(364)
(535)
(604)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الذبائح: باب مَا جَاءَ فِي التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ، باب مَا يَجُوزُ مِنَ الذَّكَاةِ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ.
فجر الثلاثاء 7 صفر 1443هـ.
باب مَا جَاءَ فِي التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ.
1406- حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ نَاساً مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ يَأْتُونَنَا بِلُحْمَانٍ وَلاَ نَدْرِي هَلْ سَمَّوُا اللَّهَ عَلَيْهَا أَمْ لاَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "سَمُّوا اللَّهَ عَلَيْهَا، ثُمَّ كُلُوهَا".
قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الإِسْلاَمِ.
1407- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَيَّاشِ بْنِ أبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيَّ أَمَرَ غُلاَماً لَهُ أَنْ يَذْبَحَ ذَبِيحَةً، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَذْبَحَهَا قَالَ لَهُ: سَمِّ اللَّهَ. فَقَالَ لَهُ الْغُلاَمُ: قَدْ سَمَّيْتُ. فَقَالَ لَهُ: سَمِّ اللَّهَ وَيْحَكَ. قَالَ لَهُ: قَدْ سَمَّيْتُ اللَّهَ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ: وَاللَّهِ لاَ أَطْعَمُهَا أَبَداً.
باب مَا يَجُوزُ مِنَ الذَّكَاةِ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ
1408- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ, عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَم، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ كَانَ يَرْعَى لِقْحَةً لَهُ بِأُحُدٍ، فَأَصَابَهَا الْمَوْتُ، فَذَكَّاهَا بِشِظَاظٍ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "لَيْسَ بِهَا بَأْسٌ، فَكُلُوهَا".
1409- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ سَعْدٍ، أَوْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَماً لَهَا بِسَلْعٍ، فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا، فَأَدْرَكَتْهَا فَذَكَّتْهَا بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "لاَ بَأْسَ بِهَا فَكُلُوهَا".
1410- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ؟ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِهَا، وَتَلاَ هَذِهِ الآيَةَ: (مَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ) [المائدة:51].
1411- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: مَا فَرَى الأَوْدَاجَ فَكُلُوهُ.
1412- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا ذُبِحَ بِهِ إِذَا بَضَعَ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ إِذَا اضْطُرِرْتَ إِلَيْهِ.
الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته وبيانها على لسان خير بريّته، صلَّى الله وبارك وسلَّم وكرّم عليه وعلى آله وصحابته وأهل ولائه ومتابعته، وآبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين خيرة الحق من الخلق وصفوته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم وعلى الملائكة المُقرّبين وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
فيذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله تبارك وتعالى- الأحاديث المتعلِّقة بالذبائح -جمع ذبيحة-، ويتكلم عن الذّكاة؛ وهي في عُرف الشَّرع إنهاء حياة ما يجوز أكله بطريقة مخصوصة، وإن كان أصل الذَّكاة هي الذَّبح، والتَّذكية كذلك. والذَّكية الذَّبيحة. والأصل في التذكية: إخراج الحرارة الغريزية لكنه خصّ الشَّارع بإزهاق روح الحيوان الذي يجوز أكله بطريقة مخصوصة. ويأتي في الذَّكاة ما يُقال له: الذّبح أو النّحر أو العقر، وما يتسبّب به أيضًا من صيدٍ أو قتل جراد وما إلى ذلك.
يقول: كتاب الذبائح: "باب مَا جَاءَ فِي التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ"؛ وهي قول: بسم الله، ويمكن أن يضيف: بسم الله والله أكبر، أو ذكر اسم من أسماء الله -تعالى- عند الذّبح، لا مجرد دعاءٍ ونحوه ولكن أن يذكر اسم الله -تبارك وتعالى- ليكون ذلك علامة على تنزّهه أن ينوي بالذبح التّقرّب لغير الله -تبارك وتعالى-، وإنما يُنسك ويُذبح لله بحكم ما أباح وشرَع لنا، فلا يُقصد بذلك إلا وجهه. وقد كانوا يذبحون ويتقرَّبون بالذبح إلى أصنامهم وآلهتهم،
وقد أجمع علماء الشَّريعة المُطهرة على أن ما ذُبح باسم صنم أو صليب أو غير ذلك من معبودات الكفَّار فهي حرام، لا يجوز لمسلم أن يطعم شيئًا منها أصلًا.
وإنما الخلاف إذا لم يذكر شيئًا من أسماء الأصنام ولا الآلهة ثم لم يسمِّ الله؛ لم يذكر اسم الله -تبارك وتعالى- سواءً كان من المسلمين أو من أهل الكتاب الذين تحِلّ ذبيحتهم.
وهم من دخل آبائهم في النَّصرانية أو اليهودية قبل النسخ؛ قبل أن تُنسخ؛ يعني: من دخل أوائل آبائهم من اليهود قبل بعثة عيسى بن مريم أو من النَّصارى قبل بعثة نبينا مُحمَّد صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم. هؤلاء أهل الكتاب الذين تجوز ذبائحهم، إذا لم يذكروا عليها اسم الصليب، ولا اسم سيِّدنا المسيح تقرُّبًا إليه دون الله -تبارك وتعالى-، إذا لم يكن منهم ذلك؛ فيجوز لنا أن نأكل ذبائحهم؛ ويجوز لنا أيضًا أن ننكح منهم كما جاء في الآية الكريمة. وأما غيرهم من أصناف الكفَّار من مجوس أو هندوس أو ملحدين -والعياذ بالله تعالى- أو أي نوع من الأديان الأخرى؛ فلا تحل ذبيحتهم قط ولو قال أحدهم عند الذبح بسم الله تغليبًا لدينه؛ فلا يجوز لنا أن نأكل ذبيحته لكونه غير مسلم وليس من أهل الكتاب الذين استثناهم الله تبارك وتعالى.
قال: "باب مَا جَاءَ فِي التَّسْمِيَةِ"، فالتّسمية عند الذبح:
أوجبها الحنفية والمالكية، وقالوا: إن تعمّد ترك التسمية ولو كان مسلمًا؛ فذبيحته لا تؤكل.
وقال الإمام الشَّافعي -وهي رواية عن الإمام أحمد بن حنبل-:
أنه إن كان مسلمًا؛ فيُسنّ له أن يُسمّي الله -تبارك وتعالى- عند الذبح وهي سُنة مؤكدة.
فإن لم يسمِّ الله -تبارك وتعالى-، فإن المسلم لا يذبح إلا لله، ذكر الاسم أو لم يذكره، فلا يتعبد المسلم بذبحٍ لغير الحق -جلّ جلاله- فهي حلالٌ سواء تركها عمدًا أو ناسيًا.
وقال أبو حنيفة والإمام مالك -والرواية عن الإمام أحمد-:
○ أنه إن تركها ناسيًا أو كان هو أخرس من المسلمين؛ فإن ذبيحته جائزة.
○ وإن تركها متعمدًا -تعمّد تركها- فذبيحته حرام ولا يجوز أن يأكل منها.
وجاء أيضًا في رواية عن الإمام أحمد أنه بالنسبة للصيد -سواءً كان ناسيًا أو متعمدًا- إذا ترك التسمية لا تجوز.
يقول: عن عُرْوَةَ، أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ نَاساً مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ"، في رواية عند النَّسائي: "من الأعراب"، "يَأْتُونَنَا" وفي لفظ: "يأتون"، "بِلُحْمَانٍ"، جمع لحم، فيجمع على: لحوم ولحام ولحمان، "وَلاَ نَدْرِي هَلْ سَمَّوُا اللَّهَ عَلَيْهَا"؛ يعني: عند ذبحها "أَمْ لاَ؟" يعني: أعاريب من البادية ما ندري أسمّوا الله عليها؛ جاء في رواية عند أبي داود تقول: إن قومًا حديثو عهد بجاهلية يأتون بلُحمان؛ يعني: فيحتمل أن يكونوا سمّوا الله عندها أو لم يسمّوا. وهكذا جاء في رواية عبد الرزاق: كان قوم قد أسلموا على عهد رسول الله ﷺ فقدّموا بلحم للمدينة يبيعونه، فتحنّثت أنفس أصحاب النَّبي ﷺ وقالوا: لعلهم لم يسمّوا، فسألوا النَّبي ﷺ فقال: "سَمُّوا اللَّهَ عَلَيْهَا، ثُمَّ كُلُوهَا".
وماذا يستفاد من هذا الجواب؟
أما تسميتهم هم فما دخلهم في الذبح! إذا كان الذابح لم يسمِّ، فماذا تفيد تسميتهم فيما بعد ذلك؟ وأما إن كان تذكير بسُنة التّسمية عند الأكل، فذلك مشروع ويُسن لكل مسلم أراد أن يأكل أو أن يشرب أن يسمّي الله تبارك وتعالى. فجاء احتمال أن يكون المعنى أنه لا يُظَنّ بالمسلم أن يذبح لغير الله؛ فإذًا، كلوا أنتم الآن توجّه عليكم سُنيّة التسمية عند الطعام، فلا تغفلوا عما أنتم بصدده، وأما ذاك فلا تُسألون عنه ما دام الذابح مسلمًا، سمّوا الله وكلوا.
وبه استدل مَن استدل على سُنيّة التسمية وأنه لو كان ذلك واجبًا لم يسقط عنهم ولا ينفع أنهم هم سمّوا.
واستدل به مَن استدل على وجوب التسمية بقبوله السؤال منهم.
فهو لم يقل لهم ما عليكم سمّوا أو لم يسمّوا، ولم يقل لهم التسمية واجبة عند الذبح، ما قال كذا، ولا قال كذا، وقال: سمّوا الله أنتم وكلوا. فجاءت الاحتمالات والدلالة فيه على أنها ليست بواجبة واضحة من كلامه عليه الصَّلاة والسَّلام؛ لأنه ماذا يفيد تسمية النَّاس بعد ما ذبح الذابح إذا كانت التسمية واجبة عند الذبح هذا أمر.. الثاني: إذا كانت واجبة، فكيف تسقط بمجرد النسيان مع أن عامة الواجبات المتعلق عليها حكم، ما ينفذ الحكم بنسيان، إذا كان نسي. والقائلون بوجوب التسمية قالوا: أنه إذا نسي البسملة لا يضر. كما أنهم أيضًا أجمعوا على أن المسلم الأخرس إذا ذبح فذبيحته حلال، والأخرس ما يعرف يتكلم ويسمي إنما بقلبه. فتبيّن بذلك اختلاف الأئمة فيما إذا ترك التسمية متعمدًا؛ أما المسلم إذا ذبح فترك التسمية نسيانًا أو متعمدًا عند الشَّافعية؛ فإن ذبيحته حلال،
إن تركها نسيانًا عند الأئمة كلهم
وإن تركها متعمدًا فعند الشَّافعية ومَن وافقهم
إنما الشرط فقط أن لا يتركها عنادًا ولا مراغمة، فهذا أمر واضح.
وذكر لنا بعده الحديث الذي فيه "عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَيَّاشِ بْنِ أبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيَّ أَمَرَ غُلاَماً لَهُ أَنْ يَذْبَحَ ذَبِيحَةً"، وقام الغلام وجاء بالذبيحة، "فَلَمَّا أَرَادَ" الغلام "أَنْ يَذْبَحَهَا قَالَ لَهُ: سَمِّ اللَّهَ" ذكّره بهذا الأمر "فَقَالَ لَهُ الْغُلاَمُ: قَدْ سَمَّيْتُ. فَقَالَ لَهُ" مرة: "سَمِّ اللَّهَ وَيْحَكَ" أقول لك اذكر اسم الله، سمّي الله، "قَالَ لَهُ: قَدْ سَمَّيْتُ اللَّهَ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ: وَاللَّهِ لاَ أَطْعَمُهَا أَبَداً"، لأنه لم يسمعه يُسمّي وما صدّقه في قوله قد سمّيت، وعَلِم عناده ومراغمته فأحب التورع عن ذلك.
ولا يأتي في لفظ التسمية عند الذبح الرَّحمن الرَّحيم لأن الموطن لا يناسب ذِكر الرَّحمة؛ لأنه بالنسبة للحيوان تقتله وتعدمه حياته وتقول له رحمن رحيم! أين أنت من الرحمة؟ عندك رحمة تتركه وتدعه يعيش له ويروح له في حياته، فلا يناسب ذكر وصف الرَّحمة عند هذا الذبح. تقول: بسم الله، وأكمله بسم الله والله أكبر. وهكذا فهي سُنّة مؤكدة، فأما تأكدها فبالاتفاق وأما وجوبها فمختلف فيه. بل السُّنّة عند كل طعام وشراب ولباس ولكن السُّنّة عند الذبح آكد منها عند الأكل، وآكد منها عند اللبس، وآكد منها عند الوضوء، تُسن في كل هذه المواطن، تُسن لكن عند الذبح فهي آكد سُنيّة منها في المواطن الأخرى لوجود الاختلاف في جواز أكلها إذا تعمّد ترك التسمية.
وأما آية ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه؛ فإن المراد به ذبائح الكفَّار والمشركين والذين يذبحون بأسماء أصنامهم وطواغيتهم، فهؤلاء الذين لا يذكرون اسم الله -تبارك وتعالى- كُفْرًا أو شركًا بالله -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. وأما ما يتعلق بعموم المؤمنين فإن إيمان أحدهم كافٍ لأن يُعرف أنه إنما يذبح لله جلّ جلاله.
وبذلك نعلم السواء بين أمرين:
أمر إرادة غير الله -تبارك وتعالى- أو ذكر اسم غير اسم الله تعالى
أو ترك التسمية استخفافًا أو مراغمة والعياذ بالله تبارك وتعالى
فهذه شؤون تجعل المذبوح في حيز الحرام. وبين ما يُراد به بحكم العموم وجه الله -تبارك وتعالى- وإنما لم ينطق صاحبه بالتسمية وهو مسلم عند الذبح. فنعلم معنى الذبح لغير الله، ما هو؟ الذبح لغير الله أن يكون استحلال هذه البهيمة بالذكاة لأجل غير الله -تبارك وتعالى- وتقرّبًا وعبادة لغير الله -عزّ وجل-. أما إذا سلِم من ذلك، فاستعمال النَّاس قديمًا وحديثًا من عهده ﷺ إلى أيامنا أن يُقال ذبح لفلان، وذبح للضيوف الفلانيين، وجئنا عند فلان وذبح لنا كذا وما إلى ذلك، فلا إشكال فيه ولا غرابة وليس معناه أنه تقرّب إليهم معتقدًا ألوهيتهم بالذبح ولكن أراد إكرامهم وأراد إضافتهم، فذبح لهم بهذا المعنى وهذا مستعمل من عهده ﷺ إلى ما بعد ذلك إلى وقتنا. إذًا، فلا معنى للتنطّع والتشدد، ولا مجال لأن يُقصد بالذبح غير وجه الله عبادة له وتقربًا إليه، واستحلالًا للذبيحة له وبه، إنما نستحلّها بما أحل الله لنا وبما شرَع لنا ونتقرّب إليه وحده بكل ما نذبحه من عصفور ودجاجة وبقرة وغنم وكل ما أجاز لنا سبحانه وتعالى أكله.
ثم ذكر لنا مَا يَجُوزُ مِنَ الذَّكَاةِ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، فذكر: "أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ"، بني حارثة بطن من الأوس "كَانَ يَرْعَى لِقْحَةً"؛ يعني: ناقة ذات لبن، "لَهُ"؛ أي: يملكها "بِأُحُدٍ"، منطقة جبل أُحد "فَأَصَابَهَا الْمَوْتُ"؛ يعني: مرض؛ يعني أنه إذا تركها ستموت، "فَذَكَّاهَا" وهي حية لا تزال "بِشِظَاظٍ"، وهذا عود محدّد الطرف، وذلك بالنحر؛ نحرها في لبّتها. "فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ" فلما عرف أنه ذبحها وحياتها مستقرة وأنه تداركها بذلك أباح له أكلها، "فَقَالَ: لَيْسَ بِهَا بَأْسٌ، فَكُلُوهَا". والذي يُذكّى به: كل مُحدد ينهر الدّم وينفذ المقاتل؛ فيجوز الذبح به، إلا الظُّفر والسِّن؛ فلا يجوز. إذًا الذبح له شروط، فشرط الذابح:
○ أن يكون مسلمًا أو كتابيًا من الذين أباح الله لنا ذبائحهم في قوله: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ) [المائدة:5]، من قبلكم؛ يعني: دخلوا في الدِّين قبل بعثة نبينا، أما من دخلوا النَّصرانية بعد بعثة نبينا مُحمَّد فليسوا من أهل الكتاب. فأن يكون مسلم أو كتابي.
○ وأن يكون عاقلًا؛ فلا يصح ذبح المجنون ولا الصبي غير المميز.
○ وإذا كان صيد بر، فيُشترط أن يكون غير مُحرِم بحج ولا عمرة. وأما ما ذبحه المُحرِم بحج أو بعمرة من صيد البر فهو حرام.
○ وألا يُهلّ بالذبح لغير الله تعالى.
○ ولا يرفع يده قبل تمام التذكية، وينوي بذلك التذكية المشروعة
فهذه شروط الذبح. وعلمت الخلاف في التسمية عند الذبح:
فقال الحنفية والمالكية ورواية عن الحنابلة: أنها واجبة.
قال الشَّافعية: أنها سُنَّة.
وهي رواية عن الإمام أحمد بن حنبل أنها سُنَّة.
واستثنوا منها الأخرس والناسي وقالوا: يكفي من الأخرس نيته أو إيمائه نحو السماء وما إلى ذلك.
إذًا، فما حكم ما تعمّد فيه ترك التسمية؟
عند الشَّافعية أنها حلال ولكنها مكروهة عندهم أكلها إذا كان الترك متعمّدًا.
أما إذا كان مراغمة أو مكابرة فهذا يصل إلى الحُرمة.
عَلِمنا هذا وأنه يجوز الذكاة بكل ما يجرح إلا بالسّن والظُّفر، من كل محدّدٍ لا بمُثقّل كالرصاص ونحوه.
ويقول: "عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ سَعْدٍ، أَوْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَماً لَهَا بِسَلْعٍ"، وهو جبل بالمدينة المنوَّرة في الجانب الغربي من المدينة قريب من محل حفر الخندق، حُفِر الخندق عند جبل سلع هذا "فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا"؛ أي أصابتها أسباب الموت؛ يعني أبصرت بشاة من غنمها تتعرض للموت إن تُرِكت "فَأَدْرَكَتْهَا"؛ يعني: قبل الموت وهي حية حياة مستقرة، "فَذَكَّتْهَا بِحَجَرٍ"؛ أي: محدّد الطرف. وجاء في رواية عند البُخاري: كسرت حجرً فذبحتها به؛ يعني طلبت أن يكون طرفه حادًا يذبح وينهر الدّم. "فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِهَا فَكُلُوهَا"؛ يعني: ما دامت أدركتها وهي حية فيجوز. أكّد فيه أن الذبح جائز للرجال وللنساء إذا ذبحت المرأة الذبيحة فهي حلال كذبح الرَّجُل.
"عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ؟ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِهَا"؛ يعني: الذين تنصّروا ودخلوا قبل بعثة النَّبي مُحمَّد ﷺ. مثل هؤلاء من يُسمّوا التنوخ وبهراء وتغلب، فهؤلاء دخلوا في النَّصرانية قبل بعثة نبينا عليه الصَّلاة والسَّلام فصاروا من أهل الكِتاب. قال ابن عباس: لا بأس بها تحت قوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ) [المائدة:5]، "وَتَلاَ هَذِهِ الآيَةَ: (مَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ) [المائدة:51]"؛ يعني: وإن أجزنا أكل ذبائحهم فلا يجوز موالاتهم ولا مناصرتهم في مخالفة الشَّرع المصون، فتلا الآية يؤكد ذلك.
ويقول عن ابن عباس: "مَا فَرَى الأَوْدَاجَ"، جمع ودج؛ العرق الذي في الأخدع، عرقان متقابلان ويكون لكل بهيمة ودجين يحيطان بالحلقوم. "فَكُلُوهُ"؛ يعني: ما يبلغ ذكاته إلى فري الأوداج، فلا بُد أن يَقطع الحلقوم والمريء لجواز أكل تلك المذبوحة.
وهكذا يقول الإمام مالك: أن الذكاة تفري الحلقوم والودجين. فإن قطع الودجين دون الحلقوم أو الحلقوم دون الودجين؛ لم تتم الذكاة، هذا في مذهب الإمام مالك عليه رضوان الله تعالى.
قال الشَّافعي: يحصل الذكاة بقطع الحلقوم والمريء والبلعوم، وأما الودجين فذلك أفضل أن يقطع معها الودجين، قال ﷺ: "ما أنهر الدّم وذُكِر اسم الله فكُل".
يقول المالكية: إن الودجين مجرى الدّم، فإنما يحصل إنهار الدّم بقطع الودجين.
فعلى الذابح أن يحتاط ويكون ذبحه حلال ومُحِل أكل الذبيحة على اتفاق العلماء بقطع الحلقوم والمريء والودجين.
"عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا ذُبِحَ بِهِ إِذَا بَضَعَ"؛ يعني: إذا قطع، إن كان حادًا فقطع، "فَلاَ بَأْسَ بِهِ إِذَا اضْطُرِرْتَ إِلَيْهِ." وإلا فالأصل أن تذبح بالحديد المسنون ولكن عند الضرورة كما سمعت بحجرٍ وغيره فذلك جائز، والله أعلم. وفي هذا تكريم الخالق للإنسان ورحمته به، وخلق له من الحيوان ما يأكل وما يركب وما يشرب منها، (وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) [المؤمنون:21-22]، (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ) [يس:72]، فأباح سبحانه وتعالى أنواعًا من الحيوان لهذا الإنسان تكرمة للإنسان أن يذبح أو يصيد، فتحل له أكلها، والحكم حكم خالق الجميع -جلّ جلاله- وله الأمر من قبل ومن بعد.
رزقنا الله كمال الإيمان وكمال اليقين، والمتابعة للمُصطفى الأمين، ونظمنا في سلك أهل التمكين، وأعاذنا من كل سوء في الدارين، وأصلح شؤون الأمة أجمعين بِسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
12 صفَر 1443