(364)
(535)
(604)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجهاد، بَابُ إِحْرَازِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَرْضَهُ، باب الدَّفْنِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ مَنْ ضَرُورَةٍ وَإِنْفَاذِ أبِي بَكْرٍ رَضِى اللَّهُ عَنْهُ عِدَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
فجر الإثنين 22 محرم 1443هـ.
باب إِحْرَازِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَرْضَهُ
1349- سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ إِمَامٍ قَبِلَ الْجِزْيَةَ مِنْ قَوْمٍ، فَكَانُوا يُعْطُونَهَا، أَرَأَيْتَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، أَتَكُونُ لَهُ أَرْضُهُ، أَوْ تَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَكُونُ لَهُمْ مَا لَهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ يَخْتَلِفُ، أَمَّا أَهْلُ الصُّلْحِ، َإِنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَهُوَ أَحَقُّ بِأَرْضِهِ وَمَالِهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعَنْوَةِ، الَّذِينَ أُخِذُوا عَنْوَةً، فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، فَإِنَّ أَرْضَهُ وَمَالَهُ لِلْمُسْلِمِينَ، لأَنَّ أَهْلَ الْعَنْوَةِ قَدْ غُلِبُوا عَلَى بِلاَدِهِمْ، وَصَارَتْ فَيْئاً لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا أَهْلُ الصُّلْحِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ مَنَعُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ حَتَّى صَالَحُوا عَلَيْهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ إِلاَّ مَا صَالَحُوا عَلَيْهِ.
باب الدَّفْنِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ مَنْ ضَرُورَةٍ وَإِنْفَاذِ أبِي بَكْرٍ رَضِى اللَّهُ عَنْهُ عِدَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
1350- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي صَعْصَعَةَ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو الأَنْصَارِيَّيْنِ، ثُمَّ السَّلَمِيَّيْنِ كَانَا قَدْ حَفَرَ السَّيْلُ قَبْرَهُمَا، وَكَانَ قَبْرُهُمَا مِمَّا يَلِي السَّيْلَ، وَكَانَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَهُمَا مِمَّنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَحُفِرَ عَنْهُمَا لِيُغَيَّرَا مِنْ مَكَانِهِمَا، فَوُجِدَا لَمْ يَتَغَيَّرَا، كَأَنَّهُمَا مَاتَا بِالأَمْسِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ جُرِحَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جُرْحِهِ، فَدُفِنَ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَأُمِيطَتْ يَدُهُ عَنْ جُرْحِهِ، ثُمَّ أُرْسِلَتْ، فَرَجَعَتْ كَمَا كَانَتْ، وَكَانَ بَيْنَ أُحُدٍ وَبَيْنَ يَوْمَ حُفِرَ عَنْهُمَا سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً.
1351- قَالَ مَالِكٌ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُدْفَنَ الرَّجُلاَنِ وَالثَّلاَثَةُ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ مِنْ ضَرُورَةٍ، وَيُجْعَلَ الأَكْبَرُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ.
1352- حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مَالٌ مِنَ الْبَحْرَيْنِ فَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأْيٌ أَوْ عِدَةٌ فَلْيَأْتِنِي، فَجَاءَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَحَفَنَ لَهُ ثَلاَثَ حَفَنَاتٍ.
الحمد لله مُكْرِمِنا بالإسلام والشَّريعة، ومبيِّنها على لسان عبده المُصطفى مُحمَّد الذي جمع له الحسن جميعه، صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه المكرمين بالدخول في حصونه المنيعة، وعلى مَن والاهم في الله واتبعهم بإحسان فاتخذ اتباعهم سبيلًا ووسيلة إلى القرب من الحق ونيل رضاه وذريعة، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل الدرجات العالية الرفيعة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، والملائكة المُقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
فيذكر لنا الإمام مالك -رضي الله تبارك وتعالى عنه- ما يتعلق بمال مَن أسلم من الكُفَّار والفرق بين ما كان مَن صلحٍ وما كان من غلبةٍ وعنوة، ثم يذكر أيضًا أخبار القبور ووجوب أن يُقبر كل واحد في قبرٍ إلا لضرورة، وما حصل لشهداء أُحد رضي الله تعالى عنه. ويقول: "باب إِحْرَازِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَرْضَهُ"، وذكر أنه: "سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ إِمَامٍ"؛ يعني حاكم من حكّام المسلمين "قَبِلَ الْجِزْيَةَ"؛ يعني: "مِنْ قَوْمٍ" ذميين، "فَكَانُوا يُعْطُونَهَا"؛ أي: يسلّمون الجزية له، "أَرَأَيْتَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ"؛ صار مسلمًا من هؤلاء، "أَتَكُونُ لَهُ أَرْضُهُ"؛ يعني: يكون له أرضه ملكًا له لإسلامه، "أَوْ تَكُونُ" من الفيء "لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَكُونُ لَهُمْ مَا لَهُ؟ فَقَالَ الإمام مَالِكٌ: ذَلِكَ يَخْتَلِفُ"؛ يعني: جواب المسألة فيه تفصيل؛ لأن الذّميين على نوعين:
○ أحدهما من صُولحوا على شيءٍ من الجزية.
○ وثانيهما من فُتحوا؛ أي فُتحَت بلادهم وأُخذت عنوة؛ بالغلبة عليهم.
قال: "أَمَّا أَهْلُ الصُّلْحِ"؛ يعني: من صُولحوا على شيء من الجزية فـ "إنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَهُوَ أَحَقُّ بِأَرْضِهِ وَمَالِهِ"؛ مَن أسلم من أهل الصُّلح يكون أرضه وماله ملكًا له دون المسلمين، "وَأَمَّا أَهْلُ الْعَنْوَةِ، الَّذِينَ أُخِذُوا عَنْوَةً"؛ أي: قهرًا وغلبة، "فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، فَإِنَّ أَرْضَهُ وَمَالَهُ" فيء "لِلْمُسْلِمِينَ"؛ لأنها قد ثبت ملكها للمسلمين بدخولهم عنوة و "لأَنَّ أَهْلَ الْعَنْوَةِ"؛ يعني: الذين أُخذوا بالقهر "قَدْ غُلِبُوا عَلَى بِلاَدِهِمْ"؛ أي: غلب عليها المسلمون فصارت فيئًا لهم. "وَأَمَّا أَهْلُ الصُّلْحِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ مَنَعُوا أَمْوَالَهُمْ"؛ يعني: حفظوا أموالهم "وَأَنْفُسَهُمْ حَتَّى صَالَحُوا" المسلمين "عَلَيْهَا"؛ يعني: على أموالهم "فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ إِلاَّ مَا صَالَحُوا عَلَيْهِ". إذًا؛ فالكلام على ما يتعلق بما فُتح صلحًا وما فُتح عنوة،
وأن البلدان الذي فُتحت عنوة تصير ملكًا للمسلمين،
وأما الذي تم بالصُّلح والتفاهم فتبقى أملاكهم لهم وإنما يسلِّمون ما صالحوا عليه.
ومَن كان من أهل الذِّمة -الذين يدفعون الجزية- أسلم:
فقد قال بعض الأئمة كالحنفية وغيرهم: أنه تسقط عليه الجزية ما لم يسلِّمه قبل إسلامه.
وقال الشَّافعية: ما مضى في ذمته يسلِّمه بعد الإسلام، ومن بعد الإسلام؛ فلا. فإن كان في أثناء العام أسلم، ولم يسلِّم الجزية بعد؛ فيُحسب بالقسط، كم الجزية في العام؟ وكم أشهر مضت من العام؟ فتؤخذ بالنسبة مقابل الجزية التي مضت يسلِّمه والباقي من حين إسلامه خرج من وجوب الجزية عليه.
وهنا أيضًا يأتي اختصاص مكَّة المكرَّمة واختلافهم، هل فُتحت عنوة أو فتحت صلحًا؟ فإن الأمر التبس فيها بأنه ﷺ عاملها معاملة خاصة فإنه:
أرسل إليهم بالأمان قبل أن يدخل
ونهى أمراء الجيش أن يقاتلوا إلا مَن قاتلهم
ثم أعاد التأمين لهم حينما دخلوا ونادى مناديه: مَن دخل المسجد فهو آمن، ومَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومَن أغلق عليه بابه فهو آمن.
ومن هنا جاء الخلاف في دور مكَّة وأراضيها هل تُملك أو لا؟ وهل إن كانت فُتحت عنوة صارت مالًا للمسلمين فتُركت للمسلمين فلا تُملك؛ فلا يملك ما فيها. ومن هنا جاء كراهة بعض الأئمة تأجير بيوت مكَّة. وبعضهم فرَّق بين أرضها وديارها وقال: إن الديار تؤجّر والأرض لا. وعلى كل فالخلاف قائم، والذي جرى عليه العمل أنهم كانوا يبيعون ويشترون في الأراضي التي في أيديهم من العهد الأول فما بعده، وسمَّاها الحق ديارهم وأموالهم في قوله: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [الحشر:8]، وقوله ﷺ: لمَّا قالوا أين تنزل؟ قال: هل ترك لنا عقيل من دار؟ فأثبت مُلكها للذين اشتروها من عقيل، وعلى ذلك كان مذهب الإمام الشَّافعي -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-.
ثم ذكر: "الدَّفْنِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ مَنْ ضَرُورَةٍ"؛ فيمَن يدفن أكثر من واحد في قبر واحد وذلك لغير الضرورة ممنوع. فيجب أن يميّز ويستقل كل ميت بقبر؛ ما يدفن في القبر الواحد اثنين ولا ثلاثة، إلا أن تكون هناك ضرورة كما حصل في أُحد. "وَإِنْفَاذِ أبِي بَكْرٍ رَضِى اللَّهُ عَنْهُ عِدَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ"؛ أي: وعده الذي وعد به وهذا من المكارم والشّيم:
أن مَن وعد أن يعطي شيئًا أو يهب شيئًا أو يكرم بشيء فإنه ينبغي له أن ينفِّذ وعده مهما تمكَّن من ذلك.
وإن كان لا يلزمه ولا يعد مثل الدَّيْن.
وإن كان عند أهل المرؤة يقولون: إن وعد الحر دين؛ يعني يعده في نفسه لحريته ولمروءته كأنه دين عليه بمجرد وعده وإلا فليس حكمه حكم الدَّيْن.
ولهذا كان أرباب المكارم يحذرون من أن يعِدوا بشيء لا يفون به.
أمّا أن يكون في نيته عند الوعد أن لا يفي، فهذا نفاق، والعياذ بالله تعالى.
ولكن إذا في نيته أن يفي ثم طرأ عليه طارئ أو غيَّر رأيه، فلا شيء عليه.
وأما الذي يعِد وهو ينوي أن لا يفي؛ فهذا إخلالٌ بالأدب والمروءة، بل بالواجب، بل علامة النفاق -والعياذ بالله تبارك وتعالى-. وكان بعض الأكابر من أهل البيت إذا وعد أحد بوعد؛ لم يأكل ولم يشرب ولم ينم حتى يفي بالوعد وينجز الوعد أولًا.
ويقول في: "باب الدَّفْنِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ"، ذكر حديث سيِّدنا "عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو الأَنْصَارِيَّيْنِ، ثُمَّ السَّلَمِيَّيْنِ"؛ يعني: من بني سلِمة من الأنصار، سلميين "كَانَا قَدْ حَفَرَ السَّيْلُ قَبْرَهُمَا"؛ أي جرى السيل في المكان الذي دفن فيه، وقد دفنا في قبر واحد وذلك أنه ﷺ بعد أُحد وكان الشهداء كثير -سبعون شهيد-، وكان البقية جرحى ويصعب عليهم أن يحفروا لكل واحد قبرًا، فكان يدفن الاثنين والثلاثة في قبر واحد. فتبين أنه:
للضرورة يجوز الجمع بين الاثنين والثلاثة في قبر واحد.
وينبغي أن يجعل إلى جهة القبلة أكبرهم أو أكثرهم أخذًا للقرآن.
وإن كانوا رجال ونساء؛ فيقدَّم الرجُل إلى جهة القبلة، ولو كان ابنًا بأن تكون أمه أو جدته؛ فيقدَّم الرجُل إلى جهة القبلة.
فكان ذلك ما حصل في يوم أُحد، فكان يجمع الاثنين والثلاثة في قبر واحد ﷺ. إذا جاؤوا إليه يسأل أيُّهما أكثر أخذًا للقرآن فإنه يشير إلى أحدهما أو أحدهم قدَّمه إلى جهة القبلة، وجعل الثاني خلفه وهكذا.
وجري السيل هذا جرى بعد مرور فترة طويلة في إمارة معاوية في السنة الثانية من إمارته، فمرّ بقبور الشُّهداء، وجاء عن سيِّدنا جابر يقول: جاء رجل قال: يا جابر لقد أثار أباك عُمّال معاوية، فبدأ فخرج طائفة منهم فانطلقت إليه، فوجدته على النحو الذي دفنته لم يتغير، وكان هذا بعد مرور سِتٌّ وَأَرْبَعينَ سَنَةً على دفنهم رضي الله عنهم. وهذا أيضًا آية من آيات الله ومعجزة من معجزات رسول الله ﷺ، بل ومن معجزات الأنبياء، أن أجسادًا من بني آدم من أتباع الأنبياء الذين قتِّلوا على ما بُعث به الأنبياء، لم تأكل الأرض أجسادهم. ومَن أتباع الأنبياء كذلك الأكابر من غير الذين قُتلوا في المعارك، لم تأكل الأرض أجسادهم. بينما غير أتباع الأنبياء، ولا واحد بقي جسده، فماذا يدل عليه؟ ماذا يدل هذا؟ على أن الحق مع الأنبياء وأتباعهم فقط. وإلا لِمَ بقيت أجساد هؤلاء، وأجساد الآخرين لم تبقَ؟ ولماذا فرّقت الأرض بين جسد وجسد؟ فكان من خيار المؤمنين من الأُمم مَن لا تأكل الأرض أجسادهم، كجميع النَّبيين وبعض أتباعهم وكُمّل أتباعهم، وهم الذين قتلوا على ما بُعِث به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وعلى أتباعهم، ورزقنا حُسن اتباعهم.
جاء عن سيِّدنا جابر، يقول: صُرخ بنا إلى قتلانا يوم أُحد حين أجرى معاوية العين، فأخرجناهم بعد أربعين سنة، سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، لينة أجسادهم، تتثنى أطرافهم. وجاء عن جابر أيضًا، قال: كان عبد الله بن عمرو رجلًا أحمر أصلع ليس بالطويل، وكان عمرو بن الجموح رجلًا طويلًا، فعُرفا، فدُفنا في قبر واحد، وكان قبرهما مما يلي المسيل، فدخله السيل، فحفر عنهما وعليهما نَمِرتان. قال جابر: فرأيت أبي في حفرته كأنه نائم، وما تغيّر من حاله قليل ولا كثير، قيل له: فرأيت أكفانه؟ قال: إنما كُفِّن في نمرة خُمِّر بها وجهه، وجُعل على رجليه الحرمل، فوجدنا النمرة كما هي والحرمل على رجليه على هيئته حتى الذي تعلق به من الشَّجر والثّياب أيضًا احتُرم ولم يتغيّر مع مرور السنين! وقال: وبين ذلك ستة وأربعون سنة.
وهكذا جعل الله هذه الآيات لنا في شهداء أُحد -عليهم رضوان الله- وقد وقف ﷺ عليهم، يقول: أشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة، وقال: والذي نفسي بيده، لا يقف عليهم أحد فيُسلِّم عليهم إلى يوم القيامة إلا ردّوا عليه السَّلام.
وهكذا لمَّا كتب معاوية أن انبشوهم، قال جابر: فرأيتهم يُحملون على أعناق الرجال كأنهم قومٌ نيام، وأصابت المِسحات إصبع رجل سيِّدنا حمزة فانبعثت دمًا؛ خرج الدَّم منها، فوجدوا بعض الصَّحابة واضعًا يده على جرحه، فلمَّا أماطوها ردّها كما كانت، رجعت، وقد له ستة وأربعين سنة من حين قُتِل عليهم الرضوان. والعجيب أنهم وجدوا بعض الصَّحابة في القبر متصافح، متصافح هو وأخوه، تصافحوا بعد الموت عليهم رضوان الله تبارك وتعالى. (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران:169].
وقال: "وَهُمَا مِمَّنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَحُفِرَ عَنْهُمَا لِيُغَيَّرَا مِنْ مَكَانِهِمَا"؛ لأجل مرور السيل فيه وحينئذٍ عُرف أيضًا لا يجوز أيضًا نبش القبر إلا لضرورة، ومنه إذا خيف عليه في المكان فيُنقل كما كان لشهداء أُحد. قال: "فَوُجِدَا لَمْ يَتَغَيَّرَا، كَأَنَّهُمَا مَاتَا بِالأَمْسِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ جُرِحَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جُرْحِهِ، فَدُفِنَ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَأُمِيطَتْ يَدُهُ عَنْ جُرْحِهِ"، أُبعدت "ثُمَّ أُرْسِلَتْ، فَرَجَعَتْ كَمَا كَانَتْ" يسد جرحه مكانه، قال: "وَكَانَ بَيْنَ أُحُدٍ وَبَيْنَ يَوْمَ حُفِرَ عَنْهُمَا سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً".
يقول سيِّدنا جابر: لمّا حضر أُحُد دعاني أبي من الليل، قال: ما أراني إلا مقتولًا في أول مَن يُقتل من أصحاب النَّبي ﷺ، وإنه لا أعزّ عليّ بعد رسول الله ﷺ منك، وإني تركت بنات فقم بهم وارعهم من بعدي؛ على أخواته، وأوصاه بأخواته، وكان عنده تسع أخوات معه، وما كنت أُؤثرك لتخرج مع النَّبي، قال: وأنا أراني أول من يُقتل غدًا مع النَّبي ﷺ. يقول: فأصبحنا، فكان أول قتيل. وكان قد سبق لسيِّدنا جابر أنه قد نقل والده قبل هذا -بعد ستة أشهر من المعركة- وأفرده في قبر واحد ثم نقله مع النقلة الثانية التي بعد ست وأربعين سنة وهم كما هم.
محمود الصوّاف -الله يرحمه- يذكر أنه كان قبل أربعين، خمسين سنة، لمَّا جاءت أيضًا السيول وظهر قبر سيِّدنا حمزة ووُجد كما هو، وهو ممَن شاهده مع بعض الشيوخ وهم من هناك، وخرجوا ووجدوا سيِّدنا حمزة بهيئته ولحيته وبقر بطنه وما كان في يوم أن قُتل يوم أُحد، ما عادها ستة وأربعين بل قد صارت ألف وأربعمائة سنة، بعد ألف وأربعمائة سنة وزيادة، لا ستة وأربعين سنة -عليهم رضوان الله- (بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) [آل عمران:169-170].
سيِّدنا جابر يقول: دُفِن معه؛ يعني مع أبيه آخر في قبره ثم لم تطِب نفسي أن أتركه مع الآخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته. لا إله إلا الله.. فلمَّا جاء وقت مسيل السيل على مكان شهداء أُحُد، خرج معهم ثاني مرة ونقل أباه إلى هذا الموطن، فنُقِل سيِّدنا حمزة إلى هذا الموطن الذي هو فيه، معه سيِّدنا مُصعب بن عُمير وعبد الله بن جحش، وفي آخر السور عدد كثير من الصحابة، أكثر شهداء أُحد، باقي قليل منهم في حوش قريب من المنطقة، فهم في هذه القبور الآن التي قُبروا فيها، عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
"قَالَ مَالِكٌ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُدْفَنَ الرَّجُلاَنِ وَالثَّلاَثَةُ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ مِنْ ضَرُورَةٍ"، إن ضاق الأمر عليهم أو كانوا متعبين ولا يستطيعون الحفر إلى غير ذلك من الضرورات؛ فيجوز أن يُقبروا "وَيُجْعَلَ الأَكْبَرُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ". كان ﷺ يجمع بين الرجلين من قتلى أُحد في قبر واحد، يقول: أيهما أكثر أخذًا للقرآن؟ فإذا أُشير إلى أحدهما قدَّمه في اللحد.
ثم ذكر: "عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مَالٌ مِنَ الْبَحْرَيْنِ فَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأْيٌ"؛ يعني: وعد "أَوْ عِدَةٌ فَلْيَأْتِنِي، فَجَاءَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ"، وقال له: إن النَّبي ﷺ كان قال لي إذا قد جاءنا مال البحرين لأعطيتك هكذا، وهكذا، وهكذا (بجمع كفّيه) فجاء إلى عند سيِّدنا أبو بكر وأخبره، قال: قال لك النَّبي كذا؟ قال: أي خذ هكذا أعطاه إياها قال: كم؟ عدّها قال: خمسمائة. قال: خذ مثلها مرتين، هكذا، وهكذا. خذ فوقها مثلها مرتين، خذ من أجل إنفاذ وعده ﷺ الذي وعد به. جاءه جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنه-، فأعطاه هكذا، وهكذا، وهكذا، فطلع ألف وخمسمائة لأنه هكذا طلعت خمسمائة. قال: خذ لك مثلها مرتين؛ فأعطاه ألف وخمسمائة. "فَحَفَنَ لَهُ ثَلاَثَ حَفَنَاتٍ"، فاستدعى سيِّدنا أبو بكر مَن كان له عند رسول الله ﷺ عِدا ليفي بعهده وينجز وعده ﷺ كونه الخليفة وليقضِ عنه ما وعد به. فاعتنى بذلك سيِّدنا أبو بكر الصِّديق رضي الله تبارك وتعالى عنه.
يُكرمنا الله وإياكم بصدق الإقبال مع كمال القبول وصلاح كل حال، والتّنقي عن الشَّوائب وارتقاء عالي المراتب، والصِّدق معه في كل شأن، وارتقاء أعلى مكان في لطفٍ وعافية بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
28 مُحرَّم 1443