شرح الموطأ -241- كتاب الجهاد: باب ما يُكْره مِنَ الشَّيء يُجعل في سبيل اللَّه، وباب التّرغيب في الجهاد

شرح الموطأ -241- بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الشَّيْءِ يُجْعَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، من حديث: يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَحْمِلُ فِي الْعَامِ ..
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجهاد، باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الشَّيْءِ يُجْعَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وباب التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ.

فجر السبت 20 محرم 1443هـ.

باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الشَّيْءِ يُجْعَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

1337- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَحْمِلُ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفِ بَعِيرٍ، يَحْمِلُ الرَّجُلَ إِلَى الشَّامِ عَلَى بَعِيرٍ، وَيَحْمِلُ الرَّجُلَيْنِ إِلَى الْعِرَاقِ عَلَى بَعِيرٍ، فَجَاءَهَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَقَالَ: احْمِلْنِى وَسُحَيْماً. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: نَشَدْتُكَ اللَّهَ أَسُحَيْمٌ زِقٌّ؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ.

 باب التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ

1338- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ، يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، فَتُطْعِمُهُ، وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْماً، فَأَطْعَمَتْهُ وَجَلَسَتْ تَفْلِي فِي رَأْسِهِ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْماً، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكاً عَلَى الأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ". يَشُكُّ إِسْحَاقُ. قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَدَعَا لَهَا، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُضْحِكُكَ؟ قَالَ: "نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مُلُوكاً عَلَى الأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ". كَمَا قَالَ فِي الأُولَى، قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: "أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ". قَالَ: فَرَكِبَتِ الْبَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ، فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ.

1339- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لأَحْبَبْتُ أَنْ لاَ أَتَخَلَّفَ عَنْ سَرِيَّةٍ تَخْرُجُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَكِنِّي لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، وَلاَ يَجِدُونَ مَا يَتَحَمَّلُونَ عَلَيْهِ، فَيَخْرُجُونَ، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا بَعْدِي، فَوَدِدْتُ إنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا فَأُقْتَلُ".

1340- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَاري؟". فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَطُوفُ بَيْنَ الْقَتْلَى، فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ مَا شَأْنُكَ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: بَعَثَنِي إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لآتِيَهُ بِخَبَرِكَ. قَالَ: فَاذْهَبْ إِلَيْهِ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلاَمَ، وَأَخْبِرْهُ إنِّي قَدْ طُعِنْتُ اثْنَتَىْ عَشْرَةَ طَعْنَةً، وَأَنِّي قَدْ أُنْفِذَتْ مَقَاتِلِي، وَأَخْبِرْ قَوْمَكَ أَنَّهُ لاَ عُذْرَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، إِنْ قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَوَاحِدٌ مِنْهُمْ حَيٌّ.

1341- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَغَّبَ فِي الْجِهَادِ، وَذَكَرَ الْجَنَّةَ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَأْكُلُ تَمَرَاتٍ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: إنِّي لَحَرِيصُ عَلَى الدُّنْيَا إِنْ جَلَسْتُ حَتَّى أَفْرُغَ مِنْهُنَّ، فَرَمَى مَا فِي يَدِهِ، فَحَمَلَ بِسَيْفِهِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.

1342- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّهُ قَالَ: الْغَزْوُ غَزْوَانِ، فَغَزْوٌ تُنْفَقُ فِيهِ الْكَرِيمَةُ، وَيُيَاسَرُ فِيهِ الشَّرِيكُ، وَيُطَاعُ فِيهِ ذُو الأَمْرِ، وَيُجْتَنَبُ فِيهِ الْفَسَادُ، فَذَلِكَ الْغَزْوُ خَيْرٌ كُلُّهُ، وَغَزْوٌ لاَ تُنْفَقُ فِيهِ الْكَرِيمَةُ، وَلاَ يُيَاسَرُ فِيهِ الشَّرِيكُ، وَلاَ يُطَاعُ فِيهِ ذُو الأَمْرِ، وَلاَ يُجْتَنَبُ فِيهِ الْفَسَادُ، فَذَلِكَ الْغَزْوُ، لاَ يَرْجِعُ صَاحِبُهُ كَفَافاً.

 

نص الدرس مكتوب:

 

الحمد لله مُكْرِمِنا بالدّين العظيم والمنهج القويم والصِّراط المستقيم، وبيانه على لسان عبده ورسوله وحبيبه الرَّؤوف الرَّحيم سيِّدنا مُحمَّد بن عبد الله صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وأصحابه أفضل الصَّلاة والتَّسليم، وعلى مَن والاه في الله واقتدى به واتبع نهجه القويم، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل الكرامة والتَّعظيم، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المُقربين وجميع عباد الله الصَّالحين من كل ذي قلبٍ سليم، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم كريم وأرحم رحيم.

أما بعدُ،

فيذكر لنا الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- الأحاديث المتعلقة بالجهاد في سبيل الله، وقال: "باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الشَّيْءِ يُجْعَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"؛ أي: من الرجوع في أخذ شيءٍ قد جُعل في سبيل الله -تبارك وتعالى-، فإنه قد جاء أَنَّ سيِّدنا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- كان قد أنفق خيلًا في سبيل الله ثم وجده يُباع، فأراد أن يشتريه، فنهاه النَّبي ﷺ عن ذلك. فما جُعل وأخرج في سبيل الله فلا ينبغي أن يعود إليه. بل على العموم "الراجع في هبته كالعائد في قيئه"، ولو كان بالشراء يشتريه من الغير، لا ينبغي إذا قد أخرجه من أجله، أن يفكر في العود إليه ولا في ردّه إليه بأي طريقة كان.

"باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الشَّيْءِ يُجْعَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"؛ أي الرجوع فيه. ثم ذكر حديثًا آخر عن سيِّدنا "عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- أنه كَانَ يَحْمِلُ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفِ بَعِيرٍ"؛ يعني: لكثرة مَن يُسافر ممَن يحتاج إلى سفر، منهم الذين يخرجون في مصالح المسلمين وفي الغزو في سبيل الله، ومنهم ذوي الحاجة من ذوي الآفاق الذين يفدون إلى المدينة ثم لا يجدون ما يردهم إلى أهلهم وإلى أولادهم وآفاقهم، وأمثال هذا، فكان يحملهم ويعطيهم من الإبل التي عنده من بيت المال. وكان إذا أحدٌ مسافر إلى الشَّام ولو واحدًا، أعطاه بعيرًا يأخذه. وإن كان مسافر للعراق، يعطي الاثنين بعير، يصير كل اثنين في بعير؛ لأن طريق العراق كانت أسهل وأعمر، وطريق الشَّام كانت أطول وأبعد عن العمران يُخاف فيها الهلاك والجهاد قائم في تلك الجهات، وكذلك لشيءٍ من الحِكم التي جعل بالجهاد أن للرجل الواحد للشام بعير وللرجلين إلى العراق بعير. فرتب ذلك فكان فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ يحمل  أَرْبَعِينَ أَلْفِ بَعِيرٍ ويعطيها الذاهبين إلى تلك الأماكن لما وفّر الله في بيت مال المسلمين، ولكثرة تردد المؤمنين على مدينة رسول الله ﷺ، ثم كثرة الحاجة إلى الخروج للجهاد وغيره من المقاصد الحسنة. ولا يجدون ما يحملهم، فيحملهم حتى يصل فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ إلى أَرْبَعِينَ أَلْفِ بَعِيرٍ يحملهم عليها.

"يَحْمِلُ الرَّجُلَ إِلَى الشَّامِ عَلَى بَعِيرٍ، وَيَحْمِلُ الرَّجُلَيْنِ إِلَى الْعِرَاقِ عَلَى بَعِيرٍ -الاثنين-، فَجَاءَهَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ" وهو يريد أن يأخذ بعير وحده، ويستقل به ويركبه من دون ما أحد ثاني يشاركه. فجاء إلى عند سيِّدنا عُمَر يقول: "احْمِلْنِى وَسُحَيْماً." أنا من العراق نرجع إلى بلدنا. "احْمِلْنِى وَسُحَيْماً"، لمّا نطق بهذه الكلمة، تحرك قلب سيِّدنا عُمَر؛ ما يقصد بسحيم؟ فهو الآن يوهم أنه عنده رجل آخر اسمه سحيم ويحمله معه من أجل أن يعطيه بعير يحمله، والرَّجل كان معه زِق من جملة متاعه يضع فيه الحاجة يسموه سحيم، فجاء مُورّيًا متحيلًا ليعطيه بعيرًا كاملًا يستقل به وحده، وهو إنما يعطي الرَّجلين الاثنين البعير. فلما نطق بالكلمة اهتز قلب سيِّدنا عُمَر، "فَقَالَ: احْمِلْنِى وَسُحَيْماً. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: نَشَدْتُكَ اللَّهَ أَسُحَيْمٌ زِقٌّ؟" سحيم زق؟ "قَالَ لَهُ: نَعَمْ". قال له: ما هو إلا زِق. 

وفيه ما أشار إليه ﷺ من أن في أمتي محدِّثين وأن عُمَر منهم، وأنه ما تنطوي عليه الحيلة وأنه ظنّه يُصيب. حتى يقول لسيِّدنا ابن عُمَر إذا ذكر الحديث فما سمعت أبي يقول في شيء أظنه يكون كذا إلا كان كما قال، هذا ما يلهمه الله سبحانه وتعالى من التحديث. "أَسُحَيْمٌ زِقٌّ؟ قَالَ لَهُ: نَعَمْ"، حتى قال بالصِّدق، فما كان أن يعطيه البعير حتى يكون معه رجل آخر يدفع إليهما البعير، فيمشيان عليه إلى العراق. 

 

 باب التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ

 

ثم ذكر: "التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ" وهو ذروة سنام الإسلام، وله مظاهر كثيرة منها:

  • ومن أعظمها سدّ ثغور المسلمين بصدّ الذين يدخلون إلى بلاد المسلمين للنيل منهم والأذى.

  • ومنها مواجهة الصَّادين عن سبيل الله، المانعين من نشر دين الله والمقاتلين لأهل المِلّة، فهذا من أعلى مظاهر الجهاد في سبيل الله.

  • ومنها ما يتعلق بالعلم على وجه الإخلاص والصِّدق فيه للعمل وللتعليم.

 ومنها غير ذلك. قال الله لنبيه: (وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان:52]؛ يعني: القرآن. وذلك قبل الإذن بالجهاد في القتال وإنما كان بمكَّة نزلت هذه الآية. وجهاده بمكَّة لم يكن فيه مقاتلة أحد وسمَّاه الحق جهادًا كبيرًا؛ في صبره وتحمُّله ومواصلته لبلاغ الرِّسالة وما كان يلاقي من سبّ وشتم وأذى وضُرّ وكان يصبر على كل ذلك فيتحمله ويواصل تبليغ دعوته فسمَّاه الحق (جِهَادًا كَبِيرًا)، فكان من الجهاد الكبير. وهو ﷺ سيد المجاهدين في مكَّة وفي المدينة، ومن بعد أن اُذِن في القتال وقبل أن يؤذن في القتال للمقاتلين، كان هو سيد المجاهدين صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم. 

وفي فضل الجهاد جاءتنا الآيات والأحاديث (لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ) [النساء:95]؛ يعني: ناس من المتضررين الذين لا يستطيعون الجهاد، يعلم الله من صدق قلوبهم. لولا الضّرر الذي عندهم من عمى وغيره لكانوا في أول الصفوف، ولطاب لهم أن يبذلوا أرواحهم وأنفسهم فهؤلاء (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ)؛ فيبلغون درجة الخارجين والمجاهدين سواء. لكن غيرهم (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ)، لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً ۚ) [النساء:95-96] فكم فرق بين القاعد والخارج؟ ما يستوون (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ).

وهكذا شأن الباذلين في الله، والمُعطين من أجل الله، والمُنفقين في سبيل الله، والباذلين لأرواحهم من أجل مولاهم -جلّ جلاله- يعلو شأنهم وقدرهم. وكل مَن خرج منهم يريد الجهاد في سبيل الله مخلصًا لوجه الله؛ تكفَّل الله له:

○ إن أرجعه سالمًا من الغزو؛ أن يرجعه بما نال من أجر وغنيمة. 

○ وإن توفاه؛ أن يدخله في جنته ورحمته. 

تكفَّل الله لمَن خرج يجاهد في سبيل الله؛ أي: ضمن بذلك. 

بل الذين أنفقوا وقاتلوا، كان فرق بينهم باختلاف الأحوال والظروف، وقال تعالى: (لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ)، كلهم أنفقوا وقاتلوا، أنفقوا وقاتلوا، كلهم أنفقوا وقاتلوا لكن ليس هؤلاء مثل هؤلاء (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ) [الحديد:10]؛ الجنَّة، يرجعون إليها لكن درجات هؤلاء فوق وأعظم من أولئك. قال في فضل الجهاد في سبيل الله -سبحانه وتعالى-. يقول الإمام أحمد بن حنبل: لا أعلم شيئًا بعد الفرائض أفضل من الجهاد. 

يقول: "عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله تبارك وتعالى عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ"؛ منطقة قباء التي أسس فيها مسجد أول ما جاء من مكَّة. "يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ"، فهي خالته من الرّضاع.

○ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، هذه خالة النَّبي ﷺ من الرّضاع. 

○ وأختها أم سليم بنت ملحان، أم أنس بن مالك -رضي الله عنه- وكان يُقال لها الرُّميصاء والغُميصاء.

"فَتُطْعِمُهُ"، فيه: إطعام المرأة إما من مالها أو مال زوجها الذي تعلم أنه يحب أن تطعم وتنفق منه ويُسر بذلك. فتقدِّم لمَن يرد في دارها ويرد عليها من الطعام الذي في البيت، والغالب يكون للزوج ولكن ما عُلم من العرف والعادة أن ذلك معتاد وأنه يُسَر به قلب صاحبه فهو من الحلال. 

"وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ"، فيدور الحكم على ما يُعلم الرّغبة والمسامحة فيه وما يُعلم الشح فيه. 

  • وما عُلم فيه شح؛ لا يجوز أن تنفق من مال زوجها شيئًا ولو طعامًا إذا كان يشحّ بذلك. 

  • وبخلاف إذا كانت تعلم أنه يرضى أو يُسر بذلك.

وجاء أن أسماء قالت للنبي ﷺ: ليس لي مال إلا ما أدخل عليّ الزُّبير؛ تعني: زوجها، فهل علي جناح أن أرضخ منه؟ يعني: أعطي وأنفق؟ قال: ارضخي ما استطعتِ ولا توكِي فيوكى عليكِ. وهكذا جاء عنه ﷺ، "إذا أَنْفَقَتِ المرأة من طعام بيتها غيرَ مُفْسِدَةٍ كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئًا"؛ كلٌّ له أجر كامل للصدقة؛

  • هذا لأنه من كسبه وماله

  • وهذه لأنه بتدبيرها واختيارها

  • والخادم لأنه أوصله وبلّغه 

ما دامت طيبة أنفسهم بذلك. 

"فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ" على أم حرام ابنة ملحان، فلمّا دخل عليها صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم -على حسب عادته- "فَأَطْعَمَتْهُ" من طعام كان عندها كدأبها، "وَجَلَسَتْ تَفْلِي فِي رَأْسِهِ"؛ أي: تستخرج ما كان في رأسه من قمل، ومن الذي تستعمله أم المؤمنين عائشة أو بنت ملحان أو غيرها منهم، لم يكن يوجد في رأسه قمل، ولكن كانوا يفحصون ويمرّون بأيديهم على رأسه الكريم، فيتركهم لذلك لما فيه من المؤانسة والملاطفة، وشيء من الحك لجلدة الرأس، ولا يزجرهم عن ذلك، ولا يجدوا في رأسه شيء من القمل. ولما كان على هيئة فلي، قالوا: تفلي رأسه لأنه على هيئة الفلي فيقولون كذلك. 

"فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْماً، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟" عَلمْت أنه لم يضحك إلا لشيء رآه وشاهده أو تذكّره في شأن أمته وأحوالهم. "قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي"؛ طائفة وجماعة من أمتي "عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ"؛ أي: يغزون ويجاهدون في سبيل الله وذلك من بعده صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم، "غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ"؛ يعني: على ظهر هذا البحر؛ يمشون على السُّفن؛ يركبون السُّفن التي تجري على ظهر هذا البحر. "يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكاً عَلَى الأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ"؛ أي: رأيت منازلهم في الجنَّة على الأسرّة كالملوك في دار الكرامة عليهم رضوان الله تبارك وتعالى. بعضهم يفسره بأنهم في أمنهم وطمأنينتهم وسعة الحال لهم كالملوك في الدُّنيا ولكن الأرجح أنه كان يقصد ما رأى من مآلهم في الجنَّة فهم "يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ" وغزاة، ومن هنا جاء كلامهم في ركوب البحر، ولما كان الغالب فيه وقوع في التلف والهلاك منع سيِّدنا عُمَر ركوب البحر في وقته، وقال: ما أُسأل في القيامة عن راكب في البحر من الغزاة. ثم بعد الخلفاء الراشدين في زمن معاوية بن أبي سفيان فسح المجال ومشوا هؤلاء فيه الذين أشار إليهم الحديث، قالت: قال: "أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ". 

"قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ". فاغتنمت الفرصة وانظر إلى عقليات هؤلاء النِّساء ورغباتهم وأمنياتهم أين يكنّ، قال مجاهدين وغزاة. "قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ"؛ أريد أن أكون مع هؤلاء الذين هم ملوك على الأسرَّة أو كالملوك على الأسرَّة. "فَدَعَا لَهَا"، أن يجعلها الله منهم. 

  • جاء في رواية، قال: "اللَّهم اجعلها منهم". 

  • في رواية جاءت من رواية حماد بن بشر، قال: "أنتِ منهم". 

  • وجاء في صحيح مُسلم أيضًا لما قالت له ذلك، قال: "فإنك منهم". 

  • وجاء في رواية، قالت: يا رسول الله أنا منهم؟ قال: "أنتِ منهم". 

"ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ" الشَّريف -عليه الصلاة والسَّلام - "فَنَامَ" مرة أُخرى، "ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُضْحِكُكَ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي"؛ أي: طائفة أُخرى من أمتي "عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مُلُوكاً عَلَى الأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ. كَمَا قَالَ فِي الأُولَى، قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ". أما قلت لك أنك من أولئك لا هؤلاء، هذه طائفة ثانية؛ يعني لن تدركين هؤلاء، أنت من السّابقين الذي مضوا؛ أي ولن تصلي إلى هؤلاء الطائفة الأخرى، أنت من الطائفة الأولى، صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم. 

"أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ". وفي رواية قال لها: "ولستِ من الآخرين". حتى قالت يا رسول الله في رواية قالت يا رسول الله أنا منهم؟ قال لا، "أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ". قَالَ: "فَرَكِبَتِ الْبَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ" بن أبي سفيان، وقالوا: أن هذه الغزوة كانت وإن كان بنظر معاوية فكانت في خلافة سيِّدنا عثمان، وبعد ذلك منع سيدنا عليّ ركوب البحر، ثم استمر، فسحّه بعد ذلك معاوية، ثم منعه عُمَر بن عبد العزيز في وقته. 

"فَرَكِبَتِ الْبَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ" -رضي الله عنه- "فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ". فلمّا خرجت من البحر في أرض قبرص وقد ركبوا على البحر كما أخبر رسول الله ﷺ، جاهدوا في سبيل الله وفتحوا البلاد ونشروا الإسلام هناك، ولمّا خرجت "فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا"؛ سقطت "فَهَلَكَتْ"؛ فتوفيت -عليها رضوان الله تبارك وتعالى- فلم يزل قبرها في قبرص، وكان أهل قبرص يستسقون به إذا قحطوا فيسقيهم الله -تبارك وتعالى-، ويسمونه قبر المرأة الصَّالحة -عليها رضوان الله تبارك وتعالى-، وقد أخبر عنها صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم. وقد تكرر في سيرته أنه ﷺ يُعلم بأشياء على وجهها قبل أن تكون، ثم تكون بالضبط كما قال لا تُخرم عنه، وتكرر ذلك منه كثيرًا صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم. 

فكانت تتوقع وتتمنى أن تكون أولًا تحضر مع الأولين ثم تدرك الآخرين، قال: لا، "أَنْتِ -فقط- مِنَ الأَوَّلِينَ" هؤلاء أم الآخرين الذين رأيتهم لستِ معهم؛ ماتت قبل أن يأتي الغزوة الثانية. فلم يزل قبرها بقبرص إلى الآن معلوم هناك قبر المرأة الصَّالحة.

  • يقول الإمام النَّووي في المناسك: ركوب البحر إن كان الغالب من السَّلامة وجب؛ أي: الحج عليه. 

  • يقول: كره الإمام مالك حج المرأة على ركوب البحر وذلك لأنه يصعب كمال تحرزها وسترها في ركوبهم على السُّفن في مثل تلك الأيام؛ فكرهه سيِّدنا الإمام مالك عليه رضوان الله. 

  • وقال آخرون كما قال الإمام النَّووي: إذا كان الغالب منه السَّلامة؛ وجب ركوب البحر من أجل الحج سواء للرجل أو للمرأة.

ذكر لنا بعد ذلك حديثًا عن رسول الله ﷺ قال: "لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لأَحْبَبْتُ أَنْ لاَ أَتَخَلَّفَ عَنْ سَرِيَّةٍ"، فقد بعث سبعًا وأربعين سرية، وحضر بنفسه في سبعٍ وعشرين غزوة، كل ذلك في خلال تسع سنوات. غزا سبعًا وعشرين وبعث سبعًا وأربعين سرية للجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى. وقال: "لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي"، وفيه حرصه الشديد على أمته ﷺ وتجنّبه المشقة عليهم وقد وصفه الله بذلك في كتابه فقال: (عَزِیزٌ عَلَیۡهِ مَا عَنِتُّمۡ)؛ أي: عنتَّكم مشقتكم عزيزة عليه؛ ثقيلة عليه أن ينالكم عنت ومشقة، (حَرِیصٌ عَلَیۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِینَ رَءُوفࣱ رَّحِیمࣱ) [التوبة:128]، وبيّن ذلك. قال: لكني لا أجد ما أحملهم عليه، كثير من الراغبين للخروج معي للجهاد في سبيل الله ولا أجد ما أحملهم عليه. "وَلاَ يَجِدُونَ مَا يَتَحَمَّلُونَ عَلَيْهِ، فَيَخْرُجُونَ"، وأخرج فينتظرون، لا أنا عندي شيء أحملهم ولا هم يقدرون، فتتألم بذلك قلوبهم وصدورهم، فأنا أترك الخروج في كثير من السَّرايا من أجل هؤلاء، ورعاية لحق هذه القلوب المحبة الصَّادقة التي لا تحب أن تتخلف عنه صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم. قال: "وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا بَعْدِي، فَوَدِدْتُ إنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا فَأُقْتَلُ". قد تقدّم هذا الكلام معنا من حديثه ﷺ.

قال: "عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ" واليوم الذي اختبر الله فيه المؤمنين، "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَاري؟". مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ سَعْدِ يعني بعد الغزوة وجمع الجرحى والقتلى، قال: "مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَاري؟" رضي الله عن سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير، أحد نقباء الأنصار في بيعة العقبة الأولى والثانية، كان من النُّقباء، وممَن حضر بدر، وكان استشهد بأُحُد -عليه رضوان الله تبارك وتعالى-. وهو الذي خرج في سهمه في المؤاخاة سيِّدنا عبد الرَّحمن بن عوف لمَّا آخى النَّبي بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين عبد الرَّحمن بن عوف وسعد بن الربيع. قال له سعد: يا عبد الرَّحمن إني أكثر الأنصار مالًا، فأقاسمك نصف مالي -نصف لي ونصف لك-، ولي زوجتان، فأيّتهما أحببت أن أطلقها ثم تتزوجها، هذا من قبل فرض الحجاب، وما قال التي أطلقها أنا، قال التي أنت ترغب أن أطلقها، تنقضي عدّتها وتتزوجها أنت. فقال له سيِّدنا عبد الرَّحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، ما آخذ شيء من مالك، ولا آخذ أهلك، دلّني على السوق. دلّه على السوق، واتّجر، وكان من أثرياء الصَّحابة -رضي الله تعالى عنه-. رضي الله عن سيِّدنا سعد بن الربيع، عَلِمَ النَّبي صدقه ومكانته وولائه ومحبته؛ فسأل عنه، وهل هو في القتلى أو في الجرحى؟ وأين ذهب؟

"فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا" آتيك بخبره "يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَذَهَبَ الرَّجُلُ" -والرجل هذا سيِّدنا أُبيّ بن كعب- "فَذَهَبَ يَطُوفُ بَيْنَ الْقَتْلَى". يطلب سعد بن الربيع، وجاء بين الجرحى فنادى: يا سعد بن الربيع، لم يجبه أحد، وكان سيِّدنا سعد يسمعه بين الجرحى ولكن من شدة ما به من الجراح وشدة الموت، ما جاوب عليه. فقال: إن رسول الله أرسلني إليك، فأجاب لمَّا قال له إن رسول الله ﷺ، أجاب "سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ" بصوت ضعيف "مَا شَأْنُكَ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: بَعَثَنِي إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لآتِيَهُ بِخَبَرِكَ"؛ يعني: أنظرك أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ قال في رواية: "إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله: كيف تجدك؟ "، قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأصبته وهو في آخر رمق، وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم. فقلت له: يا سعد، إن رسول الله ﷺ يقرأ عليك السلام، ويقول لك: "خبّرني كيف تجدك؟ "، قال: على رسول الله السلام، وعليك السلام، قل له: يا رسول الله، أجدني أجد ريح الجنة"، أخبره أنني في القتلى "وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله ﷺ وفيكم شفرٌ يطرِف" أو عينٌ تطرف قال: "وفاضت عينه"؛ نفسه، ورجع إليه ﷺ.

جاء في رواية الإمام مالك، "قَالَ: فَاذْهَبْ إِلَيْهِ"؛ أي: إلى النَّبي ﷺ "فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلاَمَ"، وقل له: كما جاء في رواية الواقدي: "جزاك الله عنا خير ما جزى نبيًا عن أُمته، وقل له: إني لأجد ريح الجنَّة، وأخبره أني في الأموات، وقل له: يقول لك سعدٌ جزاك الله عنا وعن جميع الأُمة خيرًا". وذكر من طعناته: "اثْنَتَىْ عَشْرَةَ طَعْنَةً"، وهو قد رأى فيه نحو سبعين طعنة، سبعون ضربة. "وَأَنِّي قَدْ أُنْفِذَتْ مَقَاتِلِي"، خلاص أي أنا في الأموات "وَأَخْبِرْ قَوْمَكَ"؛ قل لقومنا؛ جماعتنا الأنصار. في رواية الواقدي يقول: "أبلغ قومك عني السَّلام وقل لهم.."، "أَنَّهُ لاَ عُذْرَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، إِنْ قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَوَاحِدٌ مِنْهُمْ حَيٌّ"؛ ما دام واحد منكم حي، لا أحد يصل إلى النَّبي، قوموا من أجل الله مع رسوله ﷺ فهذه نيّاتهم، وهذه وجهاتهم، وهذه مشاعرهم، وهذا صدقهم رضي الله عنهم. 

جاء في رواية في (الاستيعاب) يقول:  اقرأ على قومي السلام، وقل لهم: يقول لكم سعد بن الربيع: الله الله وما عاهدتم عليه رسول الله ﷺ ليلة العقبة" هو منهم، من نقبائهم، "فوالله ما لكم عند الله عذر إن خَلُصَ إلى نبيّكم وفيكم عينٌ تطرِف، قال أُبيّ: فلم أبرح حتى مات، فرجعت إلى النبي ﷺ فأخبرته". فقال: رحمه الله نصح لله ورسوله حيًا وميتُا، نصح لله ورسوله حيًا وميتًا. فسبحان الذي اختارهم لهذه المراتب والدرجات العالية، ولا حرمنا الله رؤية وجوههم في دار الكرامة.

ثم ذكر لنا حديث: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَغَّبَ فِي الْجِهَادِ، وَذَكَرَ الْجَنَّةَ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ" هو سيِّدنا عُمير بن الحُمام الخزرجي -رضي الله عنه- "يَأْكُلُ تَمَرَاتٍ" ذلك في يوم بدر "فِي يَدِهِ، فَقَالَ: إنِّي لَحَرِيصُ عَلَى الدُّنْيَا إِنْ جَلَسْتُ حَتَّى أَفْرُغَ مِنْهُنَّ"، لمَّا سمع النَّبي يحثّ. جاء في رواية أنه قال في يوم بدر: والذي نفسي بيده، لا يقاتلهم اليوم منكم رجل فيقتلونه مقبلًا غير مُدبر إلا كانت له الجنَّة. وقال لهم: قوموا إلى جنَّةٍ عرضها السَّموات والأرض. قال سيِّدنا عُمير بن الحُمام: جنَّة عرضها السَّموات والأرض؟ قال: نعم، قال: بخ بخ، قال رسول الله ﷺ: ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: فإنك من أهلها.. أنت واحد منهم فأخرج تمرات من قرنه كان يأكل منهن، قال: لئن أنا حييت حتى آكل التمرات أو تمراتي هذه إنها لحياة طويلة! فرمى بما كان معه من التمر، وتقدَّم للقتال حتى قُتل؛ فكان أحد الأربعة عشر الذين استُشهدوا في بدر رضي الله تعالى عنهم. قال عُمير بن الحمام إذا أنا أقعد في الدُّنيا إلى أن آكل التمر، حياة طويلة هذه، رمى بالتمر ودخل بعد ما قال له إنك منهم، "إنك منهم"؛ خلاص اشتاقت نفسه وما عاد عنده وقت يأكل التمر رضي الله عنه.

و "عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّهُ قَالَ: الْغَزْوُ غَزْوَانِ". جاء مرفوعًا عن النَّبي، وهنا موقوف على سِّيدنا معاذ، "الْغَزْوُ غَزْوَانِ" فما هو كل مَن قال لك قتال قتال، قال لك جهاد جهاد، قال لك شهادة شهادة… لعبة هي! أين النِّية؟ أين الصِّدق؟ أين الإخلاص؟ أين العمل بالشرع؟ أين تعظيم أمر الله؟ أين الرَّاية التي تُقاتل تحتها؟ أين طاعة الأمير؟ إن كان إلا خبطة وخربطة أو لأجل المصالح، وأراد أن يأكل فيُقال له يقاتل، ما هذا بغزو! قال: "الْغَزْوُ غَزْوَانِ، فَغَزْوٌ تُنْفَقُ فِيهِ الْكَرِيمَةُ"، يُخرج أعز الأموال، كرائم الأموال، الحلال الطيب العزيز يُنفق في سبيل الله تعالى من ذهب وفضة وغيره، "وَيُيَاسَرُ فِيهِ الشَّرِيكُ"، من اليُسر؛ يعني: السهل الرفيق على وجه المبالغة المعونة وكفاية المؤونة، "وَيُطَاعُ فِيهِ ذُو الأَمْرِ"؛ تحت راية صحيحة لأمير من المسلمين، "وَيُجْتَنَبُ فِيهِ الْفَسَادُ"؛ ما يُتجاوز المشروع قتلًا وضربًا ونهيًا، يجتنب الفساد في تأخير صلاة، ويجتنب الفساد في قول بغير علم أو في سب أو شتم وما إلى ذلك، "فَذَلِكَ الْغَزْوُ خَيْرٌ كُلُّهُ"، هذا غزو، هذا جهاد، هذه طاعة، هذه قربة إلى الله، هذا سبب لدخول الجنَّة.

قال: "وَغَزْوٌ لاَ تُنْفَقُ فِيهِ الْكَرِيمَةُ، وَلاَ يُيَاسَرُ فِيهِ الشَّرِيكُ، وَلاَ يُطَاعُ فِيهِ ذُو الأَمْرِ، وَلاَ يُجْتَنَبُ فِيهِ الْفَسَادُ، فَذَلِكَ الْغَزْوُ، لاَ يَرْجِعُ صَاحِبُهُ كَفَافاً". ما يرجع كما هو، لا ذنب عليه ولا إثم بل يرجع مُحمَّل بالذنوب، لا هو بغزو ولا بجهاد، لا أجر فيه، ما هذا إلا سيئات وذنوب فوق هذا العمل. تظن نفسك مجاهد في سبيل الله و غازي؟ خذ لك ذنوب فوق ظهرك ووزر وسيئات، تحاسب عليه وتُعذَّب -والعياذ بالله تعالى- لأنه ما هو على وجه الجهاد الصحيح، ولا هو على طريق مستقيم، ولا على الأسس التي أقامها لنا النَّبي ﷺ في الجهاد.

صلى الله على سيدنا محمد وآله، ورزقنا الله حسن متابعته، وحشرنا في زمرته، وملأ قلوبنا بمحبته، وثبّتنا على دربه وطريقته، وأكرمنا بكريم مرافقته، وأرانا وجوه هؤلاء السَّابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في دار القرار بغير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا حساب بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

27 مُحرَّم 1443

تاريخ النشر الميلادي

04 سبتمبر 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام