(228)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطهارة، باب إعادة الجُنُب الصلاة، وغسله إذا صلَّى ولم يَذُكر، وغَسْله ثوبَه.
فجر الأحد 5 ذي الحجة 1441هـ.
باب إِعَادَةِ الْجُنُبِ الصَّلاَةَ وَغُسْلِهِ إِذَا صَلَّى وَلَمْ يَذْكُرْ وَغَسْلِهِ ثَوْبَهُ
123- وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَبَّرَ فِي صَلاَةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ أَنِ امْكُثُوا فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ وَعَلَى جِلْدِهِ أَثَرُ الْمَاءِ.
124- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ زُيَيْدِ بْنِ الصَّلْتِ، أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى الْجُرُفِ فَنَظَرَ، فَإِذَا هُوَ قَدِ احْتَلَمَ وَصَلَّى وَلَمْ يَغْتَسِلْ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَانِي إِلاَّ احْتَلَمْتُ وَمَا شَعَرْتُ، وَصَلَّيْتُ وَمَا اغْتَسَلْتُ، قَالَ فَاغْتَسَلَ وَغَسَلَ مَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ، وَنَضَحَ مَا لَمْ يَرَ، وَأَذَّنَ أَوْ أَقَامَ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ ارْتِفَاعِ الضُّحَى مُتَمَكِّناً.
125- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ غَدَا إِلَى أَرْضِهِ بِالْجُرُفِ، فَوَجَدَ فِي ثَوْبِهِ احْتِلاَما، فَقَالَ: لَقَدِ ابْتُلِيتُ بِالاِحْتِلاَمِ مُنْذُ وُلِّيتُ أَمْرَ النَّاسِ. فَاغْتَسَلَ وَغَسَلَ مَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ مِنَ الاِحْتِلاَمِ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ أَنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ.
126- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ صَلَّى بِالنَّاسِ الصُّبْحَ، ثُمَّ غَدَا إِلَى أَرْضِهِ بِالْجُرُفِ، فَوَجَدَ فِي ثَوْبِهِ احْتِلاَماً فَقَالَ: إِنَّا لَمَّا أَصَبْنَا الْوَدَكَ لاَنَتِ الْعُرُوقُ. فَاغْتَسَلَ وَغَسَلَ الاِحْتِلاَمَ مِنْ ثَوْبِهِ، وَعَادَ لِصَلاَتِهِ.
127- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، أَنَّهُ اعْتَمَرَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي رَكْبٍ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَرَّسَ بِبَعْضِ الطَّرِيق، قَرِيباً مِنْ بَعْضِ الْمِيَاهِ، فَاحْتَلَمَ عُمَرُ وَقَدْ كَادَ أَنْ يُصْبِح، فَلَمْ يَجِدْ مَعَ الرَّكْبِ مَاءً، فَرَكِبَ حَتَّى جَاءَ الْمَاءَ، فَجَعَلَ يَغْسِلُ مَا رَأَى مِنْ ذَلِكَ الاِحْتِلاَمِ حَتَّى أَسْفَرَ، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: أَصْبَحْتَ وَمَعَنَا ثِيَابٌ، فَدَعْ ثَوْبَكَ يُغْسَلُ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَاعَجَباً لَكَ يَا عَمْرُو بْنَ الْعَاصِ لَئِنْ كُنْتَ تَجِدُ ثِيَاباً، أَفَكُلُّ النَّاسِ يَجِدُ ثِيَاباً، وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُهَا لَكَانَتْ سُنَّةً، بَلْ أَغْسِلُ مَا رَأَيْتُ وَأَنْضِحُ مَا لَمْ أَرَ.
128- قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ وَجَدَ فِي ثَوْبِهِ أَثَرَ احْتِلاَمٍ، وَلاَ يَدْرِي مَتَى كَانَ، وَلاَ يَذْكُرُ شَيْئاً رَأَى فِي مَنَامِهِ، قَالَ: لِيَغْتَسِلْ مِنْ أَحْدَثِ نَوْمٍ نَامَهُ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ النَّوْمِ، فَلْيُعِدْ مَا كَانَ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ النَّوْمِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّجُلَ رُبَّمَا احْتَلَمَ، وَلاَ يَرَى شَيْئاً، وَيَرَى وَلاَ يَحْتَلِمُ، فَإِذَا وَجَدَ فِي ثَوْبِهِ مَاءً فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ، وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ أَعَادَ مَا كَانَ صَلَّى لآخِرِ نَوْمٍ نَامَهُ، وَلَمْ يُعِدْ مَا كَانَ قَبْلَهُ.
الحمد لله مُكرِمنا بشريعتهِ البيَّنة، وصلّى الله وسلّمَ وباركَ وكرَّم على عبدهِ المُجتبى المُصطفى ذي الصفاتِ والأقوالِ والأفعالِ الحسنة، وعلى آله وأصحابه ومن سارَ في سبيلهِ واتّبع سُننه، وعلى آبائه وإخوانه مِنْ الأَنبياء والمرسلين، من بيَّنوا منهجَ الله لأَتباعهم وسَنَنَه، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكةِ المقربين، وجميعِ عباد الله الصالحين مِنْ كلِ مَنْ قامَ بحقِ الأمانة فيما عليهِ اللهُ ائتمنه، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
ويوالي الشيخ -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ذكرَ الأحاديث المتعلقة بالطهارة والصلاة، ويذكر في هذا الحديث: منْ كَانَ مُحدِثًا وَنَسيَّ الحَدثَ ثُمَّ ذَكَرْ:
وهنا يأتي الاستخلاف إن كان إمامًا، ما بين استحبابه..، فإذا عيَّنَ لهم الإمام مُستخلفا كان إمامًا لهم؛ وإلا فينبغي أن يتقدم أحدهم فينوون الائتمام به، فإذا عيّنه الإمام الذي قَبِلْ لم يحتاجوا إلى أن يستأنفوا النية للإئتمام، فهو مُستخلفٌ مِنْ قِبل الإمام الأول؛ وإلا إذا تقدم من غير أن يستخلفه الإمام.. احتاج المأمومون إلى تجديد النية بقلوبهم في الائتمام بهذا الذي تقدم في باقي الصلاة.
وأوردَ لنا حديث عطاء بن يسار: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَبَّرَ فِي صَلاَةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ.."، وحملوا قوله في هذه الرواية: "كبَّر" على إرادة التكبير. وجاء في بعض الروايات: أنه كبَّر عند إنصرافه؛ أي: كبَّر من دون تكبيرة الإحرام، وذلك لما جاء في الصحيحين: أنهم لمّا استوَوْا للصف و انتظروا أن يكبَّر النبي ﷺ رجع وقال: "مَكَانَكُم" فدخلَ فاغتسل ثمَّ عاد إليهم -عليه الصلاة والسلام- ففيه الدليل على أنه لم يكبَّر بعد، وهذه جاءت في رواية الصحيحين.
ولذا قال الإمام ابن حجر: إمَّا أن تتكررَ الواقعة، وإلا فما في الصحيحين هو المقدم. وأن المراد بقوله "كبَّر" أراد التكبير، أو على الرواية الأخرى: أنه كبَّر غير تكبيرة الإحرام؛ كبَّر عند إنصرافه لهم ذاكرًا لله تبارك وتعالى، وأمرهم أن يبقوا في صفوفهم حتى يأتي. وهذا إذا ذكر المُحدِث حدثه قبل دخول الصلاة كما أشرنا، فعليه أن يذهب فيرفع الحدث ثم يأتي ويصلّي. وما دام الوقت متسعًا فإن كان إمامًا: فالأحبّ أن ينتظره المأمومون حتى يأتي ويصلي بهم، وإلا قدّموا غيره وصلوا، وذلك يتعيّن إذا ضاق الوقت.
"كبَّر" أي: تكبيرة الإحرام، "فِي صَلاَةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ.." هذه رواية الإمام مالك ورواية أبي داود وإبن حِبان. لكن رواية الصحيحين يقول: "حتى إذا قام في مُصلّاه وانتظرنا أن يكبِّر فانصرف" وفي رواية الإمام مسلم: "قبل أن يُكبَّر فانصرف".
إذًا فيتأوّل معنى قوله كبَّر للجمع بين الروايات، وَلِما جاء في الأسانيد الأقوى أنَّ ذلك كان قبل تكبيره ﷺ.
"ثُمَّ أَشَارَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ أَنِ امْكُثُوا"
وفيه الرواية بالمعنى؛ وأنه تلفظ بواحدة من هذه الألفاظ وأشار بيده، فمن ذكر الإشارة اكتفى بأن يذكر لفظًا، ومن ذكر لفظًا فذكره بمعناه. فتعدّد المعنى إلى: "كما أَنتُم" أو "مكَانَكُم" أو "على مكَانِكُم". والمعنى فيه واحد. فوراء هذا تفريعات أو جُزئيّات في الحديث الشريف، ونظر الأئمة واجتهادهُم في حُكِم المُصلَّي إذا أدركَ أو ذكرَ أنَّه كَانَ مُحدثًا، وما إذا كان إمامًا، وما هي صلاة المأمومين خلفهُ.
فأما على الرواية في الصحيحين أنَّه لم يدخل الصَّلاة، فلا إشكال في ذلك ولا فيه اختلاف بين الأئمة وأنه يذهب يتوضأ أو يغتسل ويأتي ويصلِّي؛ ولكن إذا كانت واقعة أخرى، ويكون فيها قد كبَّر و دخل في الصَّلاة، فيكون ناسيًا للحدث، ثم ذكر ذلك بعد أن كان في أثناء الصَّلاة، في وسط الصَّلاة مِنْ بعد التكبير وما وراءه، في أثناء الصلاة، فعندئذٍ يجب عليه الخروج متى ما ذَكرَ الحدث، وأن يذهب فيستأنِف، ولكن المأمومين لا يعلمون بأنَّه مُحدث. والحدث أمرٌ معنوي
وإلا فإن الحدث أمر معنوي لا يُدرك ولا يُرى، فصلاة المأمومين إذًا صحيحة.
فعلى ذلك في قول مالك وأصحابه: في الإمام إذا أحرم بقومٍ فذكرَ أنه جُنب أو على غير وضوء.. يَخرج و يُقدِّم رجلًا يستخلِف عنه؛ فإن خرج ولم يُقدِّم أحدًا قدَّموا لأنفسهم من يتم بهم الصَّلاة، فإن لم يفعلوا أو صلّوا فُرَادى أجْزَأتهم صلاتهم، إلا في الجُمعة؛ الجمعة لا بُدّ أن يصلوها جماعة، فإن انتظروه ولم يقدِّموا أحدًا فسَدَت صلاتُهم، ومن قال إنهم يمكثون حتى يرجع فيُتِم بهم ليس بوجهٍ عنده، إنّما الوجهُ حتى يرجع فيقتدي بهم. هذا عند مالك.
وحديثُ الباب عند الحنفية ليسِ من باب الجنابة، وحملوه على سبق الحدث في الصلاة، وقالوا: من سبقهُ حدثٌ في الصَّلاة فلا بأس أن ينصرف ولا يتكلم فيتوضأ ثم يبني على ما صلَّى. والأفضل أن يتكلم ويتوضأ ويستقبل الصَّلاة من جديد، كما جاء عن أبي حنيفة رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وهكذا يقول الشافعي -عليه رحمة الله-: أنَّ إمام صلَّى ركعةً مثلاً، ثم ذكر أنَّه جُنب، فخرجَ واغتسلَ وأنتظره القوم وبنى على الركعة الأولى فَسَدت عليه صلاتهُ وعليهم؛ لأنهم يأتمون به عالمين أنَّ صلاتهُ فاسدة، وليس لهُ أن يبنيَّ على ركعةٍ صلّاها جُنبًا. وكذلك يقول الحنابلة: لا تصّح الصَّلاة خلف مُحدث ولا مُتَنجس، فإن جَهِل هو ومأمومٌ حتى انقضت صحَّت الصَّلاة للمأموم وحده، وإن علِمَ هو والمأموم فيها أستأنف الصَّلاة فعليه أن يُعيدها من جديد.
فما بين القول بتكرّر الواقعة وأنَّهُ حمل قولهم "كبَّر" على تكبيرة الإحرام، ولكن هذا لا يتأتى مع الأئمة إلا إن حملوا كما حملوا الحنفية على أَّنه سبق حدث، ولم يحملوه على جنابة؛ فرَّقوا بين الحدث وبين أن يكون من الأصل جُنبا فلا يأتي. فإذاً حملُ الحديث في قوله: "كبَّر" على أنها أراد أن يكبِّر يأتي على مذاهب الأئمة كلهم بعد ذلك ولا إشكال فيه أصلا.
ويذكر لنا أيضًا الإمام مالك رضي الله تعالى عنه، أَنَّه عن أبن الصَّلت أَنَّه قال: "خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- إِلَى الْجُرُفِ" وهو مكان على نحو ثلاثة أميال من المدينة، من المدينة إلى جهة الشام ثلاثة أميال يسمونه: الجُرف، وهو الأصل فيه ما جرفته السيول وأكلته، وقيل أنها جمع جِرْفة أو جِرَفة، وكان فيها أموال أهل المدينة، فقال: "فَنَظَرَ" يعني: في ثوبه "فَإِذَا هُوَ قَدِ احْتَلَمَ" أي: رأى أثر المنيّ في الثوب، وهكذا قال فقهاؤنا: من رأى أثر المني في ثوبه، وجب عليه أن يغتسل وأن يقضي ما صلّى من آخر نومةٍ نامها. وكذلك إذا رأوا في فراش لا ينام عليه غيره، فإنَّ هذا دليلٌ واضح أَنَّه خرج منه، فيكون خرج منه وهو لم يشعر ولم يُحسَ بذلك.
وهكذا فيما جاء عن سيدنا عمر عليه رضوان الله تبارك وتعالى: أنه رأى أثر المنيَّ في ثوبه فَعلِم أَنَّه خرجَ منه وهو لم يشعر بذلك؛ فغسل ذلك ثم أعاد الصلاة عليه رضوان الله تبارك وتعالى. "فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَانِي إِلاَّ احْتَلَمْتُ وَمَا شَعَرْتُ"؛ أي: لم يتذكر "وَصَلَّيْتُ وَمَا اغْتَسَلْتُ، قَالَ فَاغْتَسَلَ وَغَسَلَ مَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ، وَنَضَحَ مَا لَمْ يَرَ" فيه أذى؛ لإنَّه شكَّ هل أصابه المنيّ أو لا؟ فرَشَهُ وغَسَله يعني: نضحَ عليه.
وعلى كل الأحوال عند قولٍ عند مالك: أنَّ ما شُك في نجاسته يَطهر بالنضح؛ وما تَيقن من نجاسته فلا بُدَّ من الغَسل. وجميع السائل الخارج من القُبل نجس عند جميع الأئمة إلا المنيّ ففيه خلاف. المنيّ وحده فيه خلاف ، وما عدا ذلك من جميع السوائل فهي نجسة.
وكذلك يقول المالكية فيما شكَّ في إصابة الثوب من النجاسة أنَّهُ يجب فيه النضح، وهذا الذي يأتي عليه الحديث عن سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، نضحَ ما لم يرَ فيه أثر، مبالغة في التنظيف، ويدل على انه ما انتبه، "فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَانِي إِلاَّ احْتَلَمْتُ" فعليه الغسل وهو إجماع. وذلك أنه كما أشرنا سابقًا أنَّهُ قد يحصل خروج المنيّ في النوم من دون رؤيا، وقد يرى وينسى، وعلى كل الأحوال فإذا رأى أثر المنيّ في ثوبه أو على رِجله وَجب عليه أن يغتسل بالاتفاق.
وعلمنا أن مالك وأبو حنيفة قائلينَ بنجاسة المنيّ، لكن كيفية التطهير عند المالكية: بوجوب الغسل إلا ما شك فيه فينُضح. وأما عند الحنفية فإن كان رطبًا فيطهُر بغسله، وإن كان يبس فيطهُر بالفرك، ويطهُر بالحكِ عندهم. وعلمنا المشهور كذلك في رواية الإمام أحمد أنه كالشافعي قال أنهَّ طاهر، أنَّ المنيّ طاهر، وإنَّما يَسُن غسله إن كان رطبًا، وفركه إن كان يابسًا. هذا عند الرواية المشهورة عند الإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله تبارك وتعالى.
وقوله: "وَأَذَّنَ أَوْ أَقَامَ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ ارْتِفَاعِ الضُّحَى مُتَمَكِّناً" يعني قضاء تلك الصلاة، ولم يأمر أحد من الّذين صلوا معه في المسجد أن يقضي الصلاة، ولا أن يَرُدَها. فدل على أنه ليس عليهم شيء، لأن هذا أمر لا يُرى ولا يُعرف من قِبلهم، فأعادَ الصّلاة وحدهُ سيدنا عمر في الجُرف، وولم يُكلم الذين صلّوا معه صلاة الصُّبح أن أعيدوا صلاتكم، فقد صلّى بهم وهو جُنب وهو لا يعلم، وهم لا يعلمون كذلك، فصلَّى بعد ذلك وحدهُ من دونهم، عليهم رضوان الله.
وكذلك يروي عن سيدنا عمر أنّه: "غَدَا" أي: ذهبَ أول النهار "إِلَى أَرْضِهِ بِالْجُرُفِ، فَوَجَدَ فِي ثَوْبِهِ احْتِلاَما" أي: أثره، "فَقَالَ: لَقَدِ ابْتُلِيتُ بِالاِحْتِلاَمِ مُنْذُ وُلِّيتُ أَمْرَ النَّاسِ" وذلك أنه أشتغلَ بأمر الخِلافة فلم يتفرّغ لمجيء أهله ولا النِّساء فكانَ يَكثُرُ منه الاحتلام. وذلك وقد كان يقول: إن نمت بالنهار ضيّعت حق رعيتي، وإن نِمت بالليل ضيعت حق نفسي. فكان ينام غفوات، ما بين ليلٍ ونهار -عليه رضوان الله- أيام خلافته. وقالوا عن عمر بن عبد العزيز من بِعده أنَّه في طيلة السنتين التي تولى فيها الخلافة -سنتين وستة أشهر- لم يَغتَسِل من جنابةٍ إلا مرتين، وإنَّما يغتَسِل الجُمعة ونحوها، ولم يغتَسِل من جنابة بعد أن تولي الخلافة إلا مرتين.
قال: "فَاغْتَسَلَ وَغَسَلَ مَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ مِنَ" أثر "الاِحْتِلاَمِ" وهو: المنيّ، "ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ أَنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ." أي: قضاءً؛ لأنه لم يشعر بذلك إلا بعد طلوع الشمس. وجاء في الرواية الثالثة: "عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ صَلَّى بِالنَّاسِ الصُّبْحَ، ثُمَّ غَدَا إِلَى أَرْضِهِ بِالْجُرُفِ، فَوَجَدَ فِي ثَوْبِهِ احْتِلاَماً فَقَالَ: إِنَّا لَمَّا أَصَبْنَا الْوَدَكَ.." يعني: دسم اللحمَ والشحم "لاَنَتِ الْعُرُوقُ" لمّا كان يطعمهُ الوفود ويأكل معهم إستئلافًا لهم، "..فَاغْتَسَلَ وَغَسَلَ الاِحْتِلاَمَ مِنْ ثَوْبِهِ، وَعَادَ لِصَلاَتِهِ".
ولكن يقول بعض الأئمة الأربعة: أنَّه إن كَانَ الإمام جُنب أو مُحدث وهو ناسي ولم يعلم حتى فرغوا من الصلاة: أنَّ صلاة الإمام باطلة، وصلاتهم صحيحة، إذا لم يعلَم هو لهم، فصلاة الإمام وحده باطلة متى ما ذكر، وصلاة المأمومين صحيحة. كما قد أشرنا إلى ذلك وهو عند عامة الأئمة وأكثرهم.
فيقول سيدنا أبو حنيفة وأصحابه كما رويَّ عن سيدنا علي:
كما رأينا من عمل سيدنا عمر أنَّه لم يأمر أحدًا ولم يُعلم أحدًا من المأمومين ليصلوا معه ولم يأمر أحدًا منهم أن يعيد الصلاة.
وجاءَ أيضًا: "عَنْ يحيى بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، أَنَّهُ اعْتَمَرَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي رَكْبٍ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَرَّسَ بِبَعْضِ الطَّرِيق" يعني: بَاتَ بِبعض الطريقِ، نزل آخر الليل، التعريس: النزول آخر الليل، "قَرِيباً مِنْ بَعْضِ الْمِيَاهِ، فَاحْتَلَمَ عُمَرُ وَقَدْ كَادَ أَنْ يُصْبِح، فَلَمْ يَجِدْ مَعَ الرَّكْبِ مَاءً، فَرَكِبَ حَتَّى جَاءَ الْمَاءَ، فَجَعَلَ يَغْسِلُ مَا رَأَى مِنْ ذَلِكَ الاِحْتِلاَمِ حَتَّى أَسْفَرَ، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: أَصْبَحْتَ وَمَعَنَا ثِيَابٌ، فَدَعْ ثَوْبَكَ يُغْسَلُ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَاعَجَباً لَكَ يَا عَمْرُو بْنَ الْعَاصِ لَئِنْ كُنْتَ تَجِدُ ثِيَاباً، أَفَكُلُّ النَّاسِ يَجِدُ ثِيَاباً" يعني: أنَّ كثير من النَّاس في عهد الصحابة ما يجد إلا ثوب واحد عنده، ما يجد ثوب ثاني، فكان حال كثير من الصحابة هكذا..، فالذي يلبسه والذي في البيت عنده هذا ثوب واحد ليس غيره، وحتى أُمراءهم.
كان لمّا أرسل بعض الأُمراء إلى بعض النواحي إلى حِمص وبعد ذلك جاءَ يتفقدُهم سيدنا عمر، فشكوا إليه أنَّه لا يخرج إليهم يومًا في الشهر، سأله عن ذلك قال: يا أمير المؤمنين عندي ثوب واحد، وأحتاج أغسله في كل شهر، ما أجد غيره، فأبقى في البيت أغسل ثوبي فإذا جفَّ خرجتُ إليهم من آخر النهار. فبقي في الإمارة أشهر وثوبه واحد، يخرج يغسله ويخرج عنده آخر النهار! وهكذا حتى لمَّا كانوا قدَّموا عليه الاعتراضات وسمع جوابه قال: الحمد لله الذي لم يُخيب ظنيّ فيك. وهم يشتكون إليه، قالوا له: إنَّه يخرج إذا تعالى النهار، وأنَّه ينقطِع عنا يومًا في الشهر، وأنَّه لا يُكلِم أحدًا بليل، ما يكلم أحد بالليل، ويوم في الشهر ينقطع عنا، ويخرج إذا تعالى النهار. قال ما بالك؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! هذه الأشياء كنت أخفيها وما أُحب أن تظهر، ولكن إذ شَكَوا بيّ إليك فأقول لك؛ أَمَّا أنّي لا أخرج حتى يتعالى النهار لأنه ليس عندي خادم، وإذا رجعتُ من صلاة الصبح والضحى جئتُ إلى البيت فخبزتُ وعجنتُ، وقد يطحن، يحتاج إلى شيء من الطحن بالرحى، ثم طبخت الطعام لي ولأهلي، ثم أخرج إليهم. لهذا السبب يتأخر ويصلِّح الغداء له ولأهله -عليه الرضوان- .وأمَّا أني لا أكلم أحدًا بليل؛ فقد جعلتُ النَّهار لهم والليل لربي! ..وهل أنا سأُضَيّعُ وقتي كله معهم ليل ونهار! قال وأمَّا أَنَّي لا أخرج يومًا في الشهر فأغسِل ثوبي. ورابع شكوى قالوا: إِنه أحيانًا في المجلس تأخذهُ غَشية ويذهل عما حواليه ثم يرجع، قال أمَّا هذه الغشية فإني حضرتُ مقتل خُبيب حين قدّموه، وصَلّى الركعتين وقال: اللهم بلِّغ نبيَّك عنّي فإني لا أجد أحد يُبلّغ، وأنَّهُ لمَّا سُئل: أتُحب أن تكون بين أهلك وولدك، وأنّ مُحمد مكانكَ يُقتل قال: والله ما أحبُ أن يصيبه في محلّه الذي هو فيه شوكة في رجله وأنّي أُقتل، وأنَّي في أهلي وولدي أحسن لي أن أُقتل. قال: فلا أتذكر هذا الموقف إلا أُغشِيَّ عليّ، أنَّي حضرتُ فيه ولم أنصره، مع أنَّه أيام الكفر كان قبل إسلامه.
وسيدنا عمر قال: الناس كلهم معهم ثياب، الناس قليلة كانت الثياب عندهم، على عكس حال الدواليب اليوم مع الناس هؤلاء، ويعد نفسه فقير وعنده أربعة ثياب وخمسة وستة ويعد نفسه من الفقراء! وهؤلاء، قال له: "أَفَكُلُّ النَّاسِ يَجِدُ ثِيَاباً؟" قال: أنت معك، يا عمرو بن العاص، معك ثياب، كل النَّاس يجدون ثياب؟ ولو كان كل من تنَجّس ثوبه، احتلم، يذهب يلبس ثوب ثاني؟ قال: لا أنا أغسله وأنضحه و أصلي فيه، والناس كثير بلا ثياب، وإلا ستكون سُنة، من تَنَجّس ثوبه يُبعدهُ ويُخَرِجه، من أين يأتي الناس بالثياب؟ فكان هكذا أحوال الرعيل الأول عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
وهكذا "قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ وَجَدَ فِي ثَوْبِهِ أَثَرَ احْتِلاَمٍ، وَلاَ يَدْرِي مَتَى كَانَ، وَلاَ يَذْكُرُ شَيْئاً رَأَى فِي مَنَامِهِ، قَالَ: لِيَغْتَسِلْ مِنْ أَحْدَثِ نَوْمٍ نَامَهُ،" أقرب نوم نامها، آخر نومة نامها قبل أن رأى هذا؛ فإنه من عند ذلك يَعُد أنَّ هذا هو الحدث، وأمّا ما قبل ذلك فلا يدري ويشكُ أنه وقع في شيء، ولا عبرة بالشك. فإذًا آخر نومة نامها إن كان صلَّى بعدها صلاة فيعيد ذلك. "قَالَ: لِيَغْتَسِلْ مِنْ أَحْدَثِ نَوْمٍ نَامَهُ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ النَّوْمِ، فَلْيُعِدْ مَا كَانَ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ النَّوْمِ" النوم الأخير هذا، "مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّجُلَ رُبَّمَا احْتَلَمَ، وَلاَ يَرَى شَيْئاً، وَيَرَى وَلاَ يَحْتَلِمُ، فَإِذَا وَجَدَ فِي ثَوْبِهِ مَاءً فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ" فأما إذا رأى رؤيا ثم لم يجد الماء فلا شيء عليه، ولا يغتسل إلا إذا رأى الماء، وقد يخرج له المنيّ وهو لم ير رؤيا فعليه الاغتسال أيضًا "فَإِذَا وَجَدَ فِي ثَوْبِهِ مَاءً فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ، وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ أَعَادَ مَا كَانَ صَلَّى لآخِرِ نَوْمٍ نَامَهُ، وَلَمْ يُعِدْ مَا كَانَ قَبْلَهُ". قضى صلاة واحدة، وحمل أنَّ هذا في آخر نوم كان له في الليل. وكذلك فيما جاء في خروج المنيّ بسبب الرؤيا للرجل أو المرأة كما يأتي معنا في الحديث، ولكن العبرة بخروج المنيّ لا بمجرد رؤيا، والله أعلم.
رزقنا الله التوفيق و الاستقامة، وأتحَفنا بالمِنن و المواهب و الكرامة، و وفَّر حظنا من هذه الأيام وخيراتها، وجود الله فيها وبركاتها، وجعلنا الله وإياكم ممن ترعاهم عين العناية في جميع الأحوال، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي ﷺ.
07 ذو الحِجّة 1441