لم يكن في خلع وقد دخل بها؛ فإذا قال: الْبَتَّةِ
فهي عند الإمام مالك وربيعة ثلاث.
وعند الإمام الشافعي بحسب نيته.
ويقول سيدنا مالك: "أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ:"، -رضي الله عنهما- وهذا جاء في رواية عبد الرزاق بن أبي بكر ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير وغيره، "أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: إنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي مِئَةَ تَطْلِيقَةٍ"، لا حول ولا قوة إلا بالله! وقال له: "فَمَاذَا تَرَى عَلَيَّ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَلُقَتْ مِنْكَ لِثَلاَثٍ، وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ اتَّخَذْتَ بِهَا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً."؛ أي: فأنت مأثوم على ذلك، اذهب تُبْ بينك وبين الله وخلّص نفسك من قِل أدبك.
قال لك: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ) [البقرة:229]، فكيف تقوم تقول مئة؟ من أين جئت بالمئة؟ لعب؟ مسخرة؟ من أين جئت بها؟! ما لك حق فيها، غاية الأمر هو هذا، فيكون آثمًا فيها.
وإذا قال لها: طلّقتك مائة إلا تسعة وتسعون، فيقول: في رواية عند المالكية عن سحنون يقول: أنه بائن منه بثلاث، وفي الرواية الأخرى: لا يقع عليه إلا واحدة.
فمن جعل لفظ ما زاد على ثلاث؛
ليس له غير حكم الثلاث، ألزمه الثلاث، مثل أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا؛ ما يصح الاستثناء فيه.
من جعل لفظ المئة تأثيرًا جعل لما زاد من الاستثناء على الثلاث تأثيرًا، فمعناه يبقى الاستثناء صحيح، فتبقى طلقة واحدة إذا قال: أنه طلّقها مائة إلا تسعة وتسعين.
ونبّه ابن عباس هذا الرجل وقال له: "وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ اتَّخَذْتَ بِهَا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً"، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!.. والثلاث في القرآن قوله تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ) [البقرة:229]، ثم قال: (فَإِن طَلَّقَهَا)؛ هذه الثالثة، (فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ۗ) [البقرة:230].
فإذا كان البارئ -عزّ اسمه جل وعلا- قد نصّ في كتابه على أن الطلاق ثلاث، ثم طلّق رجل أكثر فقد خالف كتاب الله، استهزأ به والعياذ بالله تعالى، (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ)، بعدين فيها قال: (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ) [البقرة:231]، لهذا قال له: اتخذت بآيات الله هزوًا.
وجاء في رواية الإمام مالك والشافعي وعبد الرزاق وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس: "أَنَّه جَاءه رَجُل قَالَ لَهُ: إنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي ألفًا. فقال: أما ثلاث فتحرم عليك امرأتك، وبقيتهن وزرٌ؛ اتخذت آيات الله هزوًا".
وهكذا؛ جاء في رواية الدارقطني عن عبادة بن الصامت قال: "طلق بعض آبائي امرأته ألفًا، فانطلق بنوه فقالوا: يا رسول الله إن أبانا طلّق أُمّنا ألفًا. فهل له مخرج؟ فقال: إن أباكم لم يتقِّ الله فيجعل له مخرجًا"؛ بانت منه بثلاثًا على غير السُّنّة وتسعمئة وسبع وتسعون إثمٌ في عنقه، إثمٌ في عنقه لأنه لعب بآيات الله.
وجاء أيضًا عن عبادة بن الصامت قال: "طلّق جدي امرأة له ألف تطليقة، فانطلق أبي إلى رسول الله ﷺ فذكر ذلك له، فقال النبي ﷺ: أما اتقى الله جدّك؟ أما ثلاثٌ فله، وأما تسع مئة وسبع وتسعون فعدوان وظلم، إن شاء الله تعالى عذّبه، وإن شاء غفر له"، وهكذا.
إذًا؛
فإذا طلق اثنتين أو ثلاثًا وهو في مجلس واحد وقعت على قول الجمهور.
فإذا طلقها أكثر من ثلاث.. وقعت الثلاث على قول الجمهور كذلك.
وقال من قال: إنها بدعة محرمة، والبدعة مردودة، وعَمِلَ عَمَلْ ليس عليه الأمر فهو رد، وهذا ضعيف؛ لأنه صحّ في الحديث أنه قال له: طَلُقَتْ منه بثلاث؛ خرجت الثلاث عليه.
وقيل إذا طلّق بعدد أكثر من الثلاث؛ وقعت واحدة رجعية وهذا أيضًا ضعيف.
وبعضهم فرّق في هذا بين المدخول بها وغيرها؛ فتقع الثلاث إذا كان مدخول بها، وإن لم يكن مدخول بها فما تكون إلا واحدة.
لكن الجمهور: على وقوع الثلاث، فهو يأثم، ولكن متفقين على وقوع الطلاق عليه، فجماهير العلماء: أن من طلّق امرأته ثلاثًا وقعن وهو يأثم.
ومن أهل العلم من جعل مخالفة هذا القول: شذوذ مخالف للسنة فينبغي الاحتياط.
وروى لنا: "أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي ثَمَانِيَ تَطْلِيقَاتٍ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَمَاذَا قِيلَ لَكَ؟"؛ يعني: بأي شيء أفتاك المفتون؟ "قَالَ: قِيلَ لِي : إِنَّهَا قَدْ بَانَتْ مِنِّي. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: صَدَقُوا"؛ أي: هؤلاء المفتون، "مَنْ طَلَّقَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُ"؛ (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ) [البقرة:229]، "وَمَنْ لَبَسَ"؛ وفي لفظ: "لَبَّسَ"، "عَلَى نَفْسِهِ لَبْساً"؛ أي: اختلط على نفسه خلطًا، طلّق أكثر مما أمر الله به، "جَعَلْنَا لَبْسَهُ مُلْصَقاً بِهِ"؛ ملزمًا به؛ يعني: من تعدّى الواضح من أمر الله في الطلاق لَبَّسَ على نفسه، دخل في أمر ملتبس مشتبه، احتاج المفتي فيه إلى البحث والاجتهاد، فيجعل لبسه به يُخلِّط عليه، "لاَ تَلْبِسُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ"؛ يعني: تخلّطوا عليها فيقع فوق الثلاث، "وَنَتَحَمَّلَهُ عَنْكُمْ"؛ بارتكاب بتأويل بعيد، بل هي بدعة محرمة ويقع الثلاث، "هُوَ كَمَا يَقُولُونَ."؛ كما قال لك المفتون: أنه قد بانت منك ووقعت عليك الثلاث.
جاء في رواية: أنه جاء رجل إلى عبد الله ابن مسعود قال له: إنه طلّق امرأته البارحة ثمانيًا، قال: بكلام واحد؟ قال: بكلام واحد، قال: فيريدون أن يبينوا منك امرأتك؟ قال: نعم، قال: وجاءه رجل فقال: إنه طلّق امرأته مئة طلقة، قال: بكلام واحد؟ قال: بكلام واحد، قال: فيريدون أن يبينوا منك امرأتك؟ قال: نعم، قال: من طلّق كما أمره الله فقد بيّن الله الطلاق، ومن لَبَّسَ على نفسه وَكّلْنَا بِلبْسه، والله لا تُلبِّسُون على أنفسكم ونتحمله نحن، هو كما تقولون؛ خلاص ثلاث ثلاث راحت، والزائد لعبك تأثم به وتحاسب عليه، إما يعذبك أو يعفو عنك، اذهب تُب إليه -جل جلاله وتعالى في علاه- "لاَ تَلْبِسُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَنَتَحَمَّلَهُ عَنْكُمْ، هُوَ كَمَا يَقُولُونَ".
جاء في رواية: أنه قال الرجل لابن مسعود: "إني طلقت امرأتي مئة، قال: بانت منك بثلاث وسائرهن معصية"، وفي لفظ: "عدوان"، وجاء أيضًا أن رجل قال: "كان بيني وبين أهلي كلام فطلقتها عدد النجوم، قال: بانت منك"، ما تكون إلا هي، قال: "لكن إذا نكحت رجلًا غيره ثم بانت من الثاني أو طلقها وانقضت عدتها، جاز أن ترجع إلى الأول؛ لأنه ما له إلا ثلاثًا.
قال: "عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ لَهُ: الْبَتَّةُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهَا؟"؛ قال أبي بكر بن حزم، "قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَقُلْتُ لَهُ كَانَ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ يَجْعَلُهَا وَاحِدَةً."؛ هكذا حكم، "فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَوْ كَانَ الطَّلاَقُ أَلْفاً، مَا أَبْقَتِ الْبَتَّةُ مِنْهُ شَيْئاً"؛ يعني: لو كان له ألف طلقات وقال: البتّة؛ وهو ما يملك إلا ثلاث، لو كانت ألف وقال: البتّة؛ لأتى عليها كلها وانقضت، فكيف بالثلاث؟ يعني: إذا قال البتة؛ فهي ثلاثًا، هذا معنى كلام سيدنا عمر بن عبد العزيز. "مَنْ قَالَ الْبَتَّةَ، فَقَدْ رَمَى الْغَايَةَ الْقُصْوَى."؛ يعني: بلغ أقصى الغايات في الطلاق.
وذكر: "أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، كَانَ يَقْضِي فِي الَّذِي يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ: أَنَّهَا ثَلاَثُ تَطْلِيقَاتٍ."، "قَالَ مَالِكٌ: وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ."؛ وعليه مذهبه، والله أعلم.
الله يحفظ علينا الأدب في الدين ومتابعة سيد المرسلين، والاستقامة على ما يحبّه ويقيم أسرنا على التقوى والصلاح والاستقامة، ويدفع عنا السوء وموجبات الندامة في الدنيا ويوم القيامة، ويعاملنا بفضله ويصلح لنا الشأن كله، بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
24 ربيع الثاني 1443