شرح الموطأ -242- كتاب الجهاد: باب ما جاء في الخيْل والمسابقة بينها، والنَّفقة في الغَزْو

شرح الموطأ -242- بَابُ مَا جَاءَ فِي الْخَيْلِ وَالْمُسَابَقَةِ بَيْنَهَا، وَالنَّفَقَةِ فِي الْغَزْوِ، من حديث: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ ..
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجهاد، بَابُ مَا جَاءَ فِي الْخَيْلِ وَالْمُسَابَقَةِ بَيْنَهَا، وَالنَّفَقَةِ فِي الْغَزْوِ.

فجر الأحد 21 محرم 1443هـ.

باب مَا جَاءَ فِي الْخَيْلِ وَالْمُسَابَقَةِ بَيْنَهَا وَالنَّفَقَةِ فِي الْغَزْوِ.

1343- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".

1344- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِى قَدْ أُضْمِرَتْ، مِنَ الْحَفْيَاءِ، وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ، إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ مِمَّنْ سَابَقَ بِهَا.

1345- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: لَيْسَ بِرِهَانِ الْخَيْلِ بَأْسٌ إِذَا دَخَلَ فِيهَا مُحَلِّلٌ، فَإِنْ سَبَقَ أَخَذَ السَّبَقَ، وَإِنْ سُبِقَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ.

1346- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رُئِيَ وَهُوَ يَمْسَحُ وَجْهَ فَرَسِهِ بِرِدَائِهِ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: "إنِّي عُوتِبْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْخَيْلِ".

1347- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ خَرَجَ إِلَى خَيْبَرَ أَتَاهَا لَيْلاً، وَكَانَ إِذَا أَتَى قَوْماً بِلَيْلٍ، لَمْ يُغِرْ حَتَّى يُصْبِحَ، فَلَمَّا أصْبَحَ، خَرَجَتْ يَهُودُ بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ".

1348- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْ هَذِهِ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ".

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرِمِنا بشريعته ودينه، وبيانها على لسان عبده وحبيبه وأمينه، سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه المخصوصين بتأييد الله وتمكينه، وعلى مَن والاهم واتبعهم بإحسان، وعلى أنبياء الله ورسله مَن رفع الله لهم المنزلة والقدر والشأن، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى الملائكة المقرَّبين، وعلى جميع عباد الله الصَّالحين وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.

ويذكر الإمام مالك -عليه رحمة الله تعالى-  بعض ما جاء في الخيل؛ أي: في فضلها وإعدادها لأجل الجهاد في سبيل الله والمسابقة بينها استعدادًا للجهاد وترويضًا على العمل في الطاعات "وَالنَّفَقَةِ فِي الْغَزْوِ"؛ أي: فضل النَّفقة في سبيل الله تبارك وتعالى. 

"باب مَا جَاءَ فِي الْخَيْلِ"، وهو يُطلق على جماعة الأفراس، وسُميت بالخيل، وجمعها على خيول؛ لاختيالها في المشي، وقد أقسم الحق تعالى بها في قوله: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) [العاديات:1-2]؛ أشار إلى الخيل تعدو في سبيل الله وتوري القدح بوطئها بأقدامها في الحجارة، وتصبيحها للعدو مغيرة عليه (فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) [العاديات:3]. فما يحصل من أثر إثارة الغبار بسبب وطء أرجلها في الأرض (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) [العاديات:4-5]. 

وكان لرسول الله ﷺ خيل ولها أسماء: فواحد يُدعى بالسّكْبِ، وواحد يدعى بالمرتجز، وواحد يدعى باللُّحيِّف، وواحد يدعى باللزاز، وواحد يدعى بالمُلاوح. وقد وهب سيِّدنا عُمَر هذا الذي يُدعى بالمُلاوح أو الذي يدعى بالضّرس، ثم جعله في سبيل الله، فأعطاه سيِّدنا عُمَر لمجاهد ثم قام بالغزو عليه ذلك المجاهد ثم وجده يُباع برُخصٍ، فسأل النَّبي في شرائه، فنهاه عن ذلك وقد أخرجه في سبيل الله، ونهاه أن يرجع إليه ولو وجده بأرخص ما يكون. "وَالْمُسَابَقَةِ بَيْنَهَا"؛ فإن في السِّباق أيضًا ترويضٌ للإنسان وللخيل، وفيه التَّقويّ على شأن الجهاد في سبيل الله. وفضل الإنفاق في سبيل الله، قال: "وَالنَّفَقَةِ فِي الْغَزْوِ". 

وأورد لنا حديث ابن عُمَر: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ"، أو قال: "الْخَيْلُ معقودٌ في نواصيها الخير" من دون أن يقول معقود. يقول: "الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ"، وفي رواية "معقود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ"، "إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"، الحديث قد جاء في الصَّحيحين وغيرهما. وفيه: أنه يبقى أثر الجهاد في سبيل الله بواسطة الخيل على مدى القرون في الأُمة، ولم يزل يُعَدُّ عُدّة تأخذه وتتخذه الجيوش مع تقدَّم ما عندهم وتطوّر ما عندهم من الأسلحة في القتال، فلا يغتنون أيضًا عن الخيل في بعض المواقع وبعض الأحوال، فيُحتاج إلى الخيل. وفيه إشارة إلى أنه:

  • تبقى في الأُمة. 

  • وتبقى مظاهر الجهاد في سبيل الله إلى آخر الزمان. 

وجاء في رواية الإمام أحمد بن حنبل -عليه رحمة الله ورضوانه- أن النَّبي ﷺ قال: "الخيلُ في نواصيها الخير معقودٌ أبدًا إلى يوم القيامة، فمن ربطها عُدّةً في سبيل الله، وأنفق عليها احتسابًا في سبيل الله فإن شبعها وجوعها، وريّها وظمأها، وأرواثها وأبوالها فلاحٌ في موازينه يوم القيامة" إلى آخر ما جاء في الحديث الشَّريف. وكنَّى بناصية الخيل عن ذات الفرس والخيل كله، وخصّ النَّاصية بالذكر لرفعة قدرها. والنَّاصية: الشَّعر المسترسل على جبهة الخيل. 

وجاء في رواية الإمام مسلم، يقول سيِّدنا جرير: رأيت رسول الله ﷺ يلوي ناصية فرسه بإصبعه ويقول: "الْخَيْلُ معقود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". وجاء في رواية عنه ﷺ: البركة تنزل في نواصي الخيل. والرواية الأُخرى، "الخير معقودٌ في نواصي الخيل". 

و جاء في تفسير المراد بالخير؛ من جملة ما أراد ﷺ بالخير، قيل: الأجر والمغنم. "الْخَيْلُ معقود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"؛ الأجر والمغنم، فأشار إلى تفضيل الخيل على ما سواها. وجاء في سُنن النَّسائي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله ﷺ من الخيل. 

ثم أورد لنا حديث ابن عُمَر -رضي الله عنه-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَابَقَ"؛ أي: أجرى بنفسه الشَّريفة "بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِى قَدْ أُضْمِرَتْ، مِنَ الْحَفْيَاءِ"؛ وأُضمرت؛ المراد بها تُعلف حتى تسمن وتقوى، ثم يُقلّل عَلَفها بقدر القوت، وتدخل بيت تُغشّى فيه بالجلال حتى تحمى فتعرق، فإذا جفّ عرقها؛ خفّ لحمها وقويت على الجري، فهذا تضمير الخيل؛ وهو أسرع الخيول جريًا ومشيًا: الخيل المضمَّر، فيرتبونه بشيء من منع بعض العلف واستجلاب العرق لها، ما يتعلق بذلك من ما يُهيأ الخيل قوة الجري. أما قوله "مِنَ الْحَفْيَاءِ"؛ فهو مكان محدد جعل انطلاق الخيل منه. "وَكَانَ أَمَدُهَا"؛ يعني: غايتها "ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ"؛ يعني: أعلى الجبل الذي يتم التوديع عنده، وطرف العقبة في الجبل يقال له: ثنية. 

○ وهناك ثنية مشرفة على المدينة يمر بها مَن يريد مكَّة، وهي التي قالوا فيها عند مجيئه في عام الهجرة: طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع. 

○ وهناك ثنية أخرى أيضًا مشرفة على الطريق الذاهب إلى أرض الشَّام، فتلك أيضًا ثنية منها تلقوه عند رجعوه من تبوك، وأنشدوا طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع أيضًا.

 فهنا ثنية للوداع، وهنا ثنية للوداع. هذا في شق من المدينة، وهذا في شق آخر. هذا على طريق مكَّة، وذاك على طريق الشَّام. وبين الحفياء وثنية الوداع نحو خمس أميال، وهذا غاية ما يتم المسابقة فيه. 

"وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ، إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ"، مسافة أقرب؛ لأنها لم تطيق الجري مثل تلك، ففرّق بين الخيل المضمّرة وغيرها. وسمِّي مسجد بني زُريق لصلاتهم فيه، قبيلة من الأنصار يقال لهم: بني زُريق. ففيه يقال مسجد بني فلان، ومسجد بني فلان، وبني فلان. وترجم البُخاري بهذه الترجمة، ولم يروا في ذلك بأسًا، ولم يروا فيه مخالفة ولا مناقضة لمعنى أن المساجد لله. وقال البُخاري في بعض تراجمه: ما يقال به مسجد بني فلان. 

يقول ابن عُمَر: وكنت فيمَن أجرى؛ أي: الخيل في المسابقة، فوثب بي فرسٌ جدارًا. جاء في رواية قال: فسبقت النَّاس فطفّف بي الفرس في مسجد بني زريق؛ يعني: جاوز مسجد الحدّ المعلوم الغاية. إذًا ففيه مشروعية المسابقة بالخيل، فيكون من الرياضة المحمودة التي يُتوصل بها إلى مقاصد في الغزو والانتفاع عند الحاجة، فهي ما بين الإباحة والاستحباب على حسب المقاصد. وما يراد بالمسابقة عليها.

فمَن سابق غيره كان اجتهاده لنفسه وفرسه أكثر من جهاده واجتهاده إذا انفرد بالجري، ولأجل ما يجعل الله من طبيعة التنافس جاء تشريع التسابق أو المسابقة لمحبة نفس الإنسان ليغلب غيره، لبعث همة الإنسان وقواه في الخير

  • فالمسابقة على الخيول بغير عِوَض؛ جائزة بالاتفاق.

  • واشترط فيها المالكية والشَّافعية أن يكون على الخف والحافر والنّصل. 

  • وخصّه بعضهم بالخيل. 

  • وكذلك ما كان من عوض من غير المتسابقين، أحدهم خارج يقول: للذي يسبق منكم أعطيه كذا وكذا.

ثم أورد لنا حديث: "سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: لَيْسَ بِرِهَانِ الْخَيْلِ بَأْسٌ إِذَا دَخَلَ فِيهَا مُحَلِّلٌ"؛ يعني: إذا لم يكن يلزم أحد الطرفين بتسليم مالٍ يظفر به أو بمثله إن سبق ويفوته إذا سبق؛ فهذا ما يجوز، داخل فيما حرَّم الله من هذا الرهان الذي جُعِل من أنواع الميسر. 

  • وإنما إذا كان العوض من غير المتسابقين؛ فيجوز أن يدفع شيئًا تشجيعًا للسابق منهم فيعطيه إياه؛ هذا معنى قوله: "إِذَا دَخَلَ فِيهَا مُحَلِّلٌ"، والمحلل وصفه يقول: "فَإِنْ سَبَقَ أَخَذَ السَّبَقَ، وَإِنْ سُبِقَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ".

