(364)
(535)
(604)
شرح فضيلة الحبيب العلامة عمر بن محمد بن حفيظ على كتاب الموطأ لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، برواية الإمام يحيى بن يحيى الليثي، كتاب الجهاد، باب الْقَسْمِ لِلْخَيْلِ فِي الْغَزْوِ ، وباب ما جاء في الغُلُول.
فجر الإثنين 15 محرم 1443هـ.
باب الْقَسْمِ لِلْخَيْلِ فِي الْغَزْوِ
1318 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ يَقُولُ: لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ، وَلِلرَّجُلِ سَهْمٌ.
قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ ذَلِكَ.
1319 - وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ يَحْضُرُ بِأَفْرَاسٍ كَثِيرَةٍ، فَهَلْ يُقْسَمُ لَهَا كُلِّهَا؟ فَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْ بِذَلِكَ، وَلاَ أَرَى أَنْ يُقْسَمَ إِلاَّ لِفَرَسٍ وَاحِدٍ، الَّذِي يُقَاتِلُ عَلَيْهِ.
1320 - قَالَ مَالِكٌ: لاَ أَرَى الْبَرَاذِينَ وَالْهُجُنَ إِلاَّ مِنَ الْخَيْلِ، لأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) [النحل:8] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال:60] فَأَنَا أَرَى الْبَرَاذِينَ وَالْهُجُنَ مِنَ الْخَيْلِ، إِذَا أَجَازَهَا الْوَالِي، وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَسُئِلَ عَنِ الْبَرَاذِينَ: هَلْ فِيهَا مِنْ صَدَقَةٍ؟ فَقَالَ: وَهَلْ فِي الْخَيْلِ مِنْ صَدَقَةٍ.
باب مَا جَاءَ فِي الْغُلُولِ
1321 - حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ صَدَرَ مِنْ حُنَيْنٍ وَهُوَ يُرِيدُ الْجِعِرَّانَةَ سَأَلَهُ النَّاسُ حَتَّى دَنَتْ بِهِ نَاقَتُهُ مِنْ شَجَرَةٍ، فَتَشَبَّكَتْ بِرِدَائِهِ حَتَّى نَزَعَتْهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي، أَتَخَافُونَ أَنْ لاَ أَقْسِمَ بَيْنَكُمْ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ, وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ سَمُرِ تِهَامَةَ نَعَماً، لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لاَ تَجِدُونِي بَخِيلاً وَلاَ جَبَاناً وَلاَ كَذَّاباً". فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: "أَدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمِخْيَطَ، فَإِنَّ الْغُلُولَ عَارٌ، وَنَارٌ، وَشَنَارٌ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قَالَ: ثُمَّ تَنَاوَلَ مِنَ الأَرْضِ وَبَرَةً مِنْ بَعِيرٍ أَوْ شَيْئاً، ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ، مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ مِثْلَ هَذِهِ، إِلاَّ الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ".
1322 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ قَالَ: تَوَفَّى رَجُلٌ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَإِنَّهُمْ ذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَزَعَمَ زَيْدٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ". فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ النَّاسِ لِذَلِكَ، فَزَعَمَ زَيْدٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِنَّ صَاحِبَكُمْ قَدْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". قَالَ: فَفَتَحْنَا مَتَاعَهُ، فَوَجَدْنَا خَرَزَاتٍ مِنْ خَرَزِ يَهُودَ مَا تُسَاوِينَ دِرْهَمَيْنِ.
1323 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أبِي بُرْدَةَ الْكِنَانِيِّ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَتَى النَّاسَ فِي قَبَائِلِهِمْ يَدْعُو لَهُم، وَأَنَّهُ تَرَكَ قَبِيلَةً مِنَ الْقَبَائِلِ، قَالَ: وَإِنَّ الْقَبِيلَةَ وَجَدُوا فِي بَرْدَعَةِ رَجُلٍ مِنْهُمْ عِقْدَ جَزْعٍ غُلُولاً، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَكَبَّرَ عَلَيْهِمْ، كَمَا يُكَبِّرُ عَلَى الْمَيِّتِ.
1324 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ، عَنْ أبِي الْغَيْثِ سَالِمٍ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ قَال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَامَ خَيْبَرَ، فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَباً وَلاَ وَرِقاً، إِلاَّ الأَمْوَالَ الثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ، قَالَ : فَأَهْدَى رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ غُلاَماً أَسْوَدَ، يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ، فَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى وَادِي الْقُرَى, حَتَّى إِذَا كُنَّا بِوَادِي الْقُرَى، بَيْنَمَا مِدْعَمٌ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ فَأَصَابَهُ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئاً لَهُ الْجَنَّةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "كَلاَّ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَ يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَاراً". قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ ذَلِكَ، جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "شِرَاكٌ، أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ".
1325 - وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَا ظَهَرَ الْغُلُولُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، إِلاَّ أُلْقِيَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبُ، وَلاَ فَشَا الزِّنَا فِي قَوْمٍ قَطُّ، إِلاَّ كَثُرَ فِيهِمُ الْمَوْتُ، وَلاَ نَقَصَ قَوْمٌ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلاَّ قُطِعَ عَنْهُمُ الرِّزْقُ، وَلاَ حَكَمَ قَوْمٌ بِغَيْرِ الْحَقِّ، إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الدَّمُ، وَلاَ خَتَرَ قَوْمٌ بِالْعَهْدِ، إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَدُوَّ.
الحمد لله مُكرمنا بشريعتِه ودينه وبيانهما على لسان عبدهِ وأمينه سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه، وتابعيهم بإحسان إلى يوم وضع الميزان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين من رفع الله لهم القدر والمنزلة والشأن، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وجميع عباد الله الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعدُ،
فيذكر الإمام مالك -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- ما يتعلق في قسمة الغنيمة بالخيل وما يُقسم للفرس وللفارس وللراجل، فأما الراجلون وهم الذين يقاتلون على أرجلهم لا أفراسَ ولا خيول عندهم يركبونها في المعارك، فلكلّ واحد منهم سهمٌ من الغنيمة، لا خلاف في ذلك بين الأئمة، وإنما الخلاف في الفرس ومن كان معه فرس قاتل به في سبيل الله تبارك وتعالى.
فهل للفرس سهمٌ أو أكثر من سهمٍ؟ بأن يكون للفرس سهمان وللراكب عليه المقاتل عليه سهم فيكون للفارس حينئذ ثلاث أسهم؟
وهل من كان معه في المعركة خيلان أو ثلاثة أو أربعة يُسهم لكل خيل؟ أم يقسم لمالك العدد من الخيول سهمُ خيل واحد أو سهم فرسين اثنين لا يزيد على ذلك؟
هذا محل نظر العلماء واجتهادهم فيما جاء عن نبينا ﷺ.
والذي عليه أكثر أهل العلم: أنه يُقسم من الغنيمة للفارس ثلاثة أسهم؛
سهمان بالفرس
وسهم له كغيره من الراجلين
وقال الإمام أبو حنيفة: إنما يُقسم سهمٌ للفرس وسهمٌ للراكب، فللفارس إذًا سهمان.
وقال صاحباه أبو يوسف ومحمد بما قال بقية الأئمة الثلاثة: أنه يُقسم للفرس سهمان، وللفارس سهمٌ؛ فله إذًا ثلاثة أسهم؛ سهمان لأجل الفرس وسهم له.
وحمل الإمام أبو حنيفة ما جاء من الروايات في ذلك على التنفيل، وأخذ براويات: أن للفرس سهم وللراكب سهم، وجعل ذلك هو الأصل، وجعل الروايات التي جاءت أنّ للفارس سهمان تنفيل، وأنه نَفَلٌ نفّله رسول الله ﷺ أولئك؛ فإن للإمام أن ينفّل من الغنيمة من شاء، فنفّل في تلك الوقعات لأصحاب الأفراس سهمًا فوق سهم الفرس وفوق سهم الفارس. إذًا، فهذا ملخص ما جاء عن الأئمة الثلاثة بما يتعلق بالأسهم.
قال: "باب الْقَسْمِ لِلْخَيْلِ فِي الْغَزْوِ" القسم: إفراز النصيب؛ يعني: كيف يُقسم للخيل، هل له سهم واحد أو سهمان؟ وهل يُقسم لفرسٍ واحد فقط أم للأكثر؟ فهذا ما جاء فيه النظر بين الأئمة رضي الله تعالى عنهم.
أورد لنا: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ يَقُولُ: لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ، وَلِلرَّجُلِ سَهْمٌ" وهذا جاء مرفوعًا عن النبي ﷺ.
ففي صحيح البخاري: عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن رسول الله ﷺ جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا.
وفي رواية: قسم يوم خيبر للفرس سهمين وللراجل سهمًا.
وجاء في رواية عند أبي داود: أسهمَ ﷺ لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم.
وكذلك عند ابن ماجه: أسهمَ ﷺ يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم؛ للفرسان سهمان وللراجل سهم.
وهكذا جاء عن ابن أبي عمرة عن أبي عمرة يقول: أتينا ﷺ أربع نفر ومعنا فرس فأعطى كل إنسان منّا سهمًا وأعطى الفرس سهمين.
وجاء في رواية الطبراني والدارقطني عن أبي رُهمٍ يقول: شهدت أنا وأخي جُبير ومعنا فرسان -يعني: كل واحد منهما على فرس- فقسم ﷺ ستة أسهم؛ يعني أعطى كل فارس ثلاثة؛ سهمان للفرس وسهم للرجل .
وهكذا جاء أيضا في رواية البزار والدارقطني: عن المقداد: أن النبي ﷺ أعطى للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا.
وجاء في رواية إسحاق: عن ابن عباس: أن النبي ﷺ أسهم للفارس ثلاثة أسهم؛ سهمان لفرسه وسهمًا لصاحبه.
وهكذا جاءت عدد من الروايات في ذلك .
وجاءت روايات احتجّ بها الإمام أبو حنيفة -عليه رضوان الله تبارك وتعالى- منها ما جاء في رواية الطبراني في المعجم عن المقداد بن عمرو: كان يوم بدر على فرس يقال له سبحة، فأسهم له النبي ﷺ سهمين لفرسه سهم واحد، وله سهم، وعدد من الروايات جاءت بهذا المعنى أخذ بها الإمام أبو حنيفة عليه رضوان الله تبارك وتعالى. ولكن كما علمت أن صاحبيه رأيا ما رأى الجمهور من أن للفرس سهمين، وأن للفارس سهم؛ فتصير ثلاثة أسهم وللراجل سهم باتفاق.
"وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ يَحْضُرُ بِأَفْرَاسٍ كَثِيرَةٍ"، في المعركة زائدة عن الواحد "فَهَلْ يُقْسَمُ لَهَا كُلِّهَا؟" لكل فرس سهمان سهمان، ترجع إليه "قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ ذَلِكَ، وَلاَ أَرَى أَنْ يُقْسَمَ إِلاَّ لِفَرَسٍ وَاحِدٍ، الَّذِي يُقَاتِلُ عَلَيْهِ" وهذا قول جماهير أهل العلم؛
أن من حضر بعدة أفراس، فإن للفرس الذي يقاتل عليه سهمان وله سهم.
وأما الثاني والثالث والرابع… ما تُحسب لاتحاد مالكهما، وعلى هذا قول أكثر أئمة أهل العلم.
وعن أبي يوسف والإمام أحمد: أنه يمكن السهم لفرسين، ولا يُسهم له فيما زاد على الفرسين من الثلاثة والأربعة وما زاد على ذلك.
يقول: "قَالَ مَالِكٌ: لاَ أَرَى الْبَرَاذِينَ" جمع برذون، وأكثر ما تُجلب من بلاد الروم وغيرها، لها جَلَد على السير في الشعاب والجبال، مشابهة للخيل العربية، ولكن الخيول في أرض العرب أحسن جريًا وأقوى على الحمل عليها من ذلك وأحسن تدريبًا، وإذًا، هذه البراذين جاء فيها الغليظة الأعضاء، ليست من خيل العرب، تستورد، حتى قالوا عن البرذون أنه التركي من الخيل، وأنثاه: برذونة. وعلى كلٍّ فالخيل من غير أرض العرب يقال لها: براذين والهجين، فخيل الروم والفرس يقال لها: البراذين والهجين.
"قَالَ مَالِكٌ: لاَ أَرَى الْبَرَاذِينَ وَالْهُجُنَ إِلاَّ مِنَ الْخَيْلِ"؛ يعني: اسم الخيل واقع على جميعها، وإن افترقت أنواعها، "لأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ)"، ماذا في الآية؟ امتنّ بركوب الخيل وقد أسهم لها رسول الله ﷺ. واسم الخيل يقع على البرذون والهجين، بخلاف البغال والحمير فقد غاير بينها وبينها، (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ)،"وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) [الأنفال:60]"، الرباط: ما يُحبس من الخيل من أجل الجهاد يُقال له: رباط، رباط الخيل أن يُحبس ويُوقف على الجهاد في سبيل الله، (تُرْهِبُونَ بِهِ)؛ يعني: تخوّفون به، (عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ). يقول الإمام مالك: "فَأَنَا أَرَى الْبَرَاذِينَ وَالْهُجُنَ مِنَ الْخَيْل"، يعني: في حكمها في السهام، "إِذَا أَجَازَهَا الْوَالِي"؛ يعني: أمير الجيش.
"وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَسُئِلَ عَنِ الْبَرَاذِينَ: هَلْ فِيهَا مِنْ صَدَقَةٍ؟ فَقَالَ: وَهَلْ فِي الْخَيْلِ مِنْ صَدَقَةٍ"؛ يعني: فالبراذين مثل الخيل فحكمها واحد إذًا. وبعد ذلك جاء أن للخيل هذه غير العربية يُسهم سهم واحد، وللراكب عليه سهم فيكون سهمان، غير الخيل العربية، وفي ذلك خلاف بين الأئمة.
ثم حذّرنا من الغلول؛ وهو ما يؤخذ من الغنيمة قبل القسمة فهو حرام، قال: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ۚ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ)[آل عمران:161] فيحرم أخذ شيءٍ قلّ أو كَثُر لما تقدّمت الإشارة إليه من جواز أكلهم، واستعمالهم لشيء من المراكب لحاجتهم في الحرب ثم يرجعها، وما عدا ذلك فلا يجوز أن يأخذ أحد من الجيش ومن سواه من الناس شيئًا من الغنيمة، قلّ أو كثر حتى تُقسم، فيأخذ كلٌّ سهمه ونصيبه بحسب ما قَسَمَ الله -تبارك وتعالى-، ففي هذا الغلول خطر كبير، كما أن فيه كل أنواع الحرمة في الأموال خطر كبير في الدنيا والآخرة.
أورد لنا حديث عمرو بن شعيب: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ صَدَرَ مِنْ حُنَيْنٍ وَهُوَ يُرِيدُ الْجِعِرَّانَةَ سَأَلَهُ النَّاسُ"؛ يعني: بعد أن تجمّعت الغنائم الكثيرة، وأقبل عليه ﷺ كثير من الناس، يسألونه قسم الغنائم، ضايقوه في طريقه لإلحاحهم عليه بالمسألة حتى ألجأوه إلى سمرة. "سَأَلَهُ النَّاسُ حَتَّى دَنَتْ بِهِ نَاقَتُهُ مِنْ شَجَرَةٍ" وهي شجرة سمرة، فتعلق رداؤه بالسمرة، "فَتَشَبَّكَتْ بِرِدَائِهِ حَتَّى نَزَعَتْهُ عَنْ ظَهْرِهِ" الشريف ﷺ، دنت ناقته من تلك الشجرة فعلِقت بردائه فنزعته من ظهره، وعدلوا بناقته بسبب مزاحمتهم على الطريق، فمرّ بسَمُرات فانتهشنَ ظهره وانتزعنَ رداءه، فقال: ناولوني ردائي، "رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي، أَتَخَافُونَ أَنْ لاَ أَقْسِمَ بَيْنَكُمْ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ"؛ يعني: من الغنيمة ويحلف بالله ﷺ، "وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ" يعني: رب العالمين، نفسي يتصرف فيها كيف يشاء، "لَوْ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ سَمُرِ تِهَامَةَ نَعَماً" إبلاً وبقرًا وغنمًا، "لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ" ﷺ، كأنه أنكر فعلهم وكثرة إلحاحهم عليه، قال: وهذا فعله قوم من المؤلفة قلوبهم ومن قرب إسلامهم.
قال: "ثُمَّ لاَ تَجِدُونِي بَخِيلاً وَلاَ جَبَاناً وَلاَ كَذَّاباً" ﷺ، وهذه الصفات التي لا تصلح في الإمام ولا في السلطان، وهو أطهر الخلق عن جميع المعايب ﷺ وأصدقهم وأشجعهم وأعظمهم قدرًا ومنزلة، "فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: أَدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمِخْيَطَ"؛ يعني: ردوا ما حصل من هذه الغنيمة، من خياط يعني خيط والمخيط الإبرة التي يخيط بها، ردّوه لا يجوز لأحد منكم أن يأخذ شيئًا ولو مقدار إبرة، ولو خيطًا يخيط به الثوب فإن ذلك حرام عليه لا يجوز له، "أَدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمِخْيَطَ، فَإِنَّ الْغُلُولَ عَارٌ، وَنَارٌ"؛ أي: الخيانة في الغنيمة -الغلول- والمأخوذ من الغنيمة قبل قسمه عارٌ يلزم منه شين صاحبه ودنائته "وَنَارٌ" يوم القيامة والعياذ بالله تعالى "وَشَنَارٌ" والعياذ بالله تعالى؛ يعني: أقبح العيب والعار يقال له: شنار، شنار؛ لفظة جامعة لمعنى النار والعار قالوا: معناها الشين والنار، شنار فأقبح العيب يقال له: شنار.
"عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"؛ يعني: الغلول شين وعار ومنقصة في الدنيا وعذاب ونار في الآخرة، "ثُمَّ تَنَاوَلَ ﷺ مِنَ الأَرْضِ" أي: أخذ مما وقع على الأرض، "وَبَرَةً"؛ يعني: شعرة، "مِنْ بَعِيرٍ أَوْ شَيْئاً، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ، مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ" من الغنائم، "وَلاَ مِثْلَ هَذِهِ"، الوبرة الشعرة، "إِلاَّ الْخُمُسُ"، الذي جعله الله تحت نظره ورأيه وتقسيمه، "وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ"؛ راجعٌ إلى شراء العدة للجهاد وإلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، وإلى قرباه ﷺ، (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [الأنفال:41] ،الجمهور: على أن هذا الخُمُس يقسّم خمسة أقسام وقال بعضهم ستة.
وذكر لنا بعد ذلك: "أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ قَالَ: تَوَفَّى رَجُلٌ يَوْمَ حُنَيْنٍ" كان من أشجع الناس أو من أشجع قبيلة منهم، يقول: توفي يوم خيبر، "وَإِنَّهُمْ ذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ" ليصلي عليه لما توفي بعد انتهاء المعركة، ولم يمت بسبب المعركة، فلم يكن شهيدًا لا يُصلى عليه، لم يكن شهيد دنيا وآخرة، فأخبروا النبي يريدون أن يصلي عليه، "فَزَعَمَ زَيْدٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ"؛ يعني: ما أصلي عليه بنفسي، أنتم صلوا عليه، "فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ النَّاسِ" لذلك، لماذا امتنع ﷺ من الصلاة عليه، "فَزَعَمَ زَيْدٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ قَدْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"؛ أي: خان في الغنيمة، فأخذ شيئًا قبل القسمة. وعلى هذا إذا مات الفاسق المُصِرّ على الفسق، فيُمكن للذين يُقتدى بهم والأئمة أن لا يصلوا عليه بأنفسهم، زجرًا للناس عن أن يفعلوا مثل ذلك الفعل. "قَالَ: فَفَتَحْنَا مَتَاعَهُ" راحوا فتشوا في متاعه، لماذا النبي ما صلى عليه؟ وإيش هذا الذي خانه من الغنيمة وأخذه؟ "فَوَجَدْنَا خَرَزَاتٍ مِنْ خَرَزِ يَهُودَ" خرز يهود ما مثل الأخفاف ونحوها يلبسونها، "فَوَجَدْنَا خَرَزَاتٍ مِنْ خَرَزِ يَهُودَ مَا تُسَاوِينَ دِرْهَمَيْنِ"، وكان سبب لحرمانه من صلاة النبي عليه، ولو كانت ملايين ما تفيده فكيف وهي حاجة بسيطة يسيرة، ولكن حرمته صلاة النبي، امتنع النبي من الصلاة عليه، حصلوا هذه الخرزات ما تساوي درهمين، أخذها من الغنيمة تساهلًا قبل أن تُقسم فما عاد رضي يصلي عليه النبي ﷺ.
وجاء "عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أبِي بُرْدَةَ الْكِنَانِيِّ، أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَتَى النَّاسَ فِي قَبَائِلِهِمْ يَدْعُو لَهُم" فدعا للقبائل قبيلة بعد قبيلة، فقفز وحدة من القبائل تركها بلا دعاء، "وَأَنَّهُ تَرَكَ قَبِيلَةً مِنَ الْقَبَائِلِ" فما مرّ عليهم ولا دعا لهم، بسبب تنبيه على فعل واحد منهم أو فعل جزء منهم، منعهم هذا الخير، "قَالَ: وَإِنَّ الْقَبِيلَةَ" يعني علموا أن النبي ﷺ ما ترك المجيء إلى عندهم والدعاء لهم إلا لأمرٍ فيهم، "وَجَدُوا فِي بَرْدَعَةِ رَجُلٍ مِنْهُمْ"؛ يعني: الفراش المبطن بردعة جزع أو "عِقْدَ جَزْعٍ" قلادة من الجزع، خرز فيه بياض وسواد، يقول: "غُلُولاً"؛ أي: خيانةً من المغنم فعلموا أنه لهذا لم يأتهم ﷺ ولم يدعو لهم لأن في بردعة رجل منهم عقد جزع أخذه غلولًا قبل القسمة .
وهكذا عن أبي هريرة قال: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَامَ خَيْبَرَ" في نسخة عام حنين، هنا عام خيبر، فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَباً وَلاَ وَرِقاً"؛ أي: فضة، إِلاَّ الأَمْوَالَ الثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ، قَالَ: "إلاَّ الأَمْوَالَ الثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ، قَالَ : فَأَهْدَى رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ غُلاَماً أَسْوَدَ، يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ، فَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى وَادِي الْقُرَى"؛ أي: توجّه إلى ذاك المكان وادي القرى، "حَتَّى إِذَا كُنَّا بِوَادِي الْقُرَى، بَيْنَمَا مِدْعَمٌ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ" من يهود كأنه "فَأَصَابَهُ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئاً لَهُ الْجَنَّةُ"؛ أنه قُتِل شهيد وهو في خدمة النبي ﷺ يخرّج راحلة النبي ﷺ، "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "كَلاَّ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ"، شملة: كساء له أهداب من شعر يكون، قال: "إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَ يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَاراً. قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ ذَلِكَ، جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ"، الذي يُوضع في النعل بين الأصابع يُقال له: شراك، كانوا أخذوه فظنّوا أنه يسير وما فيه مؤاخذة، "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: شِرَاكٌ، أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ" لا إله إلا الله!
يقول ابن عباس "مَا ظَهَرَ الْغُلُولُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، إِلاَّ أُلْقِيَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبُ" فإذا تساهلوا بأخذ الغنائم قبل القسمة ولم يؤدّوها كما شرع الحق لهم، فإنّ الله يقذف في قلوبهم الرعب، وتقِلّ لهم بعد ذلك الغنائم، بسبب أنهم ما اتقوا الله تعالى في الغنائم وغلّوا فيها. "وَلاَ فَشَا الزِّنَا فِي قَوْمٍ قَطُّ، إِلاَّ كَثُرَ فِيهِمُ الْمَوْتُ" والعياذ بالله تبارك وتعالى، موت الفجأة خاصة، إذا كثر الزنا كثر موت الفجأة، وهذه من آفات انتشار هذه الجرائم أن يكثر فيهم الموت ويكثر فيهم الفقر والعياذ بالله تبارك وتعالى.
"وَلاَ نَقَصَ قَوْمٌ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ"ومثله الذرع ونحوه والعدد في البيع والشراء، "إِلاَّ قُطِعَ عَنْهُمُ الرِّزْقُ" أي: الحلال المبارك. جاء في رواية الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم: عن ثوبان: إن الرجل ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه. "وَلاَ حَكَمَ قَوْمٌ بِغَيْرِ الْحَقِّ، إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الدَّمُ" والعياذ بالله تعالى، إذا مالوا إلى الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، يفشو فيهم الفقر ويفشو فيهم الدم وهو القتل بعضهم لبعض، لا إله إلا الله... "وَلاَ خَتَرَ"؛ يعني: خان، "خَتَرَ قَوْمٌ بِالْعَهْدِ، إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَدُوَّ" الذي غدروا وخانوا العهد معه، يُسلَّط عليهم جزاءً من ربك، والله أعلم.
اللهم ارزقنا الإيمان واليقين والإخلاص والصدق، واجعلنا عندك من خيار الخلق، وادفع الأسواء عنا والبلوى، وكل آفة وعاهة في السِرّ والنجوى، واجعل العام مباركًا علينا وعلى أهل الإسلام ظاهرًا وباطنًا، وادفع السوء عنّا وعن أهل لا إله إلا الله حسًّا ومعنى، واختم لنا بأكمل الحسنى في خيرٍ ولطفٍ وعافية بسِرّ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد ﷺ.
23 مُحرَّم 1443