شرح الموطأ -247- كتاب النّذور والأيْمان: باب ما تجِب فيه الكفَّارة مِن الأيْمان

شرح الموطأ -247- باب مَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ مِنَ الأَيْمَانِ، من حديث: « مَنْ حَلَفَ بِيَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا..»
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب النذور والأيمان، باب مَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ مِنَ الأَيْمَانِ.

فجر الأحد 28 محرم 1443هـ.

باب مَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ مِنَ الأَيْمَانِ

1376- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ بِيَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا، فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَفْعَلِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ".

1377- قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: مَنْ قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ، وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئاً، إِنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ.

1378- قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا التَّوْكِيدُ، فَهُوَ حَلِفُ الإِنْسَانِ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مِرَاراً يُرَدِّدُ فِيهِ الأَيْمَانَ، يَمِيناً بَعْدَ يَمِينٍ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لاَ أَنْقُصُهُ مِنْ كَذَا وَكَذَا، يَحْلِفُ بِذَلِكَ مِرَاراً ثَلاَثاً، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَكَفَّارَةُ ذَلِكَ، كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ

1379- قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ حَلَفَ رَجُلٌ مَثَلاً فَقَالَ: وَاللَّهِ لاَ آكُلُ هَذَا الطَّعَامَ، وَلاَ أَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ، وَلاَ أَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ، فَكَانَ هَذَا فِي يَمِينٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ الطَّلاَقُ إِنْ كَسَوْتُكِ هَذَا الثَّوْبَ، وَأَذِنْتُ لَكِ إِلَى الْمَسْجِدِ، يَكُونُ ذَلِكَ نَسَقاً مُتَتَابِعاً، فِي كَلاَمٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ حَنِثَ فِي شَىْءٍ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الطَّلاَقُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيمَا فَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ حِنْثٌ، إِنَّمَا الْحِنْثُ فِي ذَلِكَ حِنْثٌ وَاحِدٌ.

1380- قَالَ مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي نَذْرِ الْمَرْأَةِ، إِنَّهُ جَائِزٌ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا، يَجِبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ وَيَثْبُتُ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي جَسَدِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ لاَ يَضُرُّ بِزَوْجِهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِزَوْجِهَا فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَيْهَا حَتَّى تَقْضِيَهُ.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرمِنا بالشريعة الغرَّاء وبيان أحكامها على لسان خير الورى. اللَّهم صلّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك المُصطفى سيِّدنا مُحمَّد وعلى آله الأطهار وأصحابه الكُبراء، وعلى مَن والاهم فيك واتبعهم بإحسان وبمجراهم جرى، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين وآلهم وصحبهم والتَّابعين، وعلى ملائكتك المقربين، وعلى جميع عبادك الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين. 

أما بعدُ،

فيواصل الإمام مالك -عليهم رضوان الله- ذكر الأحاديث المتعلِّقة بالأيمان والحلِف والكفَّارة في اليمين، فقال -عليه رضوان الله-: "باب مَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ مِنَ الأَيْمَانِ"؛ أي: بيان بعض الأيمان التي تجب فيها الكفَّارة، وما يلزم فيه كفَّارة واحدة أو متعددة على ما يأتي من ذكر المسائل. 

فذكر لنا: "عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مَنْ حَلَفَ بِيَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا"؛ غير ما حلف عليه "خَيْراً مِنْهَا"، حلف أن لا يفعل شيء ثم رأى أنّ فعل ذلك خير وهو أنفع أو أقرب إلى رضوان الله أو أفضل في الدِّين، فرأى غيرها خير؛ "فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَفْعَلِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ". وقد جاء برواياتٍ متعددة، منها برواية مالك:  "فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَفْعَلِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ". ومنها برواية: "فليأتِ الذي هو خير وليكفِّر عن يمينه". ومن هنا جاء اختلاف الأئمة إذا أراد أن يفعل ما حلف ألّا يفعله أو يترك ما حلف أن يفعله، فهل يصح تقديم الكفَّارة قبل أن يحنث؟ أو أولًا يحنث ثم يكفِّر عن يمينه؟ 

  • فقال الأئمة الثلاثة: يجوز أن يقدِّم الكفَّارة ثم يأتي ما حلف عليه أن لا يفعله فيفعله أو أن يفعله فيتركه.

  • ويجوز أن يقدِّم أولًا الحنث ثم يكفِّر، وهو أفضل عند الإمام مالك والإمام الشَّافعي.

  • وكذلك قال أبو حنيفة: لا يجزئ الكفَّارة إلا بعد الحنث. فأما قبل أن يحنث فعن ماذا يكفِّر؟! فالكفَّارة إنما تكون عن سيئة وهذا لم يفعل سيئة بعد، فأولًا يفعل ما يُناقض يمينه ثم يُكفِّر عن ذلك. 

يقول: "فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَفْعَلِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ".

  • فقلنا: قال الشَّافعية والإمام مالك: الأفضل والأحب أن يحنث أولًا ثم يكفِّر. وإذا قدَّم الكفَّارة؛ فلا شيء عليه، وأجزأه ذلك.

  • كذلك قال الإمام أحمد: هو مخيَّر؛ أن يكفِّر أولًا ثم يأتي الذي هو خير أو يفعل الذي هو خير أولًا ثم يكفِّر عن يمينه. 

وفرَّق بينهم كما هو عند بعض الشَّافعية، بين جواز تقديم الإطعام والكسوة والإعتاق. أما الصَّوم؛ فلا يصح تقديمه إلا أن يأتي أولًا بمناقض اليمين ثم يصوم بعد ذلك. 

يقول: "وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: مَنْ قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ، وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئاً"، عليّ نذر فقط، ما هو؟ ماذا هو؟ ماذا عندك؟ "إِنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ". وهذا الكلام في أن عليه النَّذر من دون تعيين شيء.

  • قال الأئمة الثلاثة: إن عليه فيه كفَّارة يمين. 

  • قال الإمام الشَّافعي: هذا ليس بشيء، ولا ينعقد عليه شيء، ولا كفَّارة عليه، كونه فقط قال عليّ نذر! هذا لا يترتب عليه شيء عند الإمام الشَّافعي.

  • وقال الأئمة الآخرون: إذا نذر نذرًا لم يسمِّه فعليه كفارة يمين.

"وَسَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ: مَنْ قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ، وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئاً، إِنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ."؛ فهذا هو النَّذر المُبهم. 

  • هو عند الشَّافعية لا ينعقد النَّذر ولا كفَّارة فيه حتى يعيِّن أن عليه نذر أن يفعل كذا أو أن يترك كذا أو أن يصوم كذا أو أن يصلِّي وإلى غير ذلك. فإن لم يعيِّن ولم يبيِّن؛ فلا ينعقد النَّذر ولا كفَّارة فيه.

  • وقال الأئمة الثلاثة وأكثر أهل العلم قالوا: تجب فيه الكفَّارة.

وجاء عن عقبة بن عامر أيضًا قال: أن رسول الله ﷺ قال: "كفَّارة النَّذر إذا لم يسمِّ كفَّارة اليمين". هكذا جاء في رواية الإمام التِّرمذي. وجاء أيضًا في رواية الإمام أحمد وأبي داود والنَّسائي 

  •  "كفارة النذر، كفارة اليمين" عند مُسلم.

  • "كفَّارة النَّذر إذا لم يسمِّ كفَّارة اليمين" عند غير الإمام مُسلم. 

فحمله الإمام مالك والإمام أبو حنيفة على النَّذر المُطلق والنَّذر المُبهم. وجاء: "مَن نذر نذرًا ولم يسمِّه فكفَّارته كفَّارة يمين." وحمله بعض الشَّافعية وكما حمله الإمام أحمد على نذر المعصية، مَن نذر يفعل معصية فهذا لا يجوز له أن يفعلها، ولكن عليه أن يكفِّر كفَّارة اليمين، فكان هو عند جمهور الشَّافعية محمول على نذر اللجاج إذا قال الرَّجُل يريد أن يمتنع عن كلام زيد، إن كلمت زيد فعليّ كذا، فكلَّمه، فله الخيار بين الكفَّارة وبين ما التزمه. وسمعت ما حملَه الإمام أبو حنيفة على أن النَّذر المُبهم هذا، وقالوا: عليه فيه كفَّارة يمين إذا لم يسمِّه.

"قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا التَّوْكِيدُ"؛ توكيد الحلِف وتوكيد اليمين "فَهُوَ حَلِفُ الإِنْسَانِ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ"؛ أي: على الشيء الواحد "مِرَاراً يُرَدِّدُ فِيهِ الأَيْمَانَ"، جمع "يَمِيناً بَعْدَ يَمِينٍ"، وقصده توكيد الأمر فقط "كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لاَ أَنْقُصُهُ مِنْ كَذَا وَكَذَا"، والله لا أنقصه من كذا وكذا، والله لا أنقصه من كذا وكذا، "يَحْلِفُ بِذَلِكَ مِرَاراً ثَلاَثاً، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَكَفَّارَةُ ذَلِكَ" الحلِف، "كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ."، هكذا مَن حلف على الشيء الواحد وكرّر الحلف عليه. 

  • وقال الشَّافعية: إن قصد التوكيد فهو حلف واحد وإلا فكل كل واحد يمين، فإذا فعل وجبت عليه الكفَّارات على عدد هذه الأيمان التي نوى في كل واحد منها الإنشاء. 

فهذا توكيد اليمين، يحلف في الشيء الواحد مرارًا، سواء كان ذلك في مجلس واحد أو في مجالس كما هو عند الحنابلة والشَّافعية، إذا قصد توكيد الأول. لو قال: والله ثم والله ثم والله لا أفعل كذا، ثم فعل؛ فعليه عند الحنابلة كفَّارة واحدة، إلا إذا نوى لكل يمين إنشاء جديد، فكفّر في النَّذر فحينئذٍ تتعدد عليه الكفَّارات بتعدد الأيمان؛ كم مرات حلف؟ 

وكل هذا الكلام الذي نتحدث عنه في اجتهاد الأئمة فيما يتعلق باليمين متصلٌ بمسألة مهمة يجب أن يفقهها المؤمن: وهو خطر الكلام.. خطر الكلام، وأنه يترتب عليه أحكام واجتهادات كبيرة، ويترتب عليه مؤاخذات كثيرة كبيرة في القيامة وفي الآخرة، "وَهل يَكبُّ النَّاسَ في النَّارِ علَى مناخرهم إلَّا حصائدُ ألسنتِهم". فالكلام إذًا خطير، وأرباب الصِّدق مع الله -تبارك وتعالى- يرتقون من تجنُّب خطر الكلام بأن لا ينطقوا إلا بما يحب الحق، بل بما هو أرضى اتباعًا لقوله: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة:83]، (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ) [الإسراء:53].

يرتقون منه إلى ضبط الخواطر، فلا يرضون أن يخطر على بالهم إلا ما هو طيب وما هو أطيب وما هو أفضل، فحينئذٍ تنتهي أحاديث النَّفس، وإذا انتهت أحاديث النَّفس؛ خُطِب القلب والسِّر بالقدس، وجاءت أحاديث الملائكة والملأ الأعلى، ويدنو المَلَك الميمون يلهمه خواطر الخير والمرؤوس كالرأس، فيصير كأن لا نفس له، كأنه قلب، كأنه مَلَكٌ وهو بشرٌ وإنسان لصفاء باطنه. وما دامت أحاديث النَّفس تشغل البال فهو محجوبٌ عن شهود الجمال، حتى تنقطع عنه أحاديث النَّفس، فيتهيأ لسماع ورؤية القُدس. الله ينوِّر قلوبنا ويطهرها، ويرزقنا حفظ ألسنتنا. قال النَّبي لسيِّدنا معاذ: "أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟" أخذ بلسان نفسه وَقَالَ: "كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا". انتبه من اللِّسان، إذًا فهو خطير، والحديث خطير، والكلام خطير، فوجب أن يحسب الإنسان لكلامه ولا يسترسل كما تشتهي نفسه وتمليه عليه، وأن ينظر ماذا يقول وقد بلغ الأمر في سيِّدنا أبو بكر الصِّديق أن يأخذ حجر فيضعه في فيه لضبط الكلام. 

قال سبحانه وتعالى: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:17-18]. انظر عامة العقود عندنا في الشَّريعة مبنية على كلام، سواءً بيع أو شراء أو وكالة أو نذر أو عقد نكاح، وكلها ألفاظ وكلمات يتكلم بها ويترتب عليها حكم ينتقل بها شأن من ملك إلى ملك آخر، يباح بالكلمة هذه التَّصرفات فالكلمات خطيرة إذًا.. اضبط كلامك! وإن أردت أن تكثر الكلام، فبذكر ربك، اذكره، فإنك بذلك رابح ليس عليك به سوء ولا منه خطر، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) [الأحزاب:41].

وهكذا، تنظر إلى اجتهاد الأئمة فيما يقول، ومنه ما قالوا: إذا كرّر الأيمان فهل تُعدّ يمينًا واحدًا؟ ويلزمه على الحنث كفَّارة واحدة أو هي عدة أيمان؟… وهكذا حتى في النَّذر المُبهم الذي قال الشَّافعي: أنه لا يترتب عليه شيء. قال الأئمة الآخرون: لو قال عليّ عشرة نذور، إن فعلت كذا؛ لزمه عشر كفَّارات. وكذلك إذا كرّر أن عليّ نذر إن فعلت كذا، وقال: عليّ نذر إن فعلت كذا، فتتعدّد عندهم الكفَّارات على اختلافٍ بين الأئمة -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-. وكذلك فيما ذكرنا من تعدّد الأيمان، فعليه بكل يمين كفَّارة إلا أن يريد التأكيد والتفهيم، وكذلك هو عند الحنفية وهو مقرر أيضًا عند الشَّافعية، أن الأمر راجع إلى نيّته إن أراد التأكيد أو أراد التكرير والإنشاء الجديد، فيتعدد عليه الكفَّارة.

"قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ حَلَفَ رَجُلٌ" على عدة أمور "مَثَلاً فَقَالَ: وَاللَّهِ لاَ آكُلُ هَذَا الطَّعَامَ، وَلاَ أَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ، وَلاَ أَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ"، وبعد ذلك المذكورات كلها جعلها "فِي يَمِينٍ وَاحِدَةٍ"، يقول الإمام مالك: "فَإِنَّمَا عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ"، سواءً حنث في بعضها أو في كلها فإن اليمين واحدة، فإذا كُفّرت.. كُفرت. هكذا يقول الإمام مالك: إن حلف يمينًا واحدة تضمّنت أشياء مثلًا أن لا يأكل الطعام، ولا يلبس ثوب، ولا يدخل بيت، ولا يكلم رجل، فعدَّها جميعًا يمين واحدة، سواءً فعل الكل أو فعل واحدة منها حَنَث. وهكذا يقول الحنابلة: إذا حلف يمين واحدة على أجناس مختلفة، قال: لا أكلت، ولا شربت، ولا لبست،… فأيضًا عندهم أنه إذا فعل شيئًا من ذلك أو فعل الكل فعليه كفَّارة واحدة كما قال الإمام مالك. لماذا؟ لأن اليمين واحدة؛ فالحنث فيها واحد بفعل أي واحد من هؤلاء أو بفعل اثنين أو بفعل ثلاثة. 

أما إذا كرّر اليمين، وقال: والله لا أكلت  من كذا، وبعد ذلك قال: والله لا شربت من كذا، وبعد ذلك قال: والله لا لبست... فإذا حنث في واحدة فعليه كفَّارة. فإن أخرج الكفَّارة ثم حنث في الثانية لزمته كفَّارة أُخرى؛ لأن الحنث في الثانية تجب فيها الكفَّارة بعد أن كفَّر عن الأولى. فإن فعل الأولى والثانية والثالثة قبل أن يكفِّر، فيقول الحنابلة: عليه كفَّارة واحدة لأنه تعدّدت الأيمان على أفعالٍ فحنث، فلم يخرج الكفَّارة حتى فعل الثانية والثالثة، فصار كحنث واحد، واختلفت الروايات فيها عن الإمام أحمد. 

قال: "وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ الطَّلاَقُ إِنْ كَسَوْتُكِ هَذَا الثَّوْبَ، وَأَذِنْتُ لَكِ إِلَى الْمَسْجِدِ، يَكُونُ ذَلِكَ نَسَقاً مُتَتَابِعاً، فِي كَلاَمٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ حَنِثَ فِي شَىْءٍ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الطَّلاَقُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيمَا فَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ حِنْثٌ، إِنَّمَا الْحِنْثُ فِي ذَلِكَ حِنْثٌ وَاحِدٌ."، فإذا حلف لا يدخل دار، فأدخل يده أو رجله أو شيئًا منه.. 

  • فهو بذلك عند الحنابلة ومَن وافقهم يصير قد حَنث بإدخال بعضه إلى ذلك الدار.

  •  بخلاف لو حلف أن يدخل، فلا يبرّ يمينه حتى يدخل جميعه. 

وإذا حلف أن لا يدخل، فأدخل بعض منه ولو يده أو رجله؛ حنث بذلك. فإذا حلف أن يدخل، فلا يبر يمينه حتى يدخل كله. أما حلف أن يدخل الدار، ودخل يده فقط فلا يكفي، لابد يدخل كله في هذا الدار.

وهكذا يقول "مَالِكٌ: الأَمْرُ عِنْدَنَا فِي نَذْرِ الْمَرْأَةِ، إِنَّهُ جَائِزٌ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا"؛ يجوز أن تنذر شيء من الطاعات أو الصدقات أو غير ذلك، وإن لم يأذن لها زوجها، لا تحتاج نذرها إلى إذن الزوج، و "يَجِبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ" النَّذر "وَيَثْبُتُ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي جَسَدِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ لاَ يَضُرُّ بِزَوْجِهَا"، فإن كان تعلّق بحق الزوج؛ بأن نذرت مثلًا صيام أشهر متتابعة وإلى غير ذلك. قال الإمام مالك: "فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَيْهَا حَتَّى تَقْضِيَهُ."؛ تترقب إذنه حتى يتم قضاء ما نَذَرت أو ما حلفت عليه أو تتأيم منه ويطلقها، فتوفي بنذرها، هذا إذا تعلَّق بحق الزوج أو أضرّ به في شيءٍ من حقوقه. أما إذا لم يكن ذلك، فلا تحتاج إلى إذن الزوج، وهي معتبَرَة النَّذر فيما نذرت واليمين فيما حلفت عليه. 

وذكر العمل في كفَّارة اليمين بعد ذلك؛ يعني ماذا يعمل إذا أراد أداء الكفَّارة، وهو ما جاء في الآية ويأتي معنى التفصيل، قوله: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ)، مؤمنة. فما مقدار الكسوة؟ وقد اختلفوا فيها. وما مقدار الطعام فيه؟ والعتق؟ وهو في هذه الثلاثة مُخيّر بين أن يطعم أو يكسو أو يعتق رقبة. وعند العجز عن الثلاثة كلها، ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام كما جاء في الآية الكريمة (فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ۚ) [المائدة:89]؛ لا تعرِّضوها للحنث فيها ولا لمخالفتها.

إذًا؛ 

  • علِمنا ما قال الجمهور في أن النذر المُبهم منعقد عليه كفَّارة يمين. 

  • وما قال الإمام الشَّافعي: أن ذلك لغو ولا كفَّارة فيه حتى يعيِّن ما نذر. 

  • وأن مَن حلف على شيءٍ أن يفعله ولا يفعله ثم حنِث؛ وجبت عليه الكفَّارة. 

  • فإذا كفَّر ثم حلف مرة أخرى فما يقول أنا قد كفَّرت، بل يتعدد عليه الكفَّارة كما هو عند الأئمة عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.

 (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ۚ) كما قال الله -جلّ جلاله وتعالى في عُلاه-. فوجب على المؤمن أن يحفظ لسانه وينتبه مما يجري منها فإنه يترتب عليه الأمر الكبير، بل الإسلام والكُفر، إنما يُحكم به في الشّرع في الدُّنيا بالكلام. وأن من الكلام ما يكفِّر، وأن من الكلام ما يُدخل به الكافر إلى الإسلام من النُّطق بالشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. وقال نبينا: "أحبّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر". وقال: أفضل ما قلتُ أنا والنَّبِيون من قبلي: لا إله إلا الله. 

الله يحقّقنا بحقائق لا إله إلا الله، ويجعلنا عنده من أهلها، ويرزقنا العمل بها، ويثبتنا في ديوان من تحقّق بحقائقها، ومشى في طرائقها، ونال صفو رقائقها، وأدرك خفيّ دقائقها، في خيرٍ ولطفٍ وعافية بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

05 صفَر 1443

تاريخ النشر الميلادي

12 سبتمبر 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام