شرح الموطأ - 275 - كتاب النكاح: باب استئذان الْبِكْر وَالأيَّم في أنْفُسهما، وباب ما جاء في الصّدَاق والحِباء

شرح الموطأ - 275 - كتاب النكاح، باب استئذان الْبِكْرِ وَالأَيَّمِ فِي أَنْفُسِهِمَا، من حديث: « الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، »
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب النكاح، باب استئذان الْبِكْرِ وَالأَيَّمِ فِي أَنْفُسِهِمَا، وباب مَا جَاءَ فِي الصَّدَاقِ وَالْحِبَاءِ.

فجر الأحد 11 ربيع الأول 1443هـ.

 باب اسْتِئْذَانِ الْبِكْرِ وَالأَيَّمِ فِي أَنْفُسِهِمَا

1497- حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا".

1498- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ إِلاِّ بِإِذْنِ وَلِيِّهَا، أَوْ ذِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا، أَوِ السُّلْطَانِ.

1499- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، كَانَا يُنْكِحَانِ بَنَاتِهِمَا الأَبْكَارَ وَلاَ يَسْتَأْمِرَانِهِنَّ.

قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي نِكَاحِ الأَبْكَارِ.

1500- قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ لِلْبِكْرِ جَوَازٌ فِي مَالِهَا، حَتَّى تَدْخُلَ بَيْتَهَا وَيُعْرَفَ مِنْ حَالِهَا.

1501- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، كَانُوا يَقُولُونَ فِي الْبِكْرِ يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا: إِنَّ ذَلِكَ لاَزِمٌ لَهَا.

باب مَا جَاءَ فِي الصَّدَاقِ وَالْحِبَاءِ

1502 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ، فَقَامَتْ قِيَاماً طَوِيلاً، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا، إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا إِيَّاهُ ؟ » فَقَالَ : مَا عِنْدِي إِلاَّ إِزَارِي هَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ: "إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِيَّاهُ، جَلَسْتَ لاَ إِزَارَ لَكَ، فَالْتَمِسْ شَيْئاً". فَقَالَ : مَا أَجِدُ شَيْئاً. قَالَ: "الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ". فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئاً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ؟" فَقَالَ: نَعَمْ مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا. لِسُوَرٍ سَمَّاهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "قَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ".

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُبيِّن الأحكام على لسان خير الأنام، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله الأطهار وصحبه الكرام أفضل الصَّلاة والسَّلام، وعلى مَن والاهم واتبعهم بإحسان إلى يوم القيام، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين أهل المراتب العِظام، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين ذو الجلال والإكرام.

وبعدُ،

فيواصل الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- في الموطأ ذكر أبواب النِّكاح، وقال في هذا الباب: "باب اسْتِئْذَانِ الْبِكْرِ وَالأَيَّمِ فِي أَنْفُسِهِمَا"، وقابل البِكر بالأيم، مع أن الأيّم في اللغة مَن لا زوج له من ذكر أو أنثى، يقال له: أيّم، ولكن المراد به هنا الثَّيب؛ لأنه في مقابلة البِكر. 

فذكر لنا حديث ابن عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا". والحديث هذا أيضًا جاء في صحيح الإمام مسلم، كما جاء في غيره من كُتب السُّنَّة المُشرّفة، وفيه التَّفرقة بين الأيّم والبِكر. ومن المعلوم أنه إنما يكون النِّكاح بولي وشاهديّ عدل مع الزَّوج والزَّوجة ويكون بينهما الصيغة الصحيحة التي تدُل على المقصود من الإنكاح والتزويج. وبهذا يُتفق على الصحة في عقد النِّكاح إذا تم بولي وشاهدي عدل كما جاءنا في روايات في الأحاديث عنه ﷺ. ومن أهل العلم مَن اشترط الإشهار دون الإشهاد، ومنهم من اشترط الرضى منها والإشهاد من دون الولي، وإذا تم مع الولي والشُّهود فقد صح النِّكاح باتفاق. 

يقول في هذا الحديث: "الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا"، فهل معنى أحق بالإذن والعقد على نفسها؟ 

  • عند الجمهور: هي أحق بالإذن فقط لا بالعقد. 

  • كما هو عند الكوفيين والحنفية أنه أحق بنفسها

 أحق من وليها في الإذن، وعممّه بعضهم كالإمام أبي حنيفة وداود أو أنها أحق بالرضى؛ أي لا تزوج حتى تنطق بالإذن.

مع ما جاء في الحديث من قوله ﷺ: "لا نِكاحَ إلَّا بولي". و(فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ) [النساء:25] إلى غير ذلك (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) [البقرة:232] من الأدلة على اشتراط الولي، وكما هو عند الجمهور أنه لا بُد من الولي. 

"وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا"؛ أي: في أمر نكاحها "وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا"؛ أي سكوتها. لِمَ؟ لغلبة الحياء. فيكفي صماتها، وينبغي أن تُعلم بأن الصمت والسكوت منها إذن، تعلم ذلك، وفيه إقرار النَّبي ﷺ على وصف ذلك الحياء وأن لا تخوض وتنطق وتسترسل المرأة في الكلام عن زواجها، فكان ذلك هو الشأن الأجمل والأكمل في حق الفطرة السلمية والمرتبة الفخيمة للنساء وللرجال. والحياء شُعبة من الإيمان، وما استحسان الخوض وكثرة الحديث إلا مبنية على ذلك التقليد الهابط الساقط على غير بصيرة. 

وهكذا كما سيأتي معنا في ما روى الإمام مالك عن الرعيل الأول، إذ كانوا يختارون لبناتهن الأبكار الأخيار والأكفْاء، ولا يرجعون إليهن في مثل ذلك اعتمادًا على حسن الاختيار وبُعد النظر عند الكبار فيما هو أوفق وأحسن، وإنما يستولي على صغار السِّن مجرد بعض المظاهر أو العادات وما إلى ذلك، ولا تغوص أفكارهم إلى المقاصد الكبرى من الزواج، ولا تمتد أنظارهم إلى عمق المقصود من الزواج، وما يعتد به إلى العمر القصير ومستقبل الأبد في الدار الأخرة، وهذا معنى الميثاق الغليظ الذي سمَّاه الله -سبحانه وتعالى- في كتابه. 

قال: "وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا". مجرد سكوتها وإنما يحملها على السكوت حيائها أن تنطق أو أن تتكلم. وقد كان يشبَّه قوي الحياء بالعذراء في خدرها، وهذا الذي يدعو العقلاء إلى استغراب الأمر في الانفلات الذي حصل في وقتنا وزماننا، وصارت العذراء من أجرأ عناصر المجتمع على الخوض في كل شيء، وعلى الانطلاق في كل شيء، وربما فاقت في تزيّنها على المتزوجات، وربما سابقت إلى الألعاب وإلى الزفين وإلى الترنم بالأغاني في صورة الانحطاط الذي حصل على الأمة، حتى أن سادتنا الصحابة لمَّا أرادوا أن يصوّروا شدة حياء النَّبي ﷺ، قالوا: "كان رسولُ اللهِ ﷺ أشدَّ حياءً من العذراءَ في خِدْرِها"، فلو رأوا العذارى في زمننا لبطل التشبيه ولبحثوا على شيء ثاني يشبهون به حياء النَّبي صلى الله عليه وعلى آله وعلى أصحابه ومَن سار في دربه.

وجاء في رواية البُخاري عن أبي هريرة، "لا تنُكْحَ ُالأيُّم حتى تُستأمر، ولا تنكح البكر حتى تُستَأذن، قالوا: يا رسول الله، فكيف إذنها؟" ما سألوه كيف أذنها إلا لمَا يعلمون من حالاتهم في نفسياتهم وحيائهم وشأنهم. "كيف إذنها يا رسول الله؟" ماذا نقول لبناتنا، كيف نتكلم معهم؟ "قال: أن تسكت"؛ يكفي؛ مجرد سكوتها يكفي. وقال الفقهاء في ذلك: إذا كان ذلك السكوت لا يقترن بعلامة إباء من: بُكاء كثير، ولا تغيُّر وجه، وما إلى ذلك. فإذا اقترن بعلامة أخرى؛ دلّ على أنه ما هذا برضى وإلا فالأصل فيه أن يكفي السكوت. 

  • وهكذا جاء عن الإمام الشَّافعي والإمام أحمد وغيرهم: أن الاستئذان في البكر مأمور به. 

    • فإن كان الولي أب أو جد، كان الاستئذان مندوب ومستحب، ولو زوّجها بغير إذنها لصحّ لكمال شفقته. 

    • وإن كان غير الأب والجد؛ وَجَبَ الاستئذان، ولم يصحّ نكاحها قبله.

  • وهكذا يقول الإمام أبو حنيفة والأوزاعي وغيرهما: يجب الاستئذان في كل بِكر بالغة؛ أي: قد بلغت.

وجاء أيضًا في رواية الترمذي: عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ: "اليتيمةُ تُسْتَأُمَرُ في نفسِها ، فإِنْ صمتَتْ فهو إذنُها ، وإِنْ أبَتْ ، فلا جوازَ علَيْها"؛ اليتيمة التي لا أب لها، فالنكاح موقوف حتى تبلغ؛ لأنه لا يعتبر أذنها حتى تبلغ، فإذا بلغت، فلها الخيار في إجازة النكاح وفسخه. يقول الإمام أحمد: إذا بلغت اليتيمة تسع سنين، فزوّجت، فرضيت؛ فالنكاح جائز ولا يكون لها بعد ذلك خيار. وهكذا قالت السيِّدة عائشة: إذا بلغت الجارية تسعة سنين فهي امرأة. وذلك يختلف أيضًا باختلاف نشأتهن وقوة أجسادهن. 

وهكذا جاءنا الحديث الآخر عن سيِّدنا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله تعالى عنه- قال: "لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ إِلاِّ بِإِذْنِ وَلِيِّهَا"، فلا يجوز أن تنكح نفسها. فإذا رضيت ووافقت على التزويج؛ فلترجع إلى وليّها ليعقد لها، ولا ينكحها من النَّاس مَن ليس بولي لها. فجاء نظر العلماء بعد ذلك:

  • فقال الإمام مالك والإمام الشَّافعي: لا يكون نكاح إلا بولي، وهو شرط في الصحة. 

  • وهكذا وجاء عن الإمام أبي حنيفة، إذا عقدت بغير ولي، وكان كُفء جاز ولكن لابُدَّ من الشُّهود. 

إذًا؛ لا يصح النكاح إلا بولي، هو كذلك عند الأئمة الثلاثة، فلا تملك المرأة تزويج نفسها أصلًا ولا غيرها، ولا يصح لها أن توكّل غير وليها في تزويجها، ولو فعل ذلك لم يصح النكاح.

وعلى ذلك مضى عدد من الصحابة في أقوالهم: كسيِّدنا عُمَر، وسيِّدنا علي، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة. وعليه من التابعين: سعيد بن المُسيب، والحسن البصري، وعُمَر بن عبد العزيز، وجابر بن زيد، والثوري. وعليه من الأئمة: الشَّافعي، وإسحاق، والقاسم بن محمد، وغيرهم. وكذلك يُروى نفس هذا القول عن أبي يوسف. وجاء عن أبي حنيفة: أن لها أن تزوج نفسها وتوكل في النكاح لأن الحق قال: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة:232]. ولكن استدلّ الآخرون بأن الآية تدل على وجوب الوليّ؛ لأنه لو صحّ النكاح من دون أن ترجع إليه فلا معنى للعضل. كيف يعضلها؟ ما يعضلها إلا إذا كان النكاح مرتب عليه ولا يصح إلا به. وهكذا واستدل الجمهور بقوله ﷺ: "لا نكاحَ إلا بوليّ".  وجاء أيضًا عن عائشة، عن النَّبي ﷺ فيما رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما، قال ﷺ: أيما امرأةٍ نُكحتْ بغيرِ إذنِ وليِّها؛ فنكاحُها باطلٌ، باطلٌ، باطلٌ فإنْ أصابها فلها المهرُ بما استحلَّ، هذا جاء في رواية الإمام أحمد وأبي داود. وهكذا جاءت بعد ذلك الإشارات من الآيات الكريمة، وعدد أخرى من الأحاديث الشريفة في اشتراط الولي في الزواج. 

"أَوْ ذِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا"، الرجل من العشيرة ابن عم أو مولى، أنه الأولى في عصبتها "إِلاِّ بِإِذْنِ وَلِيِّهَا، أَوْ ذِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا، أَوِ السُّلْطَانِ" فمَن لا ولي لها، فوليها السلطان -الحاكم- أو مَن أنابه وأقامه الحاكم ليليَ هذه المسائل.

قال: "أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، كَانَا يُنْكِحَانِ بَنَاتِهِمَا الأَبْكَارَ وَلاَ يَسْتَأْمِرَانِهِنَّ"؛ أي ما يرجعون إليهن لما علموا من الحياء عندهن، ومن حسن اختيارهم لهن، وكذلك لما هم أعلم به وأحرص على مصلحة بناتهم رضي الله تبارك وتعالى عنهم."قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي نِكَاحِ الأَبْكَارِ." 

"قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ لِلْبِكْرِ جَوَازٌ فِي مَالِهَا، حَتَّى تَدْخُلَ بَيْتَهَا"؛ يعني لا يجوز لها فيه فعلها ولا عقودها "وَلَيْسَ لِلْبِكْرِ جَوَازٌ فِي مَالِهَا"؛ يعني لا يجوز لها فيه فعلها ولا عقودها "حَتَّى تَدْخُلَ بَيْتَهَا"؛ يعني: بناء زوجها بها. "وَيُعْرَفَ مِنْ حَالِهَا"؛ أي: يعرف رشدها؛ يعني: ما تنقطع عنها البكارة وتصير ثيّب إلا بدخولها إلى بيت زوجها. فعنده إذا خلا بها الزوج صارت ثيّبًا. وقال الجمهور: إنما تصير ثيبًا إذا واقعها زوجها فزالت بكارتها. 

"كَانُوا يَقُولُونَ فِي الْبِكْرِ يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا: إِنَّ ذَلِكَ لاَزِمٌ لَهَا."؛ أي: حق ثابت لا سبيل لها إلى الرجعة فيه من غير المجوّزات التي جاءت في الشرع، فالشريعة دقيقة في رعاية المصالح الدُّنيوية والأخروية، والظاهرة والباطنة. 

 

باب مَا جَاءَ فِي الصَّدَاقِ وَالحِبَاءِ

 

ويتكلم بعد ذلك عن الصِّداق والحِباء؛ وهو معنى الصِّداق. فيقال له: الحِباء، ويقال له: الصَّدُقة (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) [النساء:4]. ويقال له: المهر، إلى غير ذلك من الأسماء التي يسمى بها العِوض في النكاح. ويقال فيه: نِحلة؛ وهو فريضة، وحباء وأجر وعقر وعلائق، وصِداق ومهر إلى غير هذا من الأسماء. وأصل الحباء؛ الإعطاء بلا عوض؛ والمراد هنا ما يشترط من العطاء في النكاح.

قال: "عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ"، قال تعالى: (وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۗ) [الأحزاب:50]. "فَقَامَتْ قِيَاماً طَوِيلاً"؛ يعني: زمانًا، "فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ"؛ وهذا الرجل من الأنصار كما جاء في بعض الروايات، "زَوِّجْنِيهَا، إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ"؛ أي: إذا ما أردتها لنفسك فزوّجني إياها، وهو ﷺ وليّها لعدم وجود الأب لها والولي، ومع كونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ﷺ. "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا إِيَّاهُ؟"؛ أي: تُعطيها إياها مهرًا وصدُقة؟ "فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلاَّ إِزَارِي هَذَا"، رجل فقير معه إزاره. "فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلاَّ إِزَارِي هَذَا"، 

"فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:" ما تصنع بإزارك؟ "إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِيَّاهُ، جَلَسْتَ لاَ إِزَارَ لَكَ"، وإن تركته عليك ما انتفعت به، نريد صداق لها تنتفع به. قال: "إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِيَّاهُ، جَلَسْتَ لاَ إِزَارَ لَكَ"، لم يكن عليك شيء، وإن أخذته منك صرت بلا إزار.. جاء في رواية الطبراني، قال: "والله ما وجدت غير ثوبي هذا أشقه بيني وبينها". قال: "ما في ثوبك فضلٌ عنك".

"فَالْتَمِسْ شَيْئاً". ذهب وبحث.. ما وجد شيء. وفي هذا يقول الإمام الشَّافعي وغيره: أن المهر قد يكون قليلًا وكثيرًا لا حدّ لأقله، ولو مثل الخاتم أو الإزار الزائد وما إلى ذلك. "فَالْتَمِسْ شَيْئاً"، "وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ"، جاء في بعض الروايات. فما تراضوا عليه كان ذلك. قَالَ: "فالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ". فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئاً"،  حتى خاتم من حديد ما حصّل المسكين، ولا خاتم. "فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ؟" فَقَالَ: نَعَمْ مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا"، وجاء في رواية قال له: سورة البقرة، لما ذكر سورة البقرة. قال: عندك سورة البقرة؟ قال: نعم. "فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:  قَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ"؛ أي: جعلت مهرها أجرة التعليم، بدل ما تعطي أجرة تعليم فتعلمها هذه السور التي معك وتحفظها إياها، فيكون هذا مهرها.. سبحان الله! زوجتك بما معك من القرآن.. فإذًا؛ يجوز أن يُصدقها تعليم صناعة أو تعليم شيء من القرآن الكريم أو تعليم أحاديث وما إلى ذلك؛ لأنها منفعة معلومة، فيصح أن تكون صداقًا وعلى ذلك أكثر الأئمة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-، وكره بعضهم أن يجعل القرآن صداقًا ولكنه في الحقيقة في معناه أغلى من كل شيء، ولكن المراد بما يعود بالمنفعة إليها أجرة التعليم، فجعل أجرته من التعليم صداقها، فلا أجرة له فيُعلمها مجانًا.

وذكر عن سيِّدنا عُمَر بن الخطاب قال: أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون، هذا الذي يتمّ به الفسخ، إذا لم يقربها فله حق الخيار في الفسخ، إذا لم يكن يعلم ذلك من قبل، كما سيأتي إن شاء الله معنا في المسائل التي يجوز فيها فسخ النكاح، وما يترتب من الصّداق على الدخول بالمرأة، وأن من طُلِّقت قبل أن يُدخل بها وجب بذل نصف ما سمّي من المهر والصّداق، والله أعلم.

رزقنا الله الاستقامة والتخلق بأحسن الأخلاق، وأصلح الأسر والأهلين والذُّرّية والذوين، وسلك بنا وبهم مسالك الصَّالحات والصَّالحين، وأعاذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن كل سوء أحاط به علم في الدارين، بسر الفاتحة وإلى حضرة النَّبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

18 ربيع الأول 1443

تاريخ النشر الميلادي

24 أكتوبر 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام