(364)
(535)
(604)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب النكاح، باب نِكَاحِ الْمُشْرِكِ إِذَا أَسْلَمَتْ زَوْجَتُهُ قَبْلَه.
فجر الثلاثاء 11 ربيع الثاني 1443هـ.
باب نِكَاحِ الْمُشْرِكِ إِذَا أَسْلَمَتْ زَوْجَتُهُ قَبْلَهُ
1570 - حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ نِسَاءً كُنَّ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يُسْلِمْنَ بِأَرْضِهِنَّ، وَهُنَّ غَيْرُ مُهَاجِرَاتٍ، وَأَزْوَاجُهُنَّ حِينَ أَسْلَمْنَ كُفَّارٌ، مِنْهُنَّ بِنْتُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَتْ تَحْتَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، فَأَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَهَرَبَ زَوْجُهَا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنَ الإِسْلاَمِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ابْنَ عَمِّهِ وَهْبَ بْنَ عُمَيْرٍ، بِرِدَاءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أَمَاناً لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَضِىَ أَمْراً قَبِلَهُ، وَإِلاَّ سَيَّرَهُ شَهْرَيْنِ، فَلَمَّا قَدِمَ صَفْوَانُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِرِدَائِهِ، نَادَاهُ عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ هَذَا وَهْبَ بْنَ عُمَيْرٍ جَاءَنِى بِرِدَائِكَ، وَزَعَمَ أَنَّكَ دَعَوْتَنِي إِلَى الْقُدُومِ عَلَيْكَ، فَإِنْ رَضِيتُ أَمْراً قَبِلْتُهُ، وَإِلاَّ سَيَّرْتَنِي شَهْرَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "انْزِلْ أَبَا وَهْبٍ". فَقَالَ: لاَ وَاللَّهِ لاَ أَنْزِلُ حَتَّى تُبَيِّنَ لِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "بَلْ لَكَ تَسِيرُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ". فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قِبَلَ هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ يَسْتَعِيرُهُ أَدَاةً وَسِلاَحاً عِنْدَهُ، فَقَالَ صَفْوَانُ: أَطَوْعاً أَمْ كَرْهاً ؟ فَقَالَ: "بَلْ طَوْعاً". فَأَعَارَهُ الأَدَاةَ وَالسِّلاَحَ الَّتِي عِنْدَهُ، ثُمَّ خَرَجَ صَفْوَانُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ كَافِرٌ، فَشَهِدَ حُنَيْناً وَالطَّائِفَ، وَهُوَ كَافِرٌ وَامْرَأَتُهُ مُسْلِمَةٌ، وَلَمْ يُفَرِّقْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، حَتَّى أَسْلَمَ صَفْوَانُ، وَاسْتَقَرَّتْ عِنْدَهُ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ النِّكَاحِ.
1571 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ بَيْنَ إِسْلاَمِ صَفْوَانَ، وَبَيْنَ إِسْلاَمِ امْرَأَتِهِ نَحْوٌ مِنْ شَهْرٍ.
1572 - قَالَ مَالِكٌ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ امْرَأَةً هَاجَرَتْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَزَوْجُهَا كَافِرٌ مُقِيمٌ بِدَارِ الْكُفْرِ، إِلاَّ فَرَّقَتْ هِجْرَتُهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، إِلاَّ أَنْ يَقْدَمَ زَوْجُهَا مُهَاجِراً، قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا.
1573 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَنَّ أُمَّ حَكِيمٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ عِكْرِمَةَ بْنِ أبِي جَهْلٍ، فَأَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَهَرَبَ زَوْجُهَا عِكْرِمَةُ بْنُ أبِي جَهْلٍ مِنَ الإِسْلاَمِ، حَتَّى قَدِمَ الْيَمَنَ، فَارْتَحَلَتْ أُمُّ حَكِيمٍ حَتَّى قَدِمَتْ عَلَيْهِ بِالْيَمَنِ، فَدَعَتْهُ إِلَى الإِسْلاَمِ فَأَسْلَمَ، وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَامَ الْفَتْحِ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَثَبَ إِلَيْهِ فَرِحاً، وَمَا عَلَيْهِ رِدَاءٌ، حَتَّى بَايَعَهُ، فَثَبَتَا عَلَى نِكَاحِهِمَا ذَلِكَ.
1574 - قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ قَبْلَ امْرَأَتِهِ، وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا، إِذَا عُرِضَ عَلَيْهَا الإِسْلاَمُ فَلَمْ تُسْلِمْ، لأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) [الممتحنة:10].
الحمدُ لله مُكرمِنا بشريعتِه ودينِه، ومُبيِّنِها لنا على لسانِ عبدِه وحبيبِه وأمينِه، سيدِنا مُحمَّدٍ صلى الله وسلم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه، الفائزين بالحظِّ الأوفرِ من الفقهِ بحُسنِ تبيينِه، وعلى مَن تبِعَهم بإحسانٍ صادقًا مخلصًا لمولاه سبحانه وتعالى في ظاهره وبطونِه، وعلى آبائه وإخوانِه من الأنبياءِ والمرسلين وآلِهم وأصحابِهم وتابِعيهم، والملائكةِ المقرَّبين، وعلى جميع عبادِ الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيُواصِل سيدنا الإمامُ مالك -عليه رحمةُ الله تعالى- ذِكرَ الأحاديثِ المتعلِّقةِ بالنِّكاح، ويتحدثُ إذا أسلمَ أحدُ الكافرَينَ مِن الزَّوجين، وتأخَّرَ إسلامُ الآخَر فما حُكمُ ذلك النكاحِ؟ وهل يبقى النكاحُ بينهما؟ أو يُفرِّقُ الإسلامُ بينهما؟
قال: "بابُ نِكَاحِ الْمُشْرِكِ إِذَا أَسْلَمَتْ زَوْجَتُهُ قَبْلَهُ"، فالزَّوجان إذا أسلَما فهما على النّكاح، لا يحتاجان إلى تجديدِ عَقدٍ ولا شيءٍ بعدَ إسلامِهِما فهُما على ما هما عليه، فأنكِحة الكفارِ التي فيها تزويج الرجلِ بالمرأةِ بحسبِ ذلك الأمرِ المُطَّردِ والعُرفِ عندهم أقرَّها الإسلام، ويُقَرُّون عليه إذا أسلموا ما دامت المرأة ممَّن يجوز ابتِداء نِكاحِها في الحال.
فإذا أسلمَ أحدُ الزَّوجين:
إنْ كانا وثَنِيَّين
أو مَجوسِيَّين
أو كتابيًّا تزوجُ بِوَثنِيّة أو مجوسية مثلاً
أي مِلّة غير مِلّةِ أهلِ الكتاب، فإن كان ذلك الإسلام قبلَ الدُّخولِ تعجَّلَت الفرقةُ بينهما مِن حِينِ الإسلام يكون هذا فسخًا؛ ينفسِخ.
وقال الإمامُ أبو حنيفة: إن كانا في أرضِ الإسلامِ، في دارِ الإسلام، فيُعرَضُ الإسلامُ على الآخَر؛ فإن أبَى وقعَت الفرقةُ. وهل هي فسخٌ أو طلاقٌ؟ قال: إن كانت المرأةُ أسلمت والزوج أبَى فهذا طلاقٌ، وإن كان الزوجُ أسلمَ والمرأةُ أبَت فهذا فسخٌ وليس بطلاقٍ.
إذًا:
هذا الحكمُ يُبيِّنه ما جاء في الأحاديث؛ فإذا أسلمَ أحدُ الزّوجَين ثم تبِعه الآخر، إن تبِعه في أيامِ العِدّةِ، لم تنقَضِ بعدُ العِدّة، فيعودان بنفسِ النكاح. فإنْ كانت العِدّةُ قد انقضَتْ فقد فرَّقَ بينهما الإسلامُ. قال تعالى: (فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ ولَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) [الممتحنة:10].
وقيل: إن هذا الحُكم ابتَدأ من بعد صُلح الحديبِية في السنة السادسة من الهجرة النَّبوية، وكان قبل ذلكَ يجوز أن تكون المسلمة مع الكافرِ وأن يكونَ المسلمُ تحتَه الكافرة. ثمّ نُهيَ عن ذلكَ وحُرِّم بهذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ۖ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۚ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ۚ ذَٰلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ ۖ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الممتحنة:10].
يقول: "عن ابنِ شِهابٍ"؛ أي: الزهريّ "أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ نِسَاءً كُنَّ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يُسْلِمْنَ بِأَرْضِهِنَّ، وَهُنَّ غَيْرُ مُهَاجِرَاتٍ، وَأَزْوَاجُهُنَّ حِينَ أَسْلَمْنَ كُفَّارٌ، مِنْهُنَّ بِنْتُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ" المَخزومِيّة؛ أخت سيدِنا خالد بنِ الوليد، يقال: اسمُها فاختة أو عاتكة، أسلمَتْ قبلَ زوجِها بشهرٍ، "وَكَانَتْ تَحْتَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، فَأَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ" وكذلك أمُّ حكيمٍ، كانت عندَ عِكرِمةَ فأسلَمَتا فسبَقتا زَوجيهما إلى الإسلام.
فهذه عاتكةُ أو فاختة بنتُ الوليد أختُ خالدِ بنِ الوليدِ كانت زوجةَ صفوانَ بنِ أميةَ، وتبِعَها بعدَ ذلك في الإسلام، وكان عندَه ستُّ زوجات، فطلَّقَ أمَّ وهبٍ وفاختةَ بنتَ الأسود، واحدةٌ من زوجاته كانت لأبيه لمَّا فرَّقَ الإسلامُ بينهما (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) [النساء:22]، فبقيَ الأربع.
كما أسلمَ مَن أسلمَ وعندَه عشرٌ مِن النّساءِ، قال ﷺ: أمسِكْ عليكَ أربعًا وفارِقْ سائِرَهُنَّ، فإذا عيَّنَ الأربعَ فهُنَّ الذين يبقَين في عقدِه، والباقياتُ يُفسَخُ نِكاحُهن.
"وَكَانَتْ تَحْتَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ" بنِ خلَفِ بنِ وهبٍ الجُمَحيّ، يقال له أبو أمية، ويقال له أبو وهب، صفوانُ بنُ أمية. كان أبوه أميةَ بنِ خلَف قد قُتل ببدرٍ كافرًا -والعياذ بالله تعالى-، وعمُّه أبيُّ بنُ خلَفٍ أيضًا بأثر طعنةٍ مِن رسول الله ﷺ في أُحُد، قُتل أيضًا كافرًا -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. وذلك أنَّ أُبيَّ بنَ خلَفٍ سمع أنّ رسولَ الله يذكرُ أنّه سيقاتلُ المشركون هذا الدِّينَ وسيُقاتلهم عليه، فقال للنبي مُحمَّدٍ: يا محمد، إنَّ عندي فرَسًا أعلِفُه كلَّ يومٍ فرقًا من الشعير أو من البُرِّ، أُعِدُّه لوقتِ القتال لأقتلَك عليه، فكان النبيُّ يُعرِض عنه، فكرَّر الكلامَ على النبيّ، وكلما لقِيَه يقول: أنا أُربِّي هذا الخيلَ وأُقوِّيه من أجلِ أن أقتلكَ عليه، فلما كرَّر الكلامَ وأكثرَه قال ﷺ: بل أنا قاتِلُكَ إن شاء الله.
وانتهت المدةُ وهاجرَ النبيُّ ﷺ، وجاء وقتُ الجهادِ والإذنِ بالقتالِ في سبيل الله، وقُتل أخوه في بدر، وخرج في يوم أُحُد، فلما وقعت الهزيمة بالمسلمين جاء على نفسِ هذا الخيل، ويجيءُ ويقولُ: أين مُحمَّد؟ لا نجوتُ إن نجا، أين مُحمَّد؟… فتعرَّضَ جماعةٌ من الصحابة، فقال ﷺ: خلُّوا عنه، وركبَ على بَغلتِه وقال له: ناولني، كانت حربة مع واحدٍ منهم، قال: ناولني إياها، ناولها وأقبلَ عليه ﷺ فطعنَه في رقَبَته طعنةً سقط مِن على فرَسِه، وأخذ يخورُ كما يخور الثورُ، يبكي ويصيحُ، وجاء المشركون أصحابُه أخذوه، وكانوا يقولون: اسكتْ اسكتْ إيش هذا الصياح، يضحكون عليه، أحدهم يقول: لو كانت هذه في عيني ما أحسستُ بها، عيب عليك تصيح، قال: أبداً، إنّه قال: إنه قاتلي، والله لو بصقَ عليَّ لقتلني. هذا قال لي مِن البداية إنه يقتلني، يعرفون صدقَه ﷺ ويعاندون! وقال: هذه لو كانت على جبلٍ لدكَّتْه، قعد يصيح يخور حتى كان في الطريق فمات. نعوذ بالله. اشتدَّ غضبُ اللهِ على مَن قتلَ نبيًا أو قتلَه نبيٌّ.
ولما جاء الفتحُ هربَ صفوانُ يومَ الفتح، وكان هروبُه من الإسلام، وهم يعلمون أنّه من أسلمَ لا يُقتل، والحكمُ كان مشهور بين الناس، ولكن هربوا من الإسلام، ما يريدون الإسلام. فهرب صفوانُ ثمّ رجع. "وَهَرَبَ زَوْجُهَا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنَ الإِسْلاَمِ"؛ يعني: ليس خوفًا من القتل لأنه لو أسلمَ لم يُقتلْ، ولكن ما يريد الإسلام أصلاً -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. هرب مع غُلامه يُسمى يسار، لمّا علم صفوانُ أنَّ النبيَّ ﷺ أهدرَ دمَه هرب مع عبدٍ له اسمه يسار إلى جدّة، يريد أن يركبَ منها إلى اليمن.
ولم يحصلْ قتالٌ عندَ دخولِ النبيِّ ﷺ مكةَ في عام الفتح، إلا ما كان من سيدِنا خالدِ بنِ الوليدِ لمّا قابلَه بعضُهم وناوَشوه فتقاتلَ معهم، فقُتلَ ثمانيةٌ وعشرونَ، ورجلان من المسلمين، وفرَّ الباقون منهم هذا صفوانُ بنُ أميةَ، تجمَّعوا في مكانٍ أسفلَ مكةَ يقال له الخندمة، ليقاتلوا المسلمين، فقُتل منهم هذا العدد وانهزم الباقون وهربوا. ومنهم الذي رجعَ عند زوجته وهو يرتعد من الخوف، فقالت له: ما لك؟ قال: إنّه جيشُ مُحمَّدٍ، وسكّتها وقال:
أنتِ لو رأيتِ يومَ الخندمة *** إذ فرَّ صفوانُ واصفرَّ عكرمة
لم تنطقي اليوم بأدنى كلمة *** واستقبلتْنا بالسيوفِ المسلمة
يقطعْن كلَّ جمجمةٍ
اسكتي ساكتة.. وروّحت الشجاعة حقهم كلها والعناد، وكلُّ ما كان من أمثال هذه الأشياءِ لها وقت، تنتهي عندما يظهرُ الحقُّ ويريدُ الله -سبحانه وتعالى- بروزَ الهدى ويخذل أهل الباطل.
"فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ابْنَ عَمِّهِ"؛ ابنَ عمِّ صفوان هذا، من أجلِ أن يرى قريبَه ويثقَ به ويسكُنَ أنّه يعرفُ قرابتَه وإشفاقَه عليه، فأرسل إليه ابنَ عمِّه وهو ابنُ عُمير بنِ خلَفٍ الجُمَحي.
وكان هذا وهبُ بن عُميرٍ مِن أحفظِ الناسِ، حتى كانت قريشُ تقول: له قلبان، مِن شدةِ حِفظِه، فأنزل الله: (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَينِ فِي جَوْفِهِ) [الأحزاب:4] لا قلبين ولا شيء، هو قلبٌ واحد، فسبحان الله في الخِلقة قد تتكررُ بعضُ الأعضاءِ عندَ بعضِ الناس، إلاّ القلب، لا يجيء قلبان في جوفٍ واحد، (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَينِ فِي جَوْفِهِ).
ولمّا كانَ يومُ بدرٍ، أقبل هذا وهب بن عُمير منهزمًا ونعلاه واحدةٌ في يده والأخرى في رِجله، قالوا له: ما فعلَ الناس؟ قال: هُزموا، قالوا: أين نَعلاك؟ قال: في رجليَّ، قالوا: فما في يدك؟ وجد وحدة لابسها ووحدة في يده، قال: ما شعرتُ، قالوا: ما له قلبان..، قلبٌ واحد، ما درى بنفسه يومَ وقعت الهزيمة يومَ بدرٍ، رجع بلا عقلٍ.
وبعد هداه اللهُ تعالى إلى الإسلام، وذلك أنّه اجتمعَ مع صفوانَ هذا نفسِه في الحِجر بعدَ غزوةِ بدرٍ، تذكَّروا القتلى، صناديدَهم الذين قتلهم اللهُ في يومِ بدرٍ، قال وهبٌ: لولا دَينٌ عليَّ وعِيالٌ لي لذهبتُ إلى المدينة أتَظاهر بالمخاطبة في ابني، أسير عندهم، وأتمكن من مُحمَّدٍ فأقتله. قال: تفعل ذلك؟ قال: لولا دَينٌ عليَّ وعيالٌ لي، قال: عيالُك عيالي ودَينُك دينٌ عليَّ، وإذا فعلتَ ذلك أنسَيتَنا كربَ يوم بدرٍ وشدَّتَه، قال: فاكتُمْ عليَّ أمري. وسنَّ السيفَ وشحذَه وسمَّه، وضعَ سُمًّا في السيف، وراح إلى المدينة المنورة، أقبل رآه سيدُنا عمرُ: ما جاء هذا بخيرٍ، هذا وجهُ شرٍّ، جاء قال: ما جاء بك؟ قال: جئت أُطالبُكم في ابني عندكم، أخذَ بتلابيبه وأدخله إلى النبي في المسجد، قال: أطلِقْه يا عمرُ، أطلقَه، قال: ما جاء بك يا عمير؟ فذكر عميرُ ابنَه، قال: جئتُ أخاطبُكم في ابني عندكم لأفديه، قال: فما بالُ السيفِ؟ إذا جئتَ تخاطبُنا في ابنكَ فلماذا السيف!.. قال: قبَّحها اللهُ من سيوفٍ، ما أغنتْ عنا يومَ بدرٍ شيئًا! جوابٌ دبلوماسيٌّ على قولهم، قال ﷺ: اصدُقْني أمرَك، قال: ما هو إلا ذاك يا محمد، قال: اصدُقْني، قال: ما هو إلا ذاك، قال: لا، بل جلستَ مع صفوانَ تحتَ الحِجر، وقلتَ: لولا دَينٌ عليَّ وعيالٌ لي لأتيتُ المدينةَ حتى أقتلَ محمدًا، يتلفّت من جاء له بالخبر هذا!.. وقال لك صفوان: إنَّ عيالكَ عيالي ودَينَك دَينٌ عليَّ، تكفَّل لك بدَينك وعيالك، وجئتَ سمَّمتَ سيفك وجئتَ لتقتلَني، واللهُ حائلٌ بينك وبين ذلك. ارتعدَ، قال: والله ما علمَ بهذا إلا صفوان وأنا، مِن أين جئتَ بهذا؟ امدُدْ يدكَ: أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأن مُحمَّداً رسول الله.
وكان صفوانُ في مكةَ يقولُ للناس: سيأتي خبرٌ عن مُحمَّدٍ من المدينةِ يُنسيكم وقعةَ بدرٍ، طال الوقت أين الخبر؟... جاء كان يتلقَّى الرُّكبان الذين يأتون نحو المدينة، قال: أحَدَث شيءٌ؟ يقولون: ما حدث شيء، طال الوقتُ عليه، جاء أناسٌ من المدينة، قال: ما حدث شيءٌ في المدينة؟ قالوا: ما حدث شيء، قال: ما فعل عُمير بن وهبٍ؟ قالوا: أسلم، قال: أسلم!! ما يُسلم، قالوا: اذهب اذهب قد أسلم.
يقول وهب: "فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ابْنَ عَمِّهِ وَهْبَ بْنَ عُمَيْرٍ، بِرِدَاءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ"؛ يعني: أعطاه رداءه ليتحقَّقَ صفوانُ من الكلامِ، من تأمينِ النبيِّ له على حسب عادةِ العرب، يأخذ العلامةَ من المؤَمِّنِ وصاحبِ الأمر، قال: هذه العلامة، هذا رداءُ رسولِ الله لك بالأمان، "وَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَضِىَ أَمْراً" الدعوةَ والدينَ والإسلامَ "قَبِلَهُ، وَإِلاَّ سَيَّرَهُ شَهْرَيْنِ"؛ يعني: قال: امضِ في طريقك، وسِرْ في الأرض آمنًا، ولا يَمسُّكَ أحدٌ مدةَ شهرين، "فَلَمَّا قَدِمَ صَفْوَانُ" جاء لمّا جاء ابنُ عمِّه بالرداء رجع، وجاء إلى النبي ﷺ، "فَلَمَّا قَدِمَ صَفْوَانُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِرِدَائِهِ، نَادَاهُ عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ"؛ يعني: يجهر، من أجل أن يُشهرَ تأمينَه ويعلمَ الناسُ به فلا يتعرَّضَ له "فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ هَذَا وَهْبَ بْنَ عُمَيْرٍ جَاءَنِى بِرِدَائِكَ، وَزَعَمَ أَنَّكَ دَعَوْتَنِي إِلَى الْقُدُومِ عَلَيْكَ، فَإِنْ رَضِيتُ أَمْراً"؛ يعني: الإسلام "قَبِلْتُهُ، وَإِلاَّ سَيَّرْتَنِي" أجرتني أسيحُ في الأرض "شَهْرَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: انْزِلْ أَبَا وَهْبٍ"؛ كِنيَتُه ذا، انزلْ أبا وهب، ففيه جوازُ تَكنيةِ الكافر، كما نقرأ: (تَبَّتْ يَدا أَبِيْ لَهَبٍ وَتَبَّ) [المسد:1] تكنِيَة "فَقَالَ: لاَ وَاللَّهِ لاَ أَنْزِلُ حَتَّى تُبَيِّنَ لِي"؛ يعني: صحةَ ما قال لي هذا، وهبُ بنُ عُمير "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "بَلْ لَكَ تَسِيرُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ" لا شهرين.. كان هذا التأمينَ المشارَ إليه في الآية (فَسِيْحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) [التوبة:2].
"فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قِبَلَ هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ" بعدَ فتحِ مكةَ، ولم يزلْ صفوانُ على كفرِه، "فَأَرْسَلَ إِلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ يَسْتَعِيرُهُ" يطلبُ منه عاريةً بعضَ الدُّروع وأداةَ الحرب، كان عنده منها مجموعة، "فَقَالَ صَفْوَانُ: أَطَوْعاً أَمْ كَرْهاً؟ فَقَالَ: بَلْ طَوْعاً" في لفظ: "بل عاريةٌ مضمونةٌ"؛ نردُّها لك. وفيه: لا يأخذُ المسلمون شيئًا من أدواتِ الكفار إلاّ ما أعطَوه عن رغبةٍ منهم. "فَأَعَارَهُ الأَدَاةَ وَالسِّلاَحَ"؛ ما بين ثلاثين إلى أربعين درعًا، وفي رواية: أنه أعطاه مئة درعٍ بما فيها من السلاح، وحملها إلى أوطاس، ويقال أنّها أربعُ مئة درعٍ بما يُصلِحُها من الأدوات. "ثُمَّ خَرَجَ صَفْوَانُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ كَافِرٌ، فَشَهِدَ حُنَيْناً وَالطَّائِفَ"، فخرج من نفسه ينظر كيف الناس وماذا يعملون، ما منعه من الخروج من دون أن يقاتلَ مع المسلمين، فإنّه ﷺ لم يكن يستعين بمُشرك، "وَامْرَأَتُهُ مُسْلِمَةٌ، وَلَمْ يُفَرِّقْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، حَتَّى أَسْلَمَ صَفْوَانُ"، وقال: قد كان يعطيني وهو مِن أبغضِ الناسِ إليَّ فلقد أعطاني حتى صار أحبَّ الناسِ إليَّ.
ولما رجع النبي ﷺ من الطائف ووصل إلى الجِعِرَّانة بين شِعبٍ مِن شِعابها، وكان مملوء من الجِمال والغنم والبقر، وكان صفوانُ ينظر إليها يتعجَّب، فنظر ﷺ قال: أبا وهب، يعجبُك هذا؟ قال: نعم، قال: وهبتُه لك كلَّها، خذه بين الجبلين، قال صفوان: ما طابت بمثل هذا أحدٌ إلا نفسُ نبيٍّ، فأسلم. "وَاسْتَقَرَّتْ عِنْدَهُ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ النِّكَاحِ" السابق لأنّها لم تزل في العدّة.
إذاً؛ فيتوقَّفُ في عقدِ المرأةِ إذا أسلمتْ وزوجُها كافرٌ،
فإن أسلمَ زوجُها قبلَ أن تنقضيَ عِدَّتُها فبِنفسِ النكاحِ تَرجعُ إليه.
وإن مضت العدةُ ولم يُسلمْ فرّقَ الإسلامُ بينهما.
ويذكر: "كَانَ بَيْنَ إِسْلاَمِ صَفْوَانَ، وَبَيْنَ إِسْلاَمِ امْرَأَتِهِ نَحْوٌ مِنْ شَهْرٍ". أسلمتْ مِن أوّلِ الفتحِ، وإسلامُ صفوانَ بعدها في أوائلِ ذي القِعدة، لأنّه انتهى ﷺ من الجِعِرّانة لخمسِ ليالٍ مضت من ذي القعدة عندما رجع من الطائف.
يقول ابن شهاب: "وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ امْرَأَةً هَاجَرَتْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَزَوْجُهَا كَافِرٌ مُقِيمٌ بِدَارِ الْكُفْرِ، إِلاَّ فَرَّقَتْ هِجْرَتُهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، إِلاَّ أَنْ يَقْدَمَ زَوْجُهَا مُهَاجِراً، قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا".
وذكر: "أَنَّ أُمَّ حَكِيمٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ عِكْرِمَةَ بْنِ أبِي جَهْلٍ، فَأَسْلَمَتْ" مع إسلام زوجةِ صفوانَ نفسِها، بنتِ الوليد فاختة أوعاتكة بنتِ الوليد، وهذه كانت تحتَ عِكرمةَ، أمُّ حكيمٍ تحتَ عكرمةَ بنِ أبي جهلٍ، "فَأَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَهَرَبَ زَوْجُهَا عِكْرِمَةُ بْنُ أبِي جَهْلٍ مِنَ الإِسْلاَمِ، حَتَّى قَدِمَ الْيَمَنَ، فَارْتَحَلَتْ أُمُّ حَكِيمٍ" بعد استِئمانِها لزوجِها عكرمةَ ولدِ أبي جهلٍ، "حَتَّى قَدِمَتْ عَلَيْهِ بِالْيَمَنِ، فَدَعَتْهُ إِلَى الإِسْلاَمِ" بعدما دعتْهُ للرُّجوعِ إلى رسول الله ﷺ "فَأَسْلَمَ، وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ" ولم يزل في مكة في "عَامَ الْفَتْحِ".
وهكذا جاءت الرِّواياتُ، كان كأبيه مِن أشدِّ الناسِ على رسولِ الله ﷺ لمّا كان يومُ الفتحِ أمَّنَ الرسول ﷺ الناسَ إلا نفرًا من الرجال والنساء، منهم عكرمة، هرب عكرمة وركبَ البحرَ يريدُ اليمنَ، أصابها عاصف، قال أصحابُ السفينةِ: أخلِصوا فإنَّ آلهتَكم لا تُغني عنكم ها هنا شيئًا، قال عكرمة: والله لَئِن لم يُنجِني في البحرِ إلا الإخلاص، فلا يُنجيني في البرِّ إلا هو. نُخلصُ الدِّينَ لوجه الله، ما عادت تنفعُ هذ الأصنام. اللهم إن لك عليَّ عهدًا إن عافيتَني مما أنا فيه ونجَّيتَني من الغرق في هذا البحر، أن آتيَ محمدًا حتى أضعَ يديّ في يده، فلَأَجدَنَّه عفوّاً كريمًا. كانوا يعرفون صفاتِ نبيِّنا ﷺ وإنْ كابروا وعاندوا، فجاء وأسلم.
وجاء عن أمِّ سلَمةَ قالت: قال رسول الله ﷺ: رأيتُ لأبي جهلٍ عِذقًا في الجنة! أبو جهلٍ كافر، فرعون هذه الأمة، كيف له عذق في الجنة؟ فلمّا أسلمَ عِكرمة قال: يا أمَّ سلمة، هذا هو، هذا العذق حق أبي جهل الذي في الجنة، ولده الذي أسلم، قال: يا أمَّ سلمة، هذا هو.
فخرجَ إلى المدينة، فقال ﷺ يوم جاء: مرحبًا بالراكب المهاجر. ثم خرج في قتالِ أهلِ الرِّدّة في عهد سيدنا أبي بكرٍ الصديق، وجَّهه سيدُنا أبو بكر إلى جيش نعمان، ظهرَ عليهم، ثمّ إلى اليمن، ثمّ رجع فخرج إلى الجهاد، فاستُشهد بالسهام في خلافة الصدِّيق.
جاء في رواية البيهقيِّ: أنَّ امرأتَه قالت: يا رسول الله، ذهب عنك عكرمة إلى اليمن، وخاف أن تقتلَه، فأمِّنْه، قال: هو آمن. وقد أسلمتْ زوجته، ما ألطفَه ﷺ وما أرأفَه. خرجتْ في طلبِه، أدركتْه وقد ركب سفينةً، راكب السفينة الملَّاح كان يخاطبُهم يقول: أخلِصْ أخلصْ، قال: ما أقول؟ قال: قل: لا إله إلا الله، قال: ما هربتُ إلا من هذا أنا!.. وهذا أمرٌ تعرفُه العرب والعجم حتى النوادي يعرفونَ ما الدِّين إلا ما جاء به مُحمَّد، قال: غيّرَ اللهُ ما في قلبي.
جاءت أمَّ حكيمٍ قالت: يا بن عمّ، جئتُك من عند أبرِّ الناسِ وأوصلِ الناسِ وخيرِ الناسِ، لا تُهلكْ نفسَك، إني قد استأمنْت لك رسولَ الله ﷺ، رجعَ معها جعلَ يطلبُ القُربَ منها فتأبى، قالت: أنت كافر وأنا مسلمة، قال: إن أمرًا منعكِ عني لأمرٌ كبير، ذا دينٌ حقٌّ ذا، فلما وافى مكةَ قال ﷺ: يأتيكُم عكرمةُ مؤمنًا فلا تسبُّوا أباه -أبوه أبو جهلٍ الكافر- فإنَّ سبَّ الميت يؤذي الحيَّ. ما أعظمَ خُلُقَه! وكان مِن أشدِّ الكفارِ على النبي ﷺ، وهو يوقن في قلبه أنّ مُحمَّدًا رسول وصادق ولكنه معاند.
وجاء في روايةِ البيهقيِّ أيضًا يقول: فوقفَ بين يديه ومعه زوجتُه متنَقِّبة فقال: يا مُحمَّد، إنّ هذه أخبرتْني أنَّك أمنْتَني، فقال ﷺ: صدقتْ، فأنت آمِن، قال: إلامَ تدعوني؟ قال: أدعوك أن تشهدَ أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وتقيمَ الصلاة، وتؤتيَ الزكاة، وعدَّ عليه خصالَ الإسلامِ، قال: مُدَ يدكَ، فأسلمَ، "فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ" مقبلًا "وَثَبَ إِلَيْهِ فَرِحًا، وَمَا عَلَيْهِ رِدَاءٌ"؛ أي: سقطَ رداؤه ﷺ بالاستعجال بالقيام، وذلك من حرصه على دخول النّاسِ في الإسلام، ﷺ رحيمٌ بعباد الله، يفرح بخروجهم من النار إلى الجنة، وإنقاذهم من العذاب والنار.
"حَتَّى بَايَعَهُ"؛ قال عكرمةُ: لما انتهيتُ إلى رسول الله ﷺ قلتُ: يا مُحمَّد، هذه أخبرتْني أنَّك آمنْتَني، قال ﷺ: أنت آمن، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك عبدُ الله ورسولُه، وأنتَ أبرُّ الناس وأصدقُ الناس وأوفى الناس، قال عكرمة: إني أقول ذلك وإني لمُطأطِئٌ رأسي استحياءً منه، كم سببْناهُ وكم آذيناه وكم حاربناه وقاتلناه وتكلَّمنا عليه وادَّعَينا وبَهتْنا، واليوم يتمكّنُ منا ويقابلُنا بهذا ويعاملُنا بهذه المعاملة! يقول: أنت أبرُّ الناس وأصدقُ الناس وأوفى الناس، قال: أقول وأنا مُطأطِئٌ رأسي استحياءً منه. ثم قلت: يا رسول الله، استغفرْ لي كلَّ عداوةٍ عاديْتُكَها أو موكبٍ أوضعتُ فيه أردتُ فيه إظهارَ الشِّرك، فقال ﷺ: اللهم اغفرْ لعكرمةَ كلَّ عداوةٍ عادانيها أو موكبًا أوضع فيه يريد الصدَّ عن سبيلك، قلت: يارسول الله، مُرْني بخيرِ ما تعلم، قال: قل أشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدُه ورسوله، وتجاهدُ في سبيله، قال عكرمة: أمَا والله يا رسول الله، لا أدَعُ نفقةً كنتُ أُنفقُها في الصدِّ عن سبيل الله إلا أنفقتُ ضِعفَها في سبيل الله، ولا قاتلتُ قتالاً في الصدِّ عن سبيلِ الله إلا أبليتُ ضِعفَه في سبيل الله.
ثمّ اجتهدَ في القتالِ، ولم يزلْ حتى كان يومُ أجنادين في خلافةِ سيدِنا أبي بكر، فقُتل شهيداً عنايةً من الله. قال لأمِّ سلَمة: رأيتُ عذقًا لأبي جهلٍ في الجنة، كيف عذق لأبي جهل وأبو جهلٍ فرعونُ هذه الأمة؟ لمّا أسلمَ عكرمةُ قال لها: هذا هو، هذا العذق.
قال: "فَثَبَتَا عَلَى نِكَاحِهِمَا ذَلِكَ"؛ يعني: أمَّ حكيم زوجتَه، لأن زوجَها أسلمَ وهي في العدة، فردَّها ﷺ بنفسِ النكاح الذي كان في الجاهلية.
"قَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ قَبْلَ امْرَأَتِهِ، وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا، إِذَا عُرِضَ عَلَيْهَا الإِسْلاَمُ فَلَمْ تُسْلِمْ، لأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) [الممتحنة:10]."؛ يعني: عصمة؛ وهو: النكاح،
فإذا أسلم قبلَ الزوجة:
فإن كانت الزوجةُ كتابيةً أُقرَّ عليها، يجوزُ نكاحُ الكتابية.
وإن كانت غيرَ كتابيةٍ فإنَّه يتربَّصُ بها، إذا مضت العدةُ ولم تُسلم فقد بانت منه.
عدَّه أبو حنيفةَ طلاقًا وعدَّه غيرُه أنه فسخٌ، والله أعلم.
الله ينظر إلينا والمسلمينَ، ويكشف الكربَ عنّا والمسلمين، ويثبِّتنا على الحقِّ واليقين، ويملأ قلوبَنا بمحبَّته ومحبةِ رسوله المصطفى حتى نعيشَ باقي لحظات أعمارِنا واللهُ ورسوله أحبُّ إلينا مما سِواهُما، ونُتوفَّى على كمالِ المحبة لله ولرسوله، نحبُّ لقاءَ الله ويحبُّ اللهُ لقاءَنا، ويرزقنا صرفَ جميعِ طاقاتِنا وأموالِنا وأحوالِنا في نصرتِه ونصرةِ رسوله الأمين ﷺ، والوفاءِ بعهدهِ الذي عاهدنا عليه في عباده على الوجهِ الأحبِّ إليه في لطفٍ وعافية بسر الفاتحة وإلى حضرة النبي ﷺ.
12 ربيع الثاني 1443