  • إنما المحرَّم أن يُجعل على كل واحد شيء فإن سَبَق أخذ الكل، وإن سُبق فاته ما وضعه فهذا هو من نوع الميسر والقُمار المحرَّم.

عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ:" مرسلٌ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رُئِيَ وَهُوَ يَمْسَحُ وَجْهَ فَرَسِهِ بِرِدَائِهِ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ"؛ لأنه لا يُعهد منه مثل ذلك في مسح وجه فرسه بردائه الشَّريف على سبيل الإكرام والمبالغة في المراعاة والإحسان، "فَقَالَ: إنِّي عُوتِبْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْخَيْلِ"؛ أي: في ترك مراعاتها والتّعهّد لها والإحسان إليها لما خصّها الله بأن جعلها سبب للخير من الأجر والمغنم.

وأورد لنا حديث: "أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ خَرَجَ إِلَى خَيْبَرَ" في السنة السابعة من الهجرة الشريفة، خرج في آخر مُحرَّم، وفتح حصنًا حصنًا بعد أن حاصرهم بضعة عشرة ليلة. في أثناء تلك الغزوة، جاءه ما قد ينازله أحيانًا من الصُّداع الشديد ﷺ حتى في بعض الأيام لم يخرج إلى النَّاس، فأمر سيِّدنا أبا بكر أخذ الراية وقاتل ثم رجع، ثم كان في يوم اثنين أخذها سيِّدنا عُمَر بن الخطاب وقاتل أشد من الأول ورجع، فالليلة الثالثة قال رسول الله ﷺ: لأُعطيّنّ الراية غدًا رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فتطاول لها النَّاس، فجاء سيِّدنا علي وكان قد وصل إلى خيبر تلك الليلة لتخلفه بسبب الرَّمد ثم لم يطق التخلف فمشى برمده، وبات تلك الليلة قريبًا من خيمة النَّبي ﷺ، والرمد شديدٌ عليه بحيث لا يستطع فتح عينيه فيمشي بقائد يقوده من شدة الرمد. فسأل عنه ﷺ، قيل: أنه نزل البارحة، جاء وأنه بجانبك. وقال: ادعوه لي. قالوا: إنه رمد. قال: ادعوه. فجاء ودخل يقوده بعضهم لأنه ما يقدر يفتح عينيه حتى أوقفه بين يدي رسول الله ﷺ، فقرأ وبصق في طرف يديه ومسح بهما عينيه، فذهب الرمد كله في الحال ولم يبقَ به أثر، وفتح عينيه كعادته قبل أن يرمد، ثم لم ترمد عيناه حتى مات، ولم يصبهما وجعٌ حتى مات. قال: فما وجعتا -يعني عيناه- بعد. قاتل وطرح الترس من يده، أخذ بابًا من الحصن؛ باب الحصن الأخير هذا الذي تأخر فتحه؛ قلع باب الحصن وتترّس به بدل الترس، وضع ترسه المعتاد وقلع الباب وتترس به! فلم يزل يقاتل وهو حامله بيد والسيف باليد الأخرى ثم ألقاه من يده، وجاء سبعة من الصَّحابة أو تسعة أرادوا قلب الباب فلم يستطيعوا أن يقلبوه؛ لا أن يحملوه بل يقلبوه فقط من ثقله وشدته، فما استطاع سبعة أن يقلبوا الباب؛ فعُلم أنه كان دخوله بحالٍ وبما دفعه له به ﷺ ودعا له، وقال: يفتح الله على يديه. فهؤلاء السبعة لم يستطيعوا قلب الباب؛ ليس حمله بل يقلبوه فقط ما قدروا، ما قدروا أن يحركوه من ثقله وهو أخذ ساعات حامله بيد واحدة يقاتل متترس به، ويضرب باليد الأخرى عليه الرضوان. وفيها نزلت: (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ)؛ يعني: فتح خيبر، بعدها جاء فتح مكَّة (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ) [الفتح:20] سبحانه عزّ وجل.

قال: "أَتَاهَا لَيْلاً"؛ وصل في الليل إلى مبادئ خيبر صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم. ويقول أنس: صبَّحنا خبير بُكرة؛ يعني قدموها ليلًا وباتوا دونها ثم ركبوا إليها في الصباح. وقال ﷺ: "إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ". فوصل إلى خيبر ليلًا ونزل وصبَّحها في الصباح. وكان بين اليهود وبين غطفان -قبيلة هؤلاء من العرب- حِلف ومُصالحة، ونزل ﷺ في مكان بينهم وبين غطفان لئلا يمدّوهم، وتجّهز غطفان وقصدوا خيبر وسمعوا حسًّا من خلفهم، ظنّوا أن المسلمين خلفوهم في ذراريهم، رجعوا أقاموا وخذلوا أهل خيبر ولم يقوموا معهم. 

"وَكَانَ -ﷺ- إِذَا أَتَى قَوْماً بِلَيْلٍ، لَمْ يُغِرْ"؛ لم يدخل عليهم بالقتال في الليل على غير أُهبة واستعداد، فلم يغزُ حتى يصبح؛ يدخل في الصباح؛ يطلع الفجر. فليس للوقت غارة، وفيه مراعاته ﷺ لأحوال النَّاس، ويتأكد أنه لم يدخل الإسلام في البلدة بأن لا يسمع الأذان فيها. فخرج اليهود على عادتهم الذين يخرجون إلى المزارع "بِمَسَاحِيهِمْ". وجاء في المغازي عند الواقدي وغيره: أن أهل خيبر لمَّا توقعوا قصد النَّبي ﷺ لهم، كانوا يخرجون كل يوم متسلحين ومستعدين، ولا يرون أحد حتى إذا كانت الليلة التي قَدِم فيها ﷺ ناموا ولم يتحرّك لهم دابة، وفي تلك الليلة لم يَصِح لهم ديك، سكتت وخرست الديكة كلها ما أيقظتهم حتى تمكّن النَّبي والصحابة من أماكنهم في أرض خيبر وهؤلاء في نومتهم، وخرجوا بالمساحي طالبي مزارعهم، وإذا بالمسلمين، فصار ينظر بعضهم لبعض يقول: "مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ". يعني الجيش؛ وصل محمد وجيشه ﷺ ومعهم المساحي والمكاتل. 

  • والمسحاة؛ الآلة من الحديد يسوّى بها الأرض. 

  • والمُكتل؛ قُفّة أو سلة الكبيرة يحوَّل فيها التراب وغيره. 

فلمّا رأوه ﷺ قالوا: هذا مُحمَّد أو جاء "مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ"؛ يقصدون الجيش. فلمّا سمعهم ﷺ قال: "اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ"؛ لأنهم حاملين آلات المساحي والمكاتل "إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ"؛ يعني: في فنائهم ومنازلهم "فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ"؛ أي: يحل عليهم المَثُلات ويهزمون.

ثم أورد حديث: "أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ"؛ أي: شيئين من أي نوع كان،"مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"؛ يعني: في إقامة الجهاد في سبيل الله، "نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ".  "نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ"؛ عند دخول الجنَّة. "يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ"، يعني: خير أبواب الجنة لك تدخل منه، 

  • "فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ"؛ أي: مكثرًا منها بعد أداء الفرائض؛ يُكثر النَّوافل من الرواتب والضُّحى والوتر، كما يحرص على العيدين والتراويح؛ يتنفّل كثيرًا؛ "دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ"؛ يعني: الذي يكون أغلب أعماله الصَّلاة والإكثار منها يُدعى من باب الصلاة. 

  • "وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ"؛ يعني من المكثرين الخروج للجهاد في سبيل الله "دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ".

  • "وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ"؛ يعني: المكثرين منها؛ الذين بعد أداء الزَّكاة يحبون كثرة الصَّدقة "دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ".

  • "وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ". ولمَّا كان الصَّوم من الصَّبر على ألم العطش والظمأ في الهواجر سُمِّي الباب الذي يدخل منه الصَّائمون باب الرَّيان؛ أي: لتعطيشه نفسه الدُّنيا يدخل من باب الرَّيان، يأمن العطش، يشرب شربة لا يظمأ بعدها أبدًا. 

فهنا ذكر، كم أبواب؟ أربعة أبواب من أبواب الجنَّة، مع أن أبواب الجنَّة ثمانية. الباقي الثمانية:

○ باب للحج: وهو لمَن يُكثر الحج، ينادى من باب الحج. 

○ وباب الكاظمين للغيظ: الكاظمين الغيظ والعافين عن النَّاس لهم باب خاص، الذين جروا في الدُّنيا على كظم غيظهم ولا ينفِذون غضبهم على أحد من النَّاس، فلهم باب خاص يُنادون منه للدخول إلى الجنَّة. إن لله بابًا في الجنَّة لا يدخله إلا مَن عفا عن مظلمة.

○ وباب المتوكلين على الله تبارك وتعالى.

○ وباب الوضوء: لمَن كان يُديم الطهارة والوضوء.

فهذه ثمانية أبواب للجنَّة. وللأُمة أيضًا باب، جاء في الحديث عند الإمام أحمد وغيره، يقول ﷺ:  "أمتي أمتي، يا رب، فيقول: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب". وكل باب من أبواب الجنَّة فما بين مصراعيه مسيرة شهرين، وتأتي ساعة في ساعة الدخول تزدحم بعض الأبواب بالداخلين حتى تلتصق أكتافهم، تكاد تنخلع من كثرتهم، اللَّهم ادخلنا جنَّتك.

ولمَّا ذكر ﷺ الأبواب، كلٌ يُدعى من باب "فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْ هَذِهِ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ"؛ أي: ما هناك ضرورة أن يكون يُدعى من هذا الباب، ومن هذا الباب، فيدخل من أيُّها شاء ولا يُحدّد له باب دون آخر. "فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ" عند دخول الجنَّة "مِنْ هَذِهِ الأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ النبي ﷺ: نَعَمْ" يُنادى بعضهم من بابين، من ثلاثة، من أربع، بعضهم من الثمانية كلهم، يُقال له تفضل أدخل من أيُّها شأت. قال ﷺ لسيِّدنا أبو بكر: "وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ"؛ أن يُدعى من الأبواب الثمانية كلها، فرضيَ الله تعالى عن أبي بكر الصِّديق.

وقال ﷺ: مَن قال بعد الوضوء أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، دُعي من أبواب الجنَّة الثمانية، يدخل من أيّها شاء. وقال: "إذا صلَّت المرأةُ خمسَها، وصامت شهرَها، وحفِظت فرجَها، وأطاعت زوجَها، قيل لها ادخُلي الجنَّةَ من أيِّ أبوابِ الجنَّةِ شئتِ". اللَّهم اجعلنا من أهل جنَّتك، واجعلنا من السَّابقين إليها ومَن داخليها بغير حساب برحمتك يا أرحم الرَّاحمين. قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ) [الأنفال:60].

أصلح الله أحوال المسلمين، وأقام بينهم الجهاد الصَّحيح الصَّالح الخالص المكين، وردَّ به كيد الفاجرين والمعتدين والغاصبين والمُنافقين، وأصلح الله شؤوننا وشؤون المسلمين أجمعين بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي الأمين ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

27 مُحرَّم 1443

تاريخ النشر الميلادي

04 سبتمبر 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام