(228)
(536)
(574)
(311)
شرح الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الطهارة، تتمة باب العمَلُ في غُسْل الجَنَابة، وباب واجب الغُسل إذا الْتَقَى الْخِتَانان.
فجر الأربعاء 1 ذي الحجة 1441هـ.
باب الْعَمَلِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ
114- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَائِشَةَ سُئِلَتْ عَنْ غُسْلِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَقَالَتْ: "لِتَحْفِنْ عَلَى رَأْسِهَا ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ مِنَ الْمَاءِ، وَلْتَضْغَثْ رَأْسَهَا بِيَدَيْهَا".
باب وَاجِبِ الْغُسْلِ إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ
115- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَعَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ، كَانُوا يَقُولُونَ: "إِذَا مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ"
116- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ،أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ، مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟ فَقَالَتْ: هَلْ تَدْرِي مَا مَثَلُكَ يَا أَبَا سَلَمَةَ مَثَلُ الْفَرُّوجِ يَسْمَعُ الدِّيَكَةَ تَصْرُخُ فَيَصْرُخُ مَعَهَا "إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ"
117- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ أَتَى عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ لَهَا: لَقَدْ شَقَّ عَلَيَّ اخْتِلَافُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ فِي أَمْرٍ، إِنِّي لَأُعْظِمُ أَنْ أَسْتَقْبِلَكِ بِهِ، فَقَالَتْ: مَا هُوَ؟ مَا كُنْتَ سَائِلًا عَنْهُ أُمَّكَ، فَسَلْنِي عَنْهُ، فَقَالَ: الرَّجُلُ يُصِيبُ أَهْلَهُ ثُمَّ يُكْسِلُ وَلَا يُنْزِلُ؟ فَقَالَتْ: "إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ". فَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: لَا أَسْأَلُ عَنْ هَذَا أَحَدًا، بَعْدَكِ أَبَدًا.
118- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، أَنَّ مَحْمُودَ بْنَ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيَّ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، عَنِ الرَّجُلِ يُصِيبُ أَهْلَهُ ثُمَّ يُكْسِلُ وَلَا يُنْزِلُ؟ فَقَالَ زَيْدٌ:يَغْتَسِلُ، فَقَالَ لَهُ مَحْمُودٌ: إِنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ كَانَ لَا يَرَى الْغُسْلَ، فَقَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: "إِنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ نَزَعَ عَنْ ذَلِكَ، قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ"
119- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: "إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ".
الحمد لله مكرمنا بشريعته وكريم مِلَّتِهِ، والمبيِّنِ لنا على لسان خير بريته أحوال دينه وأحكامه المتصلة بفضله وحكمته، اللهم أدم صلواتك على هذا العبد المصطفى سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، ومن سار مقتفيا للآثار على مدى الأعصار، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين معادن الأنوار والأسرار، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيواصل الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- ذِكْرَ الأحاديث المتعلقة بالوضوء والغسل، وكان تقدم معنا في باب العمل في غسلِ الجنابة أحاديث انتهينا منها إلى حديث "أَنَّ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- سُئِلَتْ عَنْ غُسْلِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْجَنَابَةِ، فقالت: لِتَحْفِنْ عَلَى رَأْسِهَا ثَلاَثَ حَفَنَاتٍ مِنَ الْمَاءِ، وَلْتَضْغَثْ رَأْسَهَا بِيَدَيْهَا"، وبينت لهن سنَّةُ الغسل من الجنابة، والحفن: أخذ ملء الكف من الماء؛ فالأخذ بالراحة مضمومة الأصابع يقال له حفن، فلتحفن يعني: تأخذ ثلاث حفنات جمع حفنة، وهي ملء اليد من الماء فتضعها على رأسها، ولتضغث بمعنى: تدلك أو تعالج شعر الرأس باليد عند الغُسل، كأنها تخلط بعضه ببعض، تضغث من أجل وصول الماء إلى منابت الشعر، "وَلْتَضْغَثْ رَأْسَهَا بِيَدَيْهَا" يعني: تخلط بين أجزاء الشعر للتأكد من وصول الماء إلى منابت الشعر.
وإذا كانت المرأة ذات ضفيرة، والماء يتخلل ضفيرتها فيصل إلى أجزاء الشعر؛ فلا يجب عليها أن تنقض شعرها عند الغسل، بل يكفي هذه الحثيات إذا بلت أصول الشعر ووصلت إليه، كذلك يقول الأئمة: ولكن إن كان الشعر متلاصقًا بقوة مشدودًا، بحيث لا يصل الماء إلى باطن الشعر فيجب عليها حينئذ نقض ضفيرتها لوصول الماء إلى جميع أجزاء الشعر وإلى البشرة، فالرجل والمرأة في ذلك سواء، وخُصّّت المرأة في الذكر لأنه في العادة اختصاصها بكثرة الشعر وتطويله. فالنقض للغُسل: نقض شعرها للغسل من الجنابة ما أشرنا إليه. ولا فرق عند الشافعية وبعض الأئمة بين أن يكون الغسل للجنابة والغسل من الحيض. والغسل من الحيض فيه اختلاف في وجوب نقض الشعر مطلقًا، فمنهم من أوجب ومنهم من قال بسنيته.
وجاء في حديث أم سلمة أنها سألت نبينا ﷺ "قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي امْرَأَةٌ أشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي فأنْقُضُهُ لِغُسْلِ الجَنَابَةِ؟ قالَ: لَا". هذا الحديث في صحيح مسلم، فقال الجمهور: لا فرق بين الغسل من الجنابة والغسل من الطهر عن الحيض؛ فالقصد وصول الماء إلى أجزاء الشعر ومنابته، فإن حصل من دون نقض لم يجب النقض وكان مستحبا؛ وإن لم يحصل إلا بالنقض بإن كان شديدا فيجب النقض حينئذ.
ثم ذكر لنا واجب الغسل وموجباته، فذكر لنا عن سيدنا عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعائشة زوج النبي ﷺ أن:
وكذلك يسري حال الإنسان من يقظته إلى نومه، فمن كان يتتبع خواطر السوء وتصورات السوء يرى في نومه فعل السوء، ومن كان متطهرًا في يقظته متيقظا متنبها موجهًا فكره إلى ما هو أرفع وأنفع وأجمع وأحب إلى الرب -جل جلاله- فلا تحصل له المرائي الحرام في نومه، ولا رؤية فعل الحرام في نومه، ومن هنا قالوا: إن خروج المني في النوم إما يأتي بالرؤيا أو بغير رؤيا، ويأتي برؤيا حلال كأن يرى زوجته وأهله، أو برؤيا حرام. وبذلك قالوا: وإن كان من غير رؤيا فليس ذلك بمستحيل أو بممنوع على الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- من غير رؤيا، وأما بالرؤيا فلا يحصل الاحتلام للأنبياء بهذه الرؤيا، ثم إن كان برؤيا حلال كان كرامة مرضية، وإن كان برؤيا حرام فهي عقوبة معجلة، وفي ذلك يقولون:
مَنْ يَحْتَلِمُ بِصُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ ... فَإِنَّهُ كَرَامَةٌ مَرْضِيَّةُ
وَإِنْ يَكُنْ بِصُورَةٍ قَدْ حُرِّمَتْ ... فَهُوَ إذًا عُقُوبَةٌ
تعجيل عقوبة على التصور الحرام أو النظر الحرام أو الفكر الحرام؛ فيرى ذلك في المنام.
أَوْ لَا بِصُورَةٍ فَذَاكَ نِعْمَةُ ... حَكَاهُ زَرُّوقٌ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ
فأحوال الإنسان في يقظته تعود على منامه؛ كذلك عوْدَ أحواله في حياته على حالته عند وفاته، فتكون حالته عند وفاته غالبًا مطابقة لأحواله ووجهاته في خلال الحياة، وفيها الإشارة في الحديث "يموت المرء على ما عاش عليه .."، ولذا تجد ما يغلب على فكر الإنسان هو الذي يراه في المنام، وهو الذي يتكلم به ويخطر عليه إذا أصابته غشية أو أصابه سكر أو أصابه جنون؛ فتراه يتكلم ويهدر بالأشياء التي كانت غالبة على العقل؛ غالبة على ذهنه؛ غالبة على فكره قبل أن يجن، فيمشي نحوها ويتصورها وينصرف إليها، فمن كان مولع قبل جنونه مثلا بالبناء، فتجده إذا جن دائم الوقت وهو يبني مثل البناء ويأخذ أدوات البناء، ويحط الحجر على بعضها البعض، وإن كان معلّق بالنجارة تجده لما هو مجنون يشل الخشب ويجيب مثل المنشار، ودائم الفكر في الأخشاب، وإن كان معلّق قبل جنونه بالتجارة، تراه وهو مجنون يحمل صور الشيكات ويحطها معه ويجيب الأوراق ويصلح حسابات ويطلع خمسة سبعة وعشرة ويجيب.. وهكذا.
وبهذا تعرف أن ما يغلب على الإنسان هو الذي يطرقه حين غشية الموت، فمن كان يغلب عليه في حياته الفكر في الدار الآخرة، فيكون مستعدا لها وعند مجيء الموت يكون على حال حسن وأعلى، وكل ما شغل به الإنسان نفسه من الفكر في عظمة الله ومحبته ومحبة رسولهﷺ، ومن كان ذلك غالب عليه فعند الموت وغشية الموت يذهب مباشرة إلى ذلك فيحب لقاء الله ويحبُ الله لقاءه.
فيجب الغسل بمجرد الجماع حلالًا كان أو حراما، وكذلك بمجرد خروج المني. وجاءت الأحاديث بعد ذلك عن السيدة عائشة باعتبار قربها من النبي ﷺ أنها من أفقه الناس في هذا الأمر، فجاء فيها رواية أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وكذلك روي سؤال من هو أسن منه وأكبر، سيدنا أبو موسى الأشعري للسيدة عائشة -رضي الله عنها- وجعل قولها هو القول الفصل لقربها من النبي ﷺ وهي أعلم بهذه المسائل بسبب دنوها منه، عليه الصلاة والسلام.
فبذلك جاء أن "أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ،أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ، مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟ فَقَالَتْ: هَلْ تَدْرِي مَا مَثَلُكَ يَا أَبَا سَلَمَةَ مَثَلُ الْفَرُّوجِ يَسْمَعُ الدِّيَكَةَ تَصْرُخُ فَيَصْرُخُ مَعَهَا ". الفروج : الفرخ الصغير من الدجاج يتعلم الصراخ عندما يرى الديكة تصرخ، والمعنى: إما أنه يتكلم في المسائل التي ليس له فيها فقه ويبحث كالعلماء بها، وإما أنه كان صغير السن ولا يعرف هذه المسائل وشؤون الجماع، يرى الرجال الكبار يتباحثون فيها فهو يسأل عنها مثلهم، فشبهته بالفروخ يتابع الديكة لما رآها تصرخ يصرخ، سمعهم يقولون يسألون عن هذا وقام هو يسأل عن هذا، فعرضت عليه الكلام والنصح وأجابته عن الجواب، وعرضت عليه الملاحظة، فإما أنه يتكلم في المسائل كلام المشايخ وبحثهم ولم يبلغ مبلغهم، فشبهتهُ بهذا المثل أو كان في أيام الصبا، صغير فسمعهم يتحدثون عن هذه المسائل فسأل عنها، وأجابتهُ السيدة عائشة بقولها: بعد ذلك "إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ"، أي: بمجرد الجماع يكون الغسل واجبا خرج المني أو لم يخرج، وذلك لأنه جاء في الحديث" إنَّما المَاءُ مِنَ المَاءِ"، وقيل إن ذلك منسوخ، وعلى كل سواءٌ أنزل أو لم ينزل إذا جامع وجب الغسل، وكذلك إذا حصل منه خروج المني وجب الغسل.
وسيدنا أبو موسى الأشعري -رضي الله تعالى- عنه يقول: "لَقَدْ شَقَّ عَلَيَّ.." يعني: صعب؛ "اخْتِلَافُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ.." برواية كل منهم لدلائل فيما يتعلق باختلافهم، فكما جاء في صحيح مسلم "اخْتَلَفَ في ذلكَ رَهْطٌ مِنَ المُهاجِرِينَ، والأنْصارِ فقالَ الأنْصارِيُّونَ: لا يَجِبُ الغُسْلُ إلَّا مِنَ الدَّفْقِ، أوْ مِنَ الماءِ. وقالَ المُهاجِرُونَ: بَلْ إذا خالَطَ فقَدْ وجَبَ الغُسْلُ، قالَ: قالَ أبو مُوسَى: فأنا أشْفِيكُمْ مِن ذلكَ فَقُمْتُ فاسْتَأْذَنْتُ علَى عائِشَةَ..".
وجاء رسالة للسيدة عائشة -رضي الله عنها- "فَقَالَ لَهَا: لَقَدْ شَقَّ عَلَيَّ اخْتِلَافُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ فِي أَمْرٍ،إِنِّي لَأُعْظِمُ أَنْ أَسْتَقْبِلَكِ بِهِ.." فإني أكبر وأجل أن أقابلك به، يعني: أستحي أن أتكلم فيه معك، وفيه حياء الصحابة -عليهم الرضوان- وما علمتهم مدرسة النبوة في هذه المجالات، من الحياء والحشمة والبعد عن الخوض، فيما يتعلق بهذه الشؤون مع النساء وما إلى ذلك، عكس مسالك أهل الفسوق والدناءة والهبوط، والذين جاوزوا الأنعام والحيوانات في حياتهم والعياذ بالله -تبارك وتعالى-.
"الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ فِي قَرَنٍ وَاحِدٍ -مقرونان- فَإِذَا سُلِبَ -ذهب- أَحَدُهُمَا اتَّبَعَهُ الْآخَرُ" يذهب الإيمان يذهب الحياء، يذهب الحياء يذهب الإيمان، فما يوجد الإيمان إلا مع وجود الحياء، فالإيمان يوجب الحياء في الحديث "الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ فِي قَرَنٍ وَاحِدٍ -مقرونان- فَإِذَا سُلِبَ -ذهب- أَحَدُهُمَا اتَّبَعَهُ الْآخَرُ" فلما أراد السؤال، وهذا السؤال في الدين، ولا بد منه فقال: "إِنِّي لَأُعْظِمُ أَنْ أَسْتَقْبِلَكِ بِهِ.." يعني: أواجهك بهذا الأمر، لإنهُ مما يستحيى ذكره بمحضر النساء، "فَقَالَتْ: مَا هُوَ؟" يعني: اسأل لا حياء في الدين، "مَا كُنْتَ سَائِلًا عَنْهُ أُمَّكَ، فَسَلْنِي عَنْهُ.." يعني: فعندي أمومة من جهتين؛ من جهة العلم الذي ورثته، ومن جهة زوجيتها للحبيب ﷺ (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) [الأحزاب:6] كما قال تعالى، "فَقَالَ: الرَّجُلُ يُصِيبُ أَهْلَهُ ثُمَّ يُكْسِلُ.. " يعني: لا يخرج منه المني "وَلَا يُنْزِلُ؟ فَقَالَتْ كما جاء في رواية: "علَى الخَبِيرِ سَقَطْتَ" وهذا المثل السائر يعني يذكر في وجود المتعطش المشتاق إلى سماع الخبر لمن يكمله على حقيقته ويعرفه، كان من حكماء العرب إسمه ملك بن جبير العامري كان حكماء العرب، يقول: على الخبير سقطت به كمثل الفرزدق للحسين بن علي -رضي الله عنه- لما قال له ما وراءك قال: على الخبير سقطت، قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية، تقول: له السيدة عائشة، "إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ" يعني الجماع، فقال أبو موسى الأشعري خلاص عرفت الآن الحقيقة من معدنها، فإنما تأتي بهذا الحكم مما سمعته من فم صاحب الرسالةﷺ، ولهذا قال لها: "لَا أَسْأَلُ عَنْ هَذَا أَحَدًا، بَعْدَكِ أَبَدًا". انتهت المسألة، وصلت فيها إلى أصلها وقمّتها وأخذت الأمر من معدنه، فلا أحتاج إلى أقوال أحد. فصارت بالكلام الذي هو في حكم المرفوع؛ لأنه رجوع إليها لمعرفة الأصل من الأصل من رسول الله ﷺ، فكان هذا في حكم المرفوع.
وجاء في رواية أيضا عند مسلم وغيره فقالت: له "قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: إذا جَلَسَ بيْنَ شُعَبِها الأرْبَعِ ومَسَّ الخِتانُ الخِتانَ فقَدْ وجَبَ الغُسْلُ" فكان صريحا في رفعه في رواياتها الأخرى، فهي تتحدث عما سمعت من سيدنا رسول الله ﷺ. وجاء عن "مَحْمُودَ بْنَ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيَّ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، عَنِ الرَّجُلِ يُصِيبُ أَهْلَهُ ثُمَّ يُكْسِلُ وَلَا يُنْزِلُ؟، فَقَالَ زَيْدٌ:يَغْتَسِلُ، فَقَالَ لَهُ مَحْمُودٌ: إِنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ كَانَ لَا يَرَى الْغُسْلَ، فَقَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: "إِنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ نَزَعَ.." يعني: رجع "عَنْ ذَلِكَ، قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ"، ولما تبين له أن الحكم مأخوذ من رسول الله ﷺ.
جاء في رواية ابن أبي شيبة والطبراني، قال: كنت عند ابن عمر قيل له: إن زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد بأنه لا غُسل على من جامع ولم ينزل، قال عمر -رضي الله عنه-: عليَّ به. فأوتي به قال: يا عدو نفسه، أو بلغ من أمرك أن تفتي برأيك، قال: ما فعلت يا أمير المؤمنين وإنما حدثني عمومتي عن رسول الله ﷺ، قال: أي عمومتك؟ قال :أبي بن كعب وأبو أيوب ورفاعة، فالتفت عمر إليه فقال: ما تقول؟ قلت: كنا نفعلها في عهد رسول الله ﷺ، فجمع عمر الناس فاتفقوا على أن الماء لا يكون إلا من الماء إلا علي ومعاذ -رضي الله عنهما- فقالا :إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، فقال عمر: قد اختلفتم وأنتم أهل بدر، فقال علي لعمر: سل أزواج النبي هن أعلم بذلك، فأرسل إلى حفصة فقالت: لا أعلم، فأرسل إلى عائشة، فقالت: "إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ". فتحتم عمر -رضي الله عنه- وقال: لا أوتى بأحد فعله ولم يغتسل إلا أنهكته عقوبة. قال: خلاص يعني تبين الحكم الآن من الأصل والمصدر، وعلمنا أن هذا مأخوذ عن رسول الله، فلا أحد يفتي بغير ذلك، ثاني مرة إذا سمعناك تفتي بمثل هذا سأحضر الدرة -سوط يضرب به- حتى أُأَدِّبَك، فأجمعوا بعد ذلك على وجوب الغسل، ثم سيحدثنا عن الجنب إذا أراد أن ينام أو يطعم قبل أن يغتسل فينبغي أن يستنجي أولا ويتوضأ وسيأتي إن شاء الله معنا.
فقهنا الله في الدين، ورزقنا المتابعة لحبيبه الأمين ووفر حظنا من ليالي العشر، ومن الأيام المعلومات والليالي المباركات بأعظم الحظوظ، وأعلى درجات السيد صالح بن عبدالله المحضار، ورفع له المراتب وتقبل جميع حسناته، وضاعفها إلى مالا نهاية، وتجاوز عن جميع سيئاته، وبدلها إلى حسنات تامات موصلات، وجعل قبره روضة من رياض الجنة، واجعل في وفادته عليه إكراما منه له وجودا عليه يجود به عليه، ويجعله من المكرمين لديه وأن الله -سبحانه وتعالى- يخلفه في أهله وذويه وفينا بالخلف الصالح، وفي المسلمين، ويجمعنا به في أعلى درجات أهل الكرامة، من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب، ويرحم موتانا وأحيانا أجمعين، ويختم لنا بأكمل حسنى وهو راض عنا وإلى حضرة النبي محمدﷺ.
03 ذو الحِجّة 1441