شرح الموطأ -240- كتاب الجهاد: باب ما تكون فيه الشَّهادة، وباب العمل في غُسْل الشّهيد

شرح الموطأ -240- بَابُ مَا تَكُونُ فِيهِ الشَّهَادَةُ، من حديث: زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ شَهَادَةً ..
للاستماع إلى الدرس

شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجهاد، بَابُ مَا تَكُونُ فِيهِ الشَّهَادَةُ، وباب الْعَمَلِ فِي غُسْلِ الشَّهِيدِ.

فجر الأربعاء 17 محرم 1443هـ.

باب مَا تَكُونُ فِيهِ الشَّهَادَةُ

1333 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، َوَفَاةً بِبَلَدِ رَسُولِكَ.

1334 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: كَرَمُ الْمُؤْمِنِ تَقْوَاهُ، وَدِينُهُ حَسَبُهُ، وَمُرُوءَتُهُ خُلُقُهُ، وَالْجُرْأَةُ وَالْجُبْنُ غَرَائِزُ يَضَعُهَا اللَّهُ حَيْثُ شَاءَ، فَالْجَبَانُ يَفِرُّ عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَالْجَرِىءُ يُقَاتِلُ عَمَّا لاَ يَؤُوبُ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ، وَالْقَتْلُ حَتْفٌ مِنَ الْحُتُوفِ, وَالشَّهِيدُ مَنِ احْتَسَبَ نَفْسَهُ عَلَى اللَّهِ.

باب الْعَمَلِ فِي غُسْلِ الشَّهِيدِ

1335 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَكَانَ شَهِيداً يَرْحَمُهُ اللَّهُ.

1336 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: الشُّهَدَاءُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يُغَسَّلُونَ، وَلاَ يُصَلَّى عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَإِنَّهُمْ يُدْفَنُونَ فِي الثِّيَابِ الَّتِى قُتِلُوا فِيهَا.

قَالَ مَالِكٌ: وَتِلْكَ السُّنَّةُ فِيمَنْ قُتِلَ فِي الْمُعْتَرَكِ فَلَمْ يُدْرَكْ حَتَّى مَاتَ.

قَالَ: وَأَمَّا مَنْ حُمِلَ مِنْهُمْ فَعَاشَ مَا شَاءَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، كَمَا عُمِلَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.

 

نص الدرس مكتوب: 

 

الحمد لله مُكرِمنا بشريعته، وبيانها على لسان خير بريته، سيدنا مُحمد صلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم عليه وعلى آله وصحابته، وأهل ولائه ومحبته ومتابعته، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين خيرة الرحمن سبحانه وتعالى في خلقه وصفوته، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المقربين، وجميع عباد الله الصَّالحين، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين بفضله ومنّته.

وبعدُ،

فيذكر لنا الإمام مَالِكْ -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- الإشارة إلى ما تحصل به الشهادة وتكون فيه الشهادة في سبيل الله جلَّ جلاله، وقد تقدّم معنا أنَّ مِنَ الشهداء:

  •  شهداء آخرة، وهم كثيرون.

  • وشهداء دنيا وآخرة، وهم المقتولون في المعركة.

  • وشهداء دنيا فقط -والعياذ بالله تعالى- وهم الذين قُتلوا في المعركة من غير إخلاص قصدٍ لوجه الله، ولغرضٍ من الأغراض لا لتكون كلمة الله هي العُليا.

 والاختلاف بين أهل العِلم فيمن قُتل في المعركة هل يصلَّى عليه أم لا؟ وهل يُغسل أم لا؟ وقال: "باب مَا تَكُونُ فِيهِ الشَّهَادَةُ"

 وذكر "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ:" وقد جاء أيضًا في هذا في صحيح البُخاري وغيره، "اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ ﷺ"، وذكره هنا بلفظ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، َوَفَاةً بِبَلَدِ رَسُولِكَ". صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم. 

ومع أنه قد عَلِم كما تقدّم معنا أنه يُقتل شهيدًا كما جاء في الحديث: "إنّما عليك نبيٌّ وصدّيقٌ وشهيدان"، ومع ذلك كله لم يزل يطلب الشهادة في سبيل الله جلَّ جلاله. وطلب هنا أن يكون موته في المدينة المنورة، ومن المشهور عن سيدنا عُمَر قوله بتفضيل المدينة على مكة وعلى غيرها. وأما خصوص الموت بها فقد تقدّم الكلام معنا فيه، وأنه جاء فيه الحديث الشريف، وأنه حتى مَنْ يُفضّل مكة على المدينة يرى الأفضلية في الموت في المدينة المنورة، وتقدم معنا الإشارة إلى قوله ﷺ: "مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا، فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا"، ولأنَّ سادتنا المهاجرين جعل الله لهم المدينة مأوى ومحل هجرة، فهو خير مكانٍ يموتون فيه.

وتقدّم معنا حديث: "أنه ما مِنْ بُقعة أحبُّ إليَّ أن أدفن فيها من هذه"؛ يعني: المدينة المنورة. وقد رثى سعد بن خولة أنه مات في مكة وكان قد هاجر، وفيه حرِص سيدنا عُمَر على المدينة المنورة عمومًا. ثُمَّ جاء أيضًا حرصه على القرب من قبر رسول الله، وأن يكون في حجرته، وذلك فيما جاء وصحّ أنه أرسل أبنه عبد الله بن عُمَر بعد أن طعنه أبو لؤلؤة المجوسي، فقد حقق الله دعاء سيدنا عُمَر واستجاب له، أرسل عبد الله بْنِ عُمَر إلى أم المؤمنين عائشة وقال: قل لها إن أبي يَستأذنك أن يُدفن في الحجرة مع رسول الله وأبي بكر، فلما جاء وكلمَّها قالت: إني كنت أعدُّ هذا المكان لنفسي، ولكن طيَّبته له، فلمَّا رجع إليه قال: ما قالت لك؟ فأخبره بما قالت، فقال: الحمد لله، لم يكن في نفسي شيء أهم من ذلك. ثُمَّ قال: إني أخشى يا عبدَ الله أنها قالت هيبةً للأمارة، فإذا أنتم صلَّيتم عليَّ فاذهبوا بي إلى باب حُجرتها وأستأذن لها، وقل لها إنَّ عُمَر ولا تقل أمير المؤمنين؛ فإني لم أعد أميرًا إذا أنا مُت، فقل لها إنَّ عُمَر يستأذنك أن يُدفن مع صاحبه، فإن أذِنَت كان ما أحببت؛ وإلا فادفنوني في البقيع مع المسلمين. فلما حملوا الجنازة وأستأذنها قالت: قد طيَّبتُ له ذلك حيًا وميتًا، فقبرُّوه وراء أبي بكرٍ الصديق يكون رأسه مقابلًا لمنكِب أبي بكر وكَتفيه، كما أن رأس أبي بكرٍ يكون مقابل لظهر النَّبي صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلِّم.

ولما سُئل سيدنا جعفر الصادق كيف كان منزلة أبي بكر وعُمر مِنْ رسول الله ﷺ في حياته؟ قال: كما هما الآن، قال هكذا كان منزلتهما عنده صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلِّم.

وهكذا يأتينا مَسلك الخلفاء الذين ربَّاهم رسول الله ﷺ في خوفهم مِنَ الله، وأشدّهم تحرُّزًا مِنَ العُجب وموَاطن العَطب، وأوفرهم خشيةً مِنَ التغيير والتبديل، وأكثرهم التجاء وتذلل للرحمن، على ذلك ربَّاهم مَنْ أُنزل عليه القرآن. وجاء أيضًا في الخبر أنه قيل له: أنَّى لك بالشهادة وأنت بين ظهراني جزيرة العرب لست تغزو؟ قال: بلى، إنَّ الله إذا أرادها ساقها إليَّ. 

وقال أيضًا سيدنا عُمَر في حديثه: "كَرَمُ الْمُؤْمِنِ تَقْوَاهُ"، وقد قال الله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[ الحجرات:13] فأكرمُ النَّاس أحقهم بالكرامة والمنزلة عند الله: الأتقى، الأحسن تقوى في معاملته للرحمن بقلبه وسِرّه وعلانيته. وجاء في الحديث أنَّ الله تعالى يقول في القيامة: اليوم أرفع نَسَبي وأضع أنسابَكم، أين المُتَّقون؟ أين المُتَّقون؟ (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).

 قال: "وَدِينُهُ حَسَبُهُ"، الحَسب؛ الشرف بالآباء والأجداد، وما يعُدّه المؤمن مِنْ مفاخر. فيقول سيدنا عُمَر: انتسابه إلى الدين هو الشرف والحَسب الذي يخصّه، أما انتسابه إلى أب كافر على وجه الفخر به فهذا ممنوع في الشريعة، أن يفتخر بالآباء، وقد أنكر ذلك ﷺ على مَنْ يفتخر بآبائه الكُفَّار والفُجَّار والأشرار، ويقول: خير ما تنتمي إليه تحقُّقك بحقائق الدين، حقائق حسَبِك وشرفك، وسبب رِفعتك.

روى الإمام البُخاري في (الأدب المُفرد) عن ابْنِ عباسٍ قال: ما تعدّون الكرم؟ وقد بيّن الله الكرَم، فأكرمكم عند الله أتقاكم، ما تعدّون الحَسَب؟ أفضلكم حسبًا أحسنكم خُلقًا. وهكذا جاء في رواية الإمام أحمدْ -عليه رحمة الله- وعبد بِن حميد، والترمذي وصحَّحه، والطبراني، والدارقُطني، والحاكم وصحَّحه كذلك، عن سَمرة بن جُندب عن النَّبي ﷺ أنه قال: "الحَسَبُ المالُ، والكَرَمُ التَّقْوى"، يعني: وإن كان هناك شرف في الانتساب إلى الأنبياء، أو إلى الأولياء، أو إلى العلماء، أو إلى الصُلحاء ولكنه بشرط المُتابعة لهم وعدم الاغترار، وعدم الكِبَر بذلك، والمتابعة لهم في ذلك. ومع ذلك فيتركز حقيقة حَسَب الإنسان على انتمائه للدِّين؛ أي: تحقُقِه بحقائق الدِّين، وكلما كان أمكن فيها شَرُف بذلك. "وَمُرُوءَتُهُ خُلُقُهُ"؛ المروءة: كمال الرجولية، وكمال الفضل في الإنسان، فيُقال: صاحب مروءة، فالمتنزّهون عما يُستحيا منه، وعما لا يليق بالأفاضل هم أهل المروءة، فهو يتعلق بإنصاف مَنْ دونك، والسّمو إلى مَنْ فوقك، وجاء في الخبر "وَمُرُوءَتُهُ عَقْلُه".

 قال: "وَالْجُرْأَةُ وَالْجُبْنُ غَرَائِزُ"، الشجاعة والجُبْن طِباع يعطيهم الله من يشاء، وإن كان يمكن شيء من الاكتساب، ويُمكن تقوية الغريزة، "يَضَعُهَا اللَّهُ حَيْثُ شَاءَ" فتجد أثر الشجاعة والجُبْن في مسلم وكافر، وصالح وشرير، يكون بعضهم شجعان وبعضهم فيهم جُبْن ومخافة، "فَالْجَبَانُ" مَنْ كان طُبِع على ذلك وغَلَب عليه، "يَفِرُّ عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ" مع أنه يحبهم ويحرص عليهم ولكن وقت ما يفزع ويخاف يروح وينجو بنفسه بسبب جُبنه، "يَفِرُّ عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَالْجَرِىءُ" صاحب الشجاعة "يُقَاتِلُ عَمَّا لاَ يَؤُوبُ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ" يعني تأخذه شجاعته على أن يدافع عن مَنْ ليس مِنْ قرابته، وليس من حسبه، ولا شيء يعود عليه في مصلحة قط مِنْ أجل كفّ الظلُم وردع المعتدي، وما إلى ذلك بسبب شجاعته.

 "وَالْقَتْلُ حَتْفٌ مِنَ الْحُتُوفِ"؛ يعني: نوعٌ من أنواع الموت، الحتف هو الموت، فالقتل هذا نوع من الموت إن ما قُتلت ستموت بشيءٍ ثاني؛ يعني: فلا تجزع مِنْ القتل وغيره، هو إنما نوع من أنواع الموت؛ أما بهذا أو بهذا أو بهذا، كله سواء؛ لكن إذا كان بقتُل وأنت في سبيل الله نلت بذلك الشرف والكرامة.

فمن لم يَمُت بالسيف ماتَ بغيره *** تعدّدت الأسباب والموتُ واحد 

وهكذا يقول شاعرهم:  

في الجُبُن عارٌ وفي الإقدام مَكرُمةٌ *** والمرءُ بالجُبْنِ لا ينجو مِنَ القدرِ 

مهما جَبُن وخاف ما يطول عمره وما يزيد ولا لحظة، ولا ينجو مِنَ القدر الذي كُتب عليه.. يأتيه، (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ۗ) [النساء:78]. "وَالشَّهِيدُ مَنِ احْتَسَبَ نَفْسَهُ عَلَى اللَّهِ"، رضيَ بالقتل، وطمِع في رضوان ربه، وأجره، وجزاءه، والقُرب منه جلَّ جلاله. 

  • وجاء في رواية الإمام أحمَدْ، والحاكم، والبيهقي: "كرَمُ المرءِ دينُه، ومروءتُه عقلُه، وحسَبُه خُلقُه". 

  • وهكذا جاء أيضًا في الحديث: "كرَمُ المؤمن دينُه ومروءتُه عقلُه وحسَبُه خُلقُه" 

 

باب الْعَمَلِ فِي غُسْلِ الشَّهِيدِ

 

وذكر لنا بعد ذلك: "الْعَمَلِ فِي غُسْلِ الشَّهِيدِ" واختلاف الأئمة في ذلك، فالشَّهيد بغير قتل كالمبطون، والمطعون، والميت بالغَرق، وصاحب الهدم، والنُفساء تموت بالولادة، هؤلاء يُغَسّلون ويُصلّّى عليهم لا خلاف فيه بين أهل العلم، إلا ما يُروى عن الحسن أنه قال: ما يُصلّّى على النفساء. وقد مر معنا أنَّ عدد الشهداء في الآخرة من أنواع الشهداء أنهُم يصلون إلى الستين ويزيدون فيما رويَّ في مجموع أحاديث عنه ﷺ، وسيدنا عُمَر مِنَ الشهداء لكن شهداء الآخرة، فقال "عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَكَانَ شَهِيداً يَرْحَمُهُ اللَّهُ". اللهم صلِّ على سيدنا مُحمد وعلى آله.

فلما توفيَ خرجوا به فصلَّى عليه صهيب بِنْ سنان الرومي؛ لأنه أمره أن يتولى الإمامة من بعده ثلاثة أيام، قال لهم لما أصيب: ادعوا لي صُهيبًا، فتوجه إلى عند سيدنا عُمَر قال: صلِّي بالنِّاس ثلاثًا، إن حدث لي حدث فليُصلَّي لكم صهيبٌ ثلاثًا، فصار الأمير بهذا، وبهذا أيضًا صلَّى على سيدنا عُمَر بْنِ الخطاب إمامًا سيدنا صُهيب رضي الله تبارك وتعالى عنه. وقال سيدنا عُمَر: اقتصدوا في كفني فإنه إن كان لي عند الله خير، أبدلني ما هو خير منه، وإن كنت على غير ذلك سلبني فأسرع سَلبي، وكان صهيب إمام الصلوات الخمس، وأمر سيدنا عُمَر أن يُجعل الشورى في الخليفة مِنْ بعده بين الستة، ويحضر معهم عبد الله بن عُمَر ابنه وليس له شيء في الخلافة، واجتمع الستة وعيّنوا سيدنا عُثمان. وعُِرف سيدنا صهيب بالرومي، إنما أصله من النَمِر بِنْ قاسط، ونشأ بينهم واشتراه عبد الله بْنِ جدعان وأعتقه، وشهِد بدر مع النبي ﷺ، والمشاهد بعد بدر كذلك. وكان مِنَ المستضعفين بمكة والمعذبين، وفي الحديث: "صهيب سابق الرُّوم". ولما تمكّن مِنَ الخروج من مكة يهاجر؛ صادف في الطريق بعض المشركين أرادوا إرجاعه قال: ما تستفيدون منّي؟ خذوا مالي واتركوني أنطلق. قالوا: تُعطينا مالك؟! قال: نعم، قالوا: حتى الذي معك ونترك لك ثيابك فقط، قال: خذوه، ومالي في مكة خذوه، فتركوه فأنزل الله (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ). فلما قَدِمَ المدينة دخل على النبي ﷺ قال له: "ربِح البيع أبا يحيى" (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [البقرة:207].

وجاء أنه لما ثَقُل سيدنا عُمَر قال لابنه عبد الله: ضع خدي على الأرض، فوضعه على الأرض، وجعل يقول: ويلي و ويلُ أمي إن لم يغفر لي ربي… ولمّا توفي صُلِّي عليه في المَسْجد وحُمل على سرير الذي حُمل عليه ﷺ وغسَّله ابنه عبد الرحمن، وصلَّى عليه سيدنا صهيب كما سمعت، ولأنه قال: ليُصلِّي بالنَِّاس صهيب ثلاث أيام. 

"وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: الشُّهَدَاءُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يُغَسَّلُونَ"، فأما شهيد المعركة فبالاتفاق أنه لا يُغَسل، وأما الصَّلاة عليهم

  • فجاء عن الإمام أبي حَنِيفَة أنه يُصلَّى عليهم، ولا يُغسَّلون.

  • وقال الأئمة الثلاثة: لا يُغَسَّلون ولا يُصلَّى عليهم، الشهداء في معركة الكُفار.

 وحملوا ما جاء من الصَّلاة على شهداء أُحد وغيرهم، أنَّ ذلك محض الدعاء، مجرد الدعاء، ليست الصَّلاة المعهودة على الميت، وحملوا قول الراوي صلاته على الميت أنه مثل دعائه للأموات، لا أنه صلَّى عليهم. وقال الإمام أبو حَنِيفَة بل يُصلَّى عليهم ولا يُغسَّلون. وحمل بعضهم ترك الصَّلاة عليهم وغُسلُهم في أُحد لكثرتهم، ولمشقة ذلك على المؤمنين، وهم أهل ذوي جروح في ذلك اليوم.

قال: "وَلاَ يُصَلَّى عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ"؛ فإذًا:

  • عند الأئمة الثلاثة: لا يُصلَّى عليهم

  • وفي رواية عن أحمدْ أنه يُصلَّى عليهم كمذهب الإمام أبي حَنِيفَة.

  • ويقول بعضهم: تُستحب الصَّلاة عليهم. 

وأنهم "يُدْفَنُونَ فِي الثِّيَابِ الَّتِى قُتِلُوا فِيهَا" مع أنَّ غيرهم إذا مات يُسن نزع الثياب عنه مباشرةً التي مات فيها، لأنها تحمله مِنْ حرارة خروج روحه مِنَ الموت ما يؤثر على البدن؛ فيُسن المبادرة إذا فاضت روحه، إلى نزع ثيابه التي كان عليها ويُغطى بثوب خفيف. لكن الشهداء تبقى ثيابهم بما فيها من الدم يُحشروا فيها يوم القيامة، إنما يُنزع عنهم ما كان مِنْ جلدٍ وسلاح، وما تعلّق بذلك من آلة الحرب، وتُترك فيهم ثيابهم.

 وقد جاء في الحديث: "ادفنوهم بثيابهم"، أمر بقتلى أُحد أن يُنزع عنهم الحديد والجلود، وأن يُدفنوا في ثيابهم بدمائهم، وأرسلت صفية إلى النَّبي ﷺ ثوبين لِيُكفّن فيهما حمزة بِنْ عبد المطلب أخاها، فكفَّنه في أحدهما وكفَّن في الآخر رجلًا آخر، وذلك لقلة الثياب والأكفان، ولأنَّ الكثير منهم ما وسعت ثيابه أن يُغطى بها جسده كله؛ ولا وجدوا له ما يغطّون به جسده، فقال ﷺ لهم فيمن قصر عن ذلك: "غطُّوا رأسَهُ واجعلوا على رجليهِ الإذخِرَ"، منهم سيدنا مصعب بِنْ عُمير رضي الله تعالى عنه.

 "قَالَ مَالِكٌ: وَتِلْكَ السُّنَّةُ فِيمَنْ قُتِلَ فِي الْمُعْتَرَكِ فَلَمْ يُدْرَكْ حَتَّى مَاتَ"، "وَأَمَّا مَنْ حُمِلَ مِنْهُمْ" وقد أُصيب في المعركة؛ لكن حُمل "فَعَاشَ مَا شَاءَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ" أكل وشرب، "فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، كَمَا عُمِلَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ" رضي الله تعالى عنه.

 وهكذا:

  • يرون المَالِكْية والشَّافعية أنَّ الشهيد في المعركة لا يُغسَّل ولا يُصلَّي عليه.

  • وكذلك يرى جماهير الحَنَابِلة والرواية المشهورة عن الإمام أحمَدْ بِنْ حنبل رضي الله تعالى عنه: فكل مسلم مات بسبب قتال كُفّّار حال قيام القتال، لا يُغسَّل ولو كان في أثناء المعركة، سقط عن دابته، أو رمحته دابته، فإنه لا يُصلَّى عليه.

  • وقال الحَنَفِية: يُغسَّل كل مسلم قُتل بالحديد ظلمًا.

  •  وأما من قتله لصوص أو غيره، فإنه يُغسَّل ويُصلَّي عليه عند الجمهور.

"وَأَمَّا مَنْ حُمِلَ مِنْهُمْ فَعَاشَ مَا شَاءَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، كَمَا عُمِلَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ" رضي الله تعالى عنه. 

رزقنا الله الإيمان واليقين، وصرف الأعمار في طاعته، وختمها بأكمل حُسنى، وألحقنا بالنَبييََن والصديقين والشهداء والصالحين وهو راضٍ عنا في لطفٍ وعافية، وأصلح شؤوننا والمسلمين بما أصلح به شؤون الصالحين، ودفع عنا وعنهم البلايا والرزايا في الظواهر والخفايا، وجعل عامنا هذا من أبرك الأعوام علينا وعلى أُمة حبيبه خير الأنام، بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النَّبي ﷺ.

 

تاريخ النشر الهجري

25 مُحرَّم 1443

تاريخ النشر الميلادي

02 سبتمبر 2021

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام