شرح الموطأ -283- كتاب النكاح: باب ما جاء في كراهية إصابة الأُختَيْن بِمِلْكِ اليَمِين، والمرأة وابنتها

شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب النكاح، باب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ إِصَابَةِ الأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَالْمَرْأَةِ وَابْنَتِهَا، وباب النَّهْيِ عَنْ أَنْ يُصِيبَ الرَّجُلُ أَمَةً كَانَتْ لأَبِيهِ.
فجر الأربعاء 5 ربيع الثاني 1443هـ.
باب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ إِصَابَةِ الأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَالْمَرْأَةِ وَابْنَتِهَا
1546 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ وَابْنَتِهَا مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ، تُوطَأُ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الأُخْرَى؟ فَقَالَ عُمَرُ: مَا أُحِبُّ أَنْ أَخْبُرَهُمَا جَمِيعاً. وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ.
1547 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ عَنِ الأُخْتَيْنِ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ، هَلْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ، وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، فَأَمَّا أَنَا، فَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَصْنَعَ ذَلِكَ.
قَالَ: فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَقِىَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ لِي مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ، ثُمَّ وَجَدْتُ أَحَداً فَعَلَ ذَلِكَ، لَجَعَلْتُهُ نَكَالاً.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أُرَاهُ عَلِيَّ بْنَ أبِي طَالِبٍ.
1548 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ مِثْلُ ذَلِكَ.
1549 - قَالَ مَالِكٌ فِي الأَمَةِ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ فَيُصِيبُهَا، ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُصِيبَ أُخْتَهَا: إِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لَهُ، حَتَّى يُحَرِّمَ عَلَيْهِ فَرْجَ أُخْتِهَا، بِنِكَاحٍ، أَوْ عِتَاقَةٍ، أَوْ كِتَابَةٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، يُزَوِّجُهَا عَبْدَهُ أَوْ غَيْرَ عَبْدِهِ.
باب النَّهْيِ عَنْ أَنْ يُصِيبَ الرَّجُلُ أَمَةً كَانَتْ لأَبِيهِ
1550 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهَبَ لاِبْنِهِ جَارِيَةً، فَقَالَ: لاَ تَمَسَّهَا فَإِنِّي قَدْ كَشَفْتُهَا.
1551 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُجَبَّرِ أَنَّهُ قَالَ: وَهَبَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لاِبْنِهِ جَارِيَةً لَهُ، قَالَ: لاَ تَقْرَبْهَا، فَإِنِّي قَدْ أَرَدْتُهَا، فَلَمْ أَنْبَسطْ إِلَيْهَا.
1552 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ أَبَا نَهْشَلِ بْنَ الأَسْوَدِ قَالَ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: إنِّي رَأَيْتُ جَارِيَةً لِي، مُنْكَشِفاً عَنْهَا وَهِيَ فِي الْقَمَرِ، فَجَلَسْتُ مِنْهَا مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنِ امْرَأَتِهِ، فَقَالَتْ: إنِّي حَائِضٌ، فَقُمْتُ فَلَمْ أَقْرَبْهَا بَعْدُ، أَفَأَهَبُهَا لاِبْنِي يَطَؤُهَا، فَنَهَاهُ الْقَاسِمُ عَنْ ذَلِكَ.
1553 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أبِي عَبْلَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: أَنَّهُ وَهَبَ لِصَاحِبٍ لَهُ جَارِيَةً، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: قَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَهَبَهَا لاِبْنِي فَيَفْعَلَ بِهَا كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَمَرْوَانُ كَانَ أَوْرَعَ مِنْكَ، وَهَبَ لاِبْنِهِ جَارِيَةً، ثُمَّ قَالَ: لاَ تَقْرَبْهَا، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ سَاقَهَا مُنْكَشِفَةً.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مكرمنا بشريعته البيّنة، وحسن بيانها على لسان عبده وحبيبه المصطفى محمد صلى الله وسلم وبارك وكرم عليه، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار معادن الأنوار، ومن تبِعهم بإحسان وعلى منهاجهم سار من أهل النفوس المطمئنة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين الذين جعلهم الله بالدلالة عليه الماسكين لأعزِّ الأعِنّة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقرّبين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم وجَمعنا بهم في أعلى الجنة.
وبعدُ،
فيواصل سيدنا الإمام مالك -عليه رحمة الله- ذكر الأحاديث المتعلقة في الشريعة الغرّاء بالنكاح، قال: "باب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ إِصَابَةِ الأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَالْمَرْأَةِ وَابْنَتِهَا". وقد تقدم معنا ذكر ما حرّم الله -تبارك وتعالى- من الجمع بين الأختين، وأن ذلك أيضًا ممتد إلى الجمع بين:
-
المرأة وخالتها
-
والمرأة وعمتها
-
والمرأة وابنة أختها
-
والمرأة وابنة أخيها
وسواءً كان:
-
بنسب
-
أو رَضاع
-
أو مصاهرة
كل امرأتين لو قُدّر أن أحدهما ذَكَرًا لم يَجُزْ أن تنكح الأخرى فلا يجوز الجمع بينهما في عقدٍ واحد، وهذا من الأمر المُجمع عليه. ثم الوطء كذلك بملك اليمين من غير النكاح ومن غير الزواج، قال تعالى: (إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) [المؤمنون:6]، فالوطء بملك اليمين أيضًا إذا وطىء من جواريه واحدة له مُلكٌ لأختها، أو لعمتها، أو لخالتها، أو لابنة أخيها، أو لابنة أختها؛ فلا يجوز له أن يطأ الثانية ما دام قد وطئ هذه، ولا يجمع بينها وبين من لا يجوز الجمع بينهما في عقدٍ ونكاحٍ واحد.
أما في ملك اليمين يجوز أن يملك أخوات، وأن تكون عنده أَمَةٌ ووطِئَها بملك اليمين، ثم يشتري أختها أو عمّتها أو خالتها، فجمعهنّ في ملك اليمين لا ضرر فيه ولا تحريم فيه ولا نهي عنه، ولكن عن الوطء، ولهذا عبّر الإمام مالك فقال: "باب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ إِصَابَةِ الأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَالْمَرْأَةِ وَابْنَتِهَا"؛ فذلك لا يجوز.
إذًا؛ فعلمنا الجمع في الملك جائز بغير خلاف، ولكن في الوطء لا يجوز، لا يجوز الجمع بين الأختين من الإماء في الوطء، وكذلك بين المرأة وابنتها والمرأة وعمتها والمرأة وخالتها وكل المحارم، وإذا كان في ملكه أختان أو أخوات؛ فله وطء واحدة فقط.
وجاء عن الحكم وحمّاد: أنه إذا كان عنده أخوات، جارية وابنتها أو جارية وعمتها، أنه لا يقرب أحد مِنهُنّ.
ولكن قال جمهور العلماء: لا، بل يجوز له أن يقرب واحدة، فإذا قرب واحدة فلا يجوز له أن يأتي من يحرم الجمع بينها وبينها، إلا أن يبيع تلك الأولى فتحرم عليه، أو يزوّجها غيره بعد استبرائها منه فتحرم عليه، أما مجرد استبرائه منها فقط؛ فذلك عند أكثر العلماء لا يجيز له أن يطأ الثانية -التي لا يجوز الجمع بينهما- كما أنه إذا قال: أنا حرّمت هذا على نفسي؛ لا ينفع ولا يفيده أن يطأ الأخرى حتى تحرُم عليه. تحرم عليه لا بحليفٍ منه ولا بتحريمه على نفسه، ولكن بتزويجها غيره أو خروجها عن ملكه؛ فحينئذٍ يجوز له أن يقرب الأخرى، لأن تلك قد حَرُمت عليه.
فقبل تحريم الموطوءة لا يجوز له أن يطأ ابنتها ولا عمتها ولا خالتها ومن لا يجوز الجمع بينهما. وإذا أخرجها عن ملكه وباعها فينبغي أن ينتظر، فلا تحلُّ له أختها حتى يستبرئ المُخرَجة، ويعلم براءتها من الحمل. إذًا؛ فإذا قَرُب واحدة، فالثانيات ممن يحرم الجمع بينها وبينها، محرّمات عليه حتى تَحرُم عليه تلك الأولى.
يقول: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنِ الْمَرْأَةِ وَابْنَتِهَا مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ، تُوطَأُ إِحْدَاهُمَا بَعْدَ الأُخْرَى؟ فَقَالَ عُمَرُ : مَا أُحِبُّ أَنْ أَخْبُرَهُمَا"، وفي نُسخٍ: "مَا أُحِبُّ أَنْ أُجيْزَهُما"، "جَمِيعاً. وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ." أي: نَهْيَ تحريم.
وجاء عن عثمان بن عفان: "عَنِ الأُخْتَيْنِ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ، هَلْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ، وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ"، آية التحريم: (وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۖ) [النساء:23-24]، فقوله: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۖ)؛ قال: يُستثنى منه الجمع بين الأختين، والجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: على أن ذلك لا.
ومع ذلك فقال سيدنا عثمان: "فَأَمَّا أَنَا، فَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَصْنَعَ ذَلِكَ."؛ يعني: الجمع بين الأختين بملك اليمين، لتعارض الدليلين أو على الوجوب عنده لتقديم الحظر والمنع على الإباحة.
"قَالَ: فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَقِىَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ لِي مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ، ثُمَّ وَجَدْتُ أَحَداً فَعَلَ ذَلِكَ، لَجَعَلْتُهُ نَكَالاً."؛ يعني: لعاقبته معاقبة يكون فيها عليه النّكال، حتى تَنْكل الناس عن فعل ما جَعلتُ له جزاءً، فيبتعد الناس عن مثل ذلك.
"قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أُرَاهُ"؛ يعني: الصحابي الذي لقيه، "عَلِيَّ بْنَ أبِي طَالِبٍ."، ولم يصرّح باسمه هاهُنا، لماذا لم يصرّح باسمه؟ "قَالَ: فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَقِىَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ"؛ لأنه كان يجالس ويصاحب عبد الملك بن مروان، وكانوا يستثقلون ذكر سيدنا الإمام علي -كرّم الله وجهه ورضي عنه-، وفي هذا بَليَّةُ تولّي أمر المسلمين غير الأتقياء والأنقياء المُنزّهين في بواطنهم عن الأهواء وعن التحامل على عباد الله -تبارك وتعالى- وكم جلب ذلك من شرورٍ على الأمة؟.. على أنّ الخير في الأمة محفوظ للصادقين والمخلصين في أي شأن كان.
وقد أثنى الله على سيدتنا آسيا بنت مزاحم وضَرَبها مثلًا للمؤمنين، وهي تعيش في قصر فرعون المُدّعي الربوبية والأُلوهية -والعياذ بالله تبارك وتعالى- ولكنها في مسلكها وفكرها ونيّتها وعملها لم تلتفت إليه، ولا إلى زُخرف وغرور قوله، ولا إلى مظهر حكمه وقدرته وسلطانه، (إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم:11]. فلم يَزلْ من أشار إليهم ﷺ مهما كان من انحرافٍ عند الولاة وعند القائمين على أمور المسلمين في أي الأوقات وأي الأماكن، يوجد في الأمة أرباب الإنصاف والاتّصاف بكريم الأوصاف والصدق مع الحق في الظاهر والخافي، والوعي لأسرار الوحي كما جاءت وفَهِمَها مَن قَبلهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، لا يزال في الأمة مَن هو على ذلك الحال.
ولم يزل الأمر أيضًا مَشوبًا ومَخلوطًا بِـوُلاة جَوْرٍ وظلم، وأرباب أهواء مُتزلِّفين إليهم إلى غير ذلك، حتى يأذن الله في آخر الزمان بفرجٍ كبير للأمة يُرجع فيه أمر الحكم الظاهر والخلافة الظاهرة إلى من هم أهلٌ في الخلافة الباطنة، مِن حَملَة السِّر المصون، مما يُمهَّدُ له لسيدنا الإمام المهدي أو لسيدنا عيسى ابن مريم -عليهم السلام-، عند نزوله إلى الأرض وتولّيه أمر الحكم، وتولِيته للصدّيقين والُمقرّبين على الأقطار وعلى الأماكن، فحينئذٍ تكون خير أيام الدنيا بعد أيام نبينا محمد ﷺ أيام عيسى ابن مريم، على نبيّنا وعليه أفضل الصلاة والسلام.
وهذا مراد الله في خلقه، لا يملك أُنسيٌّ ولا جنّي ولا مَلَك أن يُغيره ولا أن يبدّله، لابدَّ أن يَنفُذ في الخلق كما أراد جل جلاله؛ لأنّ الحاكم واحد والمَلِكَ واحد على الحقيقة لا يكون في مُلكِه إلا ما شاء، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
فَعَلِمَ العُقلاء سرَّ حكمة الله تعالى فتأدّبوا مع الله، وقاموا بما يلزمهم مع الله في أي ظرفٍ وفي أي حال بما هو أحق وأطيب، ولم ينازعوا الأمر أهله، ولم يجنحوا إلى الاسترسال مع الأهواء أو التصورات القاصرة الفاسدة التي تُنازل عقول كثير من الناس، وأنه بهذا التصرّف سيغيّر العالم وسَيُطلِّع وسَيُنزِّل ويُحوّل الأحوال، ثم يَتصَكْصَكْ ويَتدَقْدَقْ ويُدقْدِقْ غيره ويُدَقْ، ويجلب لنفسه ولغيره مشاكل وآفات وبلايا وعاهات، ولا نتيجة إلا الأتعاب ومضاعفاتها والمشاكل ومكاثرتها.. وإنا لله وإنا إليه راجعون! ولو اتّبَعَ إرشاد النبوّة لكان أقرب إلى الفُتوّة، وإلى أن تكون المرآة صافية مَجْلُوّة، وإلى أن يغنم الحياة القصيرة لعِمارة الأبد، ولِعمارة الخُلْد الدائم، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ولذا ظهر الجور من ولاةٍ في عهد الصحابة -عليهم رضوان الله تعالى-، وما كان الصحابة بمقصّرين عن النصح إذا وجدوا له السبيل، وما فكّر أحد منهم أن يعمل ثورة -كما يقولون- ولا أن يخرج بمظاهرات، ولا أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، كلهم في أوقاتهم حُكّام جُور موجودين، حُكّام ظلم موجودين، ولكنهم امتثلوا أمر نبيهم ونَفَّذوا ما أرشدهم إليه ودلّهم عليه فَحَفِظُوا علينا هذا الدين وهذا الخير، وأحكام هذه الملّة وهذه الخيرات، ولو دخلوا في الصراع لانقطع عنا السّند، ولا بقيت معرفة بحقائق الدين ولا بقاء له في الأمة، فعليهم رضوان الله وجزاهم عنا خير الجزاء.
ويقول: "أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ مِثْلُ ذَلِكَ".
"قَالَ مَالِكٌ فِي الأَمَةِ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ فَيُصِيبُهَا، ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُصِيبَ أُخْتَهَا: إِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لَهُ، حَتَّى يُحَرِّمَ عَلَيْهِ فَرْجَ أُخْتِهَا، بِنِكَاحٍ، أَوْ عِتَاقَةٍ، أَوْ كِتَابَةٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، يُزَوِّجُهَا عَبْدَهُ أَوْ غَيْرَ عَبْدِهِ."؛ لتكون مُحرَّمة عليه، وهكذا قال عامة الأئمة عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
ولكن قال الإمام أبو حنيفة: لا تحلُّ له أُختها بتزويج السابقة ولا بمكاتبتها. وذكر رواية ابن أبي شيبة عن سيدنا علي: "لَا يَطَأُ الأُخْرَى حتى يُخرِجَها عن مُلْكِه"، أمّا مجرد التزّويج وهي في مُلكِه فهي عُرْضَة لأن ترجع إليه، والمُكاتَبة يمكن أيضًا أن تعجز عن أداء نجوم الكتابة وترجع إليه، يقول: لا يطأ الثانية بتزويجها عند الإمام أبي حنيفة ولا بمكاتبتها.
باب النَّهْيِ عَنْ أَنْ يُصِيبَ الرَّجُلُ أَمَةً كَانَتْ لأَبِيهِ
ويذكر بعد ذلك: أَنْ يُصِيبَ الرَّجُلُ أَمَةً كَانَتْ لأَبِيهِ، "عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهَبَ لاِبْنِهِ جَارِيَةً، فَقَالَ: لاَ تَمَسَّهَا فَإِنِّي قَدْ كَشَفْتُهَا."؛ أي: بيان لعلة منعها على ابنه أن يقربها؛ أنّ والده قد مسّها، وموطوءة الأب حرام على الولد، وعلى ولد الولد، وهكذا.. واختلفوا في مراده بكشفها؛
-
فقال أيضًا الجمهور: أن المراد به أنه وطِئها وجامعها، وعلى ذلك جاء المذهب الشافعي وغيره.
-
وقال الإمام أبو حنيفة: ولو لم يطأها، إذا قد كشفها بملك اليمين ورأى منها ما لا يَحِلُّ أن يراه من المرأة الأجنبية؛ فقد حَرُمت على ولده.
-
وقال الجمهور: لا، حتى يطأها، فإن وطئها؛ فحرمت على ولده.
"قَالَ: لاَ تَقْرَبْهَا، فَإِنِّي قَدْ أَرَدْتُهَا، فَلَمْ أَنْبَسطْ إِلَيْهَا" في رواية، "فَلَمْ أبسط لها" في رواية، وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة -عليه رحمة الله تبارك وتعالى-. كما جاء في بعض أقوال المالكية: أنه يُعَدُّ كالدخول عليها إذا قد اختلى بها وأرخى الستر وإن لم يطأها.
وقال: "عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ أَبَا نَهْشَلِ بْنَ الأَسْوَدِ قَالَ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: إنِّي رَأَيْتُ جَارِيَةً لِي، مُنْكَشِفاً عَنْهَا وَهِيَ فِي الْقَمَرِ، فَجَلَسْتُ مِنْهَا مَجْلِسَ الرَّجُلِ مِنِ امْرَأَتِهِ، فَقَالَتْ: إنِّي حَائِضٌ، فَقُمْتُ فَلَمْ أَقْرَبْهَا بَعْدُ، أَفَأَهَبُهَا لاِبْنِي يَطَؤُهَا، فَنَهَاهُ الْقَاسِمُ عَنْ ذَلِكَ."؛ وجعل ذلك مُحرِّمًا.
"عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: أَنَّهُ وَهَبَ لِصَاحِبٍ لَهُ جَارِيَةً، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: قَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَهَبَهَا لاِبْنِي فَيَفْعَلَ بِهَا كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَمَرْوَانُ كَانَ أَوْرَعَ مِنْكَ، وَهَبَ لاِبْنِهِ جَارِيَةً، ثُمَّ قَالَ: لاَ تَقْرَبْهَا، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ سَاقَهَا مُنْكَشِفَةً".
وينتقل إلى ذكر نكاح أهل الكتاب، وهذه الأبواب كلها نقرأها للاطلاع والتعبّد لأن الواقع لا يوجد فيه شيء من ملك اليمين ولا من الجواري وما إلى ذلك.
رزقنا الله تعظيم شريعته ودينه وحسن متابعة حبيبه وأمينه، والاستقامة على منهجه كما يحبّ الحق تعالى ويرضى به عنا في ظاهر الأمر وبطونه، وكشف الضرَّ عن أمة حبيبه محمد ﷺ، ودفع عنهم شر أهل الحقد والضغينة من الفجّار والكفّار وأعداء الله ورسوله ظاهرًا وباطنًا، ولا بلّغ أولئك المعادين للحق ورسله مرادًا فينا ولا في أحدٍ من أمة حبيبه المصطفى محمد ﷺ، ورزقنا كمال الاستقامة واتحفنا بالمزايا والمواهب والمنن والكرامة، في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة ودار المقامة في جواره ومرافقة عبده المظلل بالغمامة، في لطفٍ وعافية من غير سابقة عذاب ولا فتنة ولا حساب، بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
11 ربيع الثاني 1443