(364)
(535)
(604)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجهاد، بَابُ الشُّهَدَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
فجر الثلاثاء 16 محرم 1443هـ.
باب الشُّهَدَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
1326- حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ إنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا فَأُقْتَلُ". فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ ثَلاَثاً: أَشْهَدُ بِاللَّهِ.
1327- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ، يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، كِلاَهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ، فَيُقَاتِلُ فَيُسْتَشْهَدُ".
1328- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ، إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَماً، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ".
1329- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَتْلِي بِيَدِ رَجُلٍ صَلَّى لَكَ سَجْدَةً وَاحِدَةً، يُحَاجُّنِى بِهَا عِنْدَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
1330- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، صَابِراً مُحْتَسِباً، مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ، أَيُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "نَعَمْ". فَلَمَّا أَدْبَرَ الرَّجُلُ نَادَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، أَوْ أَمَرَ بِهِ فَنُودِيَ، لَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "كَيْفَ قُلْتَ؟". فَأَعَادَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: "نَعَمْ إِلاَّ الدَّيْنَ، كَذَلِكَ قَالَ لِي جِبْرِيلُ".
1331- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لِشُهَدَاءِ أُحُدٍ: "هَؤُلاَءِ أَشْهَدُ عَلَيْهِمْ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: أَلَسْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ بِإِخْوَانِهِمْ، أَسْلَمْنَا كَمَا أَسْلَمُوا، وَجَاهَدْنَا كَمَا جَاهَدُوا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ "بَلَى، وَلَكِنْ لاَ أَدْرِي مَا تُحْدِثُونَ بَعْدِي". فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ بَكَى، ثُمَّ قَالَ: أَئِنَّا لَكَائِنُونَ بَعْدَكَ؟!
1332- وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِساً وَقَبْرٌ يُحْفَرُ بِالْمَدِينَةِ، فَاطَّلَعَ رَجُلٌ فِي الْقَبْرِ، فَقَالَ: بِئْسَ مَضْجَعُ الْمُؤْمِنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "بِئْسَ مَا قُلْتَ". فَقَالَ الرَّجُلُ: إنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا أَرَدْتُ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لاَ مِثْلَ لِلْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا عَلَى الأَرْضِ بُقْعَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَىَّ أَنْ يَكُونَ قَبْرِى بِهَا مِنْهَا". ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.
الحمد لله واهب السَّعادة لمَن سبقت له بها السَّابقة، وصلَّى الله وسلَّم وبارك وكرَّم على عبده المُصطفى سيِّدنا مُحمَّد أكرم مَن اصطفاه الله -تبارك وتعالى- واجتباه ووهبه من القُرب الأصفى والمجد الأسمى عواليَه وحقائقه، وعلى آله وصحبه ومن والاهم في الله تعالى واتبع طرائقه، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمُرسلين سادات أهل السَّبق بحكم السَّابقة، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم، وعلى ملائكة الله المُقرَّبين، وجميع عباد الله الصَّالحين الشَّاربين في محبة إلههم الكؤوس الرائقة، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين وأرحم الرَّاحمين.
وبعدُ،
فيذكر سيِّدنا الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- في هذا الباب ما للشهداء من فضلٍ وقدرٍ ومكانةٍ ومنزلة، وقال: "باب الشُّهَدَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"؛ أي: بيان فضلهم وما يلحق بذلك من الخصائص والمزايا التي يحوزونها. وقد علمنا أن الشَّهادة في سبيل الله -تبارك وتعالى- أنواعٌ، وأن الشُّهداء ثلاثة:
1- شهيد دُنيا وآخرة.
2- وشهيد آخرة.
3- وشهيد دُنيا فقط.
فأما شهداء الدُّنيا والآخرة: فهم الذين قُتلوا على أيدي الكُفَّار في المعركة بسبب القتال، وقد قاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا مخلصين موقنين صادقين؛ فهؤلاء شهداء دُنيا وآخرة.
○ ومعنى كونهم شهداء دُنيا؛ أنهم لا يُغسَّلون ولا يُصلى عليهم.
○ ومعنى كونهم شهداء آخرة؛ أن لهم الفضَّل والمزية في ما أعدّ الله للشهداء من الدّرجات الفاخرة.
وأما شهداء الآخرة فقط؛ فكثيرون وكلهم يُغسَّلون ويُكفنون ويُصلّى عليهم، وإنما لهم المنزلة والدَّرجة في الآخرة؛ درجة الشهداء في سبيل الله، وهؤلاء كثيرون، جاء في مجموع الأحاديث ما يقارب الستين صنفًا كلهم من الشُّهداء في الآخرة: كالمبطون، والمطعون، والنُّفساء التي تموت بولادة، والميت بالهدم، والميت في الغربة… وما إلى ذلك من أنواع الشُّهادة.
وشهداء الدُّنيا فقط؛ هم الذين قُتلوا في معركة الكُفَّار بسبب القتال ولم تكن نيّتهم خالصة، وما قاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا. من المرائين والمفاخرين وأصحاب الأغراض والأطماع الذين قاتلوا بدوافع من ذلك، لا قصد وجه الله ولا إرادة إعلاء كلمة الله، فهؤلاء شهداء في الدُّنيا فقط لأننا لا نغسلهم ولا نصلي عليهم، ونكفّنهم في ثيابهم التي ماتوا فيها ولكن لا حظّ لهم في الشَّهادة عند الله يوم القيامة ولا في الدَّار الآخرة، فيا ما أقبحها لهم وأسوأ مآلهم والعياذ بالله تعالى.
قال ﷺ: "مَن غَزَا وَهُوَ لَا يَنْوِي فِي غَزَاتِهِ إِلَّا عِقَالًا فَلَهُ مَا نَوَى". ولمَّا سُئل عن الرَّجل يقاتل حمية، والرَّجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليُرى مكانة، والرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، أيهم في سبيل الله؟ نفاهم كلهم، وقال: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ"، هذا وحده، وهكذا يأتي معنا في الرِّواية: "والله أعلم بمَن قُتل في سبيله".
يقول: "باب الشُّهَدَاءِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، وأورد لنا حديث "أبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ"، هذا قسمه المعروف -عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام-، أحيان يقول: والذي بعثني بالحق، أحيان يقول: والذي نفسي بيده، يحكمها ويتصرف فيها -جلّ جلاله-، "لَوَدِدْتُ"؛ يعني: تمنيت "إنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا فَأُقْتَلُ". "فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- يَقُولُ ثَلاَثاً: أَشْهَدُ بِاللَّهِ"؛ يعني: أشهد بأن النَّبي ﷺ قال ذلك. وفي هذا رد على مَن قال أن هذا القول من قول أبو هريرة وأن الحديث: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، والذي نفسي بيده… أن هذا القول الذي نُسب من كلام أبو هريرة ولكن صرّح أبو هريرة بأنه سمعه من النَّبي ﷺ.
والنَّبي في قوله ذلك يبيّن فضل الشَّهادة والجهاد في سبيل الله ويحرّض الأُمة على ذلك وإلا فهو أعظم من الشُّهداء كلهم ومن الأنبياء كلهم ﷺ أولًا، ثم هو يعلم أنه لن يُقتل لأن الله قد قال: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ) [المائدة:67]، قالوا: فكيف يتمنى أمر يعلم أنه لن يكون؟ قالوا: أن ما كان من الخير سواءً يقع أو لا يقع فحسنٌ تمنّيه وترجّيه وإرادته، وهو يعلم أنه لن يُسلَّط عليه أحد فيقتله، قد قال قبل هذا الحديث، أن هذا الحديث صرّح أبو هريرة بسماعه من النَّبي وآية (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ) نزلت أول الهجرة، أول أيام الهجرة، وقال للحرس: انصرفوا فقد عصمني الله، صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم. فهو يعلم أنه لن يُمَكّن أحدًا من قتله فكيف يقول: "لَوَدِدْتُ إنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ"؟، هذا تمنّي وإن لم يكن ممكن ولا كائن ولكن يتمنى أن يكون مثل ذلك لما فيه من علامة العبودية والصِّدق مع الله والمحبة للرّحمن -جلّ جلاله- أولًا وثانيًا وثالثًا، وفي هذه الرواية: "أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا فَأُقْتَلُ".
هذا أيضًا مما يعلمه ﷺ أنه لا يكون؛ لأنه سبق القضاء أنهم إليها لا يعودون.. فإذًا، إنّما ذكر ذلك تحريضًا لأمته على الحرص على الجهاد في سبيل الله، والشَّهادة في سبيل الله، وحثّهم على ذلك، وبيان رغبته الكريمة في مثل هذا الخير الذي ينبغي أن يرغب فيه كل تابعٍ له وكل مؤمن به ﷺ. يقول: وليس بوجيهٍ قول من قال، إنما قال ذلك قبل نزول الآية (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ) فإن أبي هريرة صرّح بسماع ذلك، ولم يُسلم أبو هريرة ولم يأتِ للنبي إلا في السَّنة السَّابعة من الهجرة، والآية قد نزلت أول مجيئه إلى المدينة المنوَّرة، وكانوا يتداولون الحراسة عليه فأتى إليهم، فقال: انصرفوا فقد عصمني الله، قال: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ). ولمَّا قرأ في سيرته بعض الكُفَّار فمرّ على هذه القصة كانت سبب إسلامه، قال: هذا في وضع كان صعب ومعرض فيه للقتل، فما كان ليكذب على نفسه، ويعرِّض نفسه للخطر لو لم يكن الوحي جاءه من عند الرب، (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ)، قال: لو كان يفتري من عند نفسه لن يعرّض نفسه للخطر ولن يقول ذلك، ما قال ذلك للحرس انصرفوا إلا والكلام جاء من فوق، من عند ربه وإلهه سبحانه وتعالى.
وقد جاء عنه ﷺ: "مَن سألَ اللَّهَ الشَّهادةَ بصِدقٍ بلَّغَه اللَّهُ منازلَ الشُّهداءِ وإن ماتَ علَى فراشِه". ومن هنا يُعلم:
أن كراهية تمنّي الموت إنما هي لأجل شيءٍ من الأضرار الدُّنيوية نزل به من فقرٍ أو شدة أو مرض أو غير ذلك، فهذا حرام عليه يتمنّى الموت ولا يطلب الموت.
وأما طلب الشَّهادة في سبيل الله فهي علامة الصِّدق مع الله، وعلامة العبودية والشَّوق إلى الله والمحبة له، فبذلك يحسُن طلبها ولا إشكال في طلبها وتمنّيها، كما سمعنا قوله: "مَن سألَ اللَّهَ الشَّهادةَ بصِدقٍ بلَّغَه اللَّهُ منازلَ الشُّهداءِ".
ثم ذكر لنا من عجائب ما يكون لأهل الشَّهادة أنه قد يُقاتل المجاهد في سبيل الله، فيقتله الكافر ثم إن الله يتوب على الكافر، بأن يهديه إلى الإسلام فيُسلم والإسلام يَجُبّ ما قبله ثم يُستشهد هذا الكافر، فإذا بالاثنين معًا شهداء يدخلون الجنَّة! فعبّر عن إقبال الله عليهم ورضاه عنهم ورحمته بهم وإحسانه إليهم بالضحك، قال: "يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ، يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، كِلاَهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ، فَيُقَاتِلُ فَيُسْتَشْهَدُ."، وإذا بهم شهداء يقول: خذ بيد صاحبك ادخلوا الجنَّة معًا، فيدخل هذا وهذا إلى الجنَّة، وهذا من آثار القتل في سبيل الله والجهاد في سبيل الله. بخلاف إذا تقابل المسلمان وتقاتلوا لأي غرض من الأغراض فـ "إذا الْتقى المسلمان بسيفَيهما فالقاتلُ والمقتولُ في النَّارِ" كلهم والعياذ بالله، هذا لمّا كان في سبيل الله وقع المقتول في الجنَّة، والقاتل تاب ورجع ثاني مرة وقُتل، القاتل والمقتول في الجنَّة. وهذاك بالعكس "إذا الْتقى المسلمان بسيفَيهما فالقاتلُ والمقتولُ في النَّارِ" كلهم والعياذ بالله. يقولون: "يا رسولَ اللهِ هذا القاتلُ، فما بالُ المقتولِ؟ قال: إنه كان حريصًا على قتلِ صاحبِه."، فمات وهو ناوٍ قتل صاحبه، فله مثل إثم القتل -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وله النَّار، اللَّهم أجرنا من النَّار. فانظر إلى بركة الجهاد في سبيل الله، وانظر إلى شؤم المقاتلة بين المسلمين وسوءها وسوء عاقبتها -والعياذ بالله تبارك وتعالى- وخطرها.
ثم إنهم اختلفوا في مَن قُتل في قتال أهل البغي، إذا كان للمسلمين إمام حق وهدى وصلاح وعدل، فخرجت طائفة عليه فيُقاتلهم، وكذلك في مَن يقاتل أهل منع الزَّكاة أو مَن يقاتل اللصوص أو الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا؛ فالمقتول شهيد في الآخرة في هذه المواقع كلها؛ إذا أخلص نيته لله؛ فهو شهيد في الآخرة. ولكن في الدُّنيا، قال الشَّافعية: لا إنما يُغسلون ويُكفنون ويُصلى عليهم إنما ذلك في معركة الكُفَّار خاصة شهادة الدُّنيا.
واختلفوا في هؤلاء المقتولين في قتال أهل البغي، أول من بيّن أحكام قتال البغاة سيِّدنا علي بن أبي طالب ومنع الغنيمة منهم وبيّن السُّنَّة في قتال البُغاة، كذلك بقية شهداء الآخرة فيما أشرنا إليهم وهم كثير، ومع ذلك فهناك رُتَب يرفع الله بها من يشاء؛ مثل العلماء العاملين بعلمهم المخلصين لوجه ربهم، كان يحلف ابن مسعود يقول: والذي نفسي بيده ليودّنّ رجال قُتلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثهم الله يوم القيامة علماء لما يرون من كرامتهم عند الله. وقال أبو الدرداء: مَن رأى أن الغدو إلى طلب العلم ليس بجهاد فقد نقص في رأيه وعقله. فمَن خلصت نيته منّا، ويصبّح ويغدو كل يوم للمجلس لأجل العلم؛ فيُرجى أن يكون في الجهاد في سبيل الله لكل مَن قَبِله الله تعالى. وهكذا عبّر عن الرضا وإفاضة الرّحمة والإحسان بالضحك ولأن هيئة الضّحك المعروفة بين الخلق هي حوادث الحق منزه عنها ليس كمثله شيء ولا يشابهه أحد جلَّ جلاله وتعالى في عُلاه.
ويقول: "وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يُكْلَمُ" أي: لا يُجرح "أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ"، مَن هو في سبيله، ومَن منهم له غرض، ومَن منهم له قصد آخر غير وجهه. "وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ"؛ أي: يُجرح "فِي سَبِيلِهِ، إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَماً، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ". وهكذا جاء في الصَّحيحين وغيرهما فيمَن كُلم؛ أي جُرح.
فإنّ الكِلام بكسر الكاف هو: الجراح، والكَلم الجرح.
وأما الكَلام: اللفظ المركب المفيد بالوضع؛ كلام.
وأما الكُلام بضم الكاف؛ فهي: الأرض الصعبة، يُقال لها: كُلام
والكِلام؛ الجراح. قال الشيخ عبد الهادي السّودي -رحمه الله تعالى-:
لغير جمالكم نظري حرامُ *** وغير كلامكم عندي كِلام
كِلام: جراح؛ فأجترح من سماع كلام غيركم، ما أسمع إلا كلامكم، وغير كلامكم عندي كِلام.
فهذا ثواب من جُرح في سبيل الله فناله جرحٌ أن يأتي يوم القيامة والجرح باقٍ عليه "يَثْعَبُ دَماً، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ". فيكون فخرًا وشرفًا وعزة وتمييزًا في القيامة، الله الله الله الله الله! قال: "يَثْعَبُ"؛ يعني: يجري منفجرًا كثير الدم، "يَثْعَبُ دَماً"، وفيه: أن الإنسان يُحشر على ما مات عليه، وكذلك الشُّهداء على هيئتهم من جروحهم يوم قُتلوا يبعثون على ذلك. كل كَلْمٍ يُكلمه المسلم في سبيل الله، يجيء يوم القيامة وجرحه "يَثْعَبُ دَماً، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ".
فتظهر الحقائق في القيامة وتتحول صور النَّاس وروائحهم إلى الحقيقة لا إلى الصّورة؛ فما عاد هناك شيء من العطور التي تؤثر ولا الروائح في الدُّنيا، ولكن عطور الأعمال الصَّالحة والمنزلة عند الله هو الذي ينفح، وروائح المعاصي والذُّنوب والسَّيئات المنتنة الكريهة التي تظهر -والعياذ بالله تعالى-، وإن كانت في الدُّنيا مغيّبة عنّا، حتى أنه إذا كذب الرجل كذبة تنحّى عنه الملكان مسافة ميل، ابتعدوا عنه لنِتَنِ ما يخرج من فِيه؛ يشمّون الكذب بنتن يبتعدون مسافة ميل كامل من نتن الكذب، وهذا ما يُشَم في الدُّنيا بعدين يُشَم في الآخرة يشمونه النَّاس؛ يشمون ريح الكذب، ريح الغيبة، وريح النَّميمة، وريح سوء الظَّن؛ كلها لها روائح منتنة كريهة تُشَمّ في القيامة، ويستر الله من يستر.. وإلا تظهر القبائح والفضائح -والعياذ بالله تعالى- لمَن لم يسترهم الله. كما أنها تُشم الروائح الطيبة، رائحة الصَّلاة، رائحة قراءة القرآن، رائحة حسن الظن، رائحة صلة الرحم، رائحة الإحسان إلى الجار، رائحة إسداء المعروف؛ كلها روائح طيبة تظهر في القيامة كلٌّ يشمّها.
وأورد لنا بعد ذلك حديث: "عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَتْلِي بِيَدِ رَجُلٍ صَلَّى لَكَ سَجْدَةً وَاحِدَةً، يُحَاجُّنِى بِهَا عِنْدَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، فتمنى أن يكون قاتله غير مؤمن -غير مسلم-، حتى لا يكون له حجة في القيامة بأن يتأوّل قتله بتأويل فيُخفّف عنه، ولماذا؟ قال: "اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَتْلِي بِيَدِ رَجُلٍ" أحد أعلمه أنه يُقتل؟ نعم، من خلال ما أخبره ﷺ أنه يستشهد لما كانوا في جبل أُحد وتحرّك قال النَّبي ﷺ له: "اثبُتْ أُحُدُ فما عليك إلَّا نَبيٌّ وصِدِّيقٌ وشهيدانِ". وكان النَّبي هو والصّديق أبو بكر والشّهيدان عُمَر وعثمان.
"لاَ تَجْعَلْ قَتْلِي بِيَدِ رَجُلٍ صَلَّى لَكَ سَجْدَةً وَاحِدَةً، يُحَاجُّنِى بِهَا"، فجاءه أبو لؤلؤة المجوسي فقتله، ما سجد إلا للنار وما سجد لله سبحانه وتعالى. وفيما يُروى عنه أنه قال: اللَّهم إني أسألك شهادةً في سبيلك وموتًا في بلد نبيّك. قالوا له: كيف يا أمير المؤمنين شهادة في بلد النَّبي والمعارك الآن فتوحات إلى محلات بعيدة؟ قال: إذا شاء ساقها إليّ، يجيبها لي الشَّهادة إلى هنا، فجاءته الشَّهادة بطعن أبي لؤلؤة المجوسي.
يقول عمرو بن ميمون، كما جاء في البُخاري: إني لقائم ما بيني وبينه؛ يعني بينه وبين أمير المؤمنين إلا ابن عباس غداة أُصيب. كان إذا مرّ بين الصّفين قال: استووا، حتى إذا لم ير فيه خلل تقدّم فكبّر، وربما قرأ بسورة يوسف أو النّحل؛ يعني: في صلاة الصُّبح، فما هو إلا أن كبّر، فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب -حين طعنه-، فطار العِلج بسكين ذات طرفين، لا يمرّ على أحد يمين ولا شمال إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلًا، مات منهم سبعة. فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه بُرنسًا، فلما ظنّ العلج أنه مأخوذٌ؛ نحر نفسه.. جمع مصائب جم ذا!! وتناول عُمَر -رضي الله عنه- يد عبد الرَّحمن بن عوف فقدّمه فصلّى بهم عبد الرَّحمن صلاة خفيفة، فلما انصرفوا، قال: يا ابن عباس انظر من قتلني، فجال ساعة ثم جاء، قال: غلام المغيرة. قال: الصّنع؟ قال: نعم. قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفًا، الحمد لله الذي لم يجعل منيّتي بيد رجلٍ يدّعي الإسلام. لا إله إلا الله.. وهذا كان سنة ثلاثة عشر من الهجرة بعد رجوعه من الحج في ذلك العام.
وكان سيِّدنا عُمَر لا يأذن لسبيّ إذا قد كبّر وبلغ أن يدخل المدينة، وكتب إليه المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة أمير، يذكر له غلام عنده صانع يستأذن يدخله المدينة، وقال: إن عنده أعمالًا تنفع النَّاس: إنه حدّاد، ونقاش، ونجار؛ فأذِن له، فضرب عليه سيِّدنا المغيرة يسلم له قال: اذهب اشتغل وما تأتي به، خذه وهات لي في كل شهر مائة، فشكا لسيِّدنا عُمَر شدة الخراج، وقال: إن المغيرة بن شعبة يطلب مني مائة، وهذا صعب عليّ. قال: ما خراجك بكثير في جنب ما تعمل! حداد نقاش نجار، فانصرف ساخطًا، فلبث عُمَر ليالي مرّ به، قال: ألم أحدّث أنك تقول لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح، فالتفت إليه عابسًا قال: لأصنعن لك رحى يتحدث بها الناس، فأقبل عُمَر على مَن معه وقال: توعّدني العبد. فلبث ليالٍ، ثم اشتمل على خنجر ذي رأسين نصابه وسطه، فكمُن في زاوية من زوايا المسجد في الغلس -في الظُّلمة- حتى خرج عُمَر وَثَبَ إليه فطعنه ثلاثة طعنات، إحداهن تحت السّرة حتى خرجت الصفاق فتقطّعت بها أمعائه. لا إله إلا الله… وقال: الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجّني عند الله بسجدة سجدها له قط. في رواية: يحاجّني بقول لا إله إلا الله. وقال لهم قبل ما يتبيّن من هو، قال: لا تعجلوا على الذي قتلني، قالوا: قد قتل نفسه، فاسترجع. قيل: إنه أبو لؤلؤة. قال: الله أكبر! لمّا علم أنه غير مسلم، هذا من ناحية لا يحاجّه، ومن ناحية لا يتعرّض المسلم لدخول النَّار بسببه.
"عن أبِي قَتَادَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، صَابِراً مُحْتَسِباً، مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ، أَيُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّي خَطَايَايَ؟" ذنوبي كلها؟ "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: نَعَمْ. فَلَمَّا أَدْبَرَ الرَّجُلُ نَادَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، أَوْ أَمَرَ بِهِ فَنُودِيَ، لَهُ" قيل له ارجع، كان الرجل عليه دين "فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "كَيْفَ قُلْتَ؟". فَأَعَادَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: نَعَمْ إِلاَّ الدَّيْنَ"؛ اقضِ دينك أول ثم اذهب للمعركة؛ والمعنى: أن الحقوق التي بينك وبين الخلق ما تقدر على أدائها، لا شيء يكفّرها لا شهادة ولا غيرها، الأول اعط النَّاس حقهم وبعد ذلك اذهب. ولهذا قال الإمام النّووي في تنبيه على جميع حقوق الآدميين: وأن الجهاد والشَّهادة وغيرهما من أعمال البرّ لا يكفّر حقوق الآدميين.
إذًا؛ فالدّين من الخطايا التي لا يكفّرها القتل في سبيل الله، "كَذَلِكَ قَالَ لِي جِبْرِيلُ"، يقول ﷺ.
وجاء: "عن عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لِشُهَدَاءِ أُحُدٍ: هَؤُلاَءِ أَشْهَدُ عَلَيْهِمْ"؛ يعني: يشهد أنهم شهداء عند الله، وكما جاء في رواية قال: أشهد أنكم شهداء عند الله يوم القيامة. وقال: والذي نفسي بيده لا يقف عليهم أحد، فيسلّم عليهم إلى يوم القيامة إلا ردّوا عليه السَّلام، (بَلۡ أَحۡیَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ یُرۡزَقُونَ) [آل عمران:169]. قالوا: ولم ينتفع بالقتل يوم أُحد قزمان، أخبر أنه ﷺ من أهل النَّار. يقول عاصم: كان فينا رجل لا ندري ممَن هو يُقال له قزمان، قال ﷺ يقول إذا ذكر إنه من أهل النَّار، فلما كان يوم أُحد قاتل قتالًا شديدًا فقَتَل وحده ثمانية أو سبعة من المشركين وكان ذا بأس، فأثبتته الجراحة -كثرت عليه الجروح- فاحتُمل إلى دار بني ظفر، فجعل رجال من المسلمين يقولون: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر. قال: بماذا أبشر؟ فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي ولولا ذاك ما قاتلت، فلمّا اشتدت عليه الجراحة أخرج سهمًا من كنانته فقتل به نفسه! نعوذ بالله… هذا ما هو من شهداء أُحد، هذا من شهداء إبليس.
ولكن أهل أُحد مثل ما قال سيِّدنا أنس بن النضر: إني أجد ريح الجنَّة دون أُحد -دون جبل أُحد-. سعد بن الربيع كذلك كان يقول: إني أجد ريح الجنَّة دون هذا الجبل. بعد المعركة، قال لهم ﷺ: مَن ينظر لي ما صنع سعد بن الربيع، لما يعلم من صدقه وقوة إيمانه وشدة محبته،. فقام بعض الصَّحابة يبحث عنه بين القتلى، جاء إلى عند الجرحى حصَّله في آخر رمق، ويصعب عليه فتح عينيه، ويصعب عليه الكلام، فسلَّم عليه ردّ بصوت خافت، قال له: النَّبي ﷺ يسأل عنك، ففتح عينيه، لما ذكر له النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام، وأمرني أبحث عنك، أنت في القتلى أم في الجرحى؟ قال: إنني في القتلى، أَقرئ رسول الله ﷺ مني السَّلام، وقل له يقول لك سعد بن الربيع: جزاك الله عنا خيرًا، وأبلغ أخواننا من الأنصار مني السَّلام، وقل لهم: يقول لكم سعد لا عذر لكم أن يُخلَص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف؛ قال ما لكم عذر عند الله أن أحد يقرب من النَّبي يمسه ما دام فيكم عين تطرف، ففاضت روحه. ورجع إلى عند النَّبي يخبره الخبر، فترّحم عليه ودعا له، هؤلاء قوم صادقين ليسوا كما قزمان. وسيِّدنا عمرو بن الجموح لمّا خرج قال: اللَّهم لا تردني، لا تردني إلى بيتي ولا إلى أهلي خزيان، وارزقني الشَّهادة في سبيلك.
"فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: أَلَسْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ بِإِخْوَانِهِمْ، أَسْلَمْنَا كَمَا أَسْلَمُوا، وَجَاهَدْنَا كَمَا جَاهَدُوا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: بَلَى، وَلَكِنْ لاَ أَدْرِي مَا تُحْدِثُونَ بَعْدِي"، فأشهد لهؤلاء الذين قتلوا أمامي، "فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ بَكَى"؛ أي أكثر البكاء، "ثُمَّ قَالَ: أَئِنَّا لَكَائِنُونَ بَعْدَكَ؟!" عاد نحن نعيش بعدك؟ يعني هل تطيب لنا حياة من بعدك إذا قد فارقناك! "أَئِنَّا لَكَائِنُونَ بَعْدَكَ؟!" لا إله إلا لله… أنوجد بعدك وتطيب لنا الحياة من ورائك؟ يعني: كان بكائه من الإشفاق من البقاء بعد النَّبي ﷺ مع مفارقته والانفراد دونه، وبذلك كان يذكره وهو على المنبر أحيانًا فينتحب ويبكي حتى يبكي ببكاءه من في المسجد. ثم قالوا: كان من أسباب موته الكمد على فراق رسول الله.
"قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ جَالِساً وَقَبْرٌ يُحْفَرُ بِالْمَدِينَةِ، فَاطَّلَعَ رَجُلٌ فِي الْقَبْرِ، فَقَالَ: بِئْسَ مَضْجَعُ الْمُؤْمِنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: بِئْسَ مَا قُلْتَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: إنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا أَرَدْتُ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"؛ يعني: ما يموت هكذا. "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لاَ مِثْلَ لِلْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا عَلَى الأَرْضِ بُقْعَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَىَّ أَنْ يَكُونَ قَبْرِى بِهَا مِنْهَا"؛ يعني: تلك البقعة من المدينة المنوَّرة؛ دار هجرته ﷺ. حتى جاء في رواية التِّرمذي والإمام أحمد: عن ابن عمر عن النَّبي ﷺ: "من استطاع أن يموتَ بالمدينةِ فليمت بها فإني أشفعُ لمن يموتُ بها". كان القاري يذكر إجماع العلماء على أن الموت بالمدينة أفضل مع اختلافهم هل المجاورة بمكَّة أفضل أم بالمدينة أفضل؟ لكن الموت بالمدينة أفضل، هذا متفقين عليه، لما ورد فيه من عدد من الروايات. "ثَلاَثَ مَرَّاتٍ"؛ يعني: المدينة المنوَّرة، ما من بقعة أحب إليّ أن أموت فيها من هذه؛ يعني المدينة، كرّر ذلك "ثَلاَثَ مَرَّاتٍ".
صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم، وزاد مدينته به نورًا، ونوّرنا به وحشرنا في زمرته بِسِرّ الفاتحة وإلى حضرة النبي محمد ﷺ.
24 مُحرَّم 1443