شرح الموطأ -250- كتاب الضّحايا: باب النهي عن ذبحِ الضَّحِيَّة قبل انصراف الإمام، وباب ادّخار لحوم الأضاحي

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الضَّحايا، باب النَّهْي عَنْ ذَبْحِ الضَّحِيَّةِ قَبْلَ انْصِرَافِ الإِمَام، وباب ادِّخَارِ لُحُومِ الأَضَاحي.
فجر الأربعاء 1 صفر 1443هـ
باب النَّهْي عَنْ ذَبْحِ الضَّحِيَّةِ قَبْلَ انْصِرَافِ الإِمَامِ
1393 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ نِيَارٍ ذَبَحَ ضَحِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ الأَضْحَى، فَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَمَرَهُ أَنْ يَعُودَ بِضَحِيَّةٍ أُخْرَى. قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: لاَ أَجِدُ إِلاَّ جَذَعاً يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "وَإِنْ لَمْ تَجِدْ إِلاَّ جَذَعاً فَاذْبَحْ".
1394 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، أَنَّ عُوَيْمِرَ بْنَ أَشْقَرَ ذَبَحَ ضَحِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يَغْدُوَ يَوْمَ الأَضْحَى، وَأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَعُودَ بِضَحِيَّةٍ أُخْرَى.
باب ادِّخَارِ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ
1395 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: "كُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَتَزَوَّدُوا، وَادَّخِرُوا".
1396 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَاقِدٍ، أَنَّهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاَثٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبِي بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَتْ: صَدَقَ، سَمِعْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ تَقُول: دَفَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَضْرَةَ الأَضْحَى فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "ادَّخِرُوا لِثَلاَثٍ، وَتَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ". قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، لَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ بِضَحَايَاهُمْ, وَيَجْمِلُونَ مِنْهَا الْوَدَكَ، وَيَتَّخِذُونَ مِنْهَا الأَسْقِيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "وَمَا ذَلِكَ؟" أَوْ كَمَا قَالَ. قَالُوا: نَهَيْتَ عَنْ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاَثٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ عَلَيْكُمْ، فَكُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَادَّخِرُوا".
يَعْنِي بِالدَّافَّةِ: قَوْماً مَسَاكِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ
1397 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَهْلُهُ لَحْماً. فَقَالَ: انْظُرُوا أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ لُحُومِ الأَضْحَى. فَقَالُوا: هُوَ مِنْهَا. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْهَا؟ فَقَالُوا: إِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعْدَكَ أَمْرٌ. فَخَرَجَ أَبُو سَعِيدٍ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، فَأُخْبِرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الأَضْحَى بَعْدَ ثَلاَثٍ، فَكُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَادَّخِرُوا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ الاِنْتِبَاذِ، فَانْتَبِذُوا، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا، وَلاَ تَقُولُوا: هُجْراً". يَعْنِي لاَ تَقُولُوا سُوءاً.
نص الدرس مكتوب:
الحمد لله مُكرمنا بشريعته العظيمة، وبيانها على لسان عبده ورسوله محمدٍ ذي الصفات الكريمة. اللهم صلِّ وسلم وبارك وكرّم على عبدك المصطفى سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان في الطريقة القويمة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل المواهب والمراتب الفخيمة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيواصل الإمام مالك -عليه رحمة الله- ذكر الأحاديث المتعلقة بالأضحية، ويقول: "باب النَّهْي عَنْ ذَبْحِ الضَّحِيَّةِ قَبْلَ انْصِرَافِ الإِمَامِ"،
-
وفي مذهب الإمام مالك: أنه يجب على من كان في بلدٍ فيها إمام وحاكم أن ينتظر ذبح أُضحيته حتى يذبح الإمام أُضحيته، وبذلك يتوجّه على الإمام أن يبادر في ذبح أُضحيته ليَصِحَّ ذبح الناس بعده.
-
وقال جمهور أهل العلم: إذا قد مضى من الوقت المقدار الذي يَسَعُ الصلاة والخطبتين؛ فقد حَلَّ ذبح الأضحية.
-
حتى قال الإمام أبي حنيفة: على الذين هُم بعيدون عن الإمام في قراهم في البوادي، أنه يجوز لهم أن يذبحوا ولو قبل الفجر.
الأضحية في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة الحرام، فهذا توقيت وقت الأضحية. وأخذ من ظواهر الأحاديث سيدنا الإمام مالك: أنه يجب أن تكون بعد أن يُضحِّي الإمام، وأورد حديث أبا بُردة بن نِيار أنه بَكَّر في يوم العيد، وأحب أن يسبق إلى نحر الدماء تقرُّبًا إلى الله تعالى، فذبح وقسّم ثم جاء يحضر الصلاة، فسمع النبي ﷺ في خطبته يقول عمّن ذبح قبل الصلاة أنها شاة لحم ليست بأضحية، فأخبره أنه بادر مسابقةً للثواب، وأنه لم يدرِ أنه يجب أن تُؤخَّر، فقال له: ضَحِّ أُخرى غيرها، قال: لا أجد إلا عَناقًا صغيرًا أو جذعًا صغير، لكنه هذا الجذع خير عندي من اثنتين، فَرخَّص له النبي وأخبر أنها خصوصية لا تجوز لغيره، فإنه لابد أن تكون؛
-
إن كانت ضَأنًا إن أكملت سنة ودخلت في الثانية.
-
أو أَسقطت مُقدَّم أسنانها بعد ستة أشهر لقوة جسدها.
-
أو كانت ماعزًا فلا بد من سنتين، وكذلك في البقر.
-
وفي الإبل لابد من خمس سنين.
لكنَّ هذا استثناء استثناه سيدنا ﷺ لأبي بُردة ابن نِيار، ففيه أن الله فوَّض لنبيه -عليه الصلاة والسلام- في أحكامٍ أن يَحكم فيها بما شاء ﷺ.
وجاء في الصحيح أنه لمّا خطب النبي يوم النحر قال: "=من صلى صلاتنا، ونَسَك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم، فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول اللهِ والله لقد نسكت شاتي -أي ذبحت- قبل أن أخرج إلى الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب فتعجلت فأكلت وأطعمت أهلي، فقال رسول اللهِ ﷺ: تلك شاة لحم، فأخبره بعد ذلك بما عنده من جَذعة، فأمَره أن يُضحّي بها.
جاء في رواية: "إنما الأضحية ما ذُبح بعد الصلاة"، ويقول: أن أبا بُردة أمره ﷺ "أَنْ يَعُودَ بِضَحِيَّةٍ أُخْرَى"؛ أي: يُضحّي مرة أخرى فإن الأولى ليست بأُضحية؛ لأنها قبل الوقت.
إذًا؛ قال الإمام مالك: لابد أن ينحر الإمام أولًا، وقال غيره: إذا قد انقضى وقت الصلاة والخطبة جازَ أن ينحر أي أحد ولو قبل أن ينحر الإمام، ولكن ذلك أفضل كما سمعت الإشارة إليه في الحديث.
قال: "لاَ أَجِدُ إِلاَّ جَذَعاً يَا رَسُولَ اللَّهِ"؛ والجَذَع هذا من المَعْز، فقال ﷺ: "وَإِنْ لَمْ تَجِدْ إِلاَّ جَذَعاً فَاذْبَحْ"، وفي لفظ: "فاذبَحهُ"، قال: "ولَنْ تَجْزِيَ عن أحَدٍ بَعْدَكَ"، ضَحِّ بالجَذَع من المَعْز ولن تجزئ عن أحد بعدك، "إنَّ عندي داجنًا جذعةً منَ المعزِ فقالَ: اذبحها ولا تصلحُ لغيرِك"، "ولَنْ تَجْزِيَ عن أحَدٍ بَعْدَكَ"، ففيه تخصيصه ﷺ من شاء، إِذْنُ الله له تخصيص من شاء.
ثم إنه ورد أيضًا استثناءه ﷺ غير أبي بردة بن نيار، فجاء عن عقبة بن عامر: "أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا علَى أَصْحَابِهِ ضَحَايَا -أي ليُضحّوا بها-، فَبَقِيَ عَتُودٌ، فَذَكَرَهُ لِرَسولِ اللهِ ﷺ، فَقالَ: ضَحِّ به أَنْتَ."، جاء في رواية البيهقي: "ولا رُخصة فيها لأحدٍ بعدك". وفي هذا أيضًا خصوصيته لعقبة بن عامر كما خصّص أبا بردة بن نيار. وقيل أنه ثبتت الرخصة في أربعة أو خمسة ولا إشكال في ذلك، وأما قوله: "لن تُجزيَ عن أحد بعدك"؛ إن كان مُتقدِّم على أحدٍ بعده فإن ذلك بالاِستثناء؛ أي لن تُجزئ على العموم، إلا ما جاء من الاستثناء، كما جاء فيه استثناء فلا إشكال في ذلك؛ لأن الله فوَّضَه أن يُخصّص من شاء بما شاء صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وذكر: "أَنَّ عُوَيْمِرَ بْنَ أَشْقَرَ ذَبَحَ ضَحِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يَغْدُوَ يَوْمَ الأَضْحَى، وَأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَعُودَ بِضَحِيَّةٍ أُخْرَى"؛ يعني وهكذا السنة لمن غلط وتقدَّم على الوقت، عليه أن يذبح أخرى في الوقت الصحيح، فهذه المسألة فيما يتعلّق بوقت الأضحية:
-
أنها تستمر إلى اليوم الثاني، وهو اليوم الأول من أيام التشريق، والثاني والثالث، يعني: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر إلى غروب الشمس عند الشافعية ومن وافقهم.
-
وقال بعض أهل العلم: بل العيد ويومان بعدها؛ أي: يومان من أيام التشريق، واليوم الثالث ما تُجزئ فيه الأُضحية.
باب ادِّخَارِ لُحُومِ الأَضَاحِي
ثم ذكر اِدِّخار لحوم الأضاحي، وذلك في أنه في سنة من السنين جاء عدد من أهل البادية إلى المدينة المنورة، كأنه كان عام جدب عندهم، فكان لهم حاجة إلى الطعام فخرجوا من البوادي إلى المدينة، فلما وفدوا إلى المدينة أمر النبي أصحابه ألّا يدّخروا من لحوم الأضاحي شيئًا بعد ثلاث أيام، يعني أمهلهم ثلاثة أيام ثم ينفقونها حتى تصل إلى هؤلاء الوافدين إلى المدينة المنورة، ولا يدّخروا لحوم الأضاحي عندهم، وكانت طريقة ادِّخارهم أن يُقدّدونها ويعرِّضُونها إلى الهواء، ويضعوا عليها الملح حتى لا تتغير على مرور الأيام، وهذا هو القَديْد الذي يُسمُّونه؛ وهو ما يُقدَّد من اللحوم ثم يُعرَّضُ إمّا للشمس أو للهواء حتى ييبس، وقد يوضع عليه ملح وغيره ليكون ذلك أبعد عن أن ينتن أو يتغير، فيبقى صالحًا بلا تغيّر مُدّة من الزمان.
فهذا الاِدِّخار، لمّا خاف ﷺ أنّهم إذا اِدّخروا ينقص على هؤلاء الوافدين الذين ما وفدوا إلا لأجل أن يُحصِّلوا نصيبهم من الطعام، فنهاهم في تلك السنة عن أن يدّخروا شيئًا من لحم الأضاحي فوق ثلاثة أيام، فَفعلوا ذلك، فَفهم بعضهم أن هذا حُكم عام؛ فصاروا في السنة الثانية لا يدَّخِرون فوق ثلاثة أيام، ثمّ عَلِمَ بذلك ﷺ فبيَّن لهم أنه إنما قال ذلك لأجل الحاجة التي كانت تلك السنة، أما ما عدا ذلك فادَّخروا ما شئتم.
فيذكر عن جابر بن عبدالله قال: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ"؛ يعني لا يبقون شيء بعد أيام التشريق إلا أخرجوه، "ثُمَّ قَالَ بَعْدُ:"؛ أي: بعد ذلك العام، "كُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَتَزَوَّدُوا، وَادَّخِرُوا". كما بيّنه في الرواية الآتية كذلك.
يقول عبد الله بن واقد: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاَثٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبِي بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَتْ: صَدَقَ، سَمِعْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ تَقُولُ: دَفَّ نَاسٌ"؛ يعني: أقبلوا وجاؤوا، يسيرون سيرًا ليّنًا، فالدف؛ السَير الليّن، يدفّون دَفيفَا، "مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ"؛ يعني: جماعات من أهل البادية جاؤوا، "فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ"؛ وكان هذا سنة خمسٍ من الهجرة أو سنة سِتْ، "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ادَّخِرُوا لِثَلاَثٍ، وَتَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ. قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ"؛ يعني: في العام المقبل، وجاء في رواية: "لمّا كان العام المقبل قالوا: يارسول الله نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال: كلوا وأطعِموا وَادَّخِرُوا، فإن ذلك العام كان بالناس جُهْدٌ -يعني مشقّة- فأردت أن تُعينوا فيها".
"قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، لَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ بِضَحَايَاهُمْ"؛ يعني: بأنواع مختلفة، ويدّخرون ما شاءوا، "وَيَجْمِلُونَ مِنْهَا الْوَدَكَ"؛ يعني: ما يستخرجونه من الدهن من شحومها، "وَيَتَّخِذُونَ مِنْهَا الأَسْقِيَةَ"؛ أي: من جلودها يتخذون الأَسقية، قِرَبْ، أواني شرب، "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: وَمَا ذَلِكَ؟"؛ ما الذي حصل؟، "أَوْ كَمَا قَالَ. قَالُوا: نَهَيْتَ"؛ يعني: في العام الماضي، "عَنْ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاَثٍ"؛ يعني الآن ما يمكننا أن نعمل هذه الأشياء، ونستفيد هذه الأشياء من أضاحينا، "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ عَلَيْكُمْ"؛ أي: في ذلك العام كان عام مجاعة وجُهد، وجاؤوا الناس يحتاجون ذلك فقلت لكم ذلك، "فَكُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَادَّخِرُوا".
وهكذا قال: "يَعْنِي بِالدَّافَّةِ: قَوْماً مَسَاكِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ"، المنورة رجاء الرفد، وأن يجدوا شيئًا من الطعام.
وذكر: "عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَهْلُهُ لَحْماً. فَقَالَ: انْظُرُوا أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ لُحُومِ الأَضْحَى. فَقَالُوا: هُوَ مِنْهَا. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْهَا؟ فَقَالُوا: إِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعْدَكَ أَمْرٌ"؛ يعني: جاء في السنة الثانية، ما علمت به، أنه أخبرنا إنما كان ذلك لأجل تلك السنة لمجئ المحتاجين في وقت المجاعة والشدة، أما الآن فقد أَذِنْ رسول الله ﷺ، "فَخَرَجَ أَبُو سَعِيدٍ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، فَأُخْبِرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الأَضْحَى بَعْدَ ثَلاَثٍ، فَكُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَادَّخِرُوا"، فإن ذلك منسوخ، إنما كان لذلك العام فقط.
وجاء في رواية الإمام أحمد: يقول أبو سعيد -رضي الله عنه-: "كان رسول الله ﷺ قد نهانا أن نأكل لحوم نُسُكنا -يعني أضاحينا- فوق ثلاث، قال: فخرجت في سفر، ثم قَدِمْتُ على أهلي، وذلك بعد الأضحى بأيام، قال: فأتتني صاحبتي بِسِلْقٍ -يعني زوجته- قد جَعَلَتْ فيه قديداً، قلت لها: هذا من ضحايانا؟ قالت: نعم، فقلت لها: أوَلم ينهنا رسول الله ﷺ عن أن نأكلها فوق ثلاث؟ قال: فقالت: إنه قد رخّص للناس بعد ذلك."، أنت سافرت السنة الثانية رخّص النبي، ما علمت به، "قال: فلم أصدقها حتى بعثتُ إلى أخي قتادة بن النعمان ـ وكان بدرياً ـ أسأله عن ذلك"، فسأل وتأكد فَعَلِم أن كلامها هو الحق، وأنه ﷺ قد رخّص في الادّخار.
"نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الأَضْحَى"؛ يعني: أكلها وإمساكها، "بَعْدَ ثَلاَثٍ، فَكُلُوا، وَتَصَدَّقُوا"؛ حتى قال لسيدنا علي: كُلْهَا من ذي الحجة إلى ذي الحجة، يعني إلى السنة الآتية طول العام، "وَتَصَدَّقُوا"؛ فواجب أن يتصدق بشيء من لحم الأُضحية ويدّخر ما شاء.
"وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ الاِنْتِبَاذِ"؛ يعني: في الأواني المخصوصة، يعني النَّقِير والمُزَفَّتْ والدُّباء والحَنتَم أن تجعلوا النبيذ فيها، "فَانْتَبِذُوا"؛ يعني: أي وعاء إن شئتم ولكن، "وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ"؛ انتبهوا، إنما نهيتكم عن تلك الأواني لأنه يَسرع تغيُّر النبيذ فيها ويصل إلى حد الإسكار، أما الآن وقد ثبت التحريم وعلمتم ما يجوز وما لا يجوز فانتبذوا في أي شيء، ولكن انتبهوا كل مسكرٍ خَمر، كلُّ مسكر حرام، فما خرج عن حد الإسكار فلا إشكال فيه.
"وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ"؛ في أول الأمر، "فَزُورُوهَا". وجاء في رواية ابن ماجة: "أنها تُزَهِّدُ في الدنيا وتُذكِّر بالآخرة". وفي رواية عند أبي داود: "فإن في زيارتها تَذكِرَة". فكان النهي للرجال وللنساء، فلما رخّص عمّت الرُّخصة لهما والإباحة. وهكذا يقول الإمام مالك والشافعي كما هو الصحيح من مذهب أبي حنيفة وجاءت روايتان عن الإمام أحمد؛ أنه لا فرق بين الرجال والنساء؛ لأنه صَحَّ أنه عَلَّمَ بعض نِسائِه دُعاءً يَقلْنَهُ إذا زُرْنَ المقابر، وأن ابنته فاطمة كانت تزور قبر عمِّ أبيها حمزة بن عبد المطلب، وتذهب في يوم الخميس إلى أُحُدْ وتزور وتُسلِّم عليهم، فلَمْ يُنْكِر عليها ذلك ﷺ.
وقالت له سيدتنا عائشة: ما أقول إذا أنا زُرت المقابر؟ قال: قولي: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين…؛ ولم يَنْهَها، وإن كانت امرأة، إنما اختلاط النساء بالرجال هو الذي لا يجوز، أو النياحة من قِبل النساء أو من قِبل الرجال أيضًا لا يجوز، ولهذا قال: زوروا "وَلاَ تَقُولُوا: هُجْراً". يَعْنِي لاَ تَقُولُوا سُوءاً"؛ وقبيحًا من الكلام السيء، أو الدعاء بالويل أو النياحة على الموتى، "وَلاَ تَقُولُوا: هُجْراً".
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ورزقنا حسن متابعته والاقتداء به، والاهتداء بهديه والتمسُّك بسنته مع كمال محبّته، حتى يتوفّانا على ملّته ويحشرنا في زمرته في عافية، بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
05 صفَر 1